الدراسات البحثيةالمتخصصة

العريضة الوطنية بالمغرب ترسيخ للديمقراطية التشاركية في ظل استمرار البيروقراطية “دراسة في النص القانوني”

اعداد : عبد العالي حوضي – باحت بسلك الدكتوراه – كلية العلوم القانونية والسياسية- المغرب.

  • المركز الديمقراطي العربي

 

المقدمة:

إن السياق العام الذي بات يعرفه العالم، والمتمثل في الانسياق التدريجي إلى الديمقراطية التشاركية، لتدارك العجز الذي أبانت عنه الديمقراطية التمثيلية في إصلاح المرفق العمومي، يدفعنا إلى الحديث عن ضرورة إعادة التفكير في مناهج جديدة لعمل المرافق العمومية والسلطات العمومية المغربية وفق فلسفة ديمقراطية توسع من دائرة مشاركة المواطنات والمواطنين في صياغة وبلورة القرارات العمومية عبر آليات مختلفة ومتنوعة.

إن المد الديمقراطي والعقلاني الذي تشهده المجتمعات الحديثة – بماله وما عليه – قد أصبح يؤكد أكثر فأكثر على ضرورة إشراك كل الأطراف والفعاليات المعنية في تسيير الشأن العام، وذلك في إطار توجهات كبرى لمشروع مجتمعي متكامل قائم على الوفاق والتشارك والتعامل الديمقراطي والاعتماد المتبادل بين الافراد والمؤسسات والجماعات والجهات المتعددة في المجتمع ، مما يؤدي إلى حدوث نوع من الاستقلال بدل التبعية، وكذا تمكن هذه المقاربة من نقل الناس من وضعية الانتظار التي خلقتها المقاربة التقليدية- ذات الطابع المركزي في التنمية- إلى وضعية الفرد المبادر والفاعل والمهتم بشؤونه[1].

إن الحديث عن المقاربة التشاركية تعتبر إحدى منهجيات العمل المرتبط بتدبير السياسات القطاعية على مستوى السياسات المجالية والاجتماعية، وعلاقتها بنجاح النموذج التنموي الجديد الذي تبنته المملكة المغربية والذي يعد مرجعية تنموية للوصول إلى الأهداف والغايات المضمنة في الوثيقة الدستورية-2011-، والإطار العام لتوحيد هذه السياسات العمومية الموزعة بين القطاعات وذلك عبر سلك آليات تمكن المواطنين من إبداء الرأي والاقتراح في باب الأولويات الواجب تظافر كل جهود السلطات العمومية للعمل عليها ومن أجلها، وقد تشكلت هذه المقاربة التشاركية في آليتي الملتمس والعريضة الوطنية، هذه الأخيرة هي التي سنحاول التطرق إليها بالدراسة والتحليل من خلال المدخل القانونيمحاولين معالجة الإشكالية الآتية: إلى أي حد استطاعت العريض الوطنية كآلية للديمقراطية التشاركية تمكين المواطنمن المشاركة في صياغة وبلورة السياسات العمومية بالمغرب؟

وللتجاوب مع هذه الإشكالية سنعتمد التصميم الآتي:

  • المحور الأول: العريضة الوطنية ومتاهات النص القانوني
  • المحور الثاني: لجنة العرائض: ثغرات التأليف والاختصاص

المحور الأول: العريضة الوطنية ومتاهات النص القانوني:

نصت الوثيقة الدستورية -2011- في الفصل 15 منها  على حق تقديم العرائض، كما أكدت أيضا على ضرورة إخراج قانون تنظيمي ينظم عملية ممارسة هذه الأخيرة وفق شروط وضوابط تعكس روح الدستور، ومن هذا المنطلق فالقانون التنظيمي للعريضة  يعتبر تأويلا حقيقيا للنص الدستوري[2]، كونه يؤطر حقا من حقوق المواطنين، وقد استغرق صدور هذا القانون التنظيمي لما يفوق الخمس سنوات بعد صدور الدستور[3]، وهذا التأخر في صدوره يعكس توجس الدولة من توسيع هامش المشاركة المواطنة على مستوى صياغة وبلورة القرارات العمومية من منطلق الديمقراطية التشاركية، وعليه فمن منظورنا  ينبغي أخذ الحيطة والحذر في التعامل مع هذا المدخل الحقوقي في سياق ما بعد العمل بهذا المقتضى القانوني الذي يشكل امتدادا دستوريا.

لقد مر القانون التنظيمي المرتبط بالعرائض بعدة محطات ومراحل، فمسودة قانون العرائض الأولى التي تم إعدادها من الثالث عشر من شهر مارس عام 2014 إلى الثاني من ماي من السنة  نفسها من طرف وزارة المجتمع المدني، عبر الحوار الوطني الذي اعتبر نموذجا لتنزيل الاستشارات العمومية، إلا أن ما يمكن الإشارة إليه هو أن القانون النهائي الذي تم اعتماده كان مخالفا لمشروع القانون الذي تم التوافق حوله ، فالمسودة التشاركية الأولى تحتوي 27 مادة موزعة على سبعة أبواب كما تمت مناقشتها ، في حين النسخة النهائية للقانون التنظيمي لا تحوي سوى ثماني عشرة مادة قسمت على أربعة أبواب، وبالتالي فمسألة تأخير صدور القانون التنظيمي لا تفسير له سوى تطويع المسودة المبنية في إطار  الديمقراطية التشاركية [4]التي تعكس التطلعات  الديمقراطية للمواطنين والمواطنات، كل هذه المجهودات المكلفة والانتظارات التي يتطلعإليها  المواطن في تعزيز الديمقراطية عامة و الديمقراطية التشاركية خاصة، أصبحت في خبر كان وزعزعت عامل الثقة في صفوف المواطنات والمواطنين ، وهذا ما جانب الصواب عندما تخلت الدولة بكل سهولة عن هذهالمسودة القانونية التشاركية لصالح تأويلاتها الخاصة للنص الدستور، وهو ما يبرز توجس الدولة من آليات الديمقراطية التشاركية، والتي تمهد لرفع صبيب  المشاركة السياسية التي من خلالها يتم صياغةالسياسات العمومية ذات الطابعالدمقراطيالمشترك بين التمثيلية  السياسية والتشاركية المدنية ، في قالب تكاملي يشكل الوجه الكامل والحقيقي للديمقراطية في تدبير وتسيير المرافق العمومية. وبعد  إحالة مسودة هذا القانون التنظيمي في 12 ماي من سنة 2014 إلى الأمانة العامة للحكومة للموافقة عليه فقد استغرق ما يصل السنة إلا بضعة أيام داخل دواليب هذه المؤسسة الحكومية، لتتم المصادقة عليه وفق القيود التي خرقت مبادئ الديمقراطية التشاركية، وشوهت هيئته الأولى، وأخرجته من دائرة الديمقراطية التشاركية لتكون بذلك قد انحرفت عن الفلسفة الدستورية في تّأويلها الصوري للديمقراطية التشاركية التي حصرتها في الاستشارة مع التملص من مخرجاتها  النهائية، وتخلت عن التأويل السليم الديمقراطي للدستور، مضيقة بذلك على المشاركة المدنية في السياسات العمومية.

إن كل هذه الاختلالات المحيطة بالقانون التنظيمي خصوصا الطريقة والكيفية التي اعتمدتها وزارة المجتمع المدني أبرزت أن الفاعل السياسي ما يزال يعتبر الفاعل المدني خارج مربع صياغة وبلورة القراراتالعمومية،والتي تعتبرها –وزارة المجتمع المدني – اختصاصا لها دون غيرها مما يثبت أن الديمقراطية التشاركية ما تزال جسما غير مقبول داخل الفعل العمومي بالمغرب رغم الاعتراف الدستوري بها.

فهذه الإشارة إلى انتكاسة البعد التشاركي في إعداد القانون التنظيميللعريضة – باعتباره مدخلا دستوريا نحو إتمام الصورة الديمقراطية لتجاوز أزمة المرفق العمومي- كافية  للوقوف على حقيقة أن الفاعل السياسي الحكومي ما يزال لم يقبل وجود شريك مدني له في التأسيس لنظام تشاركي عمومي يدعم قضية الديمقراطية ببلادنا ويعزز فعالية المرفق العمومي، والدليل هو ما قامتبه الحكومة من إفراغ مسودة القانون التنظيمي ذي البعد التشاركي من محتواه، وكسرعامل الثقة لدى المواطنين والمواطنات في النص الدستوري  الداعم للديمقراطية التشاركية من خلال آلية العريضة قبل الشروع بالعمل بها، ليتبين أن الحوار الوطني حول المجتمع المدني ليس سوى عملية صورية خالية من الفلسفة الدستورية للديمقراطية التشاركية،  لتكون بذلك هدرا للمال العام وغصبا لحقوق المواطنين.

وفي 23 يوليوز من عام 2015 تمت المصادقة على النسخة النهائية للقانون التنظيمي المخصص للعرائض بالمجلس الوزاري، ليتم رسميا استبعاد مخرجات مسودة الحوار الوطني التشاركي المرتبط بهذا القانون التنظيمي، وتعويضه بمشروع آخر جديد، وفي خضم هذه التحولات السلبية للبعد التشاركي يطرح السؤال بشدة حول ما الفائدة المرجوة من كل هذا الجهد الذي بذلته والمال الذي أنفقتهالوزارة المكلفة بالحوار المدني لإعداد مسودةقانون العرائض؟وهذا تراجع واضح عن الحقوق المشمولة دستوريا.

وفي 20 من أكتوبر من السنة نفسها تم إحالتها على مجلس النواب ليتم عرضهابمثابة مشروع قانون على لجنة العدل والتشريع.

وهكذا تم إنهاء مسار التأويل الدستوري في صياغة القانون التنظيمي للعرائض بشكل مخل بالفلسفة الدستورية للديمقراطية التشاركية، القاضي بتحديد الشروط والكيفيات الواجب توفرها وسلكها في العمل بآلية العريضة، لتتم المصادقة عليه في 27 من شهر يناير من سنة 2016[5]، لينقل بعد ذلك إلى الغرفة الثانية للبرلمان لتتم المصادقة على مشروع القانون هذا[6].

فعملية التفاعل البرلمانية مع مشروع القانون التنظيمي للعرائض باعتبارها آلية دستورية لترسيخ الديمقراطية التشاركية بالمملكة المغربية تعكس ضعف اهتمام تفاعل البرلمانبمجلسيه مع مشرع القانون هذا، ويتجلى ذلك من خلال عدد النواب والمستشارين الذين تفاعلوا معه بالرفض أو القبول وكذا الامتناع عن التصويتعنه.

فعملية التأجيل والتماطل في إخراج القانون التنظيمي إلى حيز الوجود والعمل به انتظرتإلى حدود شهر غشت 2016 لينشر بالجريدة الرسمية[7] ، حيث  ستنص المادة التاسعة من القانون التنظيمي على أنه ” تحدث لدى رئيس الحكومة لجنة تحت اسم لجنة العرائض … ويحدد تأليف لجنة العرائض واختصاصاتها وكيفيات سيرها بنص تنظيمي” بالإضافة إلى أن المادة الثامنة عشرة من القانونذاته تنص  على أنه ” يتعين صدور النص التنظيمي المنصوص عليه  في المادة التاسعة أعلاه داخل أجل أقصاه ستة أشهر ابتداء من تاريخ نشر هذا القانون التنظيمي بالجريدة الرسمية ”ليكون بذلك قد تم تحديد  أجل لإصدار النص التنظيمي، هذا الأخير الذي سيصدر في شكل مرسوم تحت رقم 2.16.773[8] في فاتح يوليوز من سنة 2017، مما استغرق سنة على صدور القانون التنظيمي، وبالتالي تكون المدة التي حددها القانون في المادة الثامنة عشرة  من القانون التنظيمي قد تجاوزت ستة أشهر عن الموعد المحدد لصدور المرسوم. وقد زادت مدة التأخيرات مرة أخرى من خلال تفعيل المادة السادسة عشرة [9] من هذا المرسوم التي تحدد أعضاء لجنة العرائض[10].

فهذا المسار المتعثر للقانون التنظيمي للعرائض يبرز حقيقة وواقع السلطات السياسية ( الحكومة، البرلمان) التي ساهمت في  التضييق على هذا الحق الدستوري على مستوى تجاهل مخرجات الحوار الوطني حول مسودة القانون التنظيمي للعرائض،  علاوة  على عدم التفاعل المسؤول والجاد من طرف البرلمان مع مشروع القانون التنظيمي هذا، عوامل ساهمت في إنتاج قانون تنظيمي ذي شروط ومحددات تجعل  من آلية العريضة لا تتجاوز حدود الصورية خاصة وأن المادة العاشرة من المرسوم السالف ذكره ترجع قبول العرائض إلى ضرورة توفر نصاب عددي لأعضاء اللجنة المكلفة بدراسة العرائض  وفق الأغلبية المنصوص عليها  في نظامها الداخلي، لتزيد المادة الثالثة عشرة من المرسوم نفسه التأكيد على أنه ” تضع اللجنة نظامها الداخلي الذي تحدد فيه، بصفة خاصة، كيفيات سيرها”. ليظهر لنا أن المتحكم في لجنة العرائضهو النظام الداخلي بدل القانون التنظيمي، لتطول بذلك مسافة استعمال آلية العريضة وتصبح عائقا أمام الديمقراطية التشاركية بدل أن تكون مدخلا سلسلا لها.

وهذا يفسر التمطيط الذي تعرفه العريضة من حيث الممارسة، والذي سيكون لا محالة ذا تأثير سلبي على التأويل الديمقراطي للنص الدستوري الذي سينعكس بكل قوة على واقع هذا المدخل الديمقراطي.

وفي خضم هذه الانطلاقات المتعثرة للقانون التنظيمي للعرائض،وبناء على كشف تقييم تجربة العرائض على الصعيد الوطني من طرف الحكومة ومجلسي البرلمان[11]، برزت العديد من الصعوبات التي تعترض مسار تفعيل هاته الآلية التشاركية، خاصة في ما يتعلق بلجنة العرائض.

المحور الثاني: لجنة العرائض: ثغرات التأليف الاختصاص:

إن عملية ممارسة آلية العرائض باعتبارها مدخلا من مداخل الديمقراطية التشاركية بالمغرب، يستلزم وضع إطار قانوني يحدد الشروط والكيفيات الواجب سلكها للوصول إلى مشروعية هذه الممارسة، وبالعودة للتدرج القانوني الذي مرت منه العرائض سنجده قد بدأ بالتنصيص الدستوري، والذي بدوره أحالنا على القانون التنظيمي رقم 44.14 الذي من المفترض أن يشكل امتدادا تأويليا لفلسفة الدستور نفسه، ثم إلى المرسوم رقم 2.16.773 الذي عبره تم تحديد الطبيعة التكوينية للجنة المكلفة بدراسة العرائض وكيفية سيرها.

وهذا المرسوم الذي يعد إطارا قانونيا تناسل من فرع الكتلة الدستورية لإتمام مشروعية هذه اللجنة سيضطرنا للوقوف بين مواده بالتحليل والتفصيل لمعرفة مقوماتها الشكلية والموضوعية والإجراءات التي تعتمدها في تسيير أعمالها.

– تشكيلة اللجنة المكلفة بدراسة بالعرائض الوطنية:

تتشكل لجنة العرائض وفق المرسوم المشارإليه أعلاه من توليفة مكونة من: ممثل عن السيد رئيس الحكومة وممثل عن السلطة الحكومية المكلفة بحقوق الانسان ، وممثل عن السلطة المكلفة بالداخلية ، وممثل عن وزارة العدل ، وممثل عن الأمانة العامة للحكومة،  وممثل عن السلطة المكلفة بالمالية،  وممثل عن السلطة الحكومية المكلفة بالعلاقات مع المجتمع المدني[12].

ومن خلال القراءة البسيطة سنكتشف أن كل الأعضاء المكونين للجنة العرائض الوطنية ينتمون للسلطات الحكومية،  ويعملون تحت الوصاية المباشرة للحكومة  في ظل غياب تام للفاعل المدني الذي من أجله نص الدستور على آلية العريضة لتوسيع دائرةالمشاركة،  وللحد من العزوف على الانخراط في صياغة وبلورة القرارات العمومية التي من المفروض أن تنطلق من المجتمع في شكل مقترحات ، لتعود إليه في شكل حلول واقعية تجيب عن حاجيات كل مكونات هذا المجتمع، وتحد من أزمة المرفق العمومي، وهنا يبرز سؤال محير مفاده ما الغاية من كل هذه التمثيليات  الحكومية التي تشكل لجنة العرائض في الوقت الذي كان من الممكن أن نكتفي مثلا بممثل  عن السلطة المكلفة بالعلاقات بالمجتمع المدني أو الأمانة العامة للحكومة؟ بالإضافة الى أن توليفة هذه اللجنة لا تضمتمثيلية عن المواطنات والمواطنين، التي تعتبر ركيزة أساسية في سياق بناء أرضية صلبة لتشييد الديمقراطية التشاركية بالمغرب. هذا على مستوى التشكيلة فماذا عن اختصاصات وصلاحيات لجنة العرائض؟

  • صلاحيات اللجنة المكلفة بالعرائض الوطنية:

للوقوف على اختصاصات اللجنة المكلفة بالعرائض يلزمنا بالضرورة الرجوع للباب الثالث من المرسوم 2.16.773 وبالضبط المادة الثالثة منه، حيث سنجد أن هناك تطابقا تاما لما تضمنته المادة التاسعة من القانون التنظيمي 44.14 والذي حدد اختصاصات هذه اللجنة في:[13]

  • القيام بالتحقق من توفر جميع الشروط القانونية للعرائض المقدمة للسلطات المعنية.
  • إبداء الرأي واقتراح إجراءات تراها ملائمة فيما يتعلق بموضوع العريضة.

وبالتالي يتبن بما لا يترك للشك مجالاأن اختصاصات اللجنة في المرسوم 2.16.773 المنظم لها استنسختالإطار المنظم لصلاحيات اللجنة من القانون التنظيمي للعرائض 44.14 وهو ما يثير التساؤل بخصوص الغاية من المرسوم في ظل تأطير القانون التنظيمي لها.

ثم إن مسألة منح لجنة العرائض إمكانية إبداء الرأي وإعطاء مقترحات بشكل مطلق وغير مقيد حول موضوع العريضة، قد يخل بالبعد الديمقراطي الذي تم من أجله دسترة العريضة، مما قد يصبح عائقا  أمام ممارسة الديمقراطية التشاركية المواطنة، ثم إن هذا الاختصاص للجنة العرائض قد يقوم بتغيير  مغزى بعض مضامين العرائض الموجهة للسلطات العمومية، بحسب ما يتماشى ورغبة السلطة الحكومية، كون أن كل أعضاء لجنة العرائض ينتمون لقطاعات حكومية،  لتصبح إرادة الفاعل المدني مغيبة في مضمون العريضة  نفسها ، وهذا ما يجسد مرة أخرى عدم قبول الفاعل السياسي شراكة الفاعل المدني في صياغة وبلورة القرارات العمومية ، ليشكل بذلك ضربة للاختيار الديمقراطي الذي تبنته الوثيقة الدستورية إلى جانب الثوابت الدولة  المغربية [14].

وفي خضم هذا التراكم القانوني بكل درجاته[15]المؤطر للعريضة الوطنية يطرح الإشكال الجوهري حول الغاية من القانون التنظيمي للعرائض والمرسوم المنظم للجنة العرائض في ظل هيمنة القانون الداخلي للجنة العرائض، لتبرز لنا مرة أخرى المتاهة القانونية التي  تمنع الفاعل المدني من ممارسة هذا الحق الدستوري بشكل مضبوط ، بل أصبح هذا الأخير في حاجة ماسة  لخبراء يوجهونه ويرشدونه للقيام بهذه العملية الديمقراطية، وهنا  يظهر أن البيروقراطية ماتزال متجذرة في عقلية السلطات المكلفة بتدبير الشأن العام رغم محاولة الدستور الأخير بسط نفوذ الديمقراطية التشاركية لتجاوز أزمة المرفق العمومي.

وسعيا من المشرع المغربي لتشجيع مسار الديمقراطية التشاركية، وتبسيط مساطر انخراط المواطنات والمواطنين في اعتماد آلية العريضة من أجل المساهمة فيتدبير الشأن العام، وتجاوزا لاختلالات القانون التنظيمي 44.14 فقد تم تعديله بالقانون التنظيمي 70.21 الصادر في الجريدة الرسمية عدد7021 فيشتنبر 2021، المعني بتحديد شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق[16].

وهنا يطرح السؤال ماهي المستجدات التي جاء بها القانون 70.21؟

أقبل المشرع على هذه الخطوة التعديلية بسبب انتكاسة الديمقراطية التشاركية ذات الحمولة الدستورية -2011-  نتيجة عزوف المواطنين والمواطنات عن استعمال العريضة الوطنية للمشاركة في الشأن العام الوطني،نظرا لثقل حمولة الشروط والمساطر التي يجب توفرها في العريضة والمضمنة في القانون التنظيمي 44.14، مما يعد انتكاسة في ترجمة الفلسفة الدستورية ذات الأبعاد الديمقراطية  على مستوى ممارسة الديمقراطية التشاركية.

ويعد هذا التعديل بموجب القانون التنظيمي 70.21 كما سبق بيانه، استدراكا من المشرع لتلك الثغرات التي لحقت النص التنظيمي الأول للعريضة الوطنية، والذي شل حركة التفاعل الديمقراطي بين الفاعل الساسي والمدني في صياغة وبلورة القرارات العمومية، وقد شملت هذه التعديلات التقليص من عدد التوقيعات المطلوبة لتقديم العريضة للسلطات العمومية والذي حدد في عدد4000 بدل 5000 التي كان معمولا بها في النظام القديم. بالإضافة لتوسيع مفهوم العريضة ليشمل كل طلب مكتوب على دعامة ورقية أو إلكترونية، كما فتح الباب لتقديمها عبر بوابة إلكترونية تحدث لهذا الغرض لدى السلطات العمومية المعنية. وهي تعديلات تشكل بدورها عائقا أساسيا في تفعيل هذا الحق الدستوري.إلى جانب الاختصاصات التي تتميز بها اللجنة المكلفة بدراسة العرائض المرفوعة للسلطات العمومية المعنية، والتي بدورها قد خضعت لتعديلات على مستوى التوليفة والصلاحيات

وكيفية سير هذه اللجنة، ليكون بذلك تغيير وتميم المرسوم 2.16.773 بمرسوم جديد 2.23.980والذي جاء بناء على القانون 70.21 وما أقره من تعديلات جديدة همت تبسيط شروط ممارسة الحق في تقديم العرائض بالإضافة الى اعتماد الرقمنة على مستوى تقديم العرائض والتوقيع عليها.

ومن أجل ترتيب هذه الآثار الجديدة، فقد قام المشرع بتعديل المادة 4 من المرسوم رقم 2.16.773، حتى تتحقق الملاءمة بينها وبين المادة 9 من القانون التنظيمي 44.14 سالف الذكر كما وقع تغييره وتتميمه، التي تنص على أجل 60 يوما بدلا من 30 يوما لتعطي لجنة العرائض رأيها واقتراحاتها إلى رئيس الحكومة، والقصد من هذا التعديل هو منح اللجنة الوقت الكافي لدراسة العريضة المحالة عليها والتأكد من توفرها على الشكل والموضوع المسموح بهما قانونا. وقد تم الإقبال على تغيير وتتميم المادة 14 من المرسوم 2.16.773 قصد جعلها ملائمة للبند الخامس من المادة 2 من القانون التنظيمي 44.14 والتي نصت على إمكانية التوقيع على لائحة دعم العريضة عبر البوابة الإلكترونية المخصصة للعرائض، وكذا الفقرة الثالثة من المادة 7 التي نصت على إمكانية تقديم العريضة عبر هذه البوابة، وذلك قصد تسهيل جمع توقيعات داعمي العريضة وكذا تيسير تقديمها إلى السلطة العمومية المعنية.

نستشف مما سبق أنالمعيقات ماتزالتحول دون الممارسة الفعلية والحقيقية للعريضة الوطنية ، والتي تعد بمثابة آلية لترسيخ الديمقراطية التشاركية- ولعلا ابرزها المنع الذي مارسه المشرع على جمعيات المجتمع المدني رغم أن الدستور-2011-جعل منه شريكا جديدا  أصبحت تعول عليه جل حكومات العالم  في انتاج  سياسات عمومية أكثر فعالية وأكثر واقعية[17]، والمتجسد فيإقصائه من التمتع بحق ممارسة العريضة الوطنية ،فضلاعن صعوبة المساطر والإجراءات ذات الطابع البيروقراطي.

خاتمة:

في منظورنا؛ رغم التعديلات التي طالت المقتضيات القانونية المحيطة بالعريضة الوطنية تبقى مسألة غير كافية لتبسيط الإجراءات والشروط المدعمة للعمل بالعريضة من قبل المواطنين والمواطنات، مما يؤثر سلبا على الديمقراطية التشاركية التي ستبقى مجرد تعبير دستوري خال من الواقعية الفعلية.

هذا يعني أن حماية الديمقراطية التشاركية في السياق المغربي، لا تزال في حاجة إلى مراجعة العلاقات بين  الفاعل السياسي الرسمي، في الاتجاه الذي يسمح بمزيد من تكريس ضمانات الديمقراطية التشاركية، والفاعل المدني –المواطنات والمواطنين ،وجمعيات المجتمع المدني- لخلق فضاء تبادلي للاقتراحات والمشاورات يعي من خلاله الطرفين بمسؤوليتهما في ضرورة  التكامل بدل الصراع والاصطدام، اسوة بما هو مكرس بالتجارب الديمقراطية، “علاوة على تعزيز ضمانات الحقوق والحريات، حيث تبدو الحاجة ماسة لتعزيز استقلالية القضاء، واستقلالية الهيئات المعنية بحماية الحقوق والحريات،  وتخويلها كل صلاحيات وامكانيات التدخل التي قد تتيح  لها فرصا أكبر للاضطلاع بالوظائف التي تلعبها في التجارب المقارنة”[18]، قصد التدخل لحماية مساطر وإجراءات ممارسة آليات الديمقراطية التشاركية  من طرف المواطنات والمواطنين وجمعيات المجتمع المدني.

[1] أسماء مقاس: التعديلات الدستورية في المغرب “بين تدبير السلطة السياسية وتحقيق تطلعات المجتمع المغربي” الطبع والنشر: رؤى برنيت– الطبعة الأولى، ص:283 و284.

[2] فالتأويل الدستوري قد قسمه المتخصصون الى مذهبين؛ مذهب اعتبره تأويلا سليما  ومسموحا به، ومذهب اخر اعتبره غير سليم وغير ديمقراطي كونه قد يمس بسمو القاعدة الدستورية.

[3] معلوم أن الدستور الحالي قد صدر في شهر يوليوز من سنة 2011، بينما القانون التنظيمي للعرائض لم يتم إخراجه للوجود إلا في شهر غشت من عام2016

[4]  لقد أجريت الأبعاد الديمقراطية حول إعداد القانون التنظيمي للعرائض في 18 لقاء جهويا وعشر لقاءات إقليمية من تنظيم الجمعيات، كما عرفت أربع ندوات مع مغاربة العالم، وندوتين دوليتين، كما تعكس الأرضية خلاصة ثماني ندوات موضوعاتية وعملية بمشاركة خبراء من داخل المغرب وخارجه، بالإضافة الى ما يفوق 240مذكرة تقدمت بها هيئات وجمعيات المجتمع المدني. (مأخوذة من تقرير لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان حول مشروع قانون تنظيمي رقم44.14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، دورة أكتوبر 2015، السنة التشريعية الخامسة 2015-2016 الولاية التشريعية التاسعة 2011-2016 ،ص: 4.

[5] تم التصويت عليه بخمسة وخمسين صوتا جاءت كلها معبرة بنعم وسبعة عشر صوتا بلا في الوقت الذي امتنعت عن التصويت عنه بستة أصوات، والإشكال الأكبر أن عدد النواب الذين تفاعلوا مع القانون التنظيمي للعرائض لم يتجاوز 78 نائبا ليثبت لنا مرة أخرى أن مسألة العناية بقانون يؤطر عملية الديمقراطية التشاركية لم يجد تجاوبا من السلطة التشريعية لتنضاف بدورها للسلطة التنفيذية التي قزمت من حجمه بالتخلي عن المشروع الذي جاء على إثر الحوار الوطني بين كافة الفعليات المدنية. ليتأكد طرح توجس ممثلي الديمقراطية التمثيلية من الديمقراطية التشاركية،

[6] عرض مشروع القانون التنظيمي للعرائض على مجلس المستشارين ليجد قبول 27 مستشارا و10. مستشارين عارضوه وامتنع عن التصويت عنه 3 مستشارين ليكون العدد الإجمالي للمستشارين الذين ساهموا في مناقشته هذا المشروع القانون هو 40 مستشارا.

[7] القانون التنظيمي 14.44 يحدد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض للسلطات العمومية، الصادرة بالجريدة الرسمية عدد 6492

[8] مرسوم تحت رقم 2.16.733 يحدد تأليف لجنة العرائض واختصاصات وكيفيات سيرها، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 3409.

[9] المادة السادسة عشر من المرسوم 2.16.733  والتي تنص على ”يدخل هذا المرسوم حيز تنفيذ ابتداء من تاريخ تعيين أعضاء لجنة العرائض ”

[10] مصعب التجاني: “المجتمع المدني ورسم السياسات العمومية: الأدوار في ظل ممارسة الديمقراطية التشاركية –دراسة مقارنة-. أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام. جامعة عبدالمالك السعدي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية. ص:من 327 إلى 330.

[12] المادة الثانية من الباب الثاني المعنونة بتأليف اللجنة من المرسوم رقم 2.16.773 المرتبط بلجنة العرائض الوطنية.

[13] العودة للقانون التنظيمي والمرسوم للاستدلال بالاختصاصات.

[14] العودة للدستور للبحث عن الفصل الذي يضم الاختيار الديمقراطي.

[15] لقد تطرق المشرع الدستوري إلى العريضة الوطنية من خلال الفصل 15 من الدستور والذي أحالنا على القانون التنظيمي 44.14 للعرائض الوطنية ثم إلى المرسوم 2.16.773 لننتقل إلى القانون الداخلي للجنة العرائض.

[16] القانون التنظيمي 70.21 الصادر بتنفيذ الظهير الشريف رقم 1.21.101 بتاريخ 8 سبتمبر 2021 بتغيير وتتميم القانون التنظيمي رقم 44.124 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية المنشور بالجريدة الرسمية عدد7021 بتاريخ 13 سبتمبر 2021.

[17] إيمان لعوينة وغزلان عزيزي: المجتمع المدني. منشور بمجلة مركز تفاعل للدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، تحت عنوان “فهم المغرب 2010-2020.العدد الأول (عدد خاص) -2020، ص: 117.

[18] أحمد بوز: القانون الدستوري لحقوق الانسان “دراسة في الحماية الدستورية للحقوق والحريات في المغرب والتجارب المقارنة” الطبعة الأولى 2020،مطبعة: شمس برينت سلا، ص: 191.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى