الاقتصاديةالدراسات البحثيةالمتخصصة

الأمن الطاقوي وأهمية تحقيقه في السياسة الخارجية :دراسة “في المفهوم و الإبعاد”

اعداد : الوليد أبوحنيفة  – باحث دكتوراه كلية العلوم السياسية و العلاقات الدولية جامعة الجزائر 03

– المركز الديمقراطي العربي

 

  • الأمن الطاقوي وأهمية تحقيقه في السياسة الخارجية لدول المصدرة و المستوردة للطاقة “دراسة في المفهوم و الإبعاد”

  مقدمة

        أضحى أمن الطاقة أحد تجليات المفاهيم الأمنية التي بدأت تتشكل و تأخذ مكانتها العلمية و العملية ضمن العديد من المتغيرات التي تلت حقبة ما بعد الحرب الباردة،و أصبح الأمن الطاقوي شأنه شأن العديد من المحددات التي تشكل مضمون الأمن الوطني،حيث تحتل الطاقة مكانا بارزا في العلاقات الدولية ، كونها المحرك الأساسي للاقتصاد ، خاصة بسبب ازدياد الحاجة الشديدة لها ، فلم يعد من الممكن الاستغناء عنها لأنها المحرك الأساسي للاقتصاديات العالمية ،وتؤثر مصادر الطاقة كمورد إستراتيجي على إتباع سياسة خارجية نشطة من عدمها و على مكانة الدولة و تموقعها  في النظام الدولي فالدول المتطورة صناعيا تولي اهتماما بالغا بقضية تأمين متطلباتها حتى لا تتأثر صناعتها و نموها الداخلي،في حين تعمل الدول المصدرة على كيفية استغلال تلك الميزة في سياساتها الخارجية لتحقيق هامش من المناورة،بناءا على ما سبق ذكره نطرح التساؤل الرئيسي التالي:ما مدى توفر مصادر الطاقة  من عدمها على السياسة الخارجية للدول  لتأمين أمنها الطاقوي؟ 

التساؤلات الفرعية:

  • ماهو المقصود بالأمن الطاقوي؟
  • ماهي الترتيبات التي تلجأ إليها الدول المستوردة لضمان تدفق الطاقة لها؟
  • ماهي الترتيبات التي تلجأ إليها الدول المصدرة لتأمين مصادر الطاقة؟

فرضية الدراسة :

هناك علاقة وثيقة بين القدرات القومية للدولة من موارد طاقوية و نشاط سياستها الخارجية على المستوى الإقليمي و الدولي.

أهمية الدراسة:

تحديد مفهوم أمن الطاقة و تحليل دوافعه و أهدافه في السياسات الخارجية ،و تحديد الأولويات المطروحة لمواجهة تحديات الطاقة.

سيتم تناول الدراسة من خلال الخطة التالية:

المحور الأول :الأمن الطاقوي في العلاقات العلاقات الدولية

  • 1-تعريف أمن الطاقة
  • 2-تصور الطاقة في نظرية العلاقات الدولية

المحور الثاني:مكانة الطاقة في السياسة الخارجية

  • 1-توظيف الطاقة في السياسة الخارجية
  • 2-البعد الطاقوي كأحد محددات السياسة الخارجية

المحور الأول :الأمن الطاقوي في العلاقات الدولية

1-تعريف أمن الطاقة:

 يرجع أصل  كلمة طاقة إلى الكلمة اليونانية ” energie”  بمعنى القوة في حالة الحركة ، و هي عنصر أساسي يعتمد عليه الإنسان في حياته اليومية ، و يصعب تحديد تعريف دقيق للطاقة لأنها ليست شيئا ، و لا تأخذ شكلا مميزا كمادّة ، و لا تشغل حيزا ، فهي ليست شيئا ماديا كباقي الأشياء ، غير أنها مصدر كل حركة. و قد حاول البعض تعريفها بالقول أنها ” القدرة على أداء عمل ، فالطاقة الكلية لأي جسم يرجع أصل  كلمة طاقة إلى الكلمة اليونانية ” energie”  بمعنى القوة في حالة الحركة ، و هي عنصر أساسي يعتمد عليه الإنسان في حياته اليومية ، و يصعب تحديد تعريف دقيق للطاقة لأنها ليست شيئا ، و لا تأخد شكلا مميزا كمادّة ، و لا تشغل حيزا ، فهي ليست شيئا ماديا كباقي الأشياء ، غير أنها مصدر كل حركة. و قد حاول البعض تعريفها بالقول أنها ” القدرة على أداء عمل ، فالطاقة الكلية لأي جسم تعتمد على موضعه و حالة حركته و حالته الداخلية و تركيبته الكيميائية[1].

يعد مفهوم أمن الطاقة مفهوما جديدا ، حيث أن “تشرشل” هو أول من طرح تعريفا لهذا المفهوم حين أشار إلى أن :” أمن الطاقة يمكن في التنوع و التنوع فقط”. و قد كان يقصد من خلال تعريفه التأكيد على  تنويع المصادر الطاقوية و عدم الاعتماد على مصدر واحد.

كما ارتكز الاقتراب التقليدي في التعامل مع قضية أمن الطاقة على أمن العرض من خلال السعي لضمان توفير الإنتاج كافي من مصادر الطاقة بأسعار معتدلة ، و ذلك بالتركيز   بالأساس على جوهر أمن الطاقة الذي يكمن في تأمين دخول النفط و أنواع الوقود الأخرى ، لأن أمن الطاقة بالنسبة لأي دولة يتحقق فقط في حالة واحدة و هي أن تتوافر لديها موارد طاقوية  آمنة و كافية[2].

إذن فالتعريف التقليدي ارتكز على تجنب أزمات الطاقة. ويقصد بـ : أزمة الطاقة ذلك الموقف الذي تعاني منه دولة ما من نقص في العرض من مصادر الطاقة،و هو يتزامن مع ارتفاع سريع في الأسعار بشكل يهدد الأمن القومي و الاقتصادي.عزز هذا الاتجاه من خلال التركيز على أمن العرض كأساس لأمن الطاقة،حيث أن أزمات الطاقة التي شهدها العالم في القرن العشرين ارتبطت بنقص الإمدادات مما دعم فكرة أن تحقيق أمن العرض من شأنه تحقيق أمن الطاقة.و يثير تعريف أمن الطاقة على أن توفر الإنتاج الكافي من مصادر الطاقة بأسعار في متناول الجميع يطرح عددا من الإشكاليات منها إشكالية السعر المناسب فكلمة السعر المناسب تختلف بين وجهة نظر الدول المنتجة و الدول المستهلكة ؟ فالسعر المناسب هو عندما تكون أسعار النفط و الغاز الطبيعي مرتفعة بما فيه الكفاية لتعود بعائد كبير على الدول المنتجة ، و أن تكون منخفضة بما فيه الكفاية بما يناسب الدول المستهلكة[3].

أما الأمم المتحدة قد عرفت أمن الطاقة سنة 1999 بأنه:”الحالة أو الوضعية التي تكون فيها إمدادات الطاقة متوفرة في كل الأوقات ، و بأشكال متعددة و بكميات كافية و بأسعار معقولة”. هذا التعريف حصر أمن الطاقة في توفر الإمدادات بالكميات و الأسعار المناسبة. لأن اهتمام الأمم المتحدة بوضع تعريف لأمن الطاقة ، يعود لقناعة مفادها أن العامل الطاقوي حيوي لضمان مستقبل أفضل للبشرية،و استمرارية النمو الاقتصادي و الحفاظ على الأمن و السلم الدوليين اللذان يمكن أن يكونا محلّ تهديد في حال عدم تلبية الاحتياجات الطاقوية لمختلف المجتمعات و الدول. و نجد الباحث “كسين شنغ ليو” ( xecheng liu) من مؤسسة “ستانلي” عرج إلى تعريف  أمن الطاقة بأنه : “أمن الإمدادات لضمان ديمومة دخول إنتاج الطاقة العالمية ، ومن الطلب كحماية البيئة من مخاطر الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية ، و تزايد الإنبعاثات الناجمة عن تزايد نسب الاستهلاك  و استعمال المصادر الطاقوية الملوثة و هذا واحد من الأبعاد الكثيرة التي يتضمنها أمن الطاقة.[4]

فنجد هذا التعريف موسع لأنه لم يحصر الأمن الطاقوي في أمن الإمدادات ،بل ركز على عنصر جد مهم و الذي يتمثل في حماية البيئة من استغلال غير عقلاني لمواردها، و التلوث…

و قد ورد في مقال لـ ” جوناتان الكيند”Jonathan Elkind  الذي يحمل عنوان ” الأمن الطاقوي : نداء إلى توسيع الأجندة “Energy Security :Acll for brouder Agenda” أن التعاريف التقليدية للأمن الطاقوي قد شملت ثلاث عناصر أساسية وهي :

الوفرة  Avaibility  ، الموثوقية Rebiability  ، القدرة Affordabilitity

1 –  الوفرة Avaibility : ينبع أمن الطاقة في المقام الأول من توفر الخدمات و السلع الطاقوية،و قدرة المستهلكين على تأمين الطاقة التي يحتاجون إليها ، و تتطلب الوفرة وجود أسواق طاقوية أين يتاجر كل من المشتري و البائع بهذه السلع و الخدمات ، بشرط اتفاق الطرفين على مراعاة المصالح الاقتصادية و التجارية و السياسية و غيرها. و مع ذلك فإن قوة كل لاعب في السوق و مهارته في سبيله نحو تحقيق مصالحه الذاتية هو الذي يحدد شروط التجارة لصالح هذا الطرف و ذاك.

2 – الموثوقية  Rebiability : تنطوي الموثوقية على مدّى الحماية التي تتمتع بها خدمات الطاقة من الانقطاع ، فالطاقة هي اللّبنة الأساسية في النشاط الاقتصادي و الحياة اليومية و يتهدد انقطاعها بالقدرة على تشغيل المصانع و إنارة المستشفيات و تدفئة المنازل بشكل مستمر و يشمل تعزيز الموثوقية الطاقوية بتنويع مصادر التزويد و كذلك سلسلة التوريد المستخدمة في نقل الطاقة ، و الحدّ من الطلب عليها ،و خلق خزانات للطوارئ و تطوير المزيد من البنى التحتية.

3 – القدرة Affordabilitity   : يعاني في الواقع و بشكل مزمن ما يقارب 1.8مليار نسمة في العالم مما يشار إليه أحيانا بفقر الطاقة فهؤلاء بالنسبة لهم الأمن الطاقوي يختلف عن ذلك في العالم المتقدم ،فهو بالنسبة لهم الوصول إلى الطاقة لتزويدهم بالاحتياجات الأساسية هنا الأمن الطاقوي يرتبط أكثر بموثوقية الإمدادات و الوصول إلى موارد الطاقة بكميات كافية  ، و القدرة على تحمل التكاليف ، و الحماية من انقطاع إمدادات الطاقة[5].

فرغم أن بداية طرح و استخدام مفهوم الأمن الطاقوي تعود إلى فترة الحرب العالمية الأولى   إلا أن العقود القليلة الأخيرة شهدت مجموعة من التحولات التي كشفت عن عدم كفاية المفهوم التقليدي لأمن الطاقة و دفعت باتجاه طرح تعريفات جديدة للمفهوم ، و التي تختلف بشكل جذري عن مفهوم الأمن و المرتكز على أمن العرض.

وقد جاءت تلك التغيرات نتيجة للتحولات التي شهدها شقي مفهوم الأمن الطاقوي ، قضية الطاقة على المستوى العالمي عرفت تغيرات كثيرة كنتيجة للتحولات التي مست مفهوم الأمن في فترة ما بعد الحرب الباردة ، حيث لم يصبح غياب أمن الطريقة مرتبطا بوقف الإمدادات فحسب ، حيث برز ما يطلق عليه وطنية الطاقة Energy Nationalism لأن وقف الإمدادات لم يعد آلية ضغط ملائمة يمكن أن تستخدمها الدول المنتجة كسلاح استراتيجي في علاقاتها الدولية ،و بدلا من ذلك اتجهت حكومات تلك الدول إلى إحكام سيطرتها على هذا القطاع من خلال التأميم ، كما اتجهت غالبية الدول النامية إلى إنشاء شركات وطنية للطاقة (80% من مصادر الطاقة التقليدية حاليا تحت سيطرة الحكومات )و على الجانب الأخر فإن الدول المستوردة و رغم اعتراضها على فكرة وقائية الطاقة التي تطالب بها الدول المصدرة  فقد لجأت إلى تبني وطنية الطاقة بشكل مختلف فالمفهوم على الأمريكي  الحالي لأمن الطاقة الذي يقوم على عدة عناصر في مقدمتها خفض اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على الواردات النفطية، عن طريق الترويج لأنواع وقود منتجة محليا مثل “الإيثانول ” فهي إن كانت لدى الدول المنتجة تركز على التحكم في سلسلة الطاقة ، فهي لدى الدول المستهلكة تأخذ شكل البحث عن بدائل أخرى بهدف تقليل واردات النفط و الغاز الطبيعي.

و يمكن فهم مصطلح أمن  الطاقة بالنسبة للدول المستوردة للطاقة في تلك الفترة أي قبل سبعينيات القرن العشرين ، باعتباره يهدف بالدرجة الأولى إلى توفير إمدادات كافية و آمنة و رخيصة من الموارد الطاقوية  بما يضمن استمرار النشاط و النمو الاقتصادي بشكل مستقر، و بما أن النفط كان يساهم بحوالي 50% من إجمالي استهلاك الطاقة العالمية أندك ، يمكننا القول أن الحفاظ على استمرار الإمدادات النفطية كان العامل الأساسي لمفهوم الطاقة في ذلك الوقت.[6]

لكن مفهوم الدول المستهلكة لأمن الطاقة لا يعني فقط توفر كميات كافية من تلك المصادر بأسعار مناسبة على المدى البعيد (حوالي 50 سنة)، بل كيفية ضمان  الحصول على هذه الكميات من الطاقة بشكل مستمر و أمن ، مع إمكانية تعويض ما قد يترتب عن أي توقف لأسباب تكون خارجة عن سيطرتها من خلال توفر سعة إنتاجية إضافية يمكن ضخها في السوق متى دعت الحاجة لذلك[7].

و هناك فريق يتبنى تعريفات واسعة للمفهوم بإدخال التطور التكنولوجي و عمليات النقل ، فأمن الطاقة يكون من خلال تأمين سلسلة عرض الطاقة على مستويات ثلاث : التنقيب و الإنتاج و يشمل العوامل الخارجية المؤثرة على أمن الطاقة  مثل العوامل الإنتاجية المرتبطة بالمستوى الأوسط  فتتعلق بخطوط نقل الغاز و النفط و على المستوى الأدنى ، فإن أمن الطاقة يتحقق بضمان النقل و التوزيع الأمن لموارد الطاقة إضافة إلى الاستثمار و صيانة محطات التكرير و شبكات النقل و التوزيع و إمكانيات التخزين ، إضافة إلى الأنظمة القانونية و التطبيقية[8].

إن تنوع هذه الأدبيات تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المتعددة الوجوه لمصادر الطاقة ، إذ تلعب دورا حيويا في الإنتاج خاصة في عدة قطاعات مختلفة و المكاسب المالية من ناحية زيادة المنافع خاصة ما يتعلق بتجارة النفط ، كذلك المعرفة التي تتعلق بالتطور التكنولوجي في القطاع الطاقوي و البيئي ،بالإضافة إلى الأمن الذي يتضمن دور المؤسسات الدولية التي تسعى  لضمان إمدادات الطاقة أو اللّجوء إلى التدخل المباشر في المناطق المنتجة للنفط .

كخلاصة : إذا تعريف أمن الطاقة بصورة دقيقة  يبرز من  خلال :

موثوقية إمدادات الطاقة باختيار كل من مصادر الطاقة و الموارد، بشكل متوفر محتمل ضمن اطار تنافسي و هذا بهدف تنويع المصادر و موارد الطاقة بما يضمن أمن الإمدادات .

موثوقية نقل الإمدادات بحيث تكون شبكات النقل متوفرة وموسعة ، ويجب عرض العديد من طرق النقل لخلق جوّ من  المنافسة كخيارات محتملة بين الموردين.

موثوقية التوزيع و التسليم لهذه الإمدادات إلى المستهلك النهائي و هذا طبقا لمعيار الوقت و النوعية بدون تمييز و بأسعار معقولة.

تصور الطاقة في نظريات العلاقات الدولية

أصبحت الدول تعتمد على قدراتها الاقتصادية أكثر من قدراتها العسكرية. ما جعل الأهمية الاقتصادية في ظل المتغيرات الدولية الجديدة الحاصلة تتزايد بشكل كبير، و بما أن الطاقة أحد مكونات الأمن الاقتصادي ، فنجد أن نظريات العلاقات الدولية في جل محاولاتها للتركيز على الأمن الاقتصادي كانت تشير في الغالب إلى الأمن الطاقوي خاصة و أن الأمن الطاقوي : على خلاف بقية السلع الاقتصادية له أهمية بالغة لأن الطاقة تعتبر مصدرا اقتصاديا  حيويا ، فأهمية القطاع الطاقوي كقطاع فرعي للأمن تكمن في كونه أحد أهم مسائل الأمن الوطني ، حيث أن العلاقات التي تنتج بين الدول المنتجة و الدول  المستهلكة لمصادر الطاقة تخلق حالة من عدم الاستقرار خاصة إذا كان هناك عجز في تموين الدول المستهلكة من قبل الدول المنتجة ، ما يجعل الدول المنتجة في حالة تأهب لاستعمال القوة العسكرية ، أو يجعل الدول المنتجة تستخدم مصادرها الطاقوية كسلاح استراتيجي إما بتوظيفه بشكل مباشر أو غير مباشر.

يذهب المنظور الواقعي : إلى أن الدولة هي المرجعية الأساسية في التحليل و تحصر الأمن في البعد العسكري فقط ، و هي لا تصنف العامل الاقتصادي ضمن السياسات العليا ، إلا أن الأمر بالنسبة للنفط كان دائما مغايرا و مختلفا . حيث نجد بعض المفكريين الواقعيين أمثال “ريتشارد يولمان” و “جيسيكا ماتيوس” اهتموا بالأبعاد السياسية و الاقتصادية في اطار توسيع مفهوم الأمن ، فقد لاحظوا أن البعد السياسي سجل وجوده حتى خلال الحرب الباردة، و ذلك في النقاش حول الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية . و تم ربط الاعتماد المتبادل في المجال الاقتصادي و التبعية النفطية بالأمن القومي مطلع السبعينيات من القرن العشرين ، و اعتبر الكثير من الدارسين أن  التجارة الخارجية كسياسة أمن قومي نظرا لتطور و تشابك العلاقات الاقتصادية[9]. كما أن المنظور الواقعي التقليدي يربط البعد الاقتصادي للأمن الذي يتمثل في القوة العسكرية للدولة ، فالأمن الاقتصادي يعني الأسس الاقتصادية و المالية للقوة العسكرية للدولة ، و التي تساعدها للدخول في سباق التسلح ، وهو ما يستدعي ضرورة انسجام تطلعات الدولة مع القدرات و الامكانيات المتاحة لها . كما يمكن تحويل قوة عمل القدرات الإنتاجية من المجال المدني إلى أغراض الإنتاج العسكري.

المنظور الليبرالي : نجد ضمن تياراته نظرية الاعتماد المتبادل في تفسير العلاقات الدولية التي  تركيز على البعد الاقتصادي .فقد جسدت الثورة الصناعية فكرة الاعتماد المتبادل بين الدول ، بحيث جعلت كل دولة بحاجة ماسة إلى دولة أخرى لتوفير مستلزماتها و تسويق منتجاتها السلعية ، و هذا الاعتماد المتبادل وضع الأمن الاقتصادي لكل دولة تحت سيطرة دولة أخرى[10]. و من خلال فكرة الاعتماد المتبادل المركب التي طرحها “روبرت كيوهان” و “جوزيف ناي” التي برزت في  الفترة التي أعقبت الحرب الباردة ما زاد من العلاقات التعاونية و توزيع الإمكانات و الموارد المتاحة بين الوحدات الدولية. وبذا نجد أن للأمن الطاقوي برز في هذا الشق حيث أن الاعتماد المتبادل من تقاسم الموارد المتاحة ، من شأنه أن يخلق علاقات سلمية بين الدول بذلك نجد أن العلاقة بين الدولة المنتجة و المستوردة للمصادر الطاقوية هي علاقات وطيدة بحكم الحاجة المتبادلة بين الطرفين فالدول المنتجة تحتاج لتصدير مواردها ، أما الدول المستهلكة فإن نشاطها الاقتصادي مربوط بتلك الموارد خاصة ، و نظرا لكون معظم الدول الصناعية الكبرى ، غير قادرة على تحقيق تأمين حاجياتها النفطية ، فإن سياستها الأمنية و الطاقوية ستتجه إلى تحقيق أو ضمان تدفق النفط من المناطق النفطية يشتى الوسائل. الأمر الذي يجعل كل طرف مرتبط بالأخر و يحرص علا عدم نزع هذه العلاقات ، و لعل أهم طرف كذلك هي دول العبور التي قد تشكل  تهديدا لطرفين السابقين لكن في حال إشراك هذه الأخيرة في العلاقة من خلال ربطها بمصالح أخرى من خلال منتجات و سلع ما ، فإن ذلك سيجعلها تسعى بدورها لضمان استمرارية تلك العلاقات.من خلال وجود الانجراحية و الحساسية كمحرك لهذه العلاقات .

أما فكرة القوة الناعمة  Soft Power  التي تشير إلى القدرة على تحقيق الأهداف عن طريق الاستمالة لا الإكراه ، فنجد أن دولة ما إذا كان لديها القدرة على تفعيل إمكانياتها (خاصة لمصادرها الطاقوية ) لتبلغ أهدافها ، يبرز ذلك  جليا  في محددات الساسة الخارجية للدول التي تمتلك تلك الموارد الطاقوية و تقوم بتوظيفها.

النظرية النقدية : تعتبر أن البعد الاقتصادي للأمن مرتبط بالبنية الاقتصادية ، و أن الأمن الاقتصادي هو ضمان رخاء الفرد و و تحريره  من الحرمان و ضمان الرفاهية  و الازدهار له و ذلك يكون  بتوفير الحاجيات الأساسية التي يأتي في مقدمتها الموارد الطاقوية بغرض تحقيق التقدم و الازدهار في المجلات الأخر. كما أن ربط النقديون الأمن بعناصر متعددة لتوسيع مفهومه نجد من بين هذه العناصر مسألة  زيادة الاعتماد المتبادل الدولي في المسار الإنتاجي ، سيجعل هذه المسارات ، كما هو حال بعض الدول التي تعتمد بشكل كبير في إنتاجها على التزود بمصادر الطاقة التي تقوم باستيرادها[11]

و يذهب في هذا الإطار الاتجاه النظري لدراسات بحوث السلام الذين اهتموا بالبعد الاقتصادي للأمن ، نجد مثلا : ” باري بوزان” إلى أنه يمكن إدراك الأمن الاقتصادي من خلال عدة مؤشرات من بينها[12]:

  • اشتداد حالات عدم التوازن الاقتصادي بين الدول و الضغوط التي يخلقها الاختلاف في الثروة و التطلعات بين الدول.
  • التنافس الدولي الحاد على مصادر الطاقة و الوصول إلى الأسواق الاستهلاكية من خلال استغلال التبعية الاقتصادية نظرا لحساسية العلاقات الطاقوية الدولية التي يمثل النفط أهم عناصرها.

و هنا يبرز باري بوزان  قطاع فرعي ضمن القطاع الأمني الاقتصادي ،و هو الأمن الطاقوي الذي يشمل خاصة الغاز و النفط ،هذا الأخير الذي يغطي نسبة 40%من العرض العالمي الطاقة الدولية،و المتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى حدود 30 %مع حلول سنة 2030.

وعلى أساس نظرية مركب الأمن الإقليمي “لباري بوزان” :”التي تعتبر أن مجموعة من الوحدات التي تترابط عملياتها الخاصة بالأمننة ، و لا يكون من المعقول تحليل مشاكلها الأمنية بمعزل عن بعضها”. و بتوسع نظرية الأمن الإقليمي ضم قطاعات أمنية عديدة.و انطلاقا من نظرية الأمن الإقليمي لبوزان . ينظر “باونكوربي” إلى قضية أمن الطاقة كمسألة ذات أبعاد متصلة بالتفاعلات الإقليمية الأمنية المتعددة، يكون الأمن الطاقوي جزء جد بارز في مركب الأمن لمجال إقليمي معين ، يسمى “مركبات أمن الطاقة” التي تنتج عن تفاعلات طاقوية مترابطة بين أكثر من دولة في نفس الإقليم الجغرافي ، تربط بينها علاقة تبعية طاقوية ، و يكون إدراك تلك التبعية بين تلك الدول على أنه تهديد (أمننة) ، و يضم التفاعل الطاقوي علاقات عابرة مثل الإنتاج : بالنسبة للدول المصدرة ، الشراء :بالنسبة للدول المستوردة ، و عبور الطاقة :بالنسبة لدول التي تمر بها الطاقة[13].

المحور الثاني:مكانة الطاقة في السياسة الخارجية  

 أصبح الأمن الطاقوي يحتل مكانا بارزا في أولويات السياسة الخارجية للدول ، خاصة بالنسبة الدول المستوردة للطاقة.  حيث نجد في تصريح قدمه الرئيس الأمريكي السابق “جورج دبليو بوش”   Gerge.W.Bush  في مارس 2001  قال : بأن الأمن الطاقوي ينبغي أن يشكل أولوية في السياسة الخارجية الأمريكية ، و قد تبنى كبار المسئولين في دول صناعية مثل الاتحاد الأوروبي ، روسيا، و الصين  نفس الرأي ، مركزين على أهمية قضايا الطاقة و مدى تأثير توفر مصادرها على السياسة الخارجية للدول.لأنه في غالبا ما تكون الموارد الطاقوية محددا أساسيا في توجهات السياسات الخارجية للدول ،خاصة إذا تعلق الأمر بالدول المصدرة ، خاصة و أن الموارد الطاقوية سببا أساسيا للصراعات و الحروب التي عرفتها البشرية.

توظيف الطاقة في السياسة الخارجية:

إن التأمل في تعريفات السياسة الخارجية الواردة في الدراسات العالمية يبرز عدم وجود اتفاق حول تعريف موحد، و يمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح من خلال تناول تعريفاتها مختلفة ، فهناك من يعرفها على أنها سياسة الدولة تجاه بيئتها الدولية[14]

ونجد فاضل “زكي محمد” يعرفها بأنها :”الخطة التي ترسم العلاقات الخارجية لدولة مع غيرها من الدول[15].. في تعريفه ركز على الدولة كفاعل رئيسي و أغفل الوحدات السياسية الأخر من غير الدول ،إذ أن نطاق الوحدات السياسية الخارجية يتسع ليشمل المنظمات الدولية ،والشركات المتعددة الجنسيات…و غيرها من الفواعل الغير الدولية[16]

و من بين هذه التعريفات نجد تعريف “حامد ربيع” فهو يعرفها بأنها :”جميع صور النشاط الخارجي حتى و لو لم تصدر عن الدولة كحقيقة نظامية ، إن نشاط لجماعة كوجود حضاري أو التعبيرات الذاتية أي كصور فردية للحركة الخارجية تنطوي و تندرج تحت هذا الباب الواسع الذي نطلق عليه السياسة الخارجية”. طبقا لهذا التعريف تنصرف السياسة الخارجية إلى النشاط الخارجي أو الحركة الخارجية للدولة أو غيرها من الوحدات ، فهو قدم صياغة أكثر شمولية من التركيز فقط على الدولة كفاعل وحيد في السياسة الخارجية[17].أما “فلادميرسوجاك”Vladimir Sojack   فيعرفها بأنها :”أساس نشاط الدولة الموجه نحو تأمين مصالحها للدول الخارجية ، من خلال العلاقة مع الدول الأخرى ، أو عناصر الجماعة الدولية الأخرى[18].هذا التعريف يفترض أن السياسة الخارجية تحد من خلال أهدافها ، فهي توضع من خلال المصالح الوطنية المتوخاة من نشاطاتها في المحيط الدولي ، و علاقاتها مع وحدات النظام الدولي و هذا ما ذهب إليه كل من “بلاتو” Blanou و “أولتون” Olton حيث عرفا السياسة الخارجية بأنها:”منهج تخطيط للعمل يبلوره صانعي القرار في الدولة تجاه الدول أو الوحدات الأخرى ، بهدف تحقيق أهداف محددة في اطار المصلحة الوطنية[19].

و يمكن اعتبار أن “جيمس روزنو” James Rosenou قدم أكثر التعريفات شمولا ، حيث عرفها بأنها: “التصورات السلطوية التي تتخذها أو تلتزم باتخاذها الحكومات ،إما للمحافظة على الجوانب المرغوبة أو لتغيير الجواب غير المرغوبة[20].

باستثناء تعريف “روزنو” فإن التعاريف السابقة لا تحدد كل الأبعاد لعملية السياسة الخارجية ، فبعض التعريفات جاءت بشكل عمومي ، فيما اقتصر البعض الأخر على جعل الدولة القومية تمثل الفاعل الأساسي في مجال السياسة الخارجية.

ونظرا لأهمية الطاقة في السياسة الخارجية ،خاصة و أن  تأمين مصادر الطاقة من النفط و الغاز الطبيعي شكل حيزا مهما في السياسة الخارجية للدول المستوردة للطاقة ، غير أن هناك تفاوت واضح بين الدول  فيما يخص الأدوات المستخدمة لذلك و طبيعة الاهتمام و محددات السياسة الخارجية لكل منها[21]. و قد بدأ  استعمال الطاقة كأداة في السياسة الخارجية منذ  فترة ، و يعد  أول مثال على ذلك  قرار عصبة الأمم خلال الحرب العالمية الثانية بحضر البترول على إيطاليا بعد عدوانها على الحبشة (أثيوبيا حاليا)،أما المثال الثاني فتمثل قرار رئيس وزراء إيران الدكتور “مصدق” عام 1951 أثناء إعلانه عن تأميم صناعة البترول ، تلك السياسة كانت بمثابة انتقال ثوري في منطلق العلاقات بين الدول المستوردة ، و الدول المصدرة.

فأثر قرار ” جمال عبد الناصر” لتأميم قناة السويس للملاحة البحرية  لمدّة عام واحد أي منذ عام  1956 إلى عام 1957 ، لجأت الدول إلى استعمال رأس الرجاء الصالح ، لكن ذلك الأمر خلف لها العديد من  المتاعب مالية و اقتصادية. و قد جعلت هذه الأزمة الدول الأوروبية تتخذ قرارات جديدة ، و تفرض قيود على توزيع البترول لأغراض إنتاجية و الاستهلاكية ، و بهذا الشكل برزت أهمية الأمن الطاقوي في السياسات الخارجية للدول بشكل بارز ، ما جعل الدول تعيد ترتيب أولوياتها بحكم حاجاتها الطاقوية و أساليب ضمانها . و إذا اتبعنا التسلسل التاريخي لاستعمال النفط  كأداة في الساسة الخارجية أيضا،نجد كذلك مقاطعة كوبا عام التي تعرضت للحصار الاقتصادي 1960 ، غير أن وقوف الاتحاد السوفياتي بتقديم بتروله لها بسعر منخفض ، مقابل مقايضته بسلع أخرى ، و تعهده بشراء خمسة ملايين من أطنان السكر الكوبي ، بالوقوف إلى جانب كوبا في تلك المرحلة[22].

كما أن إعلان  مجموعة من الدول العربية إيقاف ضخ بترولها لكل من الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا و ألمانيا الغربية، و فق إستراتيجية الحظر التي كانت في شهر جوان 1967 ، وأيضا اجتماع جبهة الاقتصاد و التشريع بالقاهرة في 15 جويلية 1967 ، وما ترتب عنه من توصيات أهمها : حثّ الدول العربية على التنسيق في سياساتها البترولية لتهديد المصالح الأمريكية و الأوروبية ، بغرض توظيف قدراتها البترولية في و الحرب على اسرائيل.

أما أزمة النفط 1973 بدأت عندما قام أعضاء مجموعة من الدول العربية المصدرة للبترول بإعلان حظر نفط بغرض دفع الدول الغربية لإجبار اسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة في حرب 1967 ، و في الوقت نفسه اتفق أعضاء “أوبيك” (إيران ، السعودية ،العراق ، الكويت، فينزويلا ) على استخدام نفوذهم كآلية لضبط أسعار النفط في أنحاء العالم من أجل رفع لأسعار، بعد فشل المفاوضات مع شركات النفط الكبرى.

و لكون قضية تأمين الطاقة تحتل أهمية كبيرة في السياسة الخارجية للدول المستوردة للطاقة، فأن تلك الدول دائمة السعي لتأمين مصادر طاقة عالية الجودة بأسعار منخفضة. لذا تبني كافة الدول الصناعية المستهلكة للطاقة سياساتها خارجية انطلاقا من أربع مبادئ هي : تنويع موارد الطاقة ، تنويع ايرادات الطاقة ، و تقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط . و البحث عن أسعار خيالية.  فمثلا ربطت الولايات المتحدة الأمريكية  سياستها الخارجية للحفاظ على أمن الطاقة بالاعتماد على الشرق الأوسط و افريقيا من خلال المساعدات الاقتصادية و العسكرية و بسعيها لتفعيل مبدأ تنويع مصادر الطاقة ، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في الاعتماد على منطقة آسيا الوسطى و القوقاز ببناء قواعد عسكرية فيها، ومدّ خطوط انابيب نقل النفط .و بذلك يمكن القول أن محدودية مصادر الطاقة بالولايات المتحدة الأمريكية  لم تؤثر سلبا في سياساتها الخارجية ، بل زادتها حده.

و كذلك الحال مع الصين ، حيث لم يؤثر دورها الدولي سلبا في سياساتها الخارجية بسبب محدودية مواردها الطاقوية ، رغما اهتمامها  بتأمين مصادر الطاقة و قامت بالمزج بين الاستثمار و تقديم المساعدات و القروض ،و إلغاء بعض الديون للدول المصدر لتضمن إمداداتها ، و لم تلجأ للسياسات الاستفزازية و التوسعية ،و لم تفرض مجالات التعاون و الاستثمار على تلك الدول من خلال احترام خصوصية كل دولة ، في ظل مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول[23].فهي ركزت في أغلب الأحيان على تدعيم الروابط الدبلوماسية و الزيارات المتبادلة للتمهيد لشركاتها الوطنية للدخول في استثمارات في الدول المنتجة للنفط. بعكس الولايات المتحدة الأمريكية التي مزجت بين أدوات القوة للينة soft power  بداية من خلال الدخول في تحالفات مع الدول العربية المنتجة للنفط في الشرق الأوسط ، و القوة الصلبة hard power التي استعملتها لتأمين حاجياتها من مصادر الطاقة عبر التدخل العسكري و نشر القوات العسكرية ، و هو ما يتنافى بشكل كبير مع أسس السياسة الخارجية الأمريكية[24].

2- البعد الطاقوي كأحد محددات السياسة الخارجية للدول:

تصوغ أي دولة سياستها الخارجية انطلاقا من جملة من المحددات ، و عادة ما تكون هذه المحددات عبارة عن مجموعة من العوامل المتنوعة التي تساعد الدولة على رسم و تحديد سياستها الخارجية و تختلف هذه الأخيرة بحسب إمكانيات كل  دولة . و نجد من أبرز هذه العوامل التي تساعد الدول على تحديد توجهاتها الخارجية العوامل الاقتصادية ، خاصة إذا تتعلق بالمصادر الطاقوية بالنسبة للدول التي تعتمد بشكل مباشر عليها ،حيث أن للمصادر الطاقوية تأثر كبير على مكانة الدولة ، ومدى فعالية نشاطات سياستها الخارجية وذلك من خلال ما تطرحه من بدائل و مجالات تسمح لصانع القرار من التحرك.

وقد أضحى مفهوم أمن الطاقة أحد أبرز تجليات المفاهيم الأمنية التي بدأت تتشكل عقب الفترة التي تلت مرحلة ما بعد الحرب الباردة ،شأنه شأن العديد من المحددات التقليدية الأخرى،التي تساهم في تشكل السياسية الخارجية للدول[25]. إذ أن الدول المصدر للموارد الطاقوية تصوغ سياساتها الخارجية انطلاقا من هذه المحددات الاقتصادية ، خاصة تلك الدول التي تعتمد على مصادر الطاقة بشكل أساسي لبلوغ غاياتها المنشودة و تحقيق أهدافها الداخلية كمواجهة مختلف المشكلات التي تعترضها بفعالية ،و كذا في رسم سياساتها على المستوى الخارجي مثل سعيها في أن تكون لها سياسة خارجية نشطة. رغم وجود فروقات في تصور كل دولة لذلك التوظيف ،و أيضا ذلك يبقى مرهون بدور و مكانة كل دولة في النظام الدولي.

و لأن توفر مصادر الطاقة يعتبر عاملا أساسيا في رسم سياسة أي دولة ،لما له من تأثير كبير على تحديد توجهات السياسة الخارجية للدول و ذلك من خلال توظيف تلك الموارد إما بشكل مباشر أو غير مباشر:

*التوظيف المباشر:و يكون من خلال لجوء هذه الدول إلى وقف الإمدادات أو التهديد بوقفها. ولا يكون بالضرورة وقف الإمدادات راجع لاستخدام مصادر الطاقة كسلاح استراتيجي أو آلية ضغط، حيث أنه و خلال القرن العشرين كان هناك توقف في الإمدادات النفطية الذي نتج عن عدة أسباب تختلف من حالة إلى أخرى.[26]

*التوظيف غير المباشر : فيكون من خلال تأثير امتلاك موارد الطاقة على مكانة الدولة اقليميا و عالميا و كذا تحسين مكانتها التفاوضية ، إضافة إلى ما توفره من مصادر و فوائض مالية ضخمة تستخدم من قبل تلك الدول في مجال سياستها الخارجية لتحقيق أهدافها و مسؤولياتها القومية و الإنسانية[27].

لكن يعد التأثير الناتج عن توفر مصادر الطاقة على اتباع سياسة خارجية نشطة من عدمه،أمر مختلف من دولة إلى أخرى و محكوم بحسب وضعية كل دولة ، لأن توفر تلك المصادر له جوانب إيجابية مثل ما توفيره للدول مصادر مالية ضخمة لتحسين الأوضاع الاقتصادية ويساعدها في خلق مكانة معتبرة في النظام الدولي ، كما تسمح لها بالتحرك و القيام بنشاط دبلوماسي و المشاركة بفعالية  في المنظمات الدولية و الإقليمية ، و أيضا يسمح لها بالمساهمة  في تقديم المساعدات في كل الأزمات و الكوارث التي تشهدها دول العالم . كما  قد يكون لها تأثير سلبي من خلال الاستخدام المكثف الطاقة كوسيلة ضغط في السياسة الخارجية ، رغم أن توفر المصادر الطاقة بشكل كبير عند بعض الدول لم يساعدها في تحقيق أهداف سياستها الخارجية ولا  في تحسين مكانتها الدولية ، و غالبا ما ترجع الأسباب في ذلك إلى قيود و مشاكل داخلية نابعة من الدولة في حد ذاتها ، كسوء التسيير و الفساد السياسي… و العديد من العوامل الأخرى التي تعيق قدرات الدولة في تحسين وضعها ، كما قد تكون مصادر الطاقة سبب يجعل الدولة تواجه المشكلات و الاضطرابات و انعدام الأمن. فالعامل الأمني يبرز من خلال مواجهة مشكلات أمنية لأسباب سياسية. ولعل أبرز مشكل هو إرهاب النفط الذي يواجه الدول المنتجة للنفط مثل استهداف البنى التحتية للنفط  خاصة الأنابيب النفطية و محطات الضخّ ، أو مهاجمة شركات النفط و العاملين بها من قبل الجماعات الإرهابية .

كما أن أحد أكبر تهديد هو ذلك الذي ينتج عن العلاقة بين الدول المنتجة و دول العبور Transit States  ،حيث تمتلك دول العبور القدرة على بإعاقة النقل ،و هو ما يشكل تهديدا للدول المصدرة المعتمدة عليها لتنقل مصادر الطاقة للدول المستوردة كي توفير احتياجاتها من مصادر الطاقة ، في هذه حالة فإن تمكن تلك الدول من ايجاد بدائل من أجل نقل الطاقة ، كلما جعل ذلك التهديد يقل ، وكلما كان العجز زاد التهديد[28].

و أحد القيود الداخلية الأخرى التي قد تحد من أن يكون لتوافر مصادر الطاقة تأثير في تحقيق أهداف السياسة الخارجية للدول ، هو غياب المقومات الأخرى التي تساعد على تحقيق المكانة الدولية  لأن توافر المصادر الطاقوية بمفرده ليس كافيا لتحقيق أهداف السياسة الخارجية ،و إنما لا بد من توفر مجموعة من المقومات الداخلية الأخرى بما يساعد في تحقيق هذا الهدف[29]. لأن  الدول التي تعتمد فقط على مصادر الطاقة دون أي تنويع في اقتصادها تكون وضعياتها التنموية غير مستقرة. لأن الريع النفطي لا يؤثر على القطاع الاقتصادي فحسب بل يتعداه إلى الشؤون السياسية و رغم ما يمنحه النفط و الغاز من أفضلية للدول المنتجة إلا أن التجارب بينت بأنه لا يمثل محددا حتميا للتنمية الاقتصادية فالدراسات الخاصة بالدول المنتجة للنفط منذ بداية السبعينيات و هي الفترة التي شهد فيها العالم استرجاع معظم الدول النفطية لثرواتها الباطنية بينت أن دولا قليلة فقط استطاعت توظيف النفط لتحقيق التنمية و التصنيع  بينما كانت النتائج في القسم الأكبر منها سلبية[30].

وبذلك فإن تأثير القدرات القومية على تحقيق أهداف السياسة الخارجية محكوم بعوامل ترتبط بالدولة ذاتها (اقتصادية ، عسكرية ، سياسية ، اجتماعية وثقافية ) و مصادر الطاقة هي أحد تلك العناصر الأساسية ، و الأهم من ذلك هو مدى ادراك الدولة لطبيعة  و حجم القدرات التي بحوزتها، مقارنة بحجم قدرات الدول التي تتعامل معها.

و لكون المصادر الطاقوية تتركز في أيدي قوى دولية صغيرة ، فإن الدول الكبرى ترتبط مصالحها بتلك الدول فإنها بذلك  تسعى  جاهدة لضمان تلك الموارد ، من خلال منع الدول المنتجة للموارد الطاقة من  أن يكون لها تأثير أو مكانة  في النظام الدولي حتى لا تتضرر مصالحها و تضمن بذلك تحقيق أهدافها. فتجد الدول المصدرة نفسها  مضطرة للخضوع بحكم مصالحها المترابطة مع الدول الكبرى ،هذه الأخيرة تمتلك حلولا بديلة مثل الاعتماد على المخزون الاستراتيجي أو أن تعتمد على دول مصدرة أخرى و بتالي لا تمتلك الدول المصدر القدرة على إيقاف الإمدادات.

و على سبيل المثال نجد  كل من المملكة العربية السعودية و روسيا تستخدم مصادر الطاقة كأداة  في سياستهما الخارجية ، حيث أن روسيا وظفته حولي ستين مرة ، أما السعودية فقد اعتمدت عليه كبديل فقط عام 1973 ،و ذلك راجع لطبيعة الطرف المستهدف ،فالسعودية لم تستعمل التجربة مرة أخرى لأن  الطرف المستهدف هو الولايات المتحدة الأمريكية و قد كان غرضها هو تحقيق أهداف استراتجية ، أما روسيا فقد استهدفت بذلك التوظيف دولا كانت في السابق أعضاء في الاتحاد السوفيتي بغية  تحقيق أهداف أغلبها تكتيكية ، و رغم فشلها إلا أنها مازالت تتبع نفس السياسة ،لكن تعد السعودية أكثر نجاحا في تحقيق أهداف سياستها الخارجية كونها لم تعد لاستعمال تلك الأداة لأنها حققت هدفها،من خلال مقارنتها بروسيا[31].

الخاتمة:

لقد كان بروز عامل الأمن الطاقوي ( كأحد محددات الأمن الاقتصادي ) ، و قد شكل مسألة حساسة تصنف ضمن أولويات الدول ، و لكنه كمفهوم معقد يصعب تحديده بدقة ، نتيجة تباين مدلول المفهوم بين الدول المستوردة و الدول المصدرة للطاقة ، إضافة إلى تباين ذلك المفهوم بين دولة و أخرى داخل كل مجموع.

يجب التأكيد على أن أمن الطاقة ليس محصورا في أمن العرض ، بل يتطلب تحقيقه التعاون بين الدول المستوردة و الدول المستهلكة لمصادر الطاقة.

التعامل مع قضية الطاقة من منظور اقتصادي بعيدا عن الاعتبارات الأمنية بما يضمن توفر المصادر اللاّزمة للدول المستوردة  ، و ضمان سيطرة الدول على مصادرها القومية للطاقة ، بما يمكنها من تحقيق مكانة دولية و إقليمية أفضل بما يتوازن مع ما تستهلكه من مصادر للطاقة .

يمكن اعتبار مفهوم أمن الطاقة مفهوما في طور التبلور ، و لا تزال هناك لاجتهادات أكثر وزن في ظل التبلور ، و لا تزال هناك الحاجة لاجتهادات أكثر ، ليكون مفهوما متماسكا و يعطيه هويته المتميزة .

بالتركيز على مصادر الطاقة نجد أن امتلاك و افتقار الدول لمصادر الطاقة من شأنه التأثير على السياسة الخارجية للدول المختلفة ، سواء كانت مصدرة أو مستوردة ، غير أن هذا التأثير ليس مطلقا، بل محدود بحسب قدرة و تصور كل دولة.

بالعودة للتاريخ و تحليل الواقع نجد الكثير من الأمثلة عن تحول الموارد الطاقوية إلى موضوع النزاع  نتيجة أهمية الطاقة لاستمرار تقدم و رفاهية الدول ، فالبحث عن الموارد الطاقوية ، و عن الوصول إلى مناطق إنتاجها و فرض السيطرة عليها ، و تأمين نقلها و إيصالها للمستهلكين النهائيين ، لا يستبعد إنه يؤدي إلى نزاعات حادة ، بسبب ندرة الموارد الطاقوية .

الإحالات  :

-مهداوي عبد القادر ، الاستخدام السلمي للطاقة النووية بين حق الشعوب في التنمية و متطلبات الأمن الدولي ، أطروحة دكتوراه غير منشورة،(جامعة تلمسان الجزائر : كلية الحقوق و العلوم السياسية ،2013-2014) ،ص 13.

2- خديجة عرفة محمد ، أمن الطاقة و أثاره الاستراتجية، ( الرياض : جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية ،ط 1 ، 2014) ، ص 52.

3-    المرجع نفسه ،ص52-53 .

4- عبد القادر دندن ،الإستراتجية الصينية لأمن الطاقة و تأثيرها على الاستقرار في محيطها الإقليمي :آسيا الوسطى جنوب شرق آسيا ،أطروحة دكتوراه  ،(جامعة باتنة الجزائر:كلية الحقوق و العلوم السياسية،2012-2014) ، ص 46.

5- فوزية قاسي ، الإستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب :منطق الأمننة في الساحل الإفريقي ، أطروحة ماجستير غير منشورة ،(جامعة وهران الجزائر : كلية الحقوق و العلوم السياسية ، 2012-2013) ، ص 74-75.

6- ثائر محي الدين عزة ،” مصادر الطاقة المتجددة . حقائق الحاضر و خيارات المستقبل” ، في :

www .iasj. net/asj ?func = fulltest .& aid = 3328.

7- عبد القادر دندن ، مرجع سابق ، ص 53.

8- عرفة محمد ، مرجع سابق ، ص 60-61.

9- عبد النور بن عنتر،البعد المتوسطي للأمن الجزائري،الجزائر أوروبا الحلف الاطلسي(الجزائر:المكتبة العصرية للنشر و التوزيع و الطباعة ،2005)،ص.23.

10-ثامر كامل،دراسة في الأمن الخارجي العراقي و إستراتيجية تحقيقه(العراق:وزارة الثقافة و الإعلام،1985)،ص.26.

11- عبد القادر دندن ، مرجع سابق ،ص 38.

12- Victor-yves Ghebali, Brigitte Sauerwiein, European Security in 1990s: Challenge and Perspectives,(geneva:unidir,1995),p7.

13- عبد القادر دندن ، مرجع سابق ،ص 65.

14- زايد عبيد لله مصباح ،السياسة الخارجية ،(طرابلس :منشورات ELGA، 1994)،ص 8.

15- مثنى علي مهداوي،”واقع تدريس السياسة الخارجية في كلية العلوم السياسية” ، مجلة العلوم السياسية ،ع 38-39 ، ص 106.

16- زايد عبد لله مصباح ،مرجع سابق،ص.8.

17 محمد السيد سليم ، تحليل السياسة الخارجية ، (القاهرة : مكتبة النهضة المصربة ، ط 2 ، 1998 )  ،ص 7.

18- عامر مصباح ،تحليل السياسة الخارجية في العالم الثالث ،(الجزائر:منشورات قرطبة،ط1،2007)،ص 92.

19-[1]    أشواق عباس،”السياسة الخارجية”،في :

www.AHEWAR.org/Debat/show.Art.asp?aid=4355( 

20- محمد السيد سليم ،مرجع سابق ،ص11.

21- عرفة محمد ، مرجع سابق، ص 67.

22 عامر مصباح، مرجع سابق،ص.93.

23 المرجع نفسه ، ص 94.

24-http://WEB.ARCHIVE.org/web/2007/21350629.second Arab oil Embargo,1973-1974

25 إيمان الشادلي ، “أمن الطاقة و السياسة الخارجية : دراسة تطبيقية لسياسات بعض الدول المصدرة و المستوردة للطاقة، في :

 Digital.AHRAM.org/articles.aspx ?senal=/37047&rid(2016/01/07)    

26- عرفة محمد ، مرجع سابق، ص 67.

27- نجلاء محمد مرعي ،”الثورة النفطية و التنافس الدولي الاستعماري الجديد في افريقيا”،في :

Tiermonde.blogspot.com/2014/07/blog- post-25.hotmeil.

28- عرفة محمد ، مرجع سابق ، ص 259.

29- المرجع نفسه.

30 -Gareth Winrow ,Geopolitics and Energy Security in the Wider Black Sea Region , Southeast European,Black Sea Studies , Vol.7,No.2,June2007,p226.

30- عرفة محمد، مرجع سابق، 271.

31- نفس المرجع، ص. 260.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى