الوهم المعرفي والجهل المركب: تأثير دانينغ–كروجر (Dunning–Kruger) في ادعاءات الباراسيتامول والتوحد

بقلم: التجاني صلاح عبدالله المبارك – المركز الديمقراطي العربي
في حياتنا، نصادف بين حين وآخر بعض الناس يتكلمون في قضايا علمية معقدة بثقة عالية ومفرطة، كأنهم يعلمون كل شيء، رغم أنهم في حقيقة الأمر لا يملكون أي مؤهلات علمية متخصصة، أو معرفة كاملة تسمح لهم، فيشيرون على الناس في الطب كما يشيرون في السياسة، وفي الدواء وموانعه واستعماله، كما يرشدون في الاقتصاد والعقارات، وهم لا يملكون على الأرجح من أدوات العلم شيئا إلا القشور، ولعل المثال الأكثر خطورة في ذلك هو أن يتحدث شخص لا علاقة له بالعلوم الطببية أو الصيدلانية ، ليزعم أن دواءً شائعا مثل الباراسيتامول (وهو مضاد للحمى، ومسكن للألم)، يسبب مرض التوحد، مثل ما فعل الرئيس الأمريكي ترامب مؤخرا !
أوصى الرئيس الأميركي دونالد ترامب النساء الحوامل بعدم تناول دواء باراسيتامول الواسع الاستخدام، بذريعة “أنه قد يكون على صلة بارتفاع شديد لخطر الإصابة بالتوحّد”، في حين وافقت السلطات الأميركية على علاج لبعض أشكال المرض. وقال ترامب خلال حديث في البيت الأبيض محوره التوّحد: “لا تتناولنه!”، في إشارة إلى الدواء المسكّن للآلام والخافض لحرارة الجسم.[1]
وربط الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بين الإصابة بمرض التوحد وتناول الأطفال للقاحات، بالإضافة إلى تناول النساء الحوامل دواء باراسيتامول، وهو دواء مسكن شهير يُعرف أيضاً بالاسم التجاري» تايلينول« مما أعاد إلى واجهة السياسة الصحية الأميركية مزاعم لا تستند إلى أدلة علمية[2].
هذه التوصية من جانب الرئيس ليست مجرد خطأ بسيط وقع فيه بحسن قصد أو سوء قصد، بل هي نموذج مكشوف فيما اتصور لما يُسمى بـ الوهم المعرفي، حيث يعتقد الفرد في هذا النموذج، وفقا لنظرية ” دانينغ–كروجر” أنه يمتلك ناصية العلم في موضوع لا يملك منه في الحقيقة إلا القليل، أو ربما لا شيء.
الوهم المعرفي وتأثير “دانينغ–كروجر” (Dunning–Kruger):
هذه النظرية النفسية الشهيرة التي وضعها عالمي النفس الاجتماعي “ديفيد دانينغ” (David Dunning) و “جاستن كروجر” (Justin Kruger) عام 1999 ، تفصل أن الأشخاص ذوي المعرفة المحدودة غالباً ما يبالغون في تقدير قدراتهم، لأنهم لا يعرفون ما يكفي ليدركوا حجم جهلهم. فجهلهم يحجب عنهم وعيهم بالخطأ، فيظنون أنفسهم خبراء، وهذا بالفعل ينطبق تماما في توصية ” ترامب” البتراء.
تأثير دانينغ–كروجر هو انحياز معرفي يعبر عن ميل الأفراد ذوي الكفاءات المحدودة او الاشخاص غير المؤهلين في مجال معيّن إلى المبالغة في تقدير قدراتهم ومهاراتهم في ذلك المجال، لأن نقص المهارة يقلّص لديهم القدرة نفسها على تقييم أدائهم الحقيقي ومعرفة حدود معرفتهم .وينتج التحيز المعرفي لوهم التفوق من انعدام قدرة هؤلاء الأشخاص على إدراك الإدراك، فبدون إدراك الذات لا يمكن لهؤلاء الأشخاص أن يقيموا ذواتهم بشكل عادل، وهذه مفارقة عجيبة في النفس البشرية لأفراد من ذوي الخبرة المحدودة اتسع في داخلهم وهم الكفاية.
وآلية الانحياز المعرفي أو الوهم المعرفي ، إذا نظرنا إليها من رؤية معرفية نفسية، فهي تتلخص في أن تقدير وتقييم المرء لقدراته يحتاج إلى قدرٍ من المهارة والادراك الذي يُمكّن الفرد من المقارنة والنقد الذاتي، وبغياب ذلك الادراك فان الفرد يتمسك بما يمتلك من معلومات سطحية وضحلة، ويعرضها في صورة يقين ثابت لا يتزعزع، وكأن الثقة واليقين هنا يمثلان تعويضا عن الفقر المعرفي بداخله، بمعنى ان الثقة تتكون عند الفرد في هذه الحالة نتيجة الافلاس والفقر المعرفي، بدلا من العكس!
ومن ناحية ثانية، نجد المشهد المعاكس تمامًا عند أصحاب الكفاءات العالية،(كما وصف “ديفيد دانينغ” و “كروجر”) فهؤلاء كثيرًا ما يحجمون قدر أنفسهم، لأنهم كلما ازدادت معارفهم واتسعت آفاقهم الفكرية، يدركون صعوبة المجال، ويشعرون أن ما لم يعرفوه أوسع كثيراً مما عرفوه، فيميلون بطبيعتهم إلى التواضع وربما يجنحون إلى الشك، وهم في ذلك الحال يعانون من سوء فهم خارجي أو خطأ في رؤية الآخرين، في حين يميل الجاهل إلى الادعاء واليقين الكذوب ورفع منزلته فوق منزلتها الحقيقية.
يمكن لفرد ذو الكفاءة العالية أن يفترض خطأ أن مهام معينة سهلة الأداء بالنسبة له، وبالتالي فهي أيضا سهلة الأداء بالنسبة للأشخاص الآخرين، أو أن الآخرين سيكون لديهم قدر من الفهم الجيد لموضوعات معينة مماثلا لقدر فهم الشخص ذو الكفاءة العالية، باختصار يشعر الشخص أن القيام بمهمة معينة أمرا سهلا لأن المهمة ذاتها سهلة وبالتالي فهي سهلة على الجميع.[3]
مع هذا يمكن القول، أن الوهم واليقين المعرفي منبعه ومصدره الجهل، وفي تعريف الجهل: يعد الجهل فرعا من فروع العلوم السرية وهو علم يدرس غرس ثقافة الجهل أو الشك أو الوهم، ويجري من خلاله نشر بيانات خاطئة ومخطئة أو غير كاملة، كما يقصد به دراسة الافعال المتعمدة والمدروسة التي تهدف إلى نشر التضليل وخلط الامور، لكسب التأييد أو بيع منتج ما.[4]
ووفقا لهذا التعريف، فإنه يتجلى خطورة الموقف، ليس في خطأ معلومة عابرة، لم يتم الاستناد فيها إلى المرجعيات الطبية المعتبرة، بل في الكبرياء الكاذب والنرجسية، التي تلبس الخطأ لباس اليقين، فينخدع بها البعض، وتهز الثقة، وتثير الشك والقلق، في اوساط الحقول الطبية الراسخة والقائمة على مبادئ ودساتير دوائية عالمية محكمة.
بيان منظمة الصحة العالمية بشأن المسائل المتعلقة بالتوحد:
منظمة الصحة العالمية قالت في بيان لها بعد توصية ترامب للحوامل:
تؤكّد منظمة الصحة العالمية (المنظمة) أنه لا توجد أي أدلة علمية دامغة تعضد وجود أي صلة محتملة بين التوحد وتناول دواء أسيتامينوفين (المعروف أيضاً باسم باراسيتامول) أثناء الحمل.
وعلى الصعيد العالمي، يعاني نحو 62 مليون شخص (شخص واحد من كل 127 شخصا) من اضطراب طيف التوحد، وهو مجموعة متنوعة من الاعتلالات المرتبطة بنمو الدماغ. وعلى الرغم من تحسن الوعي والتشخيص في السنوات الأخيرة، لم تُحدد حتى الآن الأسباب الدقيقة للتوحد، ويعتقد أن ثمة عوامل متعددة يمكن أن تؤدي إلى الإصابة به.
وقد أجريت على مدى العقد الماضي أبحاث مستفيضة، ومنها دراسات واسعة النطاق، لبحث الصلة بين تناول دواء أسيتامينوفين أثناء الحمل والتوحد. وفي الوقت الحالي، لم يثبت وجود أي صلة وجيهة بينهما.[5]
الاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية يفندان تحذيرات ترامب بشأن التوحد والحمل:
أما الوكالات الصحية في الاتحاد الأوروبي وبريطانيا فقد أكدت على سلامة تناول عقار الباراسيتامول أثناء الحمل، نافية تحذيرا من الرئيس الأميركي دونالد ترامب يربط بين المسكن الشهير والإصابة بالتوحد.وقالت منظمة الصحة العالمية إن الأدلة على وجود صلة لا تزال غير متسقة، وحثت على توخي الحذر في استخلاص النتائج.
وربط الرئيس الأميركي دونالد ترامب بين التوحد واستخدام لقاحات الأطفال وتناول النساء لمسكنات تايلينول الشائعة أثناء الحمل، مصدرا ادعاءات غير مدعومة علميا إلى واجهة سياسات الصحة في الولايات المتحدة.
وذكرت وكالة الأدوية الأوروبية أنه لا يوجد دليل جديد يستدعي إجراء تغييرات على التوصيات الحالية المطبقة في المنطقة بشأن استخدام الباراسيتامول، المعروف باسم تايلينول في الولايات المتحدة، أثناء الحمل.
وقالت وكالة الأدوية الأوروبية في بيان “إن الأدلة المتاحة لم تجد أي صلة بين استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل والتوحد”، مضيفة أنه يمكن استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل عند الحاجة ولكن بأقل جرعة ووتيرة.وقالت الهيئة المعنية بتنظيم القطاع الصحي في بريطانيا إن استخدام العقار آمن.[6]
ختاما، وبعد كل هذا، عندما تتداخل المعرفة مع الوهم، وتختلط الحقائق العلمية مع الادعاءت، واوهام السيطرة والنفوذ مع ثوابت العلم، يظهر سؤال الوجود في أبسط أشكاله: من أنا حين أتكلم باسم الحقيقة؟ هنا تتجلى الحقيقة كاملة في تقديري، لأن الفرد مهما بلغ من وعي ، يظل أمام سؤال الوجود والمعرفة عاجزا إذا انطوى على ذاته، معتمداً على الكبرياء والقوة والنرجسية وحدها في إدارة صورته أمام الآخرين.
قال حمار الحكيم «توما»: متى ينصف الزمان فأَركب، فأنا جاهل بسيط، أما صاحبي فجاهل مركَّب!فقيل له: وما الفرق بين الجاهل البسيط والجاهل المركب؟ فقال: الجاهل البسيط هو من يعلم أنه جاهل، أما الجاهل المركّب فهو من يجهل أنه جاهل!
المصادر:
[1]_ واشنطن تقرّ علاجا لأشكال من التوحّد وترامب يحذّر الحوامل من الباراسيتامول، موقع الجزيرة نت، 23سبتمبر/ايلول 2025،(تاريخ الدخول: 25 سبتمبر /ايلول 2025): https://tinyurl.com/2et4mvxk [2]_ «الصحة العالمية» تفنّد مزاعم ترمب: لا علاقة بين تناول «الباراسيتامول» أثناء الحمل و«التوحد»، موقع صحيفة الشرق الأوسط، 24 سبتمبر/ايلول 2025،) تاريخ الدخول: 25 سبتمبر /ايلول 2025): https://tinyurl.com/3b8xk3n8 [3]_ويكيبيديا، تأثير دانينغ-كروجر، (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر /ايلول 2025): https://tinyurl.com/5n7ey56u [4]_ محمد مرعي مرعي، من صناعة الجهل إلى إدارته [5]_ منظمة الصحة العالمية،بيان منظمة الصحة العالمية بشأن المسائل المتعلقة بالتوحد، 24 سبتمبر/ايلول 2025، (تاريخ الدخول: 25 سبتمبر /ايلول 2025):https://tinyurl.com/mrwk3a3s
[6]_الاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية يفندان تحذيرات ترامب بشأن التوحد والحمل، موقع الجزيرة نت، 23سبتمبر/ايلول 2025،(تاريخ الدخول: 25 سبتمبر /ايلول 2025):https://tinyurl.com/4yy4ytmn