اتفاقيات أوسلو ما زالت حية وفاعلة لغياب البديل
بقلم : د. إبراهيم ابراش – المركز الديمقراطي العربي
- اتفاق أوسلو، الميت الحي (زومبي)
قبل ثلاثين عاماً وفي الثالث عشر من سبتمبر تم توقيع اتفاق أوسلو والمعروف رسمياً باسم “إعلان المبادائ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي” بعد مفاوضات سرية بين دولة الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير، ففي العاصمة النرويجية أوسلو كان المخاض وفي واشنطن كانت الولادة، وبعد ثلاثة عقود ما زال يحتدم النقاش والجدل هل ما زال الإتفاق حياً وساري المفعول وملزم للطرفين أم مات ولم يعد له وجود؟
في اعتقادنا أن اتفاق أوسلو بات يشبه (زومبي) أو الميت الحي كما تجسده أفلام سينمائية متعددة. فلا هو ميت ولا هو حي، وحتى نفهم السر وراء الحالة الملتبسة والمعقدة لاتفاق أوسلو وما أنتج من مفاعيل على الأرض يصعب الفكاك منها علينا العودة بعجالة للبدايات.
جاء الإتفاق في ظل ظروف فلسطينية وإقليمية ودولية ضاغطة على القيادة الفلسطينية، فالانتفاضة الأولى 1987 آخذة في التراجع وأصبحت تعاني من انقسامات داخلية، والنظام الإقليمي العربي إنهار بعد حرب الخليج الثانية 1990، كما أن المعسكر الاشتراكي إنهار وأصبحت واشنطن تتحكم بالنظام الدولي، وفوق كل ذلك تم محاصرة منظمة التحرير عربياً ودولياً، سياسياً ومالياً، بتهمة مساندة صدام حسين في حرب الخليج الثانية، فاعتقدت القيادة الفلسطينية أن الولوج في العملية السياسية لحل مشكلة الشرق الأوسط برعاية أمريكية قد يخرجها من المأزق وتستعيد دورها الوطني والإقليمي والدولي، فكانت مشاركتها في مؤتمر مدريد 1991 الذي حضرته غالبية الدول العربية ثم توقيع اتفاق أوسلو.
انقسم الفلسطينيون حول الاتفاق منذ لحظة تأسيسه ما بين مؤيد ومعارض، ليس فقط بين أنصار منظمة التحرير وحركة فتح من جانب والمعارضة ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي وبعض فصائل منظمة التحرير من جانب آخر بل حتى داخل حركة فتح. في داخل المنظمة وحركة فتح كان نهجان ورؤيتان متعارضتان تجاه التعامل مع اتفاقية أوسلو وعملية التسوية برمتها، النهج (العرفاتي) والنهج (العباسي) : الأول كان يراهن على إمكانية الجمع بين التسوية السياسية والمقاومة المسلحة واستعمال الأخيرة كأداة ضغط على إسرائيل والمنتظم الدولي لتسريع عملية السلام والانسحاب من الأراضي المحتلة إلا أن هذا النهج وصل لطريق مسدود بعد فشل كامب ديفيد 2 وانطلاق الانتفاضة الثانية عام 2000 ثم اجتياح الضفة ومحاصرة أبو عمار ثم تصفيته سياسياً وجسدياً.
أما النهج (العباسي) فكان يرى المراهنة على العمل السياسي والشرعية الدولية فقط وكان محمود عباس واضحاً في رفضه لأي عمل عسكري، وحتى هذا النهج الذي طبقه أبو مازن منذ تسلمه السلطة عام 2005 وصل لطريق مسدود أيضاً بعد توقف المفاوضات عام 2010، وبدلاً من أن يعلن الرئيس أبو مازن نهاية اتفاق أوسلو والعملية السياسية برمتها هرب للأمام نحو الدولة والمراهنة المطلقة على الشرعية الدولية كطريق وحيد للوصول للدولة، وحتى في هذه المراهنة ومع تأكيد الرئيس على السلام ورفضه للعنف لم ينج من غضب الإسرائيليين والأمريكيين الذين اتهموه بمعاداة السامية والتحريض على العنف.
ربما أدرك الرئيس أبو مازن متأخراً أن الكيان الصهيوني لم يغتال الرئيس أبو عمار لأنه يريد العمل المسلح، بل قتلته لإصراره على السلام وتحركه المتواصل إقليمياً ودولياً داعياً للسلام وفاضحاً السياسة الصهيونية الرافضة للسلام، معرياً وكاشفاً إسرائيل أمام المنتظم الدولي، ونفس الأمر يجري مع الرئيس أبو مازن فالمواقف المعادية له وتصيّد كل كلمة منه لاتهامه بمعاداة السامية والتحريض على العنف سببه إصراره على الرواية الفلسطينية وعلى السلام وفضح الممارسات العنصرية والإرهابية الكيان الصهيوني.
حتى هذه اللحظة يكتنف الغموض موقف منظمة التحرير وحركة فتح والرئيس أبو مازن ما إن كان الاتفاق ما زال موجوداً ويجب التمسك به وبعملية السلام؟ أم أن إسرائيل أفشلت وقضت على عملية التسوية بممارساتها الاستيطانية التهويدية؟ حتى قرارات المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير لم تستطيعا دفع القيادة للإعلان رسمياً عن نهاية أوسلو وتجاوز تداعياته وحل السلطة وحتى تغيير وظيفتها، ولا دفع القيادة لسحب اعترافها بدولة الكيان وخصوصاً بعد أن أعلن وزراء في الحكومة اليمينية العنصرية عدم اعترافهم بوجود شعب فلسطيني.
في الوقت الذي تعترف به القيادة الفلسطينية بأن دولة الكيان قتلت عملية السلام وأنهت إتفاق أوسلو إلا أنها ما زالت ترى أن للاتفاق منجزات كعودة الآلاف من الفلسطينيين لمناطق السلطة وقيام سلطة ومؤسسات وطنية وجواز سفر فلسطيني، كما أنها ما زالت ملتزمة ببروتوكول باريس الاقتصادي و بالتنسيق الأمني على كافة المستويات، وبالرغم من صدور مرسوم رئاسي في يناير عام 2013 باعتماد مسمى دولة فلسطين بدلاً من السلطة الوطنية الفلسطينية واعتماد مسمى رئيس الدولة بدلاً من رئيس السلطة، إلا أن الواقع على الأرض يقول بأن السلطة تتآكل جغرافياً وسياسياً بسبب ممارسات الاحتلال وتزايد نفوذ قوى المعارضة مما أدى لتراجع شعبيتها وخصوصاً في الضفة، كما أن الدولة باتت أقرب إلى السراب ما دامت القيادة الفلسطينية نفسها تقول بأن الكيان الصهيوني بممارساته الاستيطانية و التهويدية لم يترك أرضاً تقوم عليها الدولة!
وبالنسبة للكيان الصهيوني فبالرغم من تهربه من عملية السلام ورفضه الاعتراف والالتزام بنصوص أوسلو وما تلاه من تفاهمات واتفاقات وبالرغم من اتهامه الرئيس أبو مازن بمعاداة السامية والتحريض على العنف … إلا أنه ما زال يتعامل بانتقائية مع اتفاق أوسلو حيث يتعامل مع السلطة الفلسطينية وينسق معها على كافة المستويات ويعترف بجواز سفر السلطة، كما تستمر غالبية دول العالم بالتعامل مع سلطة الحكم الذاتي كممثلة لفلسطيني الضفة وغزة وتواصل تقديم الدعم المالي للسلطة حتى تواصل وجودها وعملها.
- فهل ما زل اتفاق أوسلو فاعلاً وحياً أم انتهى وتم تجاوزه؟
هذا الالتباس يعود إلى غموض اتفاق أوسلو والتباس نصوصه مما يدفع كل الأطراف للتمسك به وتوظيفه لصالحها:
1- بالنسبة للقيادة الفلسطينية
تستطيع القيادة القول بأنها بالاتفاق استطاعت كسر الحصار الذي كان مفروضا عليها وإفشال المخططات للقضاء على منظمة التحرير والمشروع الوطني بعد حرب الخليج الثانية، كما تقول بأنه من خلال اتفاقية أوسلو قامت السلطة التي حققت منجزات للشعب وخصوصا في السنوات ما قبل 2000، وبالتالي فإن نهجها ومراهنتها على التسوية السياسية ورفض العنف وعدم العودة لحالة التحرر الوطني لم تفشل وما زال في الإمكان التوصل لتسوية سياسية في حالة تغير الحكومة اليمينية الصهيونية الحالية، كما تُرجع تعثر تنفيذ الاتفاق إلى تقاعس المنتظم الدولي عن دعم السلطة وعدم ضغطه على دولة الكيان للالتزام بالاتفاقيات الموقعة، أيضاً تُُثحمل المعارضة الفلسطينية المسلحة مسؤولية من منطلق أن عملياتها المسلحة أضعفت السلطة واستفزت الإسرائيليين.
2- بالنسبة للمعارضة الفلسطينية
وظفت المعارضة الاتفاق للتشكيك بمنظمة التحرير الفلسطينية وتمثيلها للشعب الفلسطيني واتهمتها بالخيانة والتفريط بالحقوق الوطنية، وطرحت نفسها بديلاً عن المنظمة ورفعت شعار (المقاومة بديل عن المفاوضات والتسوية السياسية) دون أن يكون للمعارضة وخصوصاً حركة حماس أية استراتيجية وطنية لكيفية تحرير فلسطين، بل أصبحت توافق على دولة في غزة والضفة بالإضافة لتوقيعها هدنة مع دولة الكيان بعد الحرب ما قبل الأخيرة على غزة.
3- الدول العربية
رحبت بالاتفاق لأنه يخلصها من عبء القضية الفلسطينية ويكرس ويؤكد على ما قامت به عام 1974 عندما اعترفت بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، فمع الاتفاق وجِدت سلطة فلسطينية فعلية – وليس معنوية كمنظمة التحرير- على الأرض تتحمل عبء سكان الأراضي المحتلة، وكل ما هو مطلوب من الأنظمة الدعم المالي للسلطة، حتى هذا توقف من عديد الدول في السنوات الأخيرة، كما وظفت الأنظمة وجود سلطة فلسطينية وتمسك القيادة بنهج التسوية السياسية أيضا الخلافات الفلسطينية الداخلية لتطبع علاقاتها مع العدو.
4- المنتظم الدولي
الأمم المتحدة ودول الغرب شعرت بالارتياح لأن منظمة التحرير هجرت العنف الثوري وأصبحت ملتزمة بالشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة، والأمر لن يكلفهم إلا بضعة ملايين لتمويل السلطة الفلسطينية.
5- أما الكيان الصهيوني
استطاع توظيف (عملية السلام) التي بدأت في مدريد 1991 وانتهت بتوقيع اتفاق أوسلو، لتغيير طبيعة الصراع في المنطقة وجر الفلسطينيين إلى مفاوضات عبثية. وقد استطاع هذا الكيان توظيف الالتباس في نصوص الاتفاق الأول وملحقاته لينفذ ما يتناسب مع مصالحه ومخططاته التوسعية، ومن أهم ثغرات اتفاق أوسلو التي يوظفها العدو لصالحه من خلال:
1) قبل توقيع الاتفاق وخلال المفاوضات كانت إسرائيل تحتل كل فلسطين ولها معرفة دقيقة بكل جغرافيا فلسطين ومياهها وتضاريسها واستعانت بخبراء ميدانيين متخصصين، بينما الفريق المفاوض الفلسطيني – بعد استبعاد فريق الداخل برئاسة حيدر عبد الشافي- كان خارج الوطن ويجهل جغرافيا الأراضي المحتلة وبالتالي كان يجهل معاني ودلالات المصطلحات الجغرافية في الاتفاق، كما كان الفريق الفلسطيني متسرعاً لإبرام الاتفاق على عكس الفريق الصهيوني.
2) لم يتم إلزام تل أبيب وواشنطن بأن يكون الاتفاق اتفاقاً دولياً، بل كان اتفاقاً يحكمه مبدأ (العقد شريعة المتعاقدين) بمعنى أنه لا يرتب التزامات دولية وخرقه لا يعتبر انتهاكاً للشرعية الدولية.
3) الاتفاق قام على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 فقط ولم ينص على أي قرارات دولية أخرى مثل قرار التقسيم (181) وقرار عودة اللاجئين (194) وقرار حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني الخ.
4) لم يرد في الاتفاق أي نص أو إشارة إلى دولة فلسطينية.
5) الاتفاق تحدث عن سلطة حكم ذاتي محدود وتكون مسؤولية الأمن العام لإسرائيل ولم يتطرق لأية سيادة فلسطينية.
6) الاتفاق تحدث عن انسحاب من غزة وأريحا فقط وعن إعادة انتشار للجيش الإسرائيلي في بقية مناطق الضفة.
7) تجزئة مناطق السلطة كان مخططاً إسرائيلياً لخلق أوضاع متباينة بين هذه المنطقة تسمح لاحقاً بضمها.
8) لم ينص الاتفاق على وقف الاستيطان وتم تأجيل هذا الملف مع ملفات مهمة أخرى كالمياه والقدس والأسرى إلى مفاوضات الوضع النهائي التي لم تحدث.
وأخيرا، ماذا بعد؟
لأن كل الأطراف الرسمية قابلة بالوصع القائم في ظل (زومبي) اتفاق أوسلو وما أنتج من حالة (اللا حرب واللا سلم) لأنها إما مستفيدة منه أو عاجزة عن تغييره، والمستفيد الأكبر هو الكيان الصهيوني والخاسر الأكبر هو الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني، فإن الخروج من هذه الحالة يعود للشعب وللقيادة الرسمية التي وقعت اتفاق أوسلو وما زال يعترف بها غالبية دول العالم، فهل يستطيع الرئيس أبو مازن والأحزاب إحداث اختراق وتحقيق الوحدة الوطنية وبلورة استراتيجية وطنية تواجه الاحتلال والانقسام والأجندة الخارجية، أم فات الأوان وعلى الشعب انتظار تحولات إقليمية ودولية تعمل على ظهور جيل جديد وقيادة جديدة؟