الاجتماعية والثقافيةالدراسات البحثية

ميلاد الطب الاجتماعي – ميشيل فوكو

ميلاد الطب الاجتماعي – ميشيل فوكو[1]

Conférence “La naissance de la médecine sociale”, Michel Foucault, «El nacimiento de la medicina social» «La naissance de la médecine sociale» ; trad. D. Reynié), Revista centroamericana de Ciencias de la Salud, no 6, janvier-avril 1977, pp. 89-108. (Deuxième conférence prononcée dans le cadre du cours de médecine sociale à l’université d’État de Rio de Janeiro, octobre 1974.)

ترجمة: أسامة صبري –  جامعة ابن زهر- المغرب

  • المركز الديمقراطي العربي

 

لقد حاولتُ خلال ندوتي الأولى أن أظهر أن المشكل الأساسي لا يتعلق بالتعارض القائم بين الطب وما هو ضد الطب بقدر ما يتعلق  تطور أنظمة الصحة والنموذج المتبع من أجل تحقيق الـ”الإقلاع” الطبي والصحي في الغرب منذ القرن الـ18. ولقد شددت وقتئذ على ثلاث نقط تبدو في نظري مهمة:

أولاً، إن البيو-تاريخ، وأقصد الأثر الذي خلفه التدخل الطبي على  المستوى البيولوجي –الذي يمكن أن يُخلفه أيضاً عبر تاريخ النوع البشري- هذا التدخل قد  بدأ منذ القرن الـ18. في الواقع، إن تاريخ النوع البشري لا يختلف عن سيرورة العلاج الطبي وهنا بالضبط يقع حقل مهم للدراسة والذي لم يُدرس ولم يحدد كفايةً وعلى نحو كامل.

إنّنا نعلم أن أمراضاً معدية مختلفة قد اختفت من الغرب حتى قبل اعتماد العلاج الكيماوي للقرن الـ 20. فالطاعون، أو مجموع الامراض المعدية والتي أعطاها المؤرخون والأطباء هذا الاسم، اختفت منذ معرض القرنين الـ18 والـ19 دون أن نعرف حقيقة أسباب وميكانيزمات هذه الظاهرة التي تستحق أن تُدرس.

ثمة حالة أخرى معروفة، هي حالة مرض السل. بالنسبة لـ700 المصابين الذين فارقوا الحياة بسبب السل سنة 1812، هناك 350 فقط مُصاب لقوا نفس المصير سنة 1882. أما عندما اكتشف كوخ [2](Koch ) العصيات التي صيّرتهُ مشهوراً، تم اعتماد العلاج الكيماوي خلال سنة 1945 مما سيقلص عدد الحالات إلى أن تصل 50 حالة. ضمن هذا المستوى البيو –تاريخي، ما هي الأسباب إذن التي مكّنت من هذا التراجع للمرض؟ وماهي الميكانيزمات التي تدخلت في ذلك؟ ما من شك أن تغير الشروط السوسيو-اقتصادية، وظواهر التكيف ومناعة الأجسام نفسها؛ مثلما أن وسائل النظافة الصحية والعزل قد لعبا دوراً مهماً. إن المعارف حول هذه الموضوعات تظل غير مكتملة، إلا أنه تبرز الأهمية لدراسة تطور العلاقات بين النوع البشري وحقل العصيات والفيروسات وتدخلات النظافة الصحية للطب ولمختلف التقنيات العلاجية.

ثمة في فرنسا مجموعة من المؤرخين، أمثال لوغوي لادوغي (Le Roy Ladurie ) و جون بيير بيتر (Jean-Pierre Peter)[3] قد بدأوا في تحليل هذه الظواهر انطلاقاً من احصائيات التجنيد للقرن الـ19 وحاولوا دراسة بعض التطورات الجسدية للنوع البشري[4].

ثانياً، إن العلاج الطبي، أي إدماج الوجود والسلوك والتصرف بالإضافة للجسد الانساني في شبكة من العلاج ذات كثافة وأهمية أكثر فأكثر.

تستحق البحوث الطبية التي تتسم بقدر أكبر من الدقة والتغلغل في كل مرة في تطوير المؤسسات الصحية أن تكون موضوعاً للدراسة. وهو ما نحاول القيام به في الكوليج دو فرانس(Collège de France) . فالبعض درس تصاعد العلاج الاستشفائي وميكانيزماته منذ القرن الـ18 إلى بداية القرن الـ 19، بينما انكب آخرون على دراسة المستشفيات، وهم اليوم منكبون على القيام بدراسة حول السكنى وما يحيط بها : من شبكة طرق، وطرق النقل والتجهيزات الجماعية التي تضمن الحياة اليومية وبالأخص  في المجال الحضري

ثالثاً،  اقتصاد الصحة، ونعني به إدماج تطوير الصحة وخدماتها واستهلاكها ضمن تنمية اقتصادية لمجتمعات متميزة. يتعلق الأمر هنا بمشكل صعب ومركب وتاريخه غير معروف تماما. ثمة في فرنسا مجموعة تنكب على إنجاز هذه المهمة في مركز الأبحاث والدراسات حول الرفاهية [CEREBRE] والذي ينتمي إليه آلان لوتوغمي [5](Alain Letourmy) وسيرج كارسينتي (Serge Karsenty) وشارل دوبوي [6](Charles Dupuy)  إذ يحاولون أساساً دراسة إشكاليات استهلاك خدمات الصحة في الثلاثين سنة الأخيرة.

تاريخ سيرورة العلاج الطبي:

بما أنني منكب أساساً على إعاة تتبع تاريخ العلاج الطبي، فإنني سأتتبعه انطلاقاً من تحليل بعض جوانب العلاج الطبي في المجتمعات انطلاقاً من القرن الـ 19. سنأخذ على سبيل المثال، النموذج الفرنسي، كمرجع والذي أعرفه جيداً. على نحو ملموس، فأنا سأعود إلى ميلاد الطب الاجتماعي.

نلاحظ، في غالب الأحيان، أن الانتقادات الموجهة للطب الحديث تدعم الفكرة القائلة أن الطب القديم- الاغريقي والمصري- أو أشكال الطب في المجتمعات البدائية كانت أشكالاَ للطب الاجتماعي، الجماعي والتي لم تكن تركز على الفرد. لا يمنع ضعف معرفتي بالاثنولوجيا والعلوم المصرية، أن أدلي برأيي حول المشكل؛ إلا أنه، وبحسب ما أعرفه حول التاريخ الإغريقي، فأنا في حيرة من الفكرة  ولا أدري كيف نعتبر أن الطب الاغريقي كان طبا جماعيا واجتماعيا.

بيد أنه ليس في هذا الموضع توجد الاشكالات المهمة. فالسؤال هو معرفة ما إذا كان الطب الحديث، أي الطب العلمي، الذي وُلدَ خلال نهاية القرن الــ 18، مع بروز علم التشريح المرضي؛ طباً فردياً أم لا. هل يمكننا أن نؤكد كما يفعل بعضهم، أن الطب الحديث إنما هو طب فرداني بالنظر لكونه استدخل علاقات السوق؟ بما أن الطب متصل مع اقتصاد رأسمالي، فهو بالتالي طب فردي أو ذو نزعة فردانية لا يعترف سوى بالعلاقة مع السوق التي تجمع الطبيب بالمريض، وتتجاهل البعد الكلي/ الشمولي  والجماعي للمجتمع؟

كما يمكننا أن نبيّنُ أن هذا هو واقع الحال. فالطب الحديث طب اجتماعي حيثُ أٌسّس وفق تكنولوجية معينة للجسد الاجتماعي؛ إن الطب ممارسة اجتماعية، وبعض جوانبه فقط هي التي يُعتد بها فردية وتضفي قيمة للعلاقات بين الطبيب والمُعالجَ. في هذا الخصوص، أريد الإشارة إلى كتاب ((Varn L.Bullough[7] حيث كشف بوضوح عن الطابع الفردي للطب الوسيطي، أمام محدودية البعد الجماعي للممارسة الطبية.

إنني أدعم الفرضية التي تقول أننا لم ننتقل – مع الرأسمالية– من طب جماعي إلى طب خاص، بل العكس تحديداً: فالنظام الرأسمالي الذي تطور في نهاية القرن الـ 18 وبداية القرن الـ 19، قد قام منذ البداية بتنشئة الجسد حسب قوة الانتاج وقوة الشغل. إن الضبط الذي يمارسه المجتمع على الأفراد لا يتم وفقط بالوعي أو بالأيديولوجيا وإنما أيضاً في الجسد ومع الجسد. إذ بالنسبة للمجتمع الرأسمالي، فإن البيو-سياسة تمثل أهمية بالغة، قبل كل شيء، سواء الأهمية البيولوجية أو الأهمية الجسدية.  وتبعاً لذلك يمثل الجسد واقعاً سياسياً وبيولوجياً؛ والدواء إنما هو استراتيجية سياسية وبيولوجية.

كيف أُنتِجَت هذه التنشئة الاجتماعية؟ أوَدُّ أن أشرح موقفي بالانطلاق من بعض الفرضيات المقبولة عموماً. من المعروف أن الجسد الانساني قد اُعترف به سياسياً واجتماعياً كقوة للشغل. مع ذلك يبدو أن من الخصائص التي تُميز تطور الطب الاجتماعي أو حتى الطب الغربي ذاته هو أن السلطة الطبية في البداية لم تكن تهتم بالجسد البشري كقوة للشغل. ولم يكن هذا هو الحال خلال الفترة ما قبل النصف الثاني من القرن الـ19 عندما طُرحت مشكلة الجسد والصحة على مستوى قوة الانتاج لدى الأفراد.

بإمكاننا أن نعيد تشكيل المراحل الثلاث لتكون الطب الاجتماعي، أولاً من خلال الطب الدولة وثانياً عبر الطب الحضري وثالثاً عبر الطب الذي يهتم بالشغل.

طب الدولة

لقد تطور “طب الدولة” أساساً في ألمانيا في بداية القرن الـ18. وحول هذه المسألة بالذات، نتذكر تأكيد ماركس الذي يرى أن الاقتصاد كان انجليزياً، والسياسة  فرنسية والفلسفة ألمانية. وعلى هذا الاعتبار تكون في ألمانيا خلال القرن الـ19- قبل فرنسا وانجلترا- ما يمكن أن نطلق عليه علم الدولة (La science de l’Etat). إن مفهوم العلوم السياسية (Staatswissenschaft ) جرى إنتاجه في ألمانيا تحت مسمى ”علم الدولة”. يمكن أن نؤلف بين جانبين ظهرا في هذه الدولة:

  • من جهة، ثمة هناك معرفة موضوعها الدولة؛ ليس فقط الموارد الطبيعية للمجتمع أو شروط عيش سكانه، إنما أيضاً نمط الاشتغال العام للآلة السياسية. الأبحاث حول الموارد ونمط اشتغال الدول ساهمت في تشكيل تخصص ألماني في القرن الـ18.
  • من جهة أخرى، تشير العبارة إلى المناهج التي تساعد الدولة على إنتاج ومراكمة المعارف التي تمكنها من ضمان اشتغالها.

الدولة إذن، كموضوع للمعرفة، كأداة ووسط لاكتساب المعرفة الخاصة قد تطورت بسرعة في ألمانيا بالمقارنة مع فرنسا أو انجلترا. ليس من السهل تحديد أسباب هذه الظاهرة، وإلى غاية الآن لم يهتم المؤرخون بهذه المسألة أو بمشكلة علم الدولة بألمانيا. في نظري، يُفسر هذا الأمر بكون أن ألمانيا لم تتوحد سوى خلال القرن الـ 19 حيث لم تكن  مكونة سوى من دول متجاورة ووحدات صغيرة. وعلى نحو محدد، عندما تتشكل الدول، فإنها في ذات الوقت تطور معرفتها بنفسها وباهتماماتها ووظائفها. بالإضافة إلى الحجم الصغير للدول وتقاربها الكبير وصراعاتها ومواجهاتها الدائمة وتوزان القوى – غير المتزن–  دائماً والمتغير، أجبرها على أن تكون متوازنة مع بعضها البعض لتقليد أساليبها ومحاولة استبدال القوة من خلال أنماط أخرى من العلاقات.

في حين أن الدول الكبرى، مثل فرنسا وانجلترا استطاعت أن تشتغل جيدا نسبيا، مجهزة بأجهزة القوة مثل الجيش والشرطة. أما في ألمانيا أدى صغر حجم الدول إلى جعل هذا الوعي الخفي بأداء دولة المجتمع ممكناً وضرورياً. ثمة تفسيرا آخر لهذا التطور الذي ميّز علم الدولة: ضعف تطور الاقتصاد الألماني في القرن الـ18 بعد حرب الثلاثين عاماً.

بعد الموجة الأولى من النمو في ألمانيا خلال عصر النهضة الأروبية، ظهر شكل محدود للبورجوازية التي كان تقدمها معرقلاُ في القرن السابع عشر ومنعها من العثور على موقع لها فظلّت ضمن قطاع التجارة والصناعة التحويلية والصناعة الناشئة. لقد بحثت هذه البورجوازية على النفاذ عبر الجهات السيادية وتمكنت من تشكيل جسم وظيفي رهن إشارة جهاز الدولة مثلما أراد الأمراء بناءها من أجل تعديل وتغيير علاقات القوة مع الجيران.

انتظمت هذه البورجوازية قليلة النشاط اقتصادياً حول السيادات التي كانت تعاني من وضعيات الصراع المتواصلة، فمدّتها بالرجال وبالكفاءة والثروة … إلخ، من أجل تنظيم الدولة. وهكذا تطور مفهوم حديث للدولة مع كل آلياته ومعرفته واشتغاله في ألمانيا قبل أن يتطور في دول قوية سياسياً مثل فرنسا، أو متطورة اقتصادياً مثل انجلترا.

لقد ظهرت الدولة بمعناها الحديث حيث لا يوجد ثمة سلطة سياسية أو نمو اقتصادي أو علمي مميز للفترة التي هيمنت فيها الميركونتيلية  ولأن جميع الأمم الأوربية اهتمت آنذاك بصحة أفرادها. لم تكن الميركونتيلية إذن مجرد نظرية اقتصادية، بقدر ما شكّلت ممارسة سياسية تهدف إلى تنظيم التدفقات النقدية الدولية والتدفقات الناجمة عن التسليع وعن النشاط الانتاجي للساكنة. تركز السياسة الميركونتيلية بالأساس على نمو الانتاجية والساكنة النشيطة بُغية تحصيل المبادلات التجارية التي تُتيح لأوروبا تحقيق التأثير المالي أكثر ما يمكن، ومن تم تمويل صيانة الجيوش والأجهزة التي تمنح الدولة القوة الحقيقية إزاء علاقاتها مع الآخرين.

وفقاً لهذا المنظور، بدأت كل من فرنسا وانجلترا والنمسا في تقييم القوة النشيطة لساكنتها. وقد ظهرت بفرنسا احصائيات الولادات والوفيات، بينما في انجلترا تم القيام بإحصاءات سكانية كبرى منذ مطلع القرن الـ18. غير أنه والحال سيان سواء لدى فرنسا أو انجلترا، فإن الانشغال الصحي الوحيدة بالنسبة للدولة تجلّى في امتلاك جداول احصاء الوفيات والولادات بوصفها مؤشرات حقيقية عن مدى تطور الصحة لدى ساكنتها، دون أن تكون هناك أية تدخلات منظمة من أجل الرفع من مستوى الصحة.

تطوّرت في ألمانيا خلافاً لما سبق، ممارسة طبية كانت موجهة تحديداً إلى تطوير الصحة العامة. اقترح فرانك[8] ودانييل على سبيل المثال في السنوات بين 1750-1770 برنامجاً يتجه في هذا المنحى. فكانت هنالك ما كان يسمى في البداية الشرطة الطبية الحكومية. إن مفهوم) (Medizinischepolizei، أو الشرطة الطبية والذي ظهر خلال سنة 1764 كانت تشمل أكثر من مجرد عد لمعدلات الوفيات أو الولادات.

ومنذ أن تم وضعها كبرنامج في ألمانيا في أواسط القرن الـ18، وتعززت في نهايته،  تتألف الشرطة الطبية من:

  • نظام مراقبة للوفيات يُعدُّ الأكثر تكاملاً من السجلات العادية للوفيات والولادات، بناءَ على المعلومات المطلوبة من المستشفيات ولأطباء في مختلف المدن والجهات وحفظ مختلف الظواهر الوبائية والمتوطنة التي لوحظت على مستوى الولايات.
  • ثمة جانب مهم جداً وجبت الإشارة إليه، وهو مَعيرة الممارسة والمعرفة الطبية. حتى تلك الفترة، كان التكوين الطبي والحصول على شهادات بيد الجامعات أو الشركات الطبية. على هذا الأساس نشأت فكرة توحيد التعليم الطبي وذلك بمزيد من الدقة، والإشراف العام على برامج التعليم ومنح الشهادات. لذلك فإن الطب والطبيب مثلاً الهدف الأول لهذه المعيرة. بدأ هذا المفهوم ينطبق على الطبيب قبل أن ينطبق على المريض، وبات الطبيب أول من يجري عليه القياس في ألمانيا. إن هذه الحركة التي امتدت نحو كامل أوروبا، يجب أن تُدرس من طرف أيّا كان من يهتم بتاريخ العلوم. لقد مسّت هذه الحركة الأطباء في ألمانيا بينما في فرنسا على سبيل المثال، فإن معيرة النشاطات على مستوى الدولة كان منحصراً بدايةَ في الجيش بما أنه قد وحدنا صناعة المدافع والبنادق في منتصف القرن الثامن عشر، من أجل ضمان استخدام أي نوع من البندقية من قبل أي جندي وإصلاح أي مدفع في أي ورشة عمل … إلخ. استكمالاً لهذا التوحيد في المعايير، شرعت فرنسا في توحيد معلميها، هدفت كليات تدريب المعلمين الأولى إلى تقديم نفس النوع من التدريب لجميع المعلمين. وعلى هذا الأساس، فخلال سنة 1775 تم إنشاء نفس المستوى من الكفاءة إذ وضعت فرنسا معايير لمعلميها وكذلك فعلت ألمانيا إزاء أطباءها.
  • كما أن هناك تنظيماً إدارياً يهدف إلى ضبط نشاط الأطباء. في بلاروسيا، كما في الدول الأخرى لألمانيا، نجد على مستوى الوزارة والإدارة المركزية مكتباً مكلفاً بجمع المعلومات التي يقوم الأطباء بإنجازها؛ كما يتكلف بملاحظة الكيفية التي ينجزون بها تحقيقاتهم الطبية؛ بالإضافة إلى توصيف التفاعل عند ظهور مرض وبائي، إلخ … وبالتالي مباشرة الطلبات استنادا على هذه المعلومات المركزية. يفترض من كل هذا، بطبيعة الحال، تبعية الممارسة الطبية لسلطة إدارية أعلى بالإضافة إلى خلق مستخدمين طبيين معيّنين من طرف الحكومة التي تتحمل مسؤولية منطقة ما. إتّهم يستمدون سلطتهم من السلطة التي يمتلكونها أو من ممارسة السلطة التي يخولها لهم عملهم.

إنّه النموذج الذي تم إرساءه من طرف بلاروسيا خلال بداية القرن الـ 19، نموذج من الهرمية يبدأ من الطبيب مسؤولا عن عدد سكان يبلغ من 6000 إلى 10000 نسمة في المنطقة وصولا إلى المسؤولين عن منطقة أكبر بكثير يُقدر عدد سكانها بين 35000 و 50000 نسمة. وفي هذه اللحظة يظهر الطبيب باعتباره مديراً للصحة.

إن تنظيم المعرفة الطبية للدولة أو معيرة المهنة الطبية، تبعية الأطباء لإدارة عامة، بالإضافة إلى إدماج مختلف الأطباء ضمن تنظيم الدولة للطب؛ كل هذا قد أنتج سلسلة من الظواهر الجديدة كلياً والتي تتميز بما يمكن وصفه بطب الدولة.

إن طب الدولة والذي ظهر مبكراً نوعاً ما -بما أنه أوجد قبل ابتداع الطب العلمي الكبير من طرف ((Morgani & Bichat[9] لم يكن بهدف تكوين قوة للعمل مُكيفة مع الحاجيات الصناعية والتقدم. لا تهتم الإدارة العمومية للصحة بأجساد العمال، ولكن بأجساد الأفراد أنفسهم والذين باجتماعهم، تتكون الدولة. لا يتعلق الأمر هنا، بقوة العمل ولكن بقدرة الدولة في مواجهة هذه الصراعات؛ وهي بلا شك اقتصادية وسياسية أيضاً والتي تعارضها مع جيرانها. وأجل ذلك، فإن الطب مطالب  بإتقان وتطوير قوة الدولة. إن هذا الانشغال بطب الدولة، يشمل كذلك مستوى من التضامن الاقتصادي والسياسي، ومن تم سيكون من الخطأ ربطها بالمصلحة التلقائية المتمثلة في الحصول على قوة عاملة متاحة وذات قوة.

إن النمودج الألماني مهم، لكونه يُظهر على نَحو برادوكسي الكيفية التي برز بها الطب الحديث في خضم ذروة الدولة. منذ بداية هذه المشاريع، منذ نهايات القرن الـ 18 وصولاً إلى بداية القرن الـ19، ومنذ إرساء طب الدولة في ألمانيا، فإنه ما من دولة جرأت على اقتراح مثل هذا الطب البيروقراطي والجماعي الذي تسيطر عليه الدولة على نحو واضح. وتبعاً لذلك، لم يكن ثمة تحول تدريجي لطب اجتماعي تُديره الدولة؛ وخلافاً لذلك تماما، كان الطب الإكلينيكي في القرن الـ19 قد سبقه على الفور طب مُؤمم للغاية. أما أنظمة الطب الاجتماعية الأخرى للقرن الــ 18 والــ 19 قد قُدِّمت بوصفها نماذج مخففة من النموذج الإداري العميق الذي تم بناءه في ألمانيا.

هنا، تكمن إذن سلسلة أولى من الظواهر التي آملتُ الإشارة إليها ولم تستحوذ على انتباه مؤرخي الطب، بالقدر الذي تم تناولها من طرف جورج روزن ([10](George Rosen في دراساته حول العلاقات بين الكاميرالية والميركنتولية[11] ومفهوم الشرطة الطبية. سينشر جورج روزن خلال سنة 1953 ضمن دورية لتاريخ الطب، مقالاً يرتكز على هذه الإشكالية والموسوم بـ:” الكاميرالية ومفهوم الشرطة الطبية”[12] والتي سيدرسها لاحقاً ضمن كتابه تاريخ في الصحة العامة[13].

 الطب الحضري.

ثمة شكل آخر من التقدم الذي أحرزه الطب الاجتماعي والذي يُقدم في فرنسا على سبيل المثال، إذ ظهر خلال نهاية القرن الــ18، والذي لا يتأسس على بنية الدولة مثل ألمانيا بقدر ما يتعلق الأمر بظاهر مختلفة كلياً:  إنّها سيرورة التحضر. في الواقع، فإن الطب الاجتماعي قد تطور في فرنسا مع التوسع الذي عرفته البنيات الحضرية.

سنمارس بعضاً من التاريخ، لكي نفهم كيف ولماذا أُنتج هذا النموذج من الظاهرة. يجب أن نتصور أولاً مدينة فرنسية ما بين 1750 و 1780 كمجموعة متضاربة من المناطق غير المتجانسة والقوى المتنافسة. باريس على سبيل المثال، لا تُكوّن وحدة ترابية، جهة حيث تُمارس سلطة واحدة ولكنها تتكون من مجموعة من السلطات الاقليمية التي يمتلكها العلمانيون والكنيسة والجماعات الدينية والشركات والسلطات وتتمتع باستقلالية السلطة القضائية. زيادة على ذلك، ما يزال ممثلو الدولة متواجدين: أي ممثلي السلطة الملكية، قائد الشرطة وممثلي السلطة البرلمانية. خلال النصف الثاني من القرن الــ18 طُرح مشكل توحيد السلطة الحضرية. وشعرنا خلال هذه اللحظة، على الأقل في التجمعات السكنية الكبرى، بضرورة توحيد المدينة وتنظيم الجسم الحضري بطريقة متناسقة ومتجانسة وإدارتها بواسطة سلطة منظمة وموحدة.

على هذا الاعتبار، ثمة الكثير من العوامل التي تدخلت في اللعبة. في المقام الأول، ومما لا شك فيه أن هناك عامل دوافع اقتصادية. في الواقع، كلما تحولت المدينة كمركز مهم للسوق المعتمد أساساً على الأنشطة التجارية، ليس فقط على المستوى الاقليمي ولكن أيضاً على المستوى الوطني والدولي، بالإضافة إلى أن تعددية السلطات صار غير محتمل بالنسبة للصناعات الناشئة. إن فكرة أن المدينة ليست فقط مكاناً للسوق ولكن أيضاً للإنتاج جعل من الضروري العودة إلى ميكانيزمات التنظيم المتجانسة والمتناسقة.

السبب الثاني ذي طبيعة ساسية. ساعد تطور المدن وظهور فئة سكانية عمالية وفقيرة – والتي تحولت خلا القرن الــ19 إلى بروليتاريا– على إثارة التوترات السياسية داخل المدن. إن وجود المجموعات الصغيرة المختلفة -تعاونيات، مهن ..إلخ.- والتي تتعارض في ما بينها ولكنها بالمقابل تتوازن أيضاً قد بدأت تتحول إلى نوع من المواجهة بين الأغنياء والفقراء من جهة، وبين الفلاسفة والبورجوازية من جهة أخرى، مما أدى إلى المزيد من الاضطرابات والتمردات الحضرية. إذا كان ثمة ما نسميه ثورات المعيش ]وهذا يعني في الحقيقة أنه في وقت ارتفاع الأسعار أو انخفاض الأجور، فإن أفقر الناس يصيرون عاجزين حتى عن إطعام أنفسهم[ ليست ظاهرة جديدة تماما في القرن الــ18 إلا أنها أصحبت أكثر وأكثر عنفاً وأدّت إلى المشاكل المعاصرة الكبرى للثورة الفرنسية.

إجمالاً، يمكننا أن نؤكد أنه ووصولاً إلى القرن الــ17، كان الخطر الاجتماعي الأكبر في أروبا ينبعث من الأرياف. فالفلاحون الفقراء الذين يؤدون دائما ضرائب أكثر جعلوا يمسكون معاولهم واقتحموا القصور والمدن ومن تم كانت ثورات القرن الـ 17 ثورات الفلاحين قبل أن تتحد معها المُدن. وخلافا لذلك، ففي نهاية القرن الـ18 بدأت الثورات الفلاحية في النكوص بفضل رفع مستوى المعيش لدى الفلاحين. بيد أن الصراعات الحضرية أصبحت أكثر توتراً مع بروز مجموعات وفصائل ضمن سيرورة وعملية بروليتارية؛ ومن تم ظهرت الضرورة لسلطة سياسية حقيقية قادرة على معالجة مشاكل هذه الساكنة الحضرية.

لقد نشأ وتطوّر خلال هذه اللحظة شعور الخوف والقلق في المدينة. يقول كابانيس cabanis   الفيلسوف في نهاية القرن الـ 18 إزاء المدينة: أنه في كل مرة يجتمع الناس فإن عاداتهم تتغـيّر، وفي كل مرة يتجمعون في أماكن مغلقة فإن عاداتهم ومستواهم الصحي يتراجع. مما يساهم في توليد ما يمكن أن نسميه خوفاً حضرياً، نوع من الخوف والقلق من المدينة والمميز للغاية: الخوف من الورش والمصانع المنشأة وازدحام السكان وارتفاع المباني والأوبئة الحضرية….

إن الحياة في المدن الكبرى للقرن الـ 18، وبالخصوص في باريس قد آثارت سلسلة من الذعر. يمكننا أن نذكر هنا على سبيل المثال، مقبرة الأبرياء حيث تمت مواراة جثامين أولئك الذين لم تكن مواردهم أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها كافية لشراء أو تستحق أن تُدفن فردياً. يتميز أيضاً الذعر الحضري بالقلق والمخاوف السياسية-الصحية التي ظهرت بتطور المرافق الحضرية. وقد كان لا بد من اتخاد تدابير بُغية التغلب على هذه الظواهر الطبية والسياسية التي أدت إلى مثل هذا القلق الشديد لسكان المدينة.

يتدخل خلال هذه الفترة ميكانزيم جديد والذي يمكن استشرافه غير أنه لا يدخل ضمن الخطاطة الاعتيادية لمؤرخي الطب. ما كانت ردة فعل الطبقة البورجوازية والتي زعمت أنها بدون ممارسة السلطة وقد كانت من قبل سلطة تقليدية؟ لقد استعنا بنموذج تدخل جد معروف ولكنه لا يستعمل إلا نادراً: نموذج الحجر الصحي.

منذ نهاية العصر الوسيط، كان هنالك ليس في فرنسا فقط وإنما في كل الدول الأوروبية ما يمكن أن نسميه الآن “مخططاُ استعجالياً” والذي كان يُفعل في أزمنة الطاعون أو وعند ظهور وباء خطير في المدينة. يتخذ هذا المخطط المعايير الآتية:

  • يُلزم كل الأفراد بالبقاء في بيوتهم، في مكان واحد. كل عائلة في منزلها الخاص، وإذا كان بالإمكان كل فرد من الأسرة في غرفته الخاصة وليس مسموحاً لأي كان بالتحرك.
  • يجب أن تُقسم المدينة على شكل أحياء ويُعهد بالمسؤولية إلى شخص معين مثل رئيس منطق يعتمد الذين يضطرون إلى التنقل بين القتلى خلال النهار ومعاينة التزامهم بعدم مغادرة مساكنهم. يتعلق الأمر إذن بنظام من المراقبة المعممة والمجزئة والضابطة للمدينة.
  • هؤلاء المراقبين سواء في الشارع أو الحي ملزمين بتقديم تقرير يومي مُفصل لعمدة المدينة حول جميع ما لاحظوه. لم نستعمل هنا فقط نظاماً من المراقبة المُعممة ولكن أيضاً نظاماُ من الإخبار ذو طابع مركزي.
  • كما أن هؤلاء المفتشين مطالبين بمعاينة كل المنازل في المدينة. كلما مروا على القتلى طالبوا السكان على الوقوف إلى النوافذ ومعاينة ما إذا كان ثمة من أحد على قيد الحياة وليدونوا ملاحظتهم في السجل؛ وفي حالة لم يظهر الشخص على النوافذ فمعناه أنه مريض وحامل للطاعون ومن تم فيجب نقله إلى وحدة تمريضية خاصة خارج المدينة. يتعلق الأمر إذن بتحديث شامل لعدد الأحياء والقتلى.
  • يتم التطهير من منزل لآخر باستخدام العطور والبخور.

يمثل مخطط الحجر الصحي المثال ]السياسي-الطبي[ الذي ينظم صحياً المدينة خلال القرن الـ17. وبالأساس كان ثمة نموذجان كبيرين للتنظيم الطبي في التاريخ الغربي: أحدهما سببه الجذام والآخر بسبب الطاعون.

عند اكتشاف حالة مصابة بالجذام، خلال العصر الوسيط، تم طرده فوراً من المجال المشترك للمدينة ويُنفى إلى مكان مظلم حيث مرضه كان قد اختلط مع الآخرين. كان النفي بمثابة ميكانيزم للتطهير في الوسط الحضري. معالجة فرد كانت تعني إذن فصله، وبهذه الطريقة يتم تخليص] تطهير[ الأخرين. كان يتعلق الأمر بطب إقصائي. هذا ما حدث أيضاً خلال بداية القرن الـ17 حيث اعتقال الأشخاص المجانين وغيرهم يندرج ضمن هذا المفهوم.

ثمة نظاماً مهماً آخر ]سياسي-طبي[ تأسس لمكافحة الطاعون. في هذه الحالة، لم يُقصي الطب ولم تطرد المرضى في منطقة مظلمة ومُربكة. فالسلطة السياسية للطب اتجهت إلى إعادة توزيع الأفراد جنباً إلى جنب، إلى عزلهم، وجعلهم فردانيين، وإلى مراقبة كل واحد منهم، وفحص حالتهم الصحية، ومراقبة ما إذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة  أو أنهم قد فارقوا الحياة وبالتالي الحفاظ على المجتمع في مساحة متحكم فيها ومُراقبة باستمرار بواسطة سجل (كامل قدر الإمكان) ولجميع الأحداث التي وقعت.

كما أن هناك خطاطة طبية لمواجهة الجذام: ألا وهي الإقصاء، ذو نمط ديني وهو تطهير المدينة. كما أن هنالك أيضاً الخطاطة التي أثارها مرض الطاعون، حيث لم يمارس الإعتقال أو إعادة توزيع وتجميع المركز الحضري بل لجأ، عكس ذلك، من تحليل دقيق للمدينة والتحفيظ الدائم. لقد تم استبدال النموذج العسكري بنموذج ديني. في الواقع فالتعديلات العسكرية، وليس التطهير الديني، هو الذي خدم بشكل أساسي كنموذج لهذا التنظيم السياسي- الطبي.

إن الطب الحضري بطرقه في المراقبة والتطبيب…إلخ، لم يحقق شيئاً سوى تطوير خطاطاته السياسية-الطبية للحجر الصحي التي ظهرت في نهاية القرن الـ16 والـ17. لقد كانت الصحة العامة بمثابة نسخة منقحة من الحجر الصحي، ففي تلك اللحظة بدأت إرهاصات الطب الحضري الكبير الذي ظهر في النصف الثاني من القرن الــ 18 وتطور بشكل خاص في فرنسا.

كانت الأهداف الأساسية للطب الحضري كالآتي:

  • دراسة مناطق تراكم وتكدسات النفايات في المجال الحضري التي من شأنها أن تُسبب أمراضاً؛ أي الأماكن التي يمكن أن تحفز وتنشر عبرها الظواهر الوبائية أو الوبائية المتوطنة. يتعلق الأمر عموماً بالمقابر. وهكذا ظهرت خلال سنوات 1740 و 1750 بعض المظاهرات الرافضة للمقابر. فخلال سنوات 1750 بدأت أولى موجات النزوح نحو هامش المدينة، وخلال تلك الفترة ظهرت مدافن فردية، أي تابوت فردي، ومدافن محجوزة لأفراد العائلة والتي تُسجل باسم كل واحد منهم.

غالباً ما نعتقد في المجتمعات الحديثة، أن طقوس الموتى قد أتتنا من الدين المسيحي. إنني لا أتبنى هذا الرأي. لا يوجد شيء واضح ضمن الثيولوجيا المسيحية يحض على احترام الجثمان.  فالإله المسيحي القدير يستطيع أن يحيي الموتى حتى وإن كانت عظامهم مختلطة في صندوق الموتى.

إن إضفاء الطابع الفردي على الجثمان وعلى النعش والدفن، قد ظهر خلال نهاية القرن الـ18 ولا يرجع هذا إلى مبررات ثيولوجية –دينية– مُلزمة باحترامها، بقدر ما كان يتعلق الأمر بمبررات سياسية-طبية متعلقة باحترام الأحياء.  فمن أجل حماية الأحياء من التأثير الضار للموتى، يجب أن يتم توثيقها بشكل جيد.

خلال نهاية القرن الـ18 ظهر جيش من الموتى على هوامش المدن، ولذلك كان من الضروري السيطرة على التهديد الدائم الذي يشكله الموتى وتحليلها والحد منه.  ولهذا يتم نقلهم إلى الريف حيث السهول الكبيرة المحيطة بالمدن.

لم يكن الأمر متصلاً بفكرة مسيحية بقدر ما هي فكرة سياسية – طبية. ولعل الدليل للبرهنة على ذلك، يبرز عندما نتخيل لو تغير مكان مقبرة ‘الأبرياء’، كان يتطلب الأمر الاستعانة بـالسيد فوكوري (Fourcroy)[14] واحد من أعظم الكيميائيين في أواخر القرن الـ18 لمعرفة كيفية مكافحة تأثير هذه المقبرة. لقد كان السيد فوركروي وراء المطالب بتغيير مكان المقبرة، وهو نفسه الذي تولى إدارة أول شرطة طبية وحضرية أقرّت نفي المقابر.

ثمة مثال آخر يتجلى في حالة المجازر المتواجدة في مركز باريس والتي تقرر إعادة توطينها على تخوم باريس وذلك بعد استشارة أكاديمية العلوم.

إن أول هدف يتبدى أمام الطب يتعلق إذن بتحليل مناطق الاكتضاض، الفوضى والخطر داخل النسيج الحضري.

  • صار للطب الحضري هدف جديد: مراقبة حركة مرور الأشياء والعناصر وأساساً الماء والهواء.

إنه اعتقاد قديم ظهر خلال القرن الـ18، مفاده أن الهواء يؤثر مباشرة على الكائن الحي لكونه يحمل وينقل جرثومة الميازما[15]، أو لأنه مفرط الحرارة والرطوبة أو جفافه، وأخيراً اعتقاد أن الهواء يمارس عبر حركة ميكانيكية ضغطاً مباشراً على الجسم. لدا كان يعتبر الهواء بمثابة أحد العوامل الكبرى في الأمراض.

السؤال الآن، كيف نُحافظ في مدينة معينة على جودة الهواء والحصول على هواء صحي عندما لا يمكن تهوية المنازل والمرافق وما إلى ذلك؟ تتجلى هاهنا ضرورة فتح أكثر لـشوارع المجال الحضري حفاظاً على صحة السكان.كما سعينا بالمقابل إلى الحصول على رأي لجان أكاديمية العلوم، الأطباء والكيميائيين بغية البحث عن أفضل السبل لتهوية المدن. ولعل هدم المدن وتدميرها يمثل واحدة من أشهر الحالات لتحقيق هذا المبتغى. فخلال العصور الوسطى، وأيضاً خلال القرنين الــ17 و 18، شيدت بعض المنازل على المنحدرات وذلك بسبب التكتل السكاني وأيضاً بسبب سعر الأرض آنذاك. على هذا الأساس، اعتبرنا أن هذه المنازل تعيق حركة الهواء  القادمة من الضفاف فجرى هدمها بشكل منتظم. عبر هذه الطريقة تم تنظيم ممرات التهوية. لقد تم القيام بنفس الأمر مع المياه. ففي باريس خلال العام 1767، كان لذى المهندس المعماري مورو(René Moreau)[16] فكرة عن كيفية تنظيم ضفاف وجزر نهر السين على النحو الذي يمكن به لتيار النهر ”غسل المدينة من الميازما”.

  • ثمة أيضاً هدف آخر بالنسبة للطب الحضري ويتعلق بتنظيم ما يمكن أن نطلق عليه توزيع القطاعات. أين يمكن توطين العناصر المختلفة اللازمة للحياة المشتركة للمدينة؟ لقد نشأت المشكلة من الموقف الخاص بالمجاري والنافورات والمضخات وغسالات الأنهار. كيف يمكن تجنب تسرب المياه العادمة إلى نافورات مياه الشرب؟ كيف يمكننا منع اختلاط مياه الصرف الصحي بالمياه التي تـُمد للسكـان؟

خلال النصف الثاني من القرن الـ18، اعتبرنا أن هذا التنظيم كان السبب وراء معظم الأمراض الوبائية الحضرية. لقد مهد هذا الأمر إلى تطوير أول مخطط هيدروغرافي خاص بمدينة باريس في سنة 1742. كان هذا العمل أول بحث حول الأماكن التي يمكننا  من خلالها استخراج المياه التي لم تلوثها المجاري أو سياسات الأنهار. بُعيد اندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789، كانت باريس قد دُرست على نحو دقيق من طرف جهاز شرطة طبية وحضرية والذي وضع توجيهات تبتغي تحقيق تنظيم صحي وحقيقي للمدينة.

في الواقع، ووصولا إلى نهاية القرن الـ18 لم يكن ثمة صراع بين الطب وبين الأشكال الأخرى للسلطة كالملكية الخاصة على سبيل المثال. فالسياسة الاستبدادية تُجاه الملكية الخاصة، السكن الخاص، لم تتم بلورتها قبل القرن الــ18 باستثناء جانب معين: تحت الأرض، حيث كانت الممرات تحت الأرضية لمالك المنزل خاضعة لسلسلة من القواعد سواء تلك التي تتعلق باستعمالها أو بناءها.

ثمة مشكل هنا طرح خلال القرن الـ18 ويرتبط بملكية ما تحت الأرض خصوصاً مع ظهور تكنولوجيا المعادن.  لقد برز مشكل الملكية انطلاقا من اللحظة التي استطعنا فيها الحفر والتنقيب عن المعادن الكامنة.  خلال أواسط القرن الـ18، تم تطوير ترسانة قانونية استبدادية تَخُص ما تحت الأرض والتي مفادها أن الدولة والملك هما المالكان الحصريين لما تحت الأرض أي ليسوا فقط أسياداً على تلك الأرض، وعلى هذا المنوال، كان “باطن الأرض” مُراقباً من طرف السلطة، بينما لم يكن السطح كذلك على الأقل في ما يخص الملكية الخاصة. والحال أن المجالات العامة، مثل أماكن السير والمقابر والمجازر كانت خاضعة للمراقبة منذ القرن الــ18، عكس الملكية الخاصة قبل هذا التاريخ.

النزعة الطبية للمدينة خلال القرن الـ18 مهمة بالنظر إلى عدة أسباب:

  • فمن خلال الطب الاجتماعي الحضري، دخلت مهنة الطب مباشرة في اتصال مع العلوم المجاورة وعلى وجه الخصوص مع الكيمياء. ومنذ تلك الحقبة المرتبكة والتي فيها حاول براسيلس وفالمنت [17](Paracelse et Vahelmont) حاولوا بناء علاقات بين الطب والكيمياء، الأمر الذي لا نعلم شيئاً. يتعلق الأمر بالضبط بتحليل الماء، تيارات الهواء، شروط الحياة والتنقس والتي أسست تـواصلاً بين الطب والكيمياء. كان فوركوري ولافوازيي (Fourcroy & Lavoisier) مهتمان بإشكالية الكائن العضوي انطلاقاً من ضبط الهواء في المجال الحضري.

لقد تم التمهيد للممارسة الطبية ضمن سجل لعلم الفيزياء-الكيميائية من خلال التعمير، فنحن لم ننتقل من طب علمي إلى طب خاص، ذو طابع فرداني، ولا بالإنطلاق من خلال الاهتمام الأكبر بمصلحة الفرد. إن التمهيد للطب داخل الإطار العام لإشتغال الخطاب والمعرفة العلمية تم أساساً من خلال التنشئة الاجتماعية للطب بالإضافة إلى تأسيس طب جمعي واجتماعي وحضري وعلى هذا الأساس نقيس أهمية الطب الحضري.

  • إن الطب الحضري ليس في حقيقة الأمر طباً للإنسان، لجسد الكائن الحي بقدر ما هو طب لـلأشياء: الهواء، المـاء … إنه طب حول شروط الحياة في وسط العيش.

يبحث هذا النوع من الطب (طب الأشياء)، مفهوم البيئة الذي كان علماء الطبيعة مطالبين بتطويره خلال نهاية القرن الــ18.إن العلاقة بين الكائن الحي والوسط تتأسس تزامنيا وفقاً للعلوم الطبيعية وللطب، عبر وساطة الطب الحضري ولا يعني هذا الأمر أننا انتقلنا من تحليل الكائن نحو تحليل الوسط البيئي، بل انتقل الطب من تحليل الوسط إلى تحليل الآثار التي يُلحقها الوسط بالكائن الحي، وانتهاءً إلى تحليل الكائن الحي نفسه. وبالتالي فإن تأسيس الطب الحضري كان مهماً لبناء طب علمي.

  • ظهر مفهوم الصرف الصحي، مع الطب الحضري، قُبيل الثورة الفرنسية، والذي مثل أهمية للطب الاجتماعية. لقد كان إحداث لجنة الصرف الصحي داخل المديريات والمدن الكبرى، مثالاً مهماً على القرارات التي اتخذت من طرف البرلمان المشكل ما بين 1790-1791.

من المهم أن نشير أن الصرف الصحي لا يحيل على نفس الأمر عندما نتحدث عن الصحة، بقدر ما يحيل على حالة الوسط البيئي وعناصره المكونة السّاعية بشكل دقيق إلى تطوير مستوى الصحة. يمثل الصرف الصحي القاعدة المادية والاجتماعية القادرة ما أمكن على تأمين صحة جيدة للأفراد. وارتباطاً بذلك،  يظهر مفهوم النظافة العامة وكأنه تقنية للضبط ولتغيير عناصر الوسط التي يمكن أن تُشجع هذه الصحة أو العكس.إن الصرف الصحي أو غير الصحي، يُحدد بشكل حاسم حالة الأشياء والوسط بالقدر الذي تُؤثر على الصحة: إن النظافة العامة هي بمثابة ضبط سياسي-علمي لهذا الوسط.

ظهر إذن مفهوم الصرف الصحي خلال بداية الثورة الفرنسيةـ بينما سيظهر مفهوم النظافة العامة خلال القرن الــ19 بفرنسا ممثلاً بذلك المفهوم الذي على أساسه بُنيت مبادئ وأساسيات الطب الاجتماعي، ويظل الطب الاجتماعي بعيداً جدا عن نظيره طب الدولة في ألمانيا، بينما يبدو قريباً كثيراً من الجماعات الصغيرة مثل المدن والأحياء؛ وفي ذات الآن، فلا يمكنه الاعتماد على أي أداة مميزة للسلطة. إن مشكلة الملكية الخاصة، المبدأ المقدس، منع هذا المبحث الطبي من أن يُمكن من أي سلطة قوية.

بالتالي فإن شقاً كبيراً من الطب العلمي للقرن الـ19 يجد جذوره في تجربة الطب الحضري الذي تطور خلال القرن الــ18.

طب قوة الـشّغل :

إن التوجه الثالث للطب الاجتماعي يمكن مقاربته من خلال النموذج الانجليزي للطب. طب الفقراء أو طب قوة الشغل أو العامل وهو لم يكن الهدف الأول للطب الاجتماعي بل كان الأخير. في المقام الأول، الدولة ثم المدينة و أخيراً الفقراء والعمال، باعتبارهم آخر موضوع للنزعة الطبية.

يتميز الطب الحضري الفرنسي باحترامه للمجال الخاص وأيضاً بقاعدة عدم اعتبار الفقير أو العوام بمثابة خطر محدق بالصحة العامة. وبناء على ذلك، فإن الفقير والعامل لم يتم التعامل معهم على نفس النحو الذي عوملت به المقابر والمجازر… السؤال المطروح هنا، لماذا لم يتم التعامل، خلال القرن الـ18، مع الفقراء باعتبارهم خطراً طبياً؟ الدوافع كثيرة، وأولها ذات خصائص كمية: لم يكن معدل الفقراء في المدينة ذي أهمية، وبذلك فهم لم يشكلوا خطراً حقيقياً. بيد أن ثمة دافع أكثر أهمية ويتعلق بكون الفقر داخل المدن يمثل شرطاً للنشاط الحضري وفي واقع الأمر، فإن الفقراء في أي مدينة يمارسون عددا معيناً من الوظائف والمهام، فهم على سبيل المثال يُوزعون الطرود البريدية أو يقومون بجمع النفايات وجمع الملابس المستعملة … إلـخ وهم بذلك يمثلون جزءً من الحياة الحضرية. خلال تلك الفترة، لم تكن المنازل مرقمة أو مستفيدة من الخدمات البريدية، فلم يكن يعرف المدينة أفضل من الفقراء.

وقياساً بأن الفقراء يمثلون جزءً من النسق الحضري، مثل المجاري أو الأنابيب، أي أنهم يقومون بوظيفة،  فإنهم بذلك لا يمثلون أي خطر بل كانوا نافعين للمدينة. وانطلاقاَ من النصف الثاني للقرن الـ19، سيُطرح مشكل الفقر كنوع من الخطر المستجد وذلك تبعاً لعدة أسباب:

  • ثمة أسباباً سياسية، تتجلى أساساً في الثورة الفرنسية والانجليزية، أي في زمن الاحتقانات الاجتماعية الكبرى بداية القرن الـ19. لقد تحولت الكتلة السكانية الأكثر احتياجاً إلى قوة سياسية قادرة على أن تثور أو على الأقل أن تشارك في الحراكات الثورية.
  • خلال القرن الـ19، تم الشروع في إيجاد وسائل بديلة للخدمات التي يقدمها العوام، مثل النظام البريدي ونظام المواصلات. إن هذه الإصلاحات تمثل جذور الاضطرابات الشعبية المُعارِضة لهذه الأنظمة التي حرمت الفقراء من إمكانية العيش.
  • لقد تبلورت إبان وباء الكوليرا سنة 1832 الذي ظهر في باريس، مخاوف سياسية وصحية والتي استخدمت من طرف الطبقات البروليتارية.

بداية من هذه الحقبة، تم إقرار تقسيم المجال الحضري إلى قطاعات: قطاع للأغنياء وآخر للفقراء، ولقد تم الأمر على اعتبار أن التجاور بين الفقراء والأغنياء في المجال الحضري يمكن أن يمثل خطراً سياسياً وصحياً بالنسبة للمدينة. وبناء على هذا الاعتبار كان الشروع في بناء وتأسيس أحياء للأغنياء وأحياء للفقراء. لقد بدأت السلطة السياسية في التدخل من أجل الحق في الملكية والسكن الخاص ليمثل هذا التدخل لحظة مهمة في إعادة التهيئة الكبرى للمنطقة الحضرية في باريس، تحت ظل الامبراطورية الثانية. كانت هذه إذن الأسباب التي جعلت السكان لا يُنظر إليهم باعتبارهم خطرا طبياً إلى غاية القرن الـ19.

يختلف الأمر في انكلترا، -حيث خيضت تجربة التنمية الصناعية والتي كانت عملية تكوين للبروليتارية –سريعة ومهمة– إذ ظهر شكل جديد من الطب الاجتماعي. لا يعني هذا الأمر أنه لم تكن هناك، في وقت لاحق، مشاريع لطب الدولة على الطريقة الألمانية. لقد استلهم شادويك خلال الأربعينات من القرن الـ19  الكثر من النماذج والأفكار في بناء مشاريعه، وكذلك الحال نفسه بالنسبة رومساي الذي كتب خلال سنة 1846 كتاباً موسوماً بـ ”الصحة والمرض لدى سكان المدن[18]والذي يعكس فيه محتوى الطب الحضري الفرنسي. يتعلق الأمر أساساً في هذا الإطار بما يسمى “قانون الفقراء” والذي جعل من الطب الإنجليزي طباً اجتماعياً نظراً لأنه تضمن أحكاماً بالفحص الطبي الضروري للمحتاجين؛ وفي اللحظة التي تقرر فيها استفادة الفقراء من نظام الرعاية صار إلزامياً أن يخضعوا في كل مرة للفحص الطبي.

صاحب قانون الفقراء ظهور غامض لعامل مهم في تاريخ الطب الاجتماعي: فكرة الرعاية الممولة والتدخل الطبي الذي يهدف إلى مساعدة المعوزين في تلبية احتياجاتهم الصحية التي منعهم الفقر منها. وفي ذات الآن، ساهم هذا الأمر في الحفاظ على سيطرة الطبقات الغنية وممثلوها في الحكومة، على صحة الطبقات المحتاجة وبالتالي حماية السكان المتميزين. على هذا المنوال تم إنشاء طوق صحي استبدادي داخل المدينة بين الفقراء والأغنياء: من أجل هذا الهدف، تم تمكنيهم من إمكانية التطبيب المجاني أو بتكلفة أقل، وهكذا تحرر الأغنياء من خطر أن يصيروا ضحية للظواهر الوبائية المتأصلة داخل الطبقات الدنيا للمجتمع.

يمكننا أن نرى بشكل واضح في التشريع الطبي التحول الذي طرأ على مشكلة البورجوازية آنذاك: بأي ثمن؟ وبأية شروط؟ وكيف ضمنت هذه الطبقة أمنها السياسي؟ يتناسب التشريع الطبي المُدرج ضمن قانون الفقراء مع هذه السيرورة. بيد أن هذا القانون– وبالموزاة كذلك مع الرعاية الحمائية باعتبارها رعاية تنطوي على نوع من التحكم– لا يمثل سوى العنصر الأول لنسق معقد ظهرت معه عناصر أخرى بشكل متأخر خلال سنوات 1870 مع المؤسسين الكبار للطب الاجتماعي الانجليزي، ونذكر هنا على سبيل المثال جون سيمون (John Simon) [19] الذي استكمل التشريع الطبي بواسطة خدمة مستبدة منظمة، ليس فقط للعلاجات الطبية بل المراقبة الطبية للسكان. يتعلق الأمر إذن بما يسمى أنظمة الخدمات الصحية والمكتب الصحي والتي ظهرت في انكلترا في سنة 1875 والتي نعتقد أنها قد تجاوزت الألف بنهاية القرن الـ19. انكبت هذه المكاتب على الوظائف التالية:

  • السيطرة على التقليح لإجبار مختلف شرائح السكان على الوقاية.
  • تنظيم سجل الأوبئة والأمراض التي من المحتمل أن تتحول إلى وباء، مع إلزامية التبليغ عن الأمراض الخطيرة.
  • تحديد الأماكن غير الصحية، وهدم البيوت غير الصحية في حالات الضرورة.

يمكن اعتبار خدمات الصحة كامتداد لقانون الفقراء، فبينما هذا القانون يتضمن قطاعا خدماتياً طبياً موجه حصراً للفقراء، فإنها بالمقابل – أي خدمات الصحة– تتميز بالحماية التي تقدمها لكل فئات السكان دون أي تمييز، بالإضافة إلى أنها تتكون من أطباء يُقدمون رعاية غير فردية بل تشمل جميع فئات السكان كما يقدمون تدابير وقائية يتعين اتباعها؛ وعلى ذات المنوال يسير الطب الحضري الفرنسي، طب الأشياء والأماكن والوسط الاجتماعي، إلخ ..

مع ذلك، فإن تحليل نمط اشتغال خدمات الصحة يُظهر أن الأمر يتعلق بوسيلة لإتمام نفس الضوابط التي يكفلها قانون الفقراء. لقد كان التدخل في الأماكن غير الصحية وكذا فحص التلقيحات وسجلات الأمراض تهدف في الواقع إلى ضبط الطبقات الاجتماعية الأساسية. لقد سببت هذه الضوابط التي مارستها خدمات الصحة ظواهر عنف وردات فعل شعبية بالإضافة إلى مظاهرات ضد الطب خلال النصف الثاني من القرن الـ19. لقد أثار ماكليود حالات المقاومة الطبية ضمن سلسلة من المقالات التي نٌشرت في مجلة القانون العام خلال سنة1967[20].

أعتقد أنه سيكون من الضروري تحليل الكيفية التي يقوم عبرها هذا النمط من الطب المنظم على نحو ضبطي، ليس في انكلترا فقط بل في مختلف دول العالم، بإثارة ردود فعل من هذا النوع. وعلى سبيل المثال،  كان من الغريب أن نلاحظ أن الجماعات الدينية- المتواجدة بكثرة في البلدان الانجلوسكسونية- كانت تهدف خلال القرنين الـ17 والـ18 إلى النضال ضد ما يسمى بدين الدولة وضد تدخل الدولة في الشؤون الدينية. على عكس أولئك الذي ظهروا مرة أخرى خلال القرن الـ19 والذين حملوا على عاتقهم مواجهة الطابع الطبي والمطالبة بالحق في الحياة والحق في المرض والعلاج والموت حسب الرغبة. لقد كانت هذه الرغبة بمثابة الهروب من العلاج الطبي الرقابي والاستبدادي واحدة من أهم خصائص هذه المجموعات الدينية المتعددة.

تختلف الوضعية في البلدان الكاثوليكية. ما هي الدلالة التي يمكن أن يتخذها الحج إلى مدينة لورد منذ نهاية القرن الـ19 إلى وقتنا الراهن بالنسبة إلى ملايين الزوار الفقراء الذين يحجون كل سنة، إن لم يكن ذلك بمثابة مقاومة ضد العلاج الطبي الاستبدادي لأجسادهم وأمراضهم؟

بدلاً من ملاحظة هذه الممارسات الدينية باعتبارها مخلفات معاصرة لمعتقدات قديمة، أليس من الواجب ملاحظتها كشكل معاصر للصراع السياسي ضد الطابع الطبي المتحكم فيه سياسياً وضد التنشئة الاجتماعية الطبية والضبط الطبي الذي يستهدف أساساً السكان الفقراء؟ تستمد هذه الممارسات قوتها من كونها تشكل وتمثل ردة فعل ضداً على طب الفقراء والتي يمثل الطب الاجتماعي الانجليزي مثالاً لها.

بصفة عامة، يمكننا أن نؤكد أن خلال القرن الـ19 ظهر في انجلترا طب يحاول أساساً أن يضبط صحة وجسد الطبقات المعوزة بما يجعلها قادرة على العمل وأقل خطراً على الطبقات الغنية في المجتمع. وهذا مختلف تماما عن طب الدولة الذي ابتكرته ألمانيا خلال ذات الفترة.

سيكون للنمط الانجليزي للطب مستقبلاً، عكس الطب الحضري الفرنسي أو طب الدولة الألماني. إن النظام الانجليزي لسيمون وللرواد من بعده مكن، في جانب من تأسيس ثلاثة أشياء: الرعاية الطبية للفقراء، ضبط الصحة وقوة الشغل والبحث العام حول الأماكن غير الصحية كحماية للطبقة الغنية من الأخطار. وفي جانب آخر، وعلاوة على ذلك، ساهم في بناء ثلاثة أنظمة طبية مركبة ومتجاورة. يتعلق الأمر بــ: طب الرعاية الموجه إلى الفئات الأكثر فقراً ثم طب إداري مكلف بالمشاكل العامة مثل التلقيحات والأوبئة إلخ .. ثم وأخيراً، طب خاص يستفيد أولئك القادرون على تحمل نفقات العلاج.

إذا كان النموذج الألماني في طب الدولة مكلفاً، فإن النموذج الفرنسي للطب الحضري كان بمثابة مشروع عام للضبط بدون أداة محددة للسلطة، بينما أبرز النموذج الانجليزي للطب الاجتماعي  إمكانية جديدة لتنظيم الطب وفق جوانب وأشكال مختلفة من السلطة، سواء أتعلق الأمر بطب مساعد، خاص أو إداري أو إنشاء قطاعات محددة بدقة فقد سمحت بوجود تحقيق طبي شامل خلال نهاية القرن الـ19 والنصف الأول للقرن الـ20.  لقد صار الرهان مع مخطط بيفيريدج والأنظمة الطبية للدول الغنية والصناعية حالياً هو إيجاد نمط اشتغال للقطاعات الطبية الثلاثة على الرغم من أنها مفصلة فيما بينها بطرق مختلفة.

[1] Conférence) “La naissance de la médecine sociale”, Michel Foucault, «El nacimiento de la medicina social» («La naissance de la médecine sociale» ; trad. D. Reynié), Revista centroamericana de Ciencias de la Salud, no 6, janvier-avril 1977, pp. 89-108. (Deuxième conférence prononcée dans le cadre du cours de médecine sociale à l’université d’État de Rio de Janeiro, octobre 1974.)

[2] عصيات كوخ أو المتفطرة السّلية [Mycobaterium Tubercolosis]  وهي بكتيريا تُسبب داء السل وقد اكتشفت من طرف الطبيب الألماني Robert Koch  سنة 1883.

  • روبرت كوخ (1843-1910)، طبيب ألماني وعالم الأحياء الدقيقة، يُعد أحد مؤسسي علم الجراثيم وإليه يعود الفضل في تقديم اكتشافات مهمة في علم الأمراض والجراثيم والميكروبات.

[3] Le Roy Ladurie (E.), Peter O.-P.), Dumont (P.), Anthropologie du conscrit français d’après les comptes numériques et sommaires du recrutement de l’armée (1819-1826), Paris, Mouron, coll. «Civilisations et Sociétés», no 28, 1972.

[4]نُشير هنا إلى أن مشيل فوكو قد خلط سهواً في تسمية جون بيتر، وجون بول دومون والذي يمكن ضمن فريق البحث المكلف في هذه الدراسة. وبالتثبت من المرجع؛ فإن الباحث الثالث المشارك في هذه الدراسة هو السوسيولوجي الفرنسي جون بول آرون. وهذه الدراسة عبارة عن تجميع احصائي متعلق بالخصائص الاجتماعية، الصحية والسكانية والجسدية المرتبطة بالمجندين الفرنسيين. (المترجم)

[5] تصادف أثناء اشتغالنا على هذا المتن وجود حوار للباحث الآن لوتورمي مع جريدة لوموند الفرنسية (Le monde) حول نفس هذه الإشكاليات وقد نُشر بتاريخ الـ 30 من يونيو- حزيران من سنة 1975. يمكن الاطلاع على نسخته الفرنسية من خلال الرابط : http://tinyurl.com/mu9ffzcj

[6]الآن لوتوغمي [Alain Letourmy]  (1922-2023): اقتصادي فرنسي متخصص في اقتصاد الصحة بالمركز الوطني للبحث العلمي في باريس.

  • سيرج كارسينتي [Serge Karsenty] (2018-1943): سوسيولوجي فرنسي متخصص في اقتصاد الصحة  بالمركز الوطني للبحث العلمي في باريس.

جون بول دوبوي [Jean Paul Dupuy]  (…-1941): سوسيولوجي وفيلسوف فرنسي.

  • يخلط ميشيل فوكو في المتن أعلاه بين شارل دوبوي السياسي الفرنسي المشهور في القرن الـ18 عشر والذي كان مكلفاً بالقضايا الصحية في مجلس الدولة الفرنسية، والسوسيولوجي الفرنسي جون بول دوبوي. (المترجم)

[7]Varn L.Bullough, The Development of Medicine as a Profession: The Contribution of the Medieval University to Modern Medicine, New York, Hafner Publications, 1965.

[8] يمكن الإطلاع على هذه الدراسة والتي كانت من الدراسات الأولى التي ناقشت مفهوم الشرطة الصحية في ألمانيا خلال أواسط القرن الـ18.
J.P. Franck, System einer vollständigen medicinischen Polizey, Vieweg, Berlin 1779–1827, 9 vol8-

للاستزادة في هذا السياق :
– V. Tournay, Le concept de police médicale. D’une aspiration militante à la production d’une objectivité administrative, «Politix», 77, 2007, 1, pp. 173-199. (المترجم)

 طبيبان فرنسيين والتشريح وكان لهما الفضل الكبير في تطوير الطب العلمي الحديث. [9]

[10] طبيب أمريكي (1910-1977)

[11] الكاميرالية هي النظرية الاقتصادية التي تعرف بالمدرسة النمساوية أو مدرسة فيينا في الاقتصاد التي تشدد على نموذج من الفردية المنهجية لشرح وتفسير التحولات الاجتماعية على أنها مجموع القرارات الفردية المدفوعة بأهداف خاصة أو عامة، نشأت هذه المدرسة خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بقيادة كارل مينغر وفردريش فون فيزر. لقد كانت تقف هذه المدرسة كرد على المدرسة التاريخية التي نشات في بروسيا التي نظرت لكون التحولات الاجتماعية والاقتصادية إنما في نهاية المطاف ليست سوى تجميع لظروف تاريخية سابقة. (المترجم) نها مجموع القرارات الفردية سايتسا ايلنتسايسنم

[12] Rosen, G. (1959). MERCANTILISM AND HEALTH POLICY IN EIGHTEENTH CENTURY FRENCH THOUGHT. Medical History, 3(4), 259-277. doi:10.1017/S0025727300024789

[13] نشير أيضاً إلى أن ثمة مقال آخر ناقش فيه جورج روزن هذا المفهوم بالكثير من التدقيق والنقد وحاول فيه أن يناقش النموذج الألماني كما فسره بيتر فرانك ( والذي أشرنا إليه أعلاه).
يمكن قراءه هذا المقال من خلال الرابط: https://tinyurl.com/bde35kbm

[14] أنطوان فرنسوا فوكوري (1809-1755)، ، طبيب وكيميائي فرنسي  عُيّن من طرف نابليون بونابارت في مجلس الدولة الفرنسةي سنة 1799 ثم مديراً للتجهيزات العامة سنة 1809. (المترجم)

[15] تسمى أيضاً جرثومة المرض، وتستعمل طبياً للدلالة على نظرية الميازم وهي نظرية ضمن علم الأوبئة حيث تُعزي أسباب الأوبئة، كالكوليرا، الطاعون، التلوث المؤذي في الهواء والماء، وهي نظرية انتشرت خلال القرنين الـ 17-18.

[16] مهندس معماري فرنسي (1924-1858).

[17]  جون بابتيست فان هلمونت (1644-1579): كيميائي وطبيب هولندي.
بارسيليس واسمه الحقيقي فيليبوس أوريلوس (1541-1439): طبيب وفيلسوف هولندي

[18] Rumsay, Health and Sickness of Town Populations, Londres, William Ridgway, 1846.

[19] السير جون سيمون  (1904-1816): باثولوجي وجراح انجليزي ويعد المدير لأول مكتب صحة أنشئ في عهد حكومة الملكة البريطانية سنة 1855.

[20] Macleod (R.M.), «Law, Medicine and Public Opinion. The Resistance to Compulsory Health Legislation. 1870-1907», in Public Law. The Constitutional and Administrative Law of the Commonwealth, Londres, no 2, été 1967, 1re partie, pp. 107-128; no 3, automne 1967, 2e partie, pp. 189-211

4.3/5 - (6 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى