الاشتراكية الليبرالية الآن
بقلم: ماثيو مكمانوس – محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة ميشيغان. وتشمل كتبه «الحق السياسي والمساواة» (2023) و«النظرية السياسية للاشتراكية الليبرالية» (يصدر قريبًا).
ترجمة : د. حمدي عبد الحميد الشريف(*) – دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج
- المركز الديمقراطي العربي
– مع زيادة عمق أزمة الديمقراطية، يتعيَّن علينا أن نعود إلى الجذور الثورية والقائمة على المساواة للليبرالية.
قلة قليلة منا توقعت أن يكون القرن الحادي والعشرون قرنًا صعبًا لليبرالية. ففي مطلع القرن العشرين، بدت الأيديولوجية الليبرالية والمؤسسات السياسية الديمقراطية الليبرالية أكثر شرعية وأمانًا من أي وقت مضى. لقد هزم الليبراليون منافسيهم الجيوسياسيين الكبار في اليمين الفاشي واليسار الشيوعي على السواء. فكيف تغيّرت الأمور؟
على مدى العقود القليلة الماضية، انتشر السخط والازدراء تجاه الليبرالية عبر مساحات شاسعة من العالم، بقيادة الشعبوية اليمينية الصاعدة التي نددت بمادية وعالمية وانحطاط الليبرالية. وقد أعلن الرجال الأقوياء المتمنيون مثل فيكتور أوربان Victor Orban أنهم يبنون أنواعًا جديدة من «الديمقراطية غير الليبرالية»- وهي نصف الحقيقة، لأن الأنظمة ستكون غير ليبرالية، ولكنها ليست ديمقراطية بشكل خاص. ولقد أغرقت الكتب السوق بعناوين مثيرة للقلق أو الانتصار مثل «لماذا فشلت الليبرالية» (2018) أو «عالم ما بعد الليبرالية» (2021)، وكلها شخّصت فشل الليبرالية بنوع من الاستمتاع أو التوجس خفية. وتضاعفت النظريات حول الخطأ الذي حدث. لقد كانت الليبرالية ذات طبيعة فردية متطرفة جدًا، ومنعزلة جدًا، ومعادية للديمقراطية جدًا، وديمقراطية جدًا من أجل مصلحتها، ومدينة بالفضل للجماهير الجاهلة، ونخبوية جدًا، وحتى مملة جدًا ومشروعة من المنظور السياسي لكن لمصلحتها الخاصة فحسب.
إن ما ضاع في كثير من الأحيان في الخطاب حول الليبرالية في القرن الحادي والعشرين هو ما إذا كانت تستحق الإنقاذ في الوقت نفسه، ولكنها تستحق في الوقت نفسه العار الذي كانت تنزلق إليه. فمنذ سبعينيات القرن العشرين فصاعدًا، تراجع العديد من السياسيين والمنظرين الليبراليين عن الميول الأكثر تقدمية وتحويلية لهذا التقليد. لقد انتهى عصر الأحلام الليبرالية الكبيرة حول إنشاء مجتمع «عظيم» أو «عادل».
ومن خلال فهم مجموعة من الحجج المحافظة، زعم الفلاسفة الليبراليون مثل أشعيا برلين Isaiah Berlin أو فريدريك هايك Friedrich Hayek بأن الأحلام الكبيرة كانت خطيرة وتتعارض مع الليبرالية، بغض النظر عن ماضيها الثوري. إن أفضل ما يمكن للمرء أن يأمل فيه هو مجتمع نيوليبرالي تنافسي ينبذ المساواة التامة إلى حد كبير، وتحدده الحرية المنظمة والحد الأدنى من دولة الرفاهية على الأكثر. إن مثل هذه الرؤية المتضائلة بشكل متعمد أصبحت مرتبطة بنوع من العزلة التكنوقراطية، كما ن الافتقار إلى الاقتناع المبدئي والحذر من المساءلة الديمقراطية لم يكن مفاجأة إلا لأصحاب الاتجاه الليبرالي الجديد في عام 2016. واتبع المنظرون الأكثر وعيًا ادعاء صموئيل موين Samuel Moyn في كتابه «الليبرالية ضد نفسها» (2023) بأنه إذا لم يتمكن الليبراليون من إعادة اكتشاف ليس فحسب كيفية إثارة الخوف، بل أيضًا كيفية الإلهام، فمن غير المرجح أن يحتفظوا بعقيدتهم لفترة أطول بكثير، و«على أي حال، فإن البقاء ليس أمرًا جيدًا بما فيه الكفاية».
إن موين كان على حق في أنه إذا قايض الليبراليون تقديم رؤية ملهمة للمستقبل من أجل البقاء فحسب، فمن غير المرجح أن يحصلوا على أي منهما. إن المشكلات الوجودية لليبرالية القرن الحادي والعشرين تتطلب منا أن نفعل أكثر من مجرد العودة إلى أشكال الحكم النيوليبرالي التي ولّدت السخط في المقام الأول. ويتطلب الأمر استعادة الروح الثورية التحررية والمساواة التي ميزت الليبرالية في أفضل حالاتها الثورية لتقديم بديل جديد لمواطني الدول الليبرالية. إن جوهر النظرية السياسية الليبرالية الذي يقدم أغنى توجيه حول الشكل الذي يجب أن يتخذه هذا البديل الجديد هو الاشتراكية الليبرالية.
وقد تبدو فكرة «الاشتراكية الليبرالية» غريبة وحتى متناقضة. وينطبق هذا بشكل خاص على أولئك الذين ينتمون إلى اليمين واليسار والذين يَعدّون الليبرالية فلسفة رأسمالية السوق. وبطبيعة الحال، هناك العديد من المفكرين التقليديين والنيوليبراليين الذين يعتقدون أن هذا صحيح. فمن دفاع جون لوك المؤكد عن قيمة الحياة ومبادئ الحرية والملكية إلى إعلان هايك أن تخطيط الدولة في الاقتصاد هو الطريق إلى العبودية، من السهل الوقوف على الدفاعات الليبرالية عن أخلاقيات الرأسمالية. ومما لا شك فيه أن المفكر عالم الاقتصاد النمساوي لودفيج فون ميزس Ludwig von Mises تحدث باسم الكثيرين (بما في ذلك الكثير من اليساريين) عندما أعلن بفخر في كتابه الذي أثار النقاش والسجال «الليبرالية» (1927) أن:
«[برنامج] الليبرالية… إذا تم تكثيفه في كلمة واحدة، يجب أن يُقرأ كالآتي: الملكية، أي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج… وجميع المبادئ الليبرالية الأخرى تنتج عن هذا المبدأ الأساسي».
لكن هذا قد يتجاهل حقيقة مؤداها أن العديد من المفكرين الليبراليين العظماء كانوا من الناحية التاريخية حذرين (إلى حد الانتقاد الصريح) من الرأسمالية. وهذا يعود إلى زمن بعيد. وربما كان آدم سميث متحمسًا لمبدأ التجارة الحرة وحريات السوق، لكنه انتقد أيضًا في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية» (1759) كيف «أن هذا الميل إلى الإعجاب بالأغنياء والأقوياء، أو إلى عبادتهم تقريبًا، واحتقار، أو على الأقل، إهمال الأشخاص الفقراء والمتوسطين، على الرغم من أنه ضروري للتمييز بين مكانة الأشخاص ونظام الطبقات في المجتمع والمحافظة عليه، إنما هو في الوقت نفسه هو السبب الأكبر والأكثر شمولًا لفساد مشاعرنا الأخلاقية».
وقد تم التأكيد على هذا في نقاشات سميث ضد الاحتكار والآثار البغيضة لنظام تقسيم العمل في كتابه «ثروة الأمم» (1776). وبحلول العصر الصناعي، أعرب بعض أعظم المفكرين الليبراليين عن تعاطفهم مع الاشتراكية، بل وانضموا إليها. فقد أعلن جون ستيوارت ميل John Stuart Mill، أعظم فيلسوف ليبرالي في القرن التاسع عشر، نفسه مفكرًا اشتراكيًا علنًا في كتابه في «السيرة الذاتية» (1873) وأكد في كتابه «الاشتراكية» (1879) أن «الفقر المدقع، وعدم ارتباط الفقر بالاستحقاق بشكل كبير- هما أول فشل كبير للترتيبات القائمة في المجتمع».
ولم يكن ميل وحده في التعاطف مع هذا الاندماج بين الليبرالية والاشتراكية. ففي مجموعة مقالاته «النظرية الديمقراطية: مقالات في الاسترجاع» (1973)، صاغ المنظر السياسي كروافورد بروف ماكفرسون C. B. Macpherson مصطلح «الاسترجاع» للإشارة إلى «التخلص من الخلل المركزي المعوق للنظرية الديمقراطية الليبرالية الحالية، مع التمسك أو تعديل، القيم الإنسانية التي تطالب بها الديمقراطية الليبرالية دائمًا». ويتعيَّن علينا الآن أن نبذل جهدًا لاستعادة النظرية السياسية للاشتراكية الليبرالية وتوضيح بروزها في القرن الحادي والعشرين (وهو مشروع سأواصله في كتابي القادم النظرية السياسية للاشتراكية الليبرالية).
والاشتراكية الليبرالية هي أيديولوجية سياسية تجمع بين دعم العديد من المؤسسات والحقوق السياسية الليبرالية مع الرغبة الاشتراكية في إنشاء ترتيبات اقتصادية أكثر إنصافًا وديمقراطية. وقد أوضح هذه النقطة الأخيرة بوضوح الفيلسوف الأمريكي مايكل والتـزر Michael Walzer في كتابه «النضال من أجل سياسة لائقة» (2023)، حيث كتب أنه على الرغم من أن «الاشتراكيين الليبراليين ليسوا من أنصار (المساواة التامة)، فإنهم جادون بشأن المساواة- وبشكل عام، فإنهم أكثر من كونهم جادين في المساواة». إن هذا الاهتمام الأعمق بالمساواة مقارنة بالليبراليين التقليديين يصبح واضحًا عندما ننظر إلى مسألة متى ظهرت الاشتراكية الليبرالية وكيف دافعت شخصياتها الرئيسية عن حججها الأساسية.
وهناك جدل واسع حول تقسيم النظرية الليبرالية التقليدية إلى فترات زمنية. ويرجع تاريخ العديد منها إلى القرن السابع عشر وكتابات لوك Locke وباروخ سبينوزا Baruch Spinoza وهوغو غروتيوس Hugo Grotius وغيرهم. وسواء كان من الممكن وصف هؤلاء المفكرين بشكل صحيح بـ«الليبراليين» أم لا، فلا شك أنهم طوروا أو نظموا الكثير من البنية النظرية التي سيعتمد عليها الليبراليون اللاحقون. وعلى النقيض من ذلك، في كتابه «الليبرالية» (الطبعة الثانية، 2014) يؤكد إدموند فوسيت Edmund Fawcett أن الفلسفة السياسية الليبرالية المزدهرة لم تظهر فعليًا على الساحة إلا في القرن التاسع عشر، عندما أصبح المصطلح نفسه شائعًا، وبدأت الأحزاب والحركات «الليبرالية» التي تصف نفسها بنفسها في الظهور.
وأيًا كان من تتفق معه، فليس هناك شك في أن الاشتراكية الليبرالية ظهرت في وقت متأخر عن الليبرالية التقليدية، مما أدى إلى توسيع كراهية الأخيرة إلى الأنظمة الهرمية القديمة في أوروبا للمطالبة بتغييرات أكثر جذرية. وفي حين أن الأشكال المزدهرة من النظرية السياسية الاشتراكية الليبرالية لم تظهر حتى منتصف القرن التاسع عشر، إلا أنه كانت هناك شخصيات سابقة مهمة. وهناك اثنان من أكثر أسلاف الاشتراكية الليبرالية تأثيرًا هما توماس باين Thomas Paine وماري ولستونكرافت Mary Wollstonecraft.
– يصر توماس باين على أن الملكية ظاهرة اجتماعية بارزة.
لا يزال باين مشهورًا بدفاعاته الخطابية المثيرة عن الثورتين الأمريكية والفرنسية ومجادلاته اللاذعة ضد إدموند بيرك Edmund Burke والنزعة المحافظة في كتيب «حقوق الإنسان» (1791). وحتى وقت قريب، كان يُنظر إلى باين إلى حد كبير على أنه مؤلف كتيبات مميز لوجهة النظر الليبرالية والجمهورية التقليدية، في حين لم يكن مفكرًا أو منظرًا أصيلًا بشكل خاص. وقد شهد هذا التقييم منذ ذلك الحين تحولًا كبيرًا، حيث أكد روبرت لامب Robert Lamb في عام 2015 على أهمية باين كمنظر كانت «كل ميوله» مساواتية.
ويُعدُّ باين واحدًا من الرواد المهمين للاشتراكية الليبرالية لأنه اعتنق مبدأ أهمية ازدهار الفرد وحقوقه، بينما أصبح متشككًا بشكل متزايد في إمكانية تحقيق ذلك دون إعادة توزيع كبيرة للثروة والامتيازات. وفي كتيب «عدالة إعادة توزيع الأراضي» (1797)، يرفض النزعة الفردية المنظمة للمقاربات الليبرالية التقليدية لحقوق الملكية، ويصر على أن الملكية هي ظاهرة اجتماعية بارزة، ويقول في هذا:
«إن الملكية الشخصية هي آثر اجتماعي. ومن المستحيل على الفرد أن يحصل على ملكية شخصية دون مساعدة المجتمع، كما يستحيل عليه أن يُوجد الأرض في الأصل. فإذا فصلنا الفرد عن المجتمع، ومنحناه جزيرة أو قارة ليمتلكها، فإنه لا يستطيع أن تكون لديه ملكية شخصية».
ويمضي باين في الإشارة إلى أنه نظرًا لأن العديد من الأثرياء يحتكرون الأراضي المنتجة ورأس المال دون رد أي شيء، فإنهم يدينون بدين كبير للفقراء كحق من حقوقهم. وفي الجزء الثاني من كتيب «حقوق الإنسان» وفي كتيب «عدالة إعادة توزيع الأراضي»، يطور باين هذه الحجج إلى دعوة لإعادة التوزيع، ويرسم مخططًا مبكرًا لدولة الرفاهية. ويتضمن هذا توفير المال للتعليم، وضمان فرص العمل لأولئك الذين يريدون ذلك، وراتبًا لكل طفل يُولد، ونظامًا ثابتًا لمعاش الشيخوخة.
ومن جانبها كانت ولستونكرافت أقل اهتمامًا بالسياسة من باين المعاصر لها، لكنها كانت أكثر قسوة في ازدرائها للتأثير المدمر لعدم المساواة في الملكية الذي ميّز المجتمعات الأرستقراطية والمجتمعات الرأسمالية المبكرة. وفي كتابها التقليدي «الدفاع عن حقوق المرأة» (1792)، أصرت ولستونكرافت على ما يلي:
«من الاحترام للملكية، كما من ينبوع مسموم، تتدفق معظم الشرور والرذائل التي تجعل هذا العالم مشهدًا كئيبًا للعقل المتأمل. ولأنه في المجتمع الأكثر صقلًا تكمن الزواحف المزعجة والثعابين السامة تحت الأعشاب الرتبة؛ وهناك شهوانية مدللة بالهواء الساكن القائظ، الذي يريح كل شخصية جيدة قبل أن تنضج إلى الفضيلة. فطبقة واحدة تهيمن على الطبقات الأخرى؛ لأن الجميع يهدفون إلى كسب الاحترام بسبب ممتلكاتهم: وبمجرد اكتساب الملكية، فإنها ستحظى بالاحترام المستحق فحسب للمواهب والفضيلة».
وفي رسائلها اللاحقة: «الرسائل المكتوبة خلال إقامة قصيرة في السويد والنرويج والدنمارك» (1796)، انتقدت الأثرياء الجدد ووصفتهم بأنهم «فطريات» مع انتقادات مفادها:
«إن العرض المتفاخر للثروة دون أناقة، والتمتع الجشع بالمتعة دون عاطفة، يجاملهم حتى يطلقوا على كل فضائل الشخصية البطولية، والمحاولات الرومانسية لشيء فوق طبيعتنا، قلقًا على رفاهية الآخرين، وبحثًا عن شقاءٍ لا شأن لنا به».
وقد آمنت ولستونكرافت بالملكية الخاصة، معتبرة أنها مكافأة عادلة مقابل العمل. لكن حتى هذا كان له دلالة جذرية، حيث كانت تنتقد أولئك الذين يعيشون في رفاهية أو يدافعون عن الامتيازات بينما تتجاهل «النساء اللاتي كسبن عيشهن من خلال بيع الخضار أو الأسماك، واللاتي لم يحصلن على أي مزايا في التعليم…». إن نقدها للأثرياء العاطلين أو غير المستحقين يعكس إدانة لوك للأرستقراطية ويتوقع الإدانات الاشتراكية والماركسية الريكاردية اللاحقة للأثرياء الطفيليين.
ومثل باين، كانت لدى ولستونكرافت ميول مساواة لا تشوبها شائبة (بما في ذلك، بالطبع، العلاقات بين الجنسين) وأصرت على أنه «يجب أن يكون هناك المزيد من المساواة في المجتمع، وإلا فلن تحقق الأخلاق أي تقدم على الإطلاق…». وفي تصورها للمجتمع المثالي لن يكون هناك غني ولا فقير وسيكون السباق التنافسي لتراكم الملكية الخاصة أولوية اجتماعية أقل أهمية بكثير من التطور المتساوي نسبيًا للقوى الفكرية والفنية والأخلاقية البشرية. إن هذا التركيز التضامني على تنمية القوى البشرية في مجتمع متساوٍ هو ما يجعل ولستونكرافت شخصية مهمة في الحركة نحو الاشتراكية الليبرالية.
وقد وصلت الاشتراكية الليبرالية إلى مرحلة النضج في القرن التاسع عشر مع جون ستيوارت ميل، المتحدث الأكثر شهرة وفصاحة. ففي بداية حياته المهنية، كان ميل مؤيدًا أكثر تقليدية للسوق الحرة. ولكن، في وقت لاحق من حياته، وتحت تأثير الاشتراكي الطوباوي القديس سيمونيانز Simonians، غيّر وجهات نظره بشكل ملحوظ. وفي سيرته الذاتية، أعلن ميل أن «مثاله للتحسين النهائي ذهب إلى ما هو أبعد من الديمقراطية، وسوف يصنفنا بالتأكيد تحت التصنيف العام للاشتراكيين». وبينما ينتقد الأشكال المستندة إلى الدولة في الاشتراكية ويعرب عن الحذر من التهديد الذي تشكله على الحرية وادعى أنه يتطلع إلى الوقت الذي لن يعد فيه المجتمع منقسمًا إلى عاطلين ومجتهدين؛ فإن القاعدة التي تنص على أن الذين لا يعملون لا يأكلون، لن يتم تطبيقها على الفقراء فحسب، بل على الجميع بشكل غير متحيز.
وقد انعكس هذا التحول نحو الاشتراكية في الطبعات اللاحقة من كتابه «مبادئ الاقتصاد السياسي» (1848). فقد دافع ميل عن التجارب الثرية مع الديمقراطية والتعاونيات في مكان العمل، زاعمًا أنها من المحتمل أن تكون أقل استبدادًا، وأكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية، وأكثر ملاءمة لازدهار العمال. وكما تتتبع هيلين مكابي Helen McCabe في كتابها الممتاز «جون ستيوارت ميل: فيلسوف اشتراكي» (2021)، فقد جاء أيضًا للدعوة إلى إعادة توزيع الثروة من خلال:
«ملكية الدولة للسكك الحديدية والطرق، وملكية (وتوفير) البلديات للمرافق مثل الغاز والمياه. وكما أشار على الأقل إلى أنه يجوز للحكومة توفير المستشفيات العامة؛ والبنوك الوطنية؛ والخدمات البريدية؛ و(المصانع)؛ وهيئة من المهندسين المدنيين، طالما لم تحافظ الحكومة على احتكار هذه المهن أو الخدمات».
وقد توقعت تفضيلات ميل للاشتراكية الليبرالية القائمة على التعاونيات ودولة الرفاهية السخية العديد من الأشكال المعاصرة لاشتراكية السوق، فضلًا عن كونها مصدر إلهام مباشر للاشتراكيين الأخلاقيين والمسيحيين المهمين مثل ر. ه. تاوني R. H. Tawney.
– «الاشتراكية… هي الليبرالية في العمل؛ وهذا يعني أن الحرية تأتي في حياة الفقراء».
وفي أوائل القرن العشرين ومنتصفه، جاءت مجموعة رائعة من المؤلفين لتأييد الاشتراكية الليبرالية. وفي مقابلة عام 1939 مع مجلة «رجل الدولة الجديد والأمة» (The New Statesman and Nation)، اقترح جون ماينارد كينز John Maynard:
«[الخروج من] دولة عدم التدخل في القرن التاسع عشر إلى عصر الاشتراكية الليبرالية… حيث يمكننا العمل كمجتمع منظم لتحقيق أهداف مشتركة وتعزيز العدالة الاقتصادية والاجتماعية، مع احترام وحماية الفرد- حريته في اختياره، وإيمانه، وعقله وتعبيره، ومشروعه وممتلكاته».
وقد عملت مجموعة متنوعة من الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين، مثل إدوارد برنشتاين Eduard Bernstein وكارلو روسيلي Carlo Rosselli، على وضع نظرية لوجود روابط أوثق بين الليبرالية والاشتراكية، مرددين ادعاء ميل بأن الاشتراكيين كانوا «خلفاء الليبرالية الأكثر بعدًا للنظر». وقدم كتاب برنشتاين التقليدي «الشروط المسبقة للاشتراكية» (1899) نقدًا مستدامًا للنظرية الثورية الماركسية المتشددة واقترح التوفيق مع الليبرالية. وأصر على أنه «فيما يتعلق بالليبرالية كحركة تاريخية، فإن الاشتراكية هي الوريث الشرعي لها، ليس فحسب من الناحية التاريخية، ولكن أيضًا من الناحية الفكرية»، وشدد على أنه «لا يوجد فكر ليبرالي لا يشكل أيضًا جزءًا من المنابع الفكرية للاشتراكية». وقدم روسيلي ادعاءات مماثلة في كتابه «الاشتراكية الليبرالية» (1930)، حيث قال:
«إن الاشتراكية ليست أكثر من تطور منطقي لمبدأ الحرية، بعواقبه القصوى. إن الاشتراكية، عندما تُفهم بمعناها الأساسي ويُحكم عليها من خلال نتائجها– بوصفها الحركة الملموسة لتحرر البروليتاريا– تصبح ليبرالية في العمل؛ وهذا يعني أن الحرية تأتي في حياة الفقراء».
وعلى الرغم من أن ماكفرسون لم يتطابق مطلقًا مع هذه التسمية، إلا أنني أزعم أنه يمكن أيضًا وصفه بشكل صحيح على أنه اشتراكي ليبرالي، نظرًا لجهوده المستمرة طوال حياته من أجل «استعادة» جوهر الديمقراطية والمساواة الراديكالية للتقليد الليبرالي.
وأخيرًا، في الولايات المتحدة، عمل جون ديوي John Dewey بنوع من الجدية على توسيع المفاهيم الأمريكية للديمقراطية إلى ما هو أبعد من أفق الدولة. وأشهر مساهماته كانت بالطبع في مجال التعليم، حيث أصر ديوي على التفوق التربوي من خلال الفصول الدراسية التي تقوم على المساواة حيث يشارك الطلاب بنشاط في تعلمهم، بدلًا من اعتبارهم متلقين سلبيين للمعرفة التي يقدمها أستاذهم. لكن ديوي كان حريصًا أيضًا على توسيع المبادئ الديمقراطية لتشمل مكان العمل، وأصبح رئيسًا لرابطة الديمقراطية الصناعية في عام 1939 ودافع عن الحركة العمالية.
وفي فترة ما بعد الحرب، كان هناك العديد من الشخصيات البارزة المتحالفة مع الاشتراكية الليبرالية، بما في ذلك إيرفينغ هاو Irving Howe، ومايكل والتـزر، وشانتال موفي Chantal Mouffe. لكن الشخصية الأكثر أهمية التي عبرت عن تعاطفها مع الاشتراكية الليبرالية كان جون رولز John Rawls. ولفترة طويلة، كانت «نظرية العدالة» التي وضعها رولز (1971) بمثابة اعتذار عن نظام دولة الرفاهية الذي، بشكل مأساوي، بدأ في التدهور فور نشر الكتاب. لكن هذا يقلل من راديكالية رولز. وفي محاضراته في كتاب «تاريخ الفلسفة السياسية» (2000)، وصف رولز كارل ماركس بأنه «بطولي» وأشاد بمواهبه الفكرية «الرائعة». وبحلول كتابه الأخير «العدالة كإنصاف: إعادة صياغة» (2001)، أصر رولز على أن الرفاهية لم تقم بعمل جيد بما فيه الكفاية لتحقيق المبادئ الليبرالية للعدالة. وديمقراطية الملكية أو «الاشتراكية الليبرالية» ستكون وحدها كافية. وفي حين كتب رولز نفسه أكثر عن ديمقراطية الملكية، فإن كتاب إدموندسون Edmundson «جون رولز: الاشتراكي المتحفظ» (2017) يقدم حجة قوية حول السبب الذي يجعل التفسير الأكثر صرامة للعدالة كإنصاف يتطلب الاشتراكية الليبرالية بدلًا من ذلك.
وكما يظهر التاريخ، فإن الاشتراكيين الليبراليين ليسوا مجموعة واحدة. إنهم يختلفون حول العديد من النقاط الأساسية. وبعضها نظري مثل: هل أقوى أساس للاشتراكية الليبرالية هو نوع من النفعية أو الأخلاق أو البراجماتية؟ وتدور الانقسامات الأخرى حول مسائل عملية مثل العلاقة بين الرفاهية المستندة إلى الدولة وإرساء الديمقراطية من القاعدة إلى القمة في الاقتصاد؛ ومن المعروف أن ميل علق آماله على التعاونيات العمالية، حيث يركز العديد من الاشتراكيين الليبراليين المعاصرين على البرامج الاجتماعية. ومع ذلك، فإن جميع الاشتراكيين الليبراليين ملتزمون بثلاثة مبادئ مركزية، والتي رتبتها من الأكثر تجريدًا إلى الأكثر واقعية.
أولًا، يلتزم الاشتراكيون الليبراليون بالجماعية المنظمة والفردية المعيارية. وهم يعتقدون أن رفاهية الأفراد وتنميتهم الحرة (وبالنسبة لعدد متزايد من الحيوانات غير البشرية) تمثل الأولوية الأخلاقية العليا. ومع ذلك، فإنهم يختلفون مع المفهوم الانعزالي والتنافسي للعديد من الليبراليين التقليديين للطبيعة البشرية ونهجهم الفردي في تصور العلاقات الاجتماعية. يعتقد الاشتراكيون الليبراليون أنه من أجل التفكير بشكل صحيح في كيفية ازدهار الأفراد على أفضل وجه، يجب على المرء أن يدرك انغماسهم في المجتمع، وكيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين أو تعطيل قدرتهم على عيش حياة جيدة.
– إن أخذ الالتزامات بالحرية والمساواة والتضامن على محمل الجد يتطلب تجاوز التسلسل الهرمي الاجتماعي الذي تم إنشاؤه في ظل الرأسمالية.
ثانيًا، يلتزم الاشتراكيون الليبراليون بأن يتمتع كل شخص بفرصة متساوية ليعيش حياة جيدة قدر الإمكان من خلال توفير الموارد المشتركة لتطوير قدراته البشرية والتعبير عنها. وبعبارة أخرى، يركز الاشتراكيون الليبراليون على التطوير الحر للقوى أو القدرات البشرية عبر مجموعة واسعة من المقاييس. ما يسميه ماكفرسون هذه الأخلاق التنموية يمكن أن يتناقض مع الأخلاق الاستخراجية والتملكية التي تميز الليبرالية التقليدية وأشكال المتعة من النفعية. فبينما ترى أخلاقيات الملكية/التملك أن الحياة الطيبة تأتي من الإنتاج والاستهلاك، تؤكد أخلاقيات التنمية في الاشتراكية الليبرالية على التنمية والتطبيق المتساوي لسلطات كل فرد كشرط لازدهاره.
ثالثًا، يلتزم الاشتراكيون الليبراليون بتأسيس هيكل اجتماعي أساسي يتميز بمؤسسات سياسية ديمقراطية ليبرالية تشاركية بدرجة عالية وحماية للحقوق الليبرالية بالتزامن مع توسيع مبادئ الديمقراطية الليبرالية لتشمل الاقتصاد والأسرة لإنشاء ترتيبات اقتصادية أكثر مساواة وخالية من الهيمنة والاستغلال. وهذا يعني أيضًا أن الاشتراكيين الليبراليين لا يثبتون القيمة نفسها لحقوق الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج كما يفعل العديد من الليبراليين التقليديين. وفي حين أن جميع الاشتراكيين الليبراليين يؤمنون بحقوق الملكية الشخصية، فإن هذا لا يمتد إلى حقوق الحصول على أشكال الملكية التي من شأنها أن تمكن أشكال الهيمنة في مكان العمل أو البلوتوقراطية السياسية من التطور. وفي هذه الحالات، فإن ما يؤثر على الجميع يجب أن يقرره الجميع جزئيًا.
ويدافع المؤلفون الاشتراكيون الليبراليون عن هذه المبادئ ويوضحونها بمصطلحات مختلفة، ويؤكدون على واحدة أو أخرى بدرجات مختلفة. وهذا يشهد على التنوع الداخلي للتقاليد، إن لم يكن هناك شيء آخر. وكان ماكفرسون ينتقد بشدة «الفردية التملكية» التي تنظر إلى الأفراد بوصفهم ذواتًا منفصلة ومنعزلة، لكنه دعم الأخلاق الإنسانية الليبرالية لتطوير قدرات الناس أو قواهم. ومع ذلك، لم يكن لديه سوى القليل ليقوله عن نوع البنية الاجتماعية التي يمكنها تحقيق هذه الأخلاق. وفي كتابه «القرار الاشتراكي» (1933)، يقدم بول تيليش Paul Tillich دفاعًا لاهوتيًا عن الاشتراكية الديمقراطية الليبرالية، وهو ما يتعارض بوضوح مع التوجهات العلمانية لميل ورولز. وتُبرز اشتراكية موف الليبرالية النضالية أهمية التنافس السياسي أكثر بكثير من إصرار رولز المعتدل على أن المجتمع التعددي يحتاج إلى الاتحاد حول «إجماع متداخل». إن كتاب «الليبرالية الراديكالية السوداء» لتشارلز ميل Charles Mill يدين وبحق العديد من الليبراليين اليساريين بتجاهل، أو حتى دعم، الإمبريالية والعنصرية. لكن وراء هذا التنوع هناك قناعة أساسية مفادها أن أخذ الالتزامات المتعلقة بالحرية والمساواة والتضامن على محمل الجد يتطلب تجاوز التسلسل الهرمي الاجتماعي الذي تم إنشاؤه في ظل الرأسمالية.
ونظرًا لمكانة العديد من الشخصيات المنجذبة إلى الاشتراكية الليبرالية، فمن المحير إلى حد ما أن يبدو المصطلح متناقضًا. وربما يرتبط هذا التفسير بالسياسة أكثر من الفلسفة، وخاصة في الولايات المتحدة. وكما يشير صموئيل موين في كتابه «الليبرالية ضد نفسها»، فطوال منتصف القرن العشرين، انقلب العديد من المفكين الليبراليين البارزين في حقبة «الحرب الباردة» ضد العناصر الأكثر تقدمية والمساواة في التقليد. وقد أدى هذا إلى إبعاد جان جاك روسو، وهيجل، وماركس إلى الهامش، وتخفيف الحجج الأكثر راديكالية لليبراليين البارزين مثل ميل. وبحلول الوقت الذي بدأ فيه دعاة المساواة الليبراليون في حشد حجج نظرية هائلة لصالح الرفاهية والديمقراطية الاجتماعية في السبعينيات، كان وقت تحقيق مثل هذه الأجندة قد فات. ولقد سيطرت النيوليبرالية على معظم أنحاء العالم، مما زاد من الضغط على الأشكال التقدمية من الليبرالية والاشتراكية الليبرالية.
ومع ذلك، فإن مستقبل النظرية السياسية الاشتراكية الليبرالية مشرق. وعلى الرغم من أن ليس كل الأشخاص المدرجين أدناه قد يتعاطفون مع التسمية (وقد يرفضها البعض)، فقد عمل عدد كبير من المنظرين البارزين والصاعدين على إبراز أوجه التشابه بين التقليدين وتقديس (أو إعادة تقديس) الشخصيات الرئيسية. ومن بين هؤلاء هيلين مكابي، ومايكل والتـزر، وجيمس كروتي James Crotty، وشانتال موفي، وإيجور شويكيدبرود Igor Shoikhedbrod، وليليان سيشيرشيا Lillian Cicerchia، وصامويل موين Samuel Moyn، ودانييل تشاندلر Daniel Chandler، وويليام إدموندسون William Edmundson، وإليزابيث أندرسون Elizabeth Anderson، وتوني سميث Tony Smith، ورودني بيفر Rodney Peffe وغيرهم الكثير.
وليس من الصعب أن نرى لماذا سيكون احتمال الاشتراكية الليبرالية جذابًا اليوم. ولا تزال الليبرالية في أزمة أو قريبة منها، وتعرب أعداد كبيرة من الناس عن استيائهم من الوضع الراهن النيوليبرالي. وفي الوقت نفسه، هناك أسباب وجيهة للغاية لرفض إعادة النظر في أشكال «الاشتراكية الحقيقية القائمة» والشيوعية الاستبدادية. ومن هنا تقدم الاشتراكية الليبرالية إمكانية الجمع بين احترام الحقوق الليبرالية، والضوابط والتوازنات على سلطة الدولة، والديمقراطية التشاركية مع الاهتمامات الاشتراكية لتحقيق الازدهار المتساوي للجميع في بيئة مستدامة، وتوسيع الاهتمامات الديمقراطية إلى مكان العمل و«الحكومة الخاصة». والتراجع عن الحكم البلوتوقراطي. كما أنها تتوافق فلسفيًا بشكل جيد مع الحركات الاشتراكية الديمقراطية والراديكالية الملموسة التي تظهر في الولايات المتحدة وتشيلي والبرازيل وأماكن أخرى والتي تريد تغييرًا اقتصاديًا جذريًا ولكنها تتماشى مع القيم الليبرالية. أما مسألة ما إذا كانت الاشتراكية الليبرالية قادرة على التحول من كونها تقليدًا نظريًا إلى أيديولوجية سياسية شعبية فهو سؤال صعب. ولكن في عالم يتسم بالغضب المتزايد إزاء عدم المساواة وحكم الأثرياء، فإن الاشتراكية الليبرالية تستحق ولائنا.
(*) Matthew McManus: Liberal Socialism Now, Aeon, 21 February 2024.
(*) ماثيو مكمانوس: محاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة ميشيغان. وتشمل كتبه «الحق السياسي والمساواة» (2023) و«النظرية السياسية للاشتراكية الليبرالية» (يصدر قريبًا).
(*) د. حمدي عبد الحميد الشريف: دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج، وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية المصرية في مجال العلوم الاجتماعية لعام 2023، ومن بين كتبه: (الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، 2016)، (فلسفة الكذب والخداع السياسي، 2019)، (مفهوم العدالة في فلسفة مايكل وولتـزر السياسية، 2020)، (الرمزية السياسية: مفهوم الرمز ووظيفته في الفكر السياسي، 2023)، وأخرى غيرها، ولديه العديد من البحوث والدراسات المنشورة في مجلات محكمة، إضافة إلى عديد من المقالات الفلسفية، وعدد من الترجمات. وهو عضو محكِّم في عديد من المجلات والدوريات العلمية والعربية، وعضو خبير في لجنة (فحص المشروعات والجوائز ومكافأة النشر العلمي) في جامعة سوهاج.
العنوان الأصلي للمقال: Liberal Socialism Now، ونُشر في موقع Aeon، في 21 فبراير 2024.
رابط المقال: https://aeon.co/essays/the-case-for-liberal-socialism-in-the-21st-century
مجال تخصص المقال: (التاريخ- الدِين- القصص والأدب).