الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

الأمن الأوروبي في مفترق طرق: تحديات التحول الاستراتيجي في ظل رئاسة ترامب الثانية

بقلم : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر

 

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ارتبط أمن القارة الأوروبية بصلابة العلاقة عبر الأطلسية، حيث شكّل التحالف مع الولايات المتحدة الضامن الأكبر للاستقرار الإقليمي والجيوسياسي في مواجهة التهديدات الكبرى، لا سيما من الشرق. وتحوّل حلف شمال الأطلسي إلى مظلة أمنية تُغطي دول أوروبا الغربية والشرقية على حد سواء، مانحًا أوروبا فرصة لتركيز جهودها على البناء الاقتصادي والتكامل السياسي، بينما بقيت الولايات المتحدة الطرف الفاعل عسكريًا واستراتيجيًا.

غير أن معادلة الأمن الأوروبي التقليدية بدأت بالتصدع منذ عودة دونالد ترامب إلى الحكم في يناير 2025، حيث ترافقت رئاسته الثانية مع تحولات جوهرية في فلسفة التزامات واشنطن العالمية. فقد بات واضحًا أن مقاربة الإدارة الأمريكية الجديدة تقوم على تقليص الانخراط العسكري الخارجي، وإعادة تعريف المصالح الوطنية وفق أطر ضيقة وأكثر براغماتية، تجعل من “الحماية الأمنية” سلعة تفاوضية لا التزامًا استراتيجيًا راسخًا. هذا التحول أعاد فتح نقاش عميق داخل الدوائر الأوروبية: ما هو مصير الأمن الأوروبي في ظل تآكل الثقة في الشريك الأمريكي؟ وهل تملك أوروبا القدرة على بناء أمن ذاتي مستدام في وجه تهديدات داخلية وخارجية متصاعدة؟

في هذه اللحظة الحرجة، تبدو القارة الأوروبية في مفترق طرق تاريخي، حيث لم يعد بالإمكان العودة إلى الصيغ القديمة، ولا الاستمرار في انتظار قرارات واشنطن المتقلبة. بل أصبح من الضروري إعادة بناء محددات الأمن الأوروبي وفق رؤية أكثر استقلالًا وشمولًا وتكيفًا مع متغيرات النظام العالمي الآخذ في التشظي.

أولاً: الغموض الاستراتيجي الأمريكي وتراجع موثوقية التحالف

تُعد رئاسة ترامب الثانية تجسيدًا لانقلاب مفاهيمي في علاقة الولايات المتحدة بحلفائها. فقد شهدت بداية ولايته موقفًا أكثر تشددًا تجاه الحلف الأطلسي، ترافق مع تصريحات تضع المادة الخامسة من ميثاق الناتو، الخاصة بالدفاع المشترك، محل تساؤل. وباتت المساعدات والتدخلات العسكرية مشروطة بحسابات الربح والخسارة، لا باعتبارات الالتزام الجيوسياسي أو التاريخي. وقد أدى ذلك إلى حالة من الإرباك في الأوساط الأوروبية، إذ لم تعد المظلة الأمريكية تُقرأ كضمان أمني مطلق، بل كخيار سياسي متغير.

إن هذا التحول فرض على دول أوروبا أن تعيد تقييم بنية علاقاتها الأمنية، وأن تطرح أسئلة جوهرية حول كيفية التعامل مع حليف استراتيجي أصبح أكثر ميلًا للانكفاء الداخلي وأقل استعدادًا للدفاع عن أمن الآخرين، حتى لو كانوا شركاءه التاريخيين.

ثانيًا: تصاعد التهديدات الروسية واستراتيجية الردع المنقوص

لا تزال روسيا تمثل التحدي الجيوسياسي الأكبر لأوروبا الشرقية، خاصة بعد تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، التي كشفت عن هشاشة الاعتماد الكلي على واشنطن في إدارة الأزمات الكبرى. وفي ظل رئاسة ترامب الثانية، تتصاعد المخاوف من أن يغيب الردع الأمريكي في اللحظة الحرجة، ما يدفع موسكو إلى اختبار حدود الحلف الأطلسي، وخصوصًا في دول البلطيق أو بولندا.

إن غياب ردع أمريكي واضح ومؤكد، إلى جانب التحولات في ميزان القوى العسكري، يعيد تفعيل فرضيات الحرب الباردة، ولكن من دون وجود قواعد ردع مستقرة كما كان الحال في القرن العشرين. وبهذا المعنى، فإن الأمن الأوروبي يجد نفسه مكشوفًا أمام خصم تقليدي يتقن استثمار الفجوات السياسية والعسكرية داخل التحالف الغربي.

ثالثًا: أزمة بناء الأمن الذاتي وتحديات الاستقلالية الاستراتيجية

رغم الطروحات المتكررة عن “الاستقلالية الاستراتيجية” الأوروبية، فإن الواقع يكشف عن تعقيدات بنيوية تحول دون تحقيق هذه الرؤية. فالاختلافات بين دول أوروبا من حيث القدرات الدفاعية، والنظرة إلى مصادر التهديد، والانقسامات السياسية الداخلية، كلها عوامل تعرقل بناء منظومة أمنية موحدة. ومع ذلك، فإن ضغوط رئاسة ترامب الثانية باتت تشكل محفزًا اضطراريًا للاتحاد الأوروبي للدفع قدمًا في مشاريع الدفاع المشترك، وإنشاء بنى صناعية عسكرية موحدة، وتفعيل صندوق الدفاع الأوروبي.

لكن هذا المسار لا يزال في مراحله الأولى، ويحتاج إلى إرادة سياسية غير مسبوقة، واستثمارات طويلة المدى، وتجاوز الحساسيات الوطنية التي طالما أعاقت التنسيق الدفاعي الأوروبي الفعّال.

رابعًا: التهديدات غير التقليدية وسيناريوهات الفوضى الهيكلية

تواجه أوروبا في الوقت الراهن تحديات أمنية متعددة الأبعاد، لا تقتصر على التهديدات العسكرية المباشرة، بل تشمل الأمن السيبراني، والتضليل الإعلامي، والهجرة غير النظامية، والهجمات على البنية التحتية الحيوية، فضلًا عن التغيرات المناخية والأوبئة. هذه التهديدات تتطلب منظومات مرنة وموحدة من الاستجابة، وهو ما يتعارض مع بيئة سياسية تشهد تصاعد الشعبوية، وتراجع التوافق داخل الاتحاد الأوروبي.

في ظل تراجع الدور الأمريكي القيادي، فإن التعامل مع هذه التهديدات بات مسؤولية أوروبية خالصة، وهو ما يفرض إعادة صياغة استراتيجية الأمن الشامل، وتوسيع مفهوم الحماية ليشمل الفضاء الرقمي والاقتصاد والبنية الاجتماعية، إلى جانب الدفاع العسكري التقليدي.

خامسًا: النظام الدولي الجديد وتعدد الأقطاب في الفضاء الأوروبي

تزامن رئاسة ترامب الثانية مع تصاعد النفوذ الصيني والروسي في الفضاء الأوروبي، حيث بدأت بكين في تعزيز حضورها الاستثماري والتقني عبر مبادرة الحزام والطريق، ووسّعت موسكو من أدواتها الهجينة للتأثير على السياسات الداخلية لعدد من الدول الأوروبية. كما أن دولًا إقليمية مثل تركيا وإيران بدأت في إعادة صياغة أدوارها، ما يعقّد المشهد الأمني العام.

وسط هذا التنافس المتعدد الأقطاب، تصبح أوروبا أكثر عرضة للاختراق الاستراتيجي، ما لم تعزز مناعتها الذاتية، وتبني شبكات تحالفات بديلة، وتعيد قراءة الجغرافيا السياسية بطريقة أكثر واقعية واستقلالية.

بين تركة الحرب الباردة وحدود المستقبل: الأمن الأوروبي على محك التحول

لم تعد أوروبا قادرة على التمسك بالنموذج الأمني الذي نشأ في ظل الحرب الباردة، وازدهر في كنف الرعاية الأمريكية. فرئاسة ترامب الثانية تمثل لحظة كاشفة لما هو أبعد من السياسات الآنية، إنها تُجبر القارة العجوز على مواجهة الحقيقة العارية: أمن أوروبا يجب أن يُبنى في أوروبا، ولأوروبا، وبواسطة الأوروبيين أنفسهم.

هذه اللحظة التاريخية ليست مجرد أزمة، بل هي فرصة لإعادة الهيكلة، وتشكيل وعي استراتيجي جديد، يضع المصالح الأوروبية في قلب القرار، ويمنح القارة القدرة على حماية نفسها في عالم لم يعد يعترف بضمانات تاريخية، بل بقوة الفعل الذاتي ومرونة التحالفات المتجددة.

إن مستقبل الأمن الأوروبي لم يعد مرهونًا فقط بمواقف البيت الأبيض، بل أصبح مشروطًا بقدرة أوروبا على تجاوز الانقسام، واستثمار وحدتها، وتحويل الخوف من الخذلان إلى مشروع متكامل للاستقلال السيادي في الأمن والدفاع والقرار الجيوسياسي.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى