بين الدولة واللا دولة : أي مستقبل ينتظر السودان ؟
إعداد : د. سعيد ندا – دكتوراه العلوم السياسة، جامعة القاهرة – مصر
- المركز الديمقراطي العربي
يمر السودان بمنعطف خطير، قد لا تقوم بسببه لهذا البلد قائمة مرة أخري، فمنذ سقوط نظام البشير عام 2019 يتَنازع السلطة فرقاء شتي، مدعومين بقوي الداخل والخارج، ومن حينها وقعت أحداث تصادمية عنيفة، وعُقدت اتفاقات وتوافقات هشة، وانتقل حال البلاد من سيئ إلي أسوأ، واشتد الصراع الكامن بين الأطراف، حتي تأججت النيران مؤخرا من تحت الرماد، واندلعت مؤذنة بحرب أهلية ضروس.
وبنظرة عامة علي الداخل السوداني، نجد أن الصراع علي السلطة اشتعل – بادي الرأي – بين القوي المدنية بكل توجهاتها من جهة، وبين القوي العسكرية من جهة أخري، غير أنه وبشيء من التدقيق نجد القوي العسكرية لم تكن يوما كتلة واحدة، إنما هي علي الحقيقة جبهتان تخطط كل منهما للاستحواذ علي السلطة، وهما المؤسسة العسكرية النظامية (الجيش السوداني)، وقوات شبه عسكرية مسلحة (ميليشيا الدعم السريع)، غير أن رأسي الجبهتين كانا قد توافقا ظاهريا منذ بداية الثورة السودانية، إلي أن تصادم مشروعيهما، فأشعلا تلك الحرب التي يُخشي معها علي مستقبل الدولة.
وترجع خطورة المآلات التي تنتظر السودان إلي وفرة المطامع، وكثرة الطامعين من القوي الدولية والإقليمية؛ فالمسيطر علي السودان، فضلا عن استحواذه علي سلة غذاء العالم، يستحوذ أيضا علي احتياطيات هائلة من البترول والذهب واليورانيوم وغيرها من المعادن، كما يمكنه – وهو الأهم – التأثير مباشرة وبقوة علي مياه النيل، وعلي الملاحة البحرية عبر الممر الأكثر أهمية عالميا (باب المندب – البحر الأحمر – قناة السويس)، وهو ما يجعل الصراع في السودان من أكثر الصراعات تعقيدا.
وتثير هذه القضية الشائكة الكثير من الإشكاليات، تبدأ برصد نشأة وتطور ميليشيا Militia الدعم السريع، ومدي شرعية وجودها، ومشروعية ممارساتها، في ضوء المفهوم السياسي للدولة، ومن ثم الانتقال إلي تحليل الصراع المسلح الذي دار بينها وبين الجيش السوداني، للوقوف علي السياقات والأسباب التي أدت إليه، ومواقف الأطراف المختلفة منه، وموازين قوتهم وقدرتهم علي التأثير، وجهود التسوية المطروحة ونتائجها الأولية، وصولا إلي استشراف مآلاته المستقبلية.
وتجيب هذه الدراسة عن هذه الإشكاليات عبر المحاور التالية:
- تأصيل المفهوم السياسي للدولة.
تَطوَر مفهوم الدولة الحديثة في الفكر الرأسمالي عبر كتابات “بودين”، و”هوبز”، و”روسو”، وغيرهم، ومع مطلع القرن العشرين عبَّر الفيلسوف الألماني “ماكس ويبر” عن المفهوم السياسي للدولة بأنها “منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين من الأراضي”، ووفقا لمفهوم “ويبر” يجب أن تحتكر سلطات الدولة دون غيرها الاستخدام الشرعي للقوة، ولا يجوز لأي فواعل أخري دون الدولة، كيانات كانت أو أفرادا، استخدام القوة بصفة مشروعة بالتوازي مع سلطة الدولة.([1])
وقد يتساءل البعض عن مدي إخلال ما تتمتع به بعض الكيانات من الحق في استخدام القوة، في بعض الدول المتقدمة كالشركات الأمنية في الولايات المتحدة، وروسيا، وجنوب أفريقيا، بمعايير المفهوم السياسي الذي يقدمه “ويبر” للدولة، وفي هذا نجيب بأن النماذج محل الجدل لا تُخِل بهذه المعايير؛ فهذه الكيانات تحظي بالمشروعية؛ إذ تحصل ابتداءً علي ترخيص مزاولة النشاط من سلطات الدولة، ويكون ذلك الترخيص مؤقتا، وتكون هذه الكيانات محدودة القدرة بما يتلاءم مع مهامها، وتكون هذه المهام محددة بدقة، ويتم ممارستها تحت إشراف سلطات الدولة، ولا يمكن لها أن تناوئ مؤسسات الدولة أو تتوازي معها.
ومن هذا المنظور تفقد هذه الفواعل شرعيتها متي تجاوزت حدود المشروعية، بمعني أنها تفقد مركزها القانوني، وتزول عنها صفة الشرعية، متي تجاوزت الضوابط والمعايير التي تحددها وثيقة الترخيص الممنوح لها، والتي تتضمن بحسب الأصل بيانا تفصيليا بالوسائل والأدوات والأهداف والغايات التي تحكم نشاطها.
- الانتقال من الدولة إلي اللا دولة.
في ظل التعقيدات والتشابكات التي تعاظم دورها في النظام الدولي، يمكن القول بأن الدولة تحتاج إلي وقت طويل لتتشكل، وإلي وقت أقل لتنهار، غير أن انهيار الدولة يغلب أن يمر بمرحلتين، أولاهما الانتقال من حالة الدولة إلي حالة شبه الدولة، وثانيتهما الانتقال من حالة شبه الدولة إلي حالة اللا دولة.
وفي تبسيط ودون الدخول في جدليات التأصيل النظري، تنتقل الدولة من حالة الدولة إلي حالة شبه الدولة، متي فقدت بعضا من مقوماتها السياسية، وبخاصة فيما يتعلق بسلطاتها، كما لو فقدت هذه السلطات بعضا من قدرتها علي إنفاذ القانون، أو ظهر مِن الفواعل الداخلية مَن يناوئها سلطانها، أو يفرض إرادته عليها، كالتشكيلات الاجتماعية المختلفة: القبلية، الدينية، الجهوية، الفئوية . . . إلخ.
بينما تنتقل الدولة من حالة شبه الدولة إلي حالة اللا دولة إذا تزايد فقدانها لمقوماتها السياسية رأسيا وأفقيا أكثر مما سبق، بحيث يصبح وجود سلطات الدولة وعدمه سواء بسواء، و/أو إذا فقدت بعضا من معايير وشروط مقوماتها القانونية، كما لو فقدت عناصرها البشرية الرغبة في العيش معا، وباتت الفردانية هي السلوك السائد، أو فقدت مؤسساتها السياسية والمجتمعية قدرتها علي القيام بمهام الدولة، وانفصمت جل عُرَي العقد الاجتماعي.
- نشأة وتطور ميليشيا الدعم السريع.
تشكلت بعض الميليشيات المسلحة في السودان منتصف الثمانينيات، لأغراض الحماية القبلية، ثم تطور دورها إلي حماية الطرق والحدود، ثم تلقت دعما حكوميا بغرض مجابهة تمرد قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان، وبخاصة في مناطق بحر الغزال وأعالي النيل المتاخمة لدارفور، ومع منتصف التسعينيات توسع نظام البشير في تسليح واستخدام هذه “المليشيات” لإخماد حركات التمرد، واستخدمها علي نطاق واسع في قمع التمرد في دارفور عام 2003 ، وشاع تسميتها بـ “الجنجويد”، ووضعها البشير تحت إمرة وحدة استخبارات حرس الحدود التابعة للقوات المسلحة.([2])
وبعد انفصال جنوب السودان وفي تحول نوعي، أصدر البشير منتصف عام 2013 مرسوما رئاسيا، حولها إلي قوة شبه عسكرية تابعة للحكومة السودانية، بقيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، تحت مسمي “قوات الدعم السريع”، وفي أوائل عام 2017 استصدر البشير عبر المجلس الوطني “البرلمان” قانونا حولها إلي ميليشيا عسكرية، تقدم الدعم والمعاونة للقوات المسلحة، والقوات النظامية الأخرى في تنفيذ مهامها، وتتبع رئيس الجمهورية مباشرة.([3])
ومن أهم ركائز هذا القانون، أنه جعل ميليشيا الدعم السريع، تعمل باستقلالية كبيرة عن القوات المسلحة في أوقات السلم، فقد نص على إنشاء مجلس مستقل لقيادة “قوات الدعم السريع” برئاسة رئيس الجمهورية، ويختص هذا المجلس وضع خطط وسياسات “قوات الدعم السريع”، وإصدار كافة اللوائح والقرارات ذات الصلة بها، بما في ذلك التعيينات والترقيات والماليات، وغيرها، كما منح القانون مركزا خاصا لقائد “قوات الدعم السريع”، أشبه بمركز القائد العام للقوات المسلحة، وجعله مسؤولا عن أداء “قوات الدعم السريع” أمام رئيس الجمهورية مباشرة، وأجاز ندب ونقل ضباط القوات المسلحة إلى “قوات الدعم السريع”، أما في حالة الطوارئ، وفي حالة الحرب، وفي مناطق العمليات الحربية، تكون “قوات الدعم السريع” تحت إمرة القوات المسلحة.([4])
وبعيد اندلاع الثورة السودانية ديسمبر عام 2018، وبمجرد سقوط نظام البشير “الانقاذ”، تمالأت القوات المسلحة مع ميليشيا الدعم السريع علي القوي المدنية، وتم تشكيل مجلس عسكري انتقالي آلت رئاسته إلي المفتش العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وتولي قائد ميليشيا الدعم السريع “الفريق” محمد حمدان دقلو”حميدتي”، منصب نائب الرئيس.
وفي 11 يوليو عام 2019، أصدر البرهان المرسوم رقم 32 لسنة 2019 بتعديل قانون ميليشيا الدعم السريع، ليسند إليها مهاماً جديدةً تشمل مكافحة الإرهاب، ومكافحة الاتجار بالشر بكافة صوره، ومكافحة الهجرة غير المشروعة ،ومكافحة التهريب، ومكافحة المخدرات، ومكافحة تهريب وتجارة السلاح غير المشروعة والحد من انتشاره ، كما نقل المرسوم تبعية “قوات الدعم السريع” من رئيس الجمهورية إلى القائد العام للقوات المسلحة، وقبل نهاية الشهر أصدر البرهان مرسوما آخر بإلغاء المادة (5) من قانون الدعم السريع، بما يعني أن ميليشيا الدعم السريع أصبحت أكثر استقلالية، وتأتمر بأوامر القائد العام للقوات المسلحة دون غيره في كل الأحوال.([5])
وفي أغسطس 2019 صدرت الوثيقة الدستورية بالاتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير وتشكل مجلس السيادة السوداني ليستمر البرهان رئيسا ويستمر “حميدتي” نائبا له، وقد نصت المادة (35) من الوثيقة الدستورية علي “القوات المسلحة و”قوات الدعم السريع” مؤسسة وطنية عسكرية حامية لوحدة الوطن وسيادته تتبع للقائد العام للقوات المسلحة وخاضعة للسلطة السيادية”، ومن هنا حصلت ميليشيا الدعم السريع على وضع دستوري باعتبارها قوات مستقلة تتبع للقائد العام للقوات المسلحة وتأتمر بأمره وينظم أعمالها قانون خاص.([6])
- مدي شرعية ميليشيا الدعم السريع.
في ضوء المفهوم السياسي للدولة المار بيانه، ومن خلال استعراض مراحل نشأة وتطور ميليشيا الدعم السريع يمكننا التأكيد علي:
- أنها وعلي الرغم من نشأتها المبكرة، لم تحظي بالشرعية إلا في السنوات العشر الأخيرة، بموجب المرسوم الرئاسي الصادر عام 2013، وما تلاه من وثائق.
- أن مهامها في كل الوثائق، جاءت في عبارات عامة، وغير محددة، تحتمل كل الخيارات، بما يوازي ويكافئ مهام القوات المسلحة بدرجة كبيرة.
- أنها تعمل باستقلالية عن القوات المسلحة باستثناء حالات الطوارئ والحرب، إلا أن هذا الاستثناء ألغي ولم يدم طويلا.
- أنها تأتمر بأوامر أشخاص النظام السياسي، وأن قائدها لا يُسأل إلا أمام هؤلاء الأشخاص (رئيس الجمهورية – ثم القائد العام للقوات المسلحة)، ومن ثم يغلب عليها شخصنة النشاط لا مأسسته.
ومن هنا يمكننا القول بأن ميليشيا الدعم السريع قد حصلت علي شرعية شكلية، جعلت وجودها بمثل هذه السمات والخصائص المار بيانها، بمثابة إخلال صارخ وصريح، ينال من مفهوم الدولة في السودان، ويجعلها أقرب ما تكون إلي أشباه الدول، وقد أكدت الممارسة الفعلية صحة هذا النظر.
- مشروعية ممارسات ميليشيا الدعم السريع.
تكاد تجمع كافة التقارير والتحقيقات والتحليلات، علي عدم مشروعية ممارسات ميليشيا الدعم السريع، منذ نشأتها وحتي الأن، بل وارتكابها انتهاكات خطيرة واسعة النطاق، ترقي إلي جرائم التطهير العرقي، وجرائم الحرب، والجرائم وضد الإنسانية، ولا غرو فعلي نمط المقدمات تأتي النتائج، وقد لا يتسع المقام لسرد هذه الانتهاكات بالتفصيل، لكن نشير في إيجاز إلي بعض ما وقع منها وصولا إلي صراعها المسلح الأخير مع القوات المسلحة السودانية “الجيش”.
فقد فاقت الجرائم التي ارتكبتها ميليشيا “الجنجويد” في دارفور كل الحدود ووثقتها كل التقارير، فقد كانت ممارسات هذه الميليشيا الوحشية، وراء مقتل نحو 300 ألف شخص، وتهجير حوالى 2,5 مليون أخرين، فضلا عن الاغتصاب والعنف الجنسي ونهب وسرقة وتخريب الممتلكات، وذلك كله تحت سمع وبصر النظام الحاكم آنذاك، بل وبتخطيط ودعم وتسليح منه، وقد وتناولت أيدي العدالة في المحكمة الجنائية الدولية هذه الجرائم، واصفة إياها بجرائم الحرب والتطهير العرقي وضد الإنسانية، وأقامت الدعوي الجنائية ضد قادة “الجنجويد” وأبرزهم علي محمد علي عبد الرحمن المعروف باسم علي كوشيب، ومع ذلك واصلت ميليشيا “الجنجويد” جرائمها في دارفور وكردفان ومناطق أخري، تحت قائدها الجديد “حميدتي”.([7])
وبعد أن أضفي البشير الصبغة الشرعية علي ميليشيا “الجنجويد”، أطلق عليها قوات الدعم السريع، واتخذها ذراعا قمعية للقيام بالمهام القذرة، ومنها علي سبيل المثال لا الحصر اغتيال طلبة انتفاضة سبتمبر 2013، ومحرقة مركز “اليوناميد”(*) في خور أبشي عام 2014.([8])
ومع انطلاق الثورة السودانية أظهر “حميدتي” اصطفافه في جهة القوات المسلحة، فيما راح يناور علي كل الموائد داخليا وخارجيا، مضمرا كل العداء للمسار الثوري، وليس أدل علي ذلك من العنف واسع النطاق والقمع الشديد، الذي مارسته قوات الدعم السريع ضد القوي المدنية الثورية، ومن ذلك مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في يونيو 2019، والتي راح ضحيتها أكثر من 100 قتيل و700 مصاب، فضلا عما تحدثت عنه تقارير من هتك عرض الرجال واغتصاب النساء، وهو ما اضطرت معه السلطات القضائية الرسمية إلي إجراء تحقيقات موسعة، وجه النائب العام السوداني علي إثرها تهما جنائية متعلقة بجرائم ضد الانسانية، بحق ضباط وعناصر من الدعم السريع لدورهم في هذه المجزرة.([9])
- السياقات التي نشأ عنها الصراع السوداني المسلح.
من الضروري الوقوف علي طبيعة السياق العام أو البيئة السياسية التي تمخضت عن الصراع المسلح الأخير بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع، من أجل فهم أبعاده وصولا إلي استشراف مآلاته.
- السياق السياسي الداخلي.
شهدت السودان لأكثر من أربع سنوات خلت، تحولات سياسية بدأت بالثورة علي نظام “الإنقاذ”، وأسفرت بعد سقوطه عن حالة مستدامة من عدم الاستقرار السياسي، تخللتها اتفاقات علي دخن لم ما يستهدف عاقدوها إلا الالتفاف عليها.
فبعدما تصاعدت موجات المد الثوري، التقط العسكريون زمام المبادرة واستأثروا بالسلطة، فواصلت القوي المدنية حراكها الثوري، فتوافق شقي المكون العسكري، ودخلوا في تفاوض مع القوي المدنية تخلله مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، وانتهي إلي اتفاق علي تشكيل مجلس سيادة يتسلم السلطة لفترة انتقالية مدتها (39) شهرا ويترأسه شخص عسكري في الـ (21) شهرا الأولى وتنتهي في نوفمبر 2021، أما الـ (18) شهرا المتبقية فيترأسه عضو مدني، علي أن يتم تشكيل حكومة تتكون من رئيس وعدد من الوزراء لا يتجاوز عددهم (20) وزيرا يعيّنهم رئيس مجلس الوزراء من قائمة مرشحي قوى إعلان الحرية والتغيير، ويعتمدهم مجلس السيادة، عدا وزيري الدفاع والداخلية اللذين يرشحهما المكون العسكري بمجلس السيادة.([10])
تولي عبد الله حمدوك رئاسة الوزراء وشكل حكومته التي مارست أعمالها في أجواء استثنائية، وفي سعيها نحو تحقيق السلام، بدأت في التفاوض مع مجموعة الفصائل المسلحة السودانية، والمعروفة باسم “الجبهة الثورية السودانية”، كما شكل حمدوك لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في الانتهاكات التي حدثت في مذبحة فض اعتصام القيادة العامة، وهي الخطوة التي أثارت حفيظة المكون العسكري، لدرجة أنهم سعوا سعيا حثيثا نحو عرقلة أي إجراءات تتم في هذا التحقيق.([11])
ومطلع عام 2020 التقي البرهان “بنيامين نتنياهو” رئيس وزراء إسرائيل في “عنتيبي” بأوغندا، واتفقا على بدء حوار من أجل تطبيع العلاقات بين البلدين، فيما نفت الحكومة علمها باللقاء، الأمر الذي زاد الاحتقان بين المكونين المدني والعسكري.
وفي أكتوبر 2020 وقع المجلس السيادي والحكومة اتفاق “جوبا” للسلام مع غالبية فصائل “الجبهة الثورية السودانية”([12])
وخلال عام تشظت القوي السياسية وتفرقت كلمتهم، ومن أبرز هذه الانشقاقات انقسام قوي الحرية والتغيير إلي فريقين “مجموعة الميثاق الوطني” و”مجموعة المجلس المركزي”، برؤيتين مختلفتين حول السبيل إلي الخروج من الأزمة.([13])
في سبتمبر 2021 أعلن الجيش إحباط محاولة انقلاب، وصرح حمدوك بأن ما حدث انقلاب مدبر من جهات داخل وخارج القوات المسلحة، يستهدف إجهاض الانتقال المدني الديمقراطي.
وفي أكتوبر 2021 رفض حمدوك طلبا للبرهان و”حميدتي” بحل الحكومة وتعيين حكومة جديدة بدلا منها، و دعت “مجموعة الميثاق الوطني إلى التظاهر، بدعوى أن “مجموعة المجلس المركزي” تسيطر على حكومة حمدوك، وتحولت المظاهرات إلي اعتصام أمام القصر الرئاسي، ودعا المتظاهرون إلى حل هذه الحكومة.
وفي 25 أكتوبر 2021 قام البرهان بموجة اعتقالات غير مسبوقة شملت رئيس الحكومة ومعظم الوزراء وقيادات سياسية ورؤساء أحزاب، إلى جانب السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون والانتشار العسكري الكثيف في الشوارع والطرقات، وأعلن حالة الطوارئ، وعلق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية وجمد عمل لجنة التمكين، وأعلن الالتزام باتفاق جوبا للسلام، وبأنه سيعمل علي تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، تحكم البلاد حتى موعد إجراء الانتخابات في يوليو، وأعلن “حميدتي” أن هذه القرارات تهدف إلي صحيح مسار الثورة.([14])
علي إثر ذلك دعت قوي الثورة للتظاهر والاعتصام للمطالبة بالعودة إلي المسار الديمقراطي، وتسليم السلطة للمدنيين في موعده الشهر القادم، وهو ما دعا البرهان إلي عقد اتفاق سياسي مع حمدوك، أعاده بموجبه لرئاسة الحكومة، علي أن يقوم بتشكيل حكومة مدنية مكونة من الكفاءات الوطنية المستقلة، وتحدث الاتفاق عن عدة أمور تتعلق بإدارة الفترة الانتقالية، منها أن مجلس السيادة يشرف على تنفيذ مهام الفترة الانتقالية الواردة في المادة الثامنة من الوثيقة الدستورية، دون أن يتدخل مباشرة في العمل التنفيذي، لكنه لم يتحدث عن تسليم رئاسة المجلس السيادي إلي المدنيين فيما تبقي من المرحلة الانتقالية.([15])
خرجت المظاهرات في كل مكان، وأغلق المتظاهرون بعض الشوارع الرئيسية في العاصمة الخرطوم ومدينتي بحري وأم درمان، ودعا تجمع المهنيين إلي العصيان المدني، احتجاجا على انفراد العسكريين بحكم البلاد والإطاحة بالمدنيين.
استمرت التفاعلات الثورية، واستقال حمدوك من منصبه، وتواصلت الانقسامات النخبوية، وبوساطة الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وإيجاد) والمجموعة الرباعية (الولايات المتحدة وبريطانيا والإمارات والسعودية)، وقع مجلس السيادة في ديسمبر 2022 اتفاقا إطاريا مع جانب من القوي والأحزاب السياسية المدنية، في مقدمتها تحالق قوي الحرية والتغيير مجموعة المجلس المركزي، غير أن الاتفاق أرجأ بعض القضايا الخلافية، من بينها العدالة الانتقالية وإصلاح قطاع الأمن، وكما هو الحال دائما انقسمت النخب السودانية بين مؤيد ومعارض لهذا الإطاري، وفي ذات الوقت بدأ الخلاف بين شقي المكون العسكري يطفو علي السطح. ([16])
- السياق الاقليمي والدولي.
تزامنت الثورة السودانية مع أحداث جسام تجري حول العالم، فعلي المستوي الدولي اشتد التنافس والصراع بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة، والشرق بقطبيه الصين وروسيا، فيما دخلت القوي الإقليمية الصاعدة عل خط الصراع، وقد خَلَّفَ ذلك، أو تزامن معه، تفشي جائحة “كوفيد-19″، وفي خضم ذلك اندلعت الحرب الروسية علي أوكرانيا وهو ما أسفر في الأخير عن أزمة اقتصادية عالمية، أما علي المستوي الإقليمي ففي الشرق من السودان اشتد الصراع الدولي علي الممر الملاحي الأهم عالميا باب المندب، وفي الغرب من السودان اشتعل الصراع الأفريقي-الفرنسي-الروسي، وأما علي مستوي دول الجوار المباشر فقد دارت حرب “التيجراي” في إثيوبيا، والحرب الأهلية الليبية، فيما ضرب عدم الاستقرار بأطنابه في جنوب السودان، وتشاد، ومصر، وأفريقيا الوسطي.
وعلي الرغم من انشغال المجتمع الدولي علي هذا النحو، استحوذت الثورة السودانية وتفاعلاتها علي اهتمام دولي بالغ، غير أن كثرة الدول المعنية بالأزمة السودانية، وتقاطع وتعارض مصالحها، أدخل السودان في دوامة من التجاذبات الخارجية التي أدت في النهاية إلي مزيد من الحذر والتباطؤ باتجاه التسوية، وهو ما حدا بقوي الداخل إلي مزيد من المناورة والمراوغة استنادا لما تتلقاه من دعم أو وعود من الخارج.
- الأسباب الرئيسية لاندلاع الصراع المسلح.
أدت هذه السياقات إلي انكشاف أطماع رأسي المكون العسكري (البرهان/”حميدتي”) في الاستحواذ علي السلطة، وبخاصة وأن خروجهما من السلطة لن يكون آمنا بعد هذا الكم من الانتهاكات والجرائم، فضلا عن أن المضي قدما نحو الحكم المدني، سوف يؤدي إلي دمج العسكريين في كيان واحد يخضع للسلطة المدنية، ومن المرجح والحال كذلك، أن يفقد الجنرالين مركزيهما عسكريا، ويفقد الجيش والدعم السريع الامبراطورية الاقتصادية التي بناها كل لحسابه.
وعندما بدأ الجيش مناقشات حول إصلاحات قطاع الأمن، تصاعدت التوترات بين البرهان و”حميدتي” بشكل حاد حول الإطار الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش، وقيادة الجيش بعد الدمج، وعلي إثر ذلك بدأ الجانبان في تخزين الأسلحة في مواقع رئيسية، بما في ذلك الخرطوم، وفي منتصف أبريل 2023 عدا كل منهما علي الآخر، في اقتتال مسلح عنيف لم تشهده السودان من قبل،(**) الأمر الذي يشكل خطورة بالغة علي مستقبل الدولة السودانية، وهو ما يدعونا إلي رصد وتحليل مواقف الأطراف، وموازين القوة والتأثير.
- مواقف الأطراف المختلفة من الصراع المسلح في السودان.
تتعدد أطراف الأزمة السودانية داخليا وخارجيا بشكل كبير، وتتباين مواقفهم، بحسب مصالحهم التي يغلب أن تتقاطع أو تتعارض، وفي ذات الوقت تختلف موازين القوة وقوة التأثير فيما بينهم.
أولا: الأطراف الداخلية.
فيما يتصل بالصراع المسلح الجاري يمكن تقسيم الداخل السوداني إلي: أطراف مباشرة وهما شقي المكون العسكري، وأطراف غير مباشرة وهم: مجموعة الفصائل المسلحة، والأحزاب السياسية، والكيانات المدنية والثورية.
- الأطراف مباشرة.
دخل الجيش النظامي السوداني مع ميليشيا الدعم السريع في مواجهات عسكرية، وإلي الآن لم ينضم إلي هذا الصراع المسلح أي فصائل أخري مسلحة مما تنتشر في السودان.
- الجيش السوداني.
يقود البرهان الجيش السودان ويترأس مجلس الحكم “السيادة” منذ أن أطاح البشير ونظام الإنقاذ، ولن يجد المتتبع لمسارات وقرارات وسلوك البرهان عناء، في التعرف علي أهدافه المتمثلة في الاستحواذ علي حكم البلاد والبقاء فيه، عبر احتواء “حميدتي” وقواته، وتحييد قادة الفصائل المسلحة، وبث الفرقة بين القوي المدنية مستخدما الجزرة دون العصي فعصاه ليست بالقوة الكافية.
ولاشك في أن شرعية البرهان تمنحه تأثيرا ملموسا علي مواقف الأطراف – المعلنة علي الأقل – في الداخل والخارج، كما أنه يتفوق بكثير من حيث القوة العسكرية، لكنه يفتقر إلي ميزة حرب المدن التي تعمل في صالح ميليشيا الدعم السريع.
أما عن موقف البرهان وجيشه من الصراع المسلح فيبدو أنه يصر علي الحسم لصالحه، ولا أية يبدي مرونة، فلا تزال المعادلة لديه صفرية، ويعتقد أنه لا يزال يملك من الوسائل والأدوات التي تمكنه من النصر.
- ميليشيا الدعم السريع.
يقود “حميدتي” ميليشيا الدعم السريع ويشغل منصب نائب البرهان كرئيس مجلس الحكم “السيادة”، والذي تؤكد الشواهد أنه ما حصل عليه إلا استمالة من البرهان، واستنادا لقوة ميليشياته، ودعما من قوي خارجية، ولم يستطع إخفاء مطامعه في الوصول إلي السلطة طويلا، عبر مداهنة البرهان والالتفاف علية من خلال بناء شبكة مصالح وعلاقات مع بعض قوي الخارج، واستمالة بعض قوي الداخل.
وعلي الرغم من شكلية شرعية ميليشيا الدعم السريع، إلا أنها وعلي علاتها منحته اعترافا لدي داعميه من قوي الخارج، كما أنه وإن كان عسكريا أقل عددا وعدة وعتادا، إلا أنه يحظى بميزة القدرة علي حرب الشوارع، والتي وإن لم تمكنه من الحسم فحتما ستمكنه من البقاء طويلا إذا أمن لنفسه الإمداد.
أما عن موقف “حميدتي” وميليشياته من الصراع المسلح، فلا يزال يعتقد أنه باستطاعته بوسيلة أو بأخري إزاحة البرهان من قيادة الجيش، وتحقيق نصر معنوي يبني عليه في عقد اتفاقات مع عسكريين ومدنيين، للوصول إلي السلطة والبقاء فيها مدعوما من قوي خارجية، وتتحدث بعض التحليلات عن أن لديه خططا بديلة من بينها تقسيم السودان.
- الأطراف غير المباشرة.
كاد الخطاب الذي تبنته القوي المدنية أن يكون موحدا؛ فالكل ناشد الطرفين الوقف الفوري للعمليات العسكرية والعودة للقواعد، ونأي الكل بجانبه عن التصريح بتأييد هذا أو ذاك، عدا أن الغالبية تحدثت عن ضرورة الحفاظ علي الجيش، وعن وجوب دمج ميليشيا الدعم السريع فيه، ودعا البعض إلي تشكيل لجان مشتركة للتفاوض، غير أن سائر الأطراف غير المباشرة تفتقر إلي القدرة علي التأثير في مواقف طرفي الصراع المسلح.([17])
- الأطراف الخارجية.
تبنت كافة القوي الخارجية: الدولية، والإقليمية، والجوار المباشر، خطابا رافضا للقتال، داعيا إلي الوقف الفوري للعمليات، والعودة إلي طاولة التفاوض حول الأزمة السودانية، وصرح الجميع بأن ما يجري في السودان ما هو إلا شأن داخلي، غير أن الأهداف والمصالح غير المعلنة، والمؤكدة أو المرجحة بشواهدها، تنفي الحياد المزعوم، وأن كل من هذه القوي يدعم بشكل غير معلن وبدرجة أو بأخري، طرفا ما من طرفي الصراع، وأن هذا الدعم يحفز من موقفهما الرافض حتي الآن للتسوية.
- مواقف دول الجوار المباشر.
مصر: من المؤكد أن مصالح مصر في السودان ترقي إلي مرتبة الأمن القومي، سواءً الأمن المائي أو الأمن الحدودي، ومن ثم فهي تحرص كل الحرص علي وحدة السودان واستقراره، وهو ما يبدو مؤيدا للجيش النظامي، ومن هنا أسر “حميدتي” الجنود المصريين المتواجدين في السودان لأغراض التدريب ثم أفرج عنهم لاحقا، بعدها وفي حديت أراد أن يبدو ذلة لسان، اتهم مصر بدعم الجيش السوداني، وتتحدث بعض التحليلات عن صحة اتهام “حميدتي” بدرجة أو بأخري.
إثيوبيا: من المؤكد أن مصالح إثيوبيا تتمحور حول قضيتي سد النهضة، وأراضي الفشقة الحدودية بين البلدين، وتنبئ المؤشرات الأولية أن “حميدتي” يعد الأقرب إلي تحقيق المصالح الإثيوبية في هاتين القضيتين وفي غيرهما، ومن هنا تتحدث تحليلات عن دعم غير معلن – بطبيعة الحال – من إثيوبيا لـ “حميدتي”.
إريتيريا: لم يُخف الرئيس “أسياس أفورقي” تأييدة الجيش السوداني، وصرح بذلك علنا في حديث مطول عبر تليفزيون بلاده، وقال مؤكدا “لا يمكن تصور وجود جيشين في بلد واحد”، غير أنه يري أن عملية الدمج سوف تستغرق مزيدا من الوقت، ومن ثم وجوب فك الارتباط بينها وبين المرحلة الانتقالية والانتقال الديمقراطي، ومن المؤكد أن هذا الموقف يؤثر ضمن عوامل أخري باتجاه تمسك كل من الطرفين بخيار الحسم، مما يصب في اتجاه إطالة النزاع.([18])
ليبيا: يجد اللواء خليفة حفتر قائد ما عرف بالجيش الوطني الليبي ضالته في انتصار “حميدتي” في حربه مع البرهان، لذا يناصره علنا ويدعمه خفية، فثمة تقارير كثيرة تتحدث عن تهريب السلاح من ليبيا إلي ميليشيا الدعم السريع غبر الحدود، ويعد هذا الدعم الكثيف من أكثر المتغيرات تأثيرا في صمود “حميدتي” وإصراره علي المضي قدما في الحرب.([19])
تشاد: تبدي حيادا، وتخفي مخاوفا جادة، من انتقال الصراع المسلح الدائر في دارفور إليها عبر الحدود المشتركة، ومن سيطرة “حميدتي” علي السلطة في السودان، بما يقوي شوكة القبائل العربية في تشاد، وبخاصة قبيلة الرزيقات التي ينحدر منها “حميدتي”، وهي مناوئة لقبيلة الزغاوة التي تسيطر على مقاليد السلطة في تشاد منذ ثلاثين عاما، وينتمي إليها معظم قادة الجيش، والرئيس الانتقالي محمد إدريس ديبي ومن قبله أبيه.([20])
جنوب السودان وأفريقيا الوسطي: تلتزمان الحياد، وكانت جنوب السودان قد استضافت مفاوضات اتفاق جوبا للسلام بين الأطراف السودانية، وتبنت طرح مبادرة منظمة “الإيجاد”.
- مواقف القوي الإقليمية.
تباينت مواقف بعض القوي الإقليمية من الصراع السوداني المسلح، كل بحسب أهدافه ومصالحه واستراتيجيته المستقبلية تجاه السودان.
الامارات: كان منطقيا أن تنحاز الإمارات الأكثر براجماتية إلي دعم “حميدتي” راعي مصالحها الاقتصادية في السودان، فالإمارات أكبر مشتري للذهب السوداني الذي يستحوذ “حميدتي” علي معظمه، وتتحدث تقارير عن أن الإمارات وبدعم استخباراتي إسرائيلي دبرت السيناريو الذي بدأت به الحرب، وبخاصة الاستيلاء علي مطار مروي لاستخدامه للإمداد مستقبلا، وفي ذات الوقت أسر القوات المصرية المتواجدة في المطار، لاستخدامهم كورقة ضغط لتحييد مصر، وقد أخرج هذا الانحياز الإمارات من دائرة جهود التسوية، ولم يعد في مقدورها التأثير علي مسارات الصراع، إلا بقدر ما يمكنها أن تقدمه من دعم لوجستي أو استخباراتي لـ “حميدتى”.([21])
إسرائيل: منذ بداية عملية تطبيع العلاقات مع إسرائيل، نسج “حميدتي” شبكة علاقات خاصة مع دولة الاحتلال، بعيدا عن البرهان ومجلس السيادة والحكومة، وتوطدت هذه العلاقات لدرجة أن كثيرا من المحللين، يتحدثون عن تدريب إسرائيلي لنخبة من قوات “حميدتي”، فضلا عن الدعم الاستخباراتي المشترك مع الإمارات، ويرجع هذا الدعم لكون “حميدتي” الخيار الأفضل، الذي يحقق أهدافها ومصالحها وأطماعها في مياه النيل، وتعزيز النفوذ في أفريقيا، وتطويق مصر من الجنوب، وحتي لا تنقض إسرائيل ما نسجته من علاقات مع الأطراف السودانية، ودعما لبقاء “حميدتي” في المعادلة السودانية، طرحت استضافة محادثات بين الطرفين لكنها لم تلقي استجابة، ويبقي تأثير اسرائيل محصورا في تعاونها مع “حميدتي”.([22])
السعودية: ركزت علي المجالات الاقتصادية والثقافية في علاقاتها مع السودان، ونأت بنفسها نسبيا عن التدخل المباشر في الشأن السياسي منذ بداية الأزمة السودانية، وانحصر دورها في دعم عملية الانتقال الديمقراطي، ومن هنا بادرت بعد اندلاع الصراع المسلح، بالتعاون مع الولايات المتحدة، إلي استضافة محادثات غير مباشرة بين طرفي الصراع في مدينة جدة.
- مواقف القوي الدولية.
تباطأت المواقف الدولية كثيرا وجاءت دون المتوقع منها، بسبب التعقيد الشديد الذي يتسم به الصراع السوداني، فكل يُسيِّر الأمور باتجاه مصالحه، بغض النظر عما إذا كان ذلك يلبي تطلعات الشعب السوداني من عدمه.
الولايات المتحدة: تَعتبِر أميركا منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي ومحيط باب المندب عموما، منطقة نفوذ يجب ألا تخرج عن السيطرة، وألا يخترقها منافسون أو مناوئون، من ثم تسعي إلي إعادة هندسة علاقاتها في المنطقة، ومن هنا تسعي إلي التحكم في وتيرة ومخرجات العملية السياسية الجارية في السودان منذ خمس سنوات، بما يؤمن انتقال السلطة إلي حكومة مدنية تحقق مصالحها، ذلك بأن العسكريون السودانيون غير مؤهلين للقيام بهذا الدور وإن رغبوا فيه، ولهذا بادرت إلي أخذ زمام المبادرة بالتعاون مع السعودية، باعتبارها الوسيط الوحيد المتعاون أمريكيا، والمقبول سودانيا في آن واحد، وعلي الرغم من علمها بأن هذه المحادثات قد لا تسفر عن شيء، إلا أنها تريد أن تظل ممسكة بزمام المبادرة لكسب مزيد من الوقت حتي تتدبر تفاهمات مع المدنيين – مدعومة بعصا العقوبات – لطرح مبادرة سياسية شاملة.
روسيا: تستهدف روسيا في علاقاتها مع السودان مصالح اقتصادية وعسكرية واستراتيجية، فقد حصلت شركة “إم إنفست” M-INVEST الروسية على وصول تفضيلي إلى احتياطيات الذهب في السودان، وتم نشر أفراد من “فاغنر” في مواقع التنقيب عن الذهب، ومعظمها تحت سيطرة “حميدتي”، وكانت روسيا قد وقعت اتفاق في عهد البشير، يسمح للبحرية الروسية بإقامة قاعدة عسكرية في مدينة بورتسودان الاستراتيجية المطلة على البحر الأحمر، غير أن هذه الاتفاقية لم تدخل حيز التنفيذ، وتسعي روسيا إلي تفعيلها عبر “حميدتي”، وهو ما ينفي حيادها المعلن، وقد أثارت تصريحات لـ”سيرجي لافروف” وزير الخارجية الروسي حول حق السودان في الاستعانة بقوات “فاجنر” جدلا واسعا، فيما تحدثت تقارير غربية عن تدخل “فاجنر” بسلاسل إمداد لـ “حميدتي” عبر أفريقيا الوسطي وليبيا، وهو ما قوي شوكة “حميدتي” في أول الصراع، غير أن هذا التأثير خفت شيئا فشيئا مع تنامي قدرة الجيش السوداني علي قطع هذه الإمدادات.([23])
الصين: تعد السودان ثالث أكبر شريك تجاري أفريقي للصين، فضلا عن أن الصين تعد أكبر مستورد للنفط الجنوب سوداني/السوداني عبر السودان، فضلا عن الاستثمارات الضخمة متعددة المجالات، ومن ثم فهي معنية باستقرار السودان، وكدأبها تلتزم بكين الحياد بين طرفي الصراع، وتحثهم علي وقف إطلاق النار وتسوية الصراع عبر الحوار.([24])
المنظمات الدولية: منذ بداية الأزمة السودانية علق الاتحاد الأفريقي عضوية السودان، ثم رفع التعليق مع تعيين حكومة حمدوك، ومع تفاقم الأزمة شكلت المنظمات الثلاث المعنية ببناء السلام في السودان: الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة الـ “إيجاد”، آلية مشتركة لتيسير المحادثات بين الفرقاء السودانيين المدنيين والعسكريين، وبعد الاختلاف حول استكمال الاتفاق الإطاري واندلاع الصراع المسلح، دعت المنظمات الثلاث إلي وقف إطلاق النار والتسوية السلمية، وطرحت الـ “إيجاد” مبادرة تستضيفها “جوبا” غير أنها لم تلق استجابة، ويبدو أن هذه المنظمات باتت محدودة التأثير علي طرفي الصراع.
- جهود تسوية الصراع المسلح.
توقفت بطبيعة الحال جهود تسوية الصراع السياسي، وانصبت الجهود مرحليا علي وقف الصراع المسلح بين ميليشيا الدعم السريع والجيش، وتعددت الطروحات غير أنها تتمحور حول الدعوة إلي وقف إطلاق النار والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية، مع إجراء محادثات مباشرة أو غير مباشرة بين الطرفين، وعلي الرغم من تصريح الطرفين دوما بأنهما يرحبان بكل المبادرات، إلا أن ذلك لا يعدو أن يكون ردا دبلوماسيا لا يعبر عن إصرار الطرفين علي المضي قدما باتجاه الحسم.
وفي تطور إيجابي استجاب الطرفان للمبادرة السعودية-الأمريكية، فالتأمت مباحثات غير مباشرة بين مندوبي الطرفين في مدينة جدة، غير أن مخرجات هذه المباحثات جاءت هزيلة تدور في فلك الهدنة الإنسانية المؤقتة، مع التعهد بمراعاة جملة من الأمور، هي من بديهيات الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي في حالات الحرب والصراعات المسلحة.
وبإعمال النظر في موقف، ومسلك الطرفين، وفي صيغة الاتفاقات التي أسفرت عنها المباحثات، يبدو جليا أن الصراع لم ينضج بعد،(***) وأن الطرفان لا يزالا يعتقدان في قدرتهما علي الحسم، و/ أو يجدان من الدعم (معنويا كان أو ماديا)، ما يحفزهما علي المضي قدما في هذا الخيار، وهو ما يجعل كل الخيارات متاحة للطرفين، وكل المآلات محتملة.
- مألات الصراع المسلح.
- استنتاجات.
بادئ ذي بدئ، تخلص هذه الدراسة من منظور الدولة، في إطار المفهوم السياسي، إلي جملة من الاستنتاجات، لا مناص من أخذها في الاعتبار، لدي تقييم وترجيح المسارات المحتملة للصراع، وأهم هذه الاستنتاجات:
- أن وجود ميليشيات عسكرية، تناوئ السلطات الرسمية الأصيلة للدولة، وتعمل بالتوازي معها، يقوض أركان الدولة، ويدخلها في مصاف أشباه الدول، وأن مثل هذه الميليشيا إن اشتد ساعدها، وعلت علي السلطات الرسمية، أو سيطرت عليها، انتقلت بالدولة من حالة شبه الدولة إلي حالة اللا دولة.
- أن شرعية ميليشيا “الجنجويد” الدعم السريع محل نظر، فهي لا تعدو أن تكون شرعية شكلية تفتقر للشروط والمعايير الموضوعية.
- أن ممارسات ميليشيا “الجنجويد” الدعم السريع، تتسم بعدم المشروعية منذ نشأتها الأولي وحتي الآن، وبالأكثر بعد دخولها مؤخرا في صدام مسلح مع القوات الرسمية الأصيلة للدولة “الجيش”.
- أن تمكن ميليشيا “الجنجويد” من السيطرة علي الأوضاع الميدانية، وعلي مقاليد السلطة، يعني حتما الانتقال من حالة شبه الدولة، التي تعاني السودان منها منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلي حالة اللا دولة.
- مسارات محتملة.
اعتبارا لما سبق من استنتاجات، وفي ضوء تحليل الصراع علي النحو السابق تفصيله، يمكننا التأكيد علي أن كثيرا من المتغيرات المتداخلة والمتقاطعة وفي مقدمتها العنصر الخارجي، يمكنها التحكم بدرجة كبيرة في المسارات المحتملة للصراع، كما يمكننا القول بأن هذه المسارات لن تخرج عما يلي:
- المسار الأول: شروع السودان في استعادة حالة الدولة . . . وذلك بحسم القوات المسلحة للصراع، وتمكُنها من القضاء علي، أو تفكيك ميليشيا الدعم السريع، ويظل هذا المسار محتملا وإن كان تحققه من الصعوبة بمكان، في ظل الكثرة العددية لقوات ميليشيا الدعم السريع، وحجم ونطاق الدعم الخارجي الذي تتلقاه، وتقوي احتمالية تحقق هذا المسار كلما تم قطع سلاسل الإمداد عن ميليشيا الدعم السريع.
- المسار الثاني: دخول السودان في حالة اللا دولة . . . وذلك بحسم ميليشيا الدعم السريع للصراع لصالحها وتمكنها من السيطرة الميدانية، والتحكم في مقاليد السلطة مع وجود انتقال سياسي مدني هش، ويظل هذا المسار مستبعدا، ذلك بأنه وإن كان يحقق مصالح بعض القوي، إلا أنه يضر كثيرا بمصالح قوي أخري أكثر تأثيرا في الحالة السودانية، كما أن القوي المدنية علي انقساماتها لن تقبل بهكذا أوضاع.
- المسار الثالث: مصير مجهول للدولة السودانية قد يصل إلي التقسيم . . . وذلك بالتدخل الدولي أو القاري أو الإقليمي، من خلال تفعيل مسئولية الحماية عبر الأمم المتحدة تحت الباب السابع، ويظل هذا المسار مستبعدا أيضا، وبخاصة في ظل الصراع المحتدم دوليا، وحالة اللا يقين التي تعتري النظام الدولي.
- المسار الرابع: مصير مجهول للدولة السودانية قد يصل إلي التقسيم . . . وذلك إذا طال أمد الصراع واستمر دون تسوية أو حسم، ويظل هذا المسار محتملا، وبخاصة في ظل الدعم الكبير الذي يقدمه العنصر الخارجي لطرفي الصراع.
- المسار الخامس: شروع السودان في استعادة حالة الدولة . . . وذلك بتسوية الصراع عبر وسطاء، والاتفاق علي خطة عمل تحقق خروج “حميدتي” من المشهد السياسي، مع دمج وتسريح عناصر ميليشيا الدعم السريع، مع إطلاق عملية سياسية شاملة، تنقل السلطة توافقيا إلي مدنيين، يعيدون بناء هياكل الدولة، ويضعون قاعدة دستورية وتشريعية، توطئة لإجراء انتخابات ديمقراطية، ويظل هذا المسار الأكثر ترجيحا، لكنه قد يستغرق بعض الوقت، نظرا لتشظي القوي المدنية السودانية، ونظرا لكثرة وقوة تقاطع وتداخل مصالح العنصر الخارجي، وهو المتغير الأكثر تأثيرا في هذا الصراع المعقد.
([1]) أسماء محمد علي شحاتة، “العنف المشروع بين جورج سوريل وماكس فيبر”، في مجلة البحث العلمي في الآداب ( القاهرة: جامعة عين شمس، كلية البنات للآداب والعلوم والتربية، المجلد ١٠، العدد ١٩، 2018) ص ص 350-359.
([2]) جمال عبد القادر البدوي، “قوات الدعم السريع في السودان من ميليشيا إلى جدل الدمج”، علي موقع إندبندنت عربية، نشر في 15 أبريل 2023، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:10 م على الرابط:
https://tinyurl.com/3eftxhp7
([4]) أبو ذر الغفاري بشير عبد الحبيب، “التطور القانوني لقوات الدعم السريع والصعود المتسارع خلال عشرين عاماً”، علي موقع سودانايل، نشر في 24 أبريل 2023، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:15 م على الرابط:
https://tinyurl.com/3xpjch94
([7]) سيد مصطفى، “ميليشيات الجنجويد وجرائمها في دارفور… “حين تمرّ على قرية تنتهي من الوجود””، علي موقع رصيف ٢٢، نشر في 26 يناير 2018، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:20 م على الرابط:
https://tinyurl.com/3hvehn7s
– موقع يورو نيوز، “بدء محاكمة علي عبد الرحمن أحد قادة ميليشيا الجنجويد أمام المحكمة الجنائية الدولية”، نشر في 5 أبريل 2022، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:25 م على الرابط:
https://tinyurl.com/wu88wc4d
(*) مقر بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور.
([8]) سيد مصطفى، “ميليشيات الجنجويد وجرائمها في دارفور…، مرجع إلكتروني سبق ذكره.
([9]) موقع بي بي سي نيوز عربية، ” أزمة السودان: اتهامات لضباط بارزين بجرائم ضد الإنسانية في فض اعتصام القيادة العامة”، نشر في 27 يوليو 2019، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:30 م على الرابط:
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-49125799
([10]) موقع الجزيرة نت، “الآلاف أحيوا ذكراها الثالثة.. أبرز المحطات السياسية في السودان منذ ثورة ديسمبر”، نشر في 20 ديسمبر 2021، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:35 م على الرابط:
https://tinyurl.com/2v2mmwpr
([12]) زيد العلي، “إتفاق جوبا لسلام السودان: ملخص وتحليل“، (ستوكهولم: المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، أوراق سياسية، ٢٠٢١) ص ص ٧-٤٥.
([13]) أمين موسى، “الحرية والتغيير في السودان .. جناحان وموقفان من الأزمة”، علي موقع العربية، نشر في 16 يناير 2022، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:35 م على الرابط:
https://tinyurl.com/yc3k8xf7
([14]) موقع الجزيرة نت، “الآلاف أحيوا ذكراها الثالثة . . . مرجع سبق ذكره.
([15]) موقع الجزيرة نت، “السودان.. بنود الاتفاق السياسي بين البرهان وحمدوك”، نشر في 21 نوفمبر 2021، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:40 م على الرابط:
https://tinyurl.com/3cjfx3xd
([16]) موقع الجزيرة نت، “السودان.. مجلس السيادة يعلن استعداد الأطراف غير الموقعة على الاتفاق الإطاري لاتفاق سياسي ينهي الأزمة”، نشر في 19 مارس 2023، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:45 م على الرابط:
https://tinyurl.com/3a5bzfc2
(**) تبادَل الطرفان الاتهام بالبدء بالاعتداء، فيم رفع كل منهما شعار الحفاظ علي الدولة وعلي مكتسبات الثورة.
([17]) رحمة حسن، نرمين سعيد، “موقف الأطراف السياسية السودانية من الاشتباكات بين الجيش السوداني وميليشيا قوات الدعم السريع” ، علي موقع المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، نشر في 17 أبريل 2023، تحققت أخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 5:50 م، علي الرابط:
https://ecss.com.eg/33687/
([18]) محمود أبو بكر، “إريتريا تحسم موقفها تجاه الأزمة السودانية: ندعم البرهان”، علي موقع إندبندنت عربية، نشر في 4 مايو 2023، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 1:55 م على الرابط:
https://tinyurl.com/ycksy4bz
([19]) صالح الدهني، “إمداد عسكري ونفط وملاذ آمن.. مصالح مشتركة بين حميدتي وحفتر تطيل أمد الصراع في السودان وليبيا”، علي موقع عربي بوست،
https://tinyurl.com/js2fzmcb
([20]) موقع الجزيرة نت، “تشاد تنفي اصطفافها مع أي من طرفي النزاع المسلح في السودان”، نشر في 25 أبريل 2023، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 2:00 م على الرابط:
https://tinyurl.com/2p8rfxfj
([21]) د. محمد عبد الكريم، نشر في 26 يونيو 2021، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 2:05 م على الرابط:
– أحمد يونس، نظير مجلي، “«لقاءات الموساد» مع حميدتي تفجّر غضباً… وصمت في الخرطوم”، علي موقع صحيفة الشرق الأوسط، نشر في 26 يونيو 2021، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 2:10 م على الرابط:
https://tinyurl.com/y3s8nvrz
– موقع الجزيرة نت، “إسرائيل تقترح استضافة محادثات بين البرهان وحميدتي”، نشر في 25 أبريل 2023، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 2:15 م على الرابط:
https://tinyurl.com/35cm28dv
([23]) د. سعيد ندا، “مستقبل العلاقات الروسية-الأفريقية بعد الحرب على أوكرانيا”، في لباب للدراسات الاستراتيجية (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، س 5، ع 18، مایو2023) ص 183.
([24]) شاهر الشاهر، “محددات الموقف الصيني من الحرب في السودان”، علي موقع الميادين نت، نشر في 27 أبريل 2023، تحققت آخر زيارة في 28 مايو 2023 الساعة 2:20 م على الرابط:
https://tinyurl.com/5fd8mk6e
(***) مصطلح تعبر به أدبيات تحليل الصراعات، عن حالة الصراع عندما يترسخ في يقين أطرافه أو يغلب علي ظنهم، أنه ليس في الإمكان أفضل مما كان.