جدلية العلاقة بين القومية والشعوبية والأقليات وديناميات البناء الاجتماعي والسياسي العربي
اعداد : ممدوح غالب احمد بري – باحث فلسطيني مُختَص في التاريخ الإجتماعي والسياسي
- المركز الديمقراطي العربي
تعتبر حُقبة بزوخ فجر التيار القومي العربي من أكثر مراحل التاريخ العربي المعاصر جدلاً وغموضاً وتشعباً يُربك الدارسين، لما لها من تأثيرات جذرية على واقع المجتمع العربي سياسياً وإجتماعياً وثقافياً وإقتصادياً.
وتعتبر البدايات الأولى لتبلور الفكر القومي منذ نهاية الدولة العثمانية وبداية عهد الاستعمار الغربي، وبلاد الشام بؤرة ومَولِد هذا التيار منذ بداياتهِ، ولأسباب عدة أبرزها المناخات الثقافية المستجدة بفعل البعثات العلمية إلى الغرب، وتلقي إفرادها مختلف المعارف والعلوم ذات الطابع الإنساني والاجتماعي ببعده التاريخي والفلسفي وما احتواه من تجربة عايشتها القوميات الأوروبية الحديثة، وشاهد أفراد تلك البعثات واقع البلدان الأوروبية وما تعيشه من نهضة ورقي وتقدم، مما أوجد لديها صدمة حضارية، ودفعها نحو طرح نظريات ومفاهيم حول أسباب تخلف العرب.
ومن ضمن أسباب انتشار القومية في المشرق العربي وجود بعض الأقليات، وشعورها بالمظلومية خلال العهد العثماني، ورفضها تَقبُل حُكم الدولة الجامعة، وربما تعود جذور ذلك الرفض من طبيعة تركيبة تلك الأقليات المتحسسة تجاه حكم الأغلبية أو الأكثرية المتجانسة دينياً وثقافياً، أو المتعصبة لتراثها الحضاري السرياني …، وهذا واقع مجمل الأقليات الطائفية والعرقية، ولا سيما أن بلاد الشام تحوي تنوع سكاني فريد من نوعه، رغم وجود أغلبية مطلقة تَتبِع فقه اصحاب الذاهب السنية الأربعة وتسكُن في شمال “حلب وإدلب” وشرق “دير الزور والرقة” ووسط “حمص وحماة وحلب ودمشق” وجنوب “الأردن” وجنوب غرب بلاد الشام “فلسطين”، وتوجد غالبية الأقليات الشامية في جبال قريبة من الساحل الأوسط وتحديداً جبل لبنان ويسكنه الموارنة والأقليات النصرانية ويقع في وسط لبنان” ويسكن بلدات جبل عامل طائفة الإمامة الإثنا عشرية ويقع في جنوب وجنوب شرق لبنان”، وتسكن طائفة الدروز في بلدات منطقة الجبل ويشتمل على منطقة الجولان المحتل والسويداء ويقع جنوب سوريا الحالية” وتنتشر في الساحل الشمالي وتحديداً جبل علي الطائفة العلوية ومركزها اللاذقية وفي القلب منها مدينة القرداحة.
ووفق هذه التركيبة السكانية ظهرت بدايات القومية العربية، مدعية أن بإمكانها القضاء على سلبيات التعدد الطائفي، وانتشرت أفكار القومية في بلاد الشام لتستقر في بغداد والقاهرة، حيث تلقفها كُتاب وأدباء ومثقفي الأقليات في تلك الأقاليم، بينما لم تنجح القومية في باقي الأقاليم العربية لأسباب متعددة، وأهمها التجانس الديني والثقافي، ونمط الحياة المجتمعية السائدة في تلك الأقاليم خاصة في الخليج العربي والمغرب العربي.
وعند دراسة رموز الحركة القومية العربية في الشام بشقيها الثوري والتنظيري تجد أن غالبيتها تنحدر من الأقليات الشامية، أو رموز عائلية لها علاقات مع تلك الأقليات أو تحمل مشاعر الغضب نحو العثمانيين أو حكومة تركيا الفتاة “تيار قومي تركي”، ومن ضمن تلك الرموز والنخب القومية منذ البدايات الأولى المؤرخ جورجي زيدان والمؤرخ قسطنطين زريق والكاتب الصحفي ساطع الحصري والمفكر ميشيل عفلق …. والزعيم الثائر سلطان باشا الأطرش والزعيم الثائر صالح العلي …
وبعد تراجع دول الحلفاء عن وعودها للعرب “الشريف حسين بن علي والتيار القومي” حاولت بعض القيادات القومية الخروج من مناخات الحرج الشعبي والوجداني لذلك مارست دور ثوري طابعه المقاومة السياسية ضد الاستعمار الفرنسي والإنجليزي بعد أن خَسِرَت المُلك والنفوذ بعد إقصاء الملك فيصل عن حكم سوريا وتمزيق وحدتها في إطار دويلات طائفية.
لم تعترض زعامات جبل عامل ورجالاته الروحية حينما تم طرح تأسيس دولة لبنان، وأيضاً هذا موقف الموارنة وباقي نصارى جبل لبنان، وكانت تنتابهم مشاعر وضغائن تاريخية وقُطرية دفعتهم نحو تبني فكرة الدولة الطائفية، بينما تمكنت سلطات الانتداب الفرنسي من ممارست القمع والتنكيل تجاه أهالي مدينة طرابلس في شمال لبنان سعياً وراء تمرير مشروع الدولة الطائفية، وبذلك أصبحت مدينة طرابلس جزيرة سُنية نائية وهائمة ومنفصلة عن روابطها الاجتماعية والتاريخية مع دمشق وحمص، وتُعاني مدينة طرابلس من هذا الواقع منذ ذلك التاريخ، وتعيش الغربة والحِرمان من التنمية ومناخات الحداثة بسبب خصوصيتها المذهبية السُنية، وبفعل هذا الواقع تم إرغامها على تَقبُل الانغماس في متاهات دويلات الأقليات.
بينما تم سلخ لواء الإسكندرونة وعاصمته انطاكيا وتقديمه هدية لحكومة تركيا القومية في حينه تحت ستار طائفي يستجدي الأقلية التركمانية والعلوية في شمال سوريا.
لم ينتهي المشروع الطائفي التقسيمي بعد، بل يوجد أسوء فصوله وتمت بالتدريج وبالتزامن مع تصنيع هذه الدويلات هو تهويد فلسطين على مراحل بدأت منذ عام 1917م ولم تنتهي فصولها حينما تم تأسيس دولة الإحتلال الصهيوني عام 1948م، وتهجير مليون فلسطيني غالبيتهم من العرب السُنة، تم إجبارهم على العيش في مخيمات بجوار الحواضن التقليدية التي يسكنها إخوتهم العرب السُنة في مناطق تمركز السنة تاريخياً وتحديداً المناطق الداخلية والوسطى بجوار عًمان ودمشق، وتم هذا المخطط بهدف وضع إسرائيل هذه البيضة الغريبة والخبيثة في واحة أو حاضنة من الأقليات المفتعلة، مما يجعلها أكثر أمناً، ويمنحها قدراً لتقود لعبة عرائس الأقليات الطائفية في مُجمل الإقليم.
لا يمكن لدولة الاحتلال الصهيوني أن تعيش في منطقة عربية مركز قيادتها موحد في دمشق والقاهرة، تحت سلطان دولة يحكمها السُنة، وهنا لا أكتب متحيزاً بل هذا واقع تعلمناه من تاريخ هذه الأمة وبطولات رجالاتها، وما شهدته من فتوحات عُمرية وصولات سلجوقية وتضحيات زنكية وجولات أيوبية وبطولات مملوكية وشجاعة عثمانية، إستطاعت هزيمة بيزنطة والفرنجة والمغول على أرض الشام وفي القلب منها بيت المَقدس، بينما غالبية زعماء هذه الأقليات كان همها التمرد والإنفصال أو الإرتباط بعلاقات مع الغزاة والمحتلين، ولا سيما علاقة دروز فلسطين مع دولة الإحتلال الإسرائيلي، ودخولهم للعمل كمرتزقة في جيشها الإحتلالي، وتنكيلهم بأهل فلسطين على الحواجز وفي السجون وأقسام التحقيق والإقتحامات، وهذا هو واقع الأقلية العلوية في سوريا أيضاً حينما تحالفت مع نظام الأسد المستبد، وهنا نتذكر احداث الماضي حينما تحالف زعيم دروز الشام فخر الدين المعني الثاني مع فرنسا وملوك اوروبا، وتمرد ضد الدولة العثمانية، مما أرهق هذه الدولة، ودفع العديد من القوى والأقليات نحو التمرد ضد سلطانها وولاتها في بلاد الشام.
“الأكراد والعَرب واليَمين القومي المُتَطَرِف”
دعونا نتحدث عن التعدد العرقي في شمال بلاد الشام، عاش الأكراد تحت ظل الحكم العثماني، وإنصهروا مع الشعوب العثمانية، ولم يشاركوا في حركات التمرد والإنفصال، وكانوا أكثر الشعوب العثمانية تديناً وأكثرهم زهداً وتصوفاً، ولذلك عندما نجح المستعمر في توزيع ممتلكات الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى قَسَم الأكراد إلى أقليات مبعثرة بين الدول الإقليمية المحيطة بهم، ومن ضمنها العراق وسوريا وتركيا وايران.
ولم يعترض الأكراد على هذا الفِعل لأن عاطفتهم الدينية كانت كبيرة وطاغية، ولم تتأصل لديهم النزعة الكُرد القومية، ولم يستشعروا في يوم من الأيام بأن لديهم خصوصية ثقافية، وكان ولاء الأكراد كبير نحو السلطان العثماني، وله في نفوسهم عَظيم الإجلال حتى بعد انتهاء حكم آل عثمان.
ولكن بعد تأسيس الدول القومية الوليدة للأتراك والفرس والعرب في العراق وسوريا وبعد أن تولى زمام تلك البلاد اليمين القومي الإشتراكي والماركسي، وصعد على حساب فكرة الرابطة أو الجامعة الإسلامية، مارست تلك الدول القومية الحديثة فاشيتها المعهودة ضد الأكراد، ونجحت في إخراج أسوء ما لدى الأكراد من طباع منذ ما قبل منتصف القرن الماضي، مما دفع الأكراد إلى تأسيس جماعات عسكرية عنيفة ذات أيدولوجيا يسارية وإشتراكية وقومية إنتهجت مبادئ العلمانية العنيفة على غرار منظومة الحكم العربي والفارسي والتركي والتي جرعتهم ألوان العذاب في حينه، مما دفع الحراك الاجتماعي الكردي نحو علمنة مجتمعاتهم وبشكل إجباري وحتمي، وتسربت شعارات مزيفة إلى نفوس بسطاء الأكراد استغلت الحالة الكردية تحت غطاء أن تدينكم أيها الأكراد لم ينفعكم منذ أواخر العهود العثمانية ولم يحميكم من بطش العرب والترك والفرس، وأن تصوفكم وزهدكم جاء لكم بالمصائب، ووضع بلادكم عُرضة للاستبداد وللاستغلال الخارجي.
ووفق هذا المشهد توجه زعماء قبائل الأكراد في تلك الأقاليم نحو البحث عن حليف قوي، ودخلت الأزمة الكردية داخل متاهات لعبة الأمم وتنقلت مناخات الولاء بين موسكو وواشنطن، واستغلت في مشهد الحرب الباردة، ولم تنجح في تحقيق ما يذكر من مكاسب نتيجة افتقادها إلى دولة أو حاضنة إقليمية كردية، وحينما كان يتم استقبال بعض تلك القيادات في دمشق أو بغداد أو طهران كان يراد من ذلك استغلالها.
وبعد قرن أو أقل بدأت عَجَلة تاريخ الأكراد تدور من جديد، وتحمل معها بوادر مرحلة جديدة، وبدأ يتكشف للأكراد زيف تلك الشعارات التي نشرها اليمين الكردي العنيف، ونحن نشاهد مخراً نمو وتصاعد مظاهر التَدَيُن لدى الشعب الكردي، وربما تنجح الأحزاب الكردية ذات البعد التنموي المحافظ من تحقيق مقبولية واسعة لدى أكراد سوريا كما جرى مع أكراد شمال العراق.
“جذور العنف لدى اليمين العربي الحاكم”
تكاد تتشابه ديناميات البناء الاجتماعي والسياسي لدى مجمل الكيانات السياسية العربية المحيطة بفلسطين، وغالبيتها أنظمة شعوبية، تم تركيبها وتصنيع مفاعيل عملها خلال حقبة الحرب الباردة.
حينما إنهار اليمين الراديكالي العنيف في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945م كان المشرق العربي على موعد مع ميلاد اليمين الراديكالي في بلاد العرب، وبعد هزيمة ألمانيا وانتحار هتلر وهزيمة الفاشية وانتهاء حكمها في إيطاليا استعادت تلك البلدان أنظمتها الديمقراطية تدريجياً، واستفادت من تجربة إنقلاب هتلر وتسلط موسوليني على الديمقراطية من خلال تشريع قوانين تمنع العودة إلى الاستبداد العسكري مجدداً.
وتزامن مع مشهد انهيار منظومة هتلر الأمنية فرار بعض ضباط مخابراته من وجه العدالة، وتم استقطابهم بمثابة خبراء في بعض بلدان العالم الثالث، تم بمعرفة الإدارتين الأمريكية والروسية حلفاء الحرب العالمية الثانية وفرقاء الحرب الباردة، والبعض لا يعتبرها عملية فرار بل كانت خطة مدروسة وضعتها دول التحالف المنتصر في الحرب بهدف تفكيك نسيج واستقرار بلدان المشرق العربي وضرب حركاتها الإصلاحية والوطنية ومنعها من التحول إلى ملكيات دستورية.
وعُرِف من بين تلك العناصر الهتلرية الهاربة من العدالة ضابطين أو ربما أربع ضباط من ضباط مخابرات هتلر، عملوا في مصر منذ عام 1952م وبشكل رسمي عام 1954م واستمر عملهم على مدى سنوات طويلة سراً، وأسهموا في تأسيس وترسيخ عقيدة جهاز المخابرات المصري على شاكلة مخابرات هتلر، وإذا تحدثت عن المخابرات المصرية فإنك تتحدث عن دولة داخل دولة، وتتحدث عن مؤسسة أمنية تُهَيمن على قطاعات الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع، وتمارس تسلطها وفق تلك الفلسفة الهتلرية، وأسهمت تلك العقيدة الأمنية في إستنساخ نظام هتلر الأمني وفاشية موسوليني بما تحتويه تلك الأنظمة من رموز صنمية وإيحاءات فاشية وحركات شبابية تمارس الشغب وجماعات سرية ومؤسسات بوليسية وأحزاب كرتونية ونخب طليعية، والأخطر من ذلك دور تلك المؤسسة في نشر فايروساتها في المحيط العربي وتمكنت من استنساخ هتلريتها ليس في مصر بل في ليبيا عام 1969م واليمن 1962م والقافلة تتسع وتحتمل المزيد في السودان وسوريا والعراق.
يمكن ملاحظة مجموعة من الأحزاب الحاكمة والمتفردة في صنع قرار الإقليم، وتعتمد على نفس الشعارات الطوباوية، وتُقَدِس نفس الطواطم والمجسمات التي نسجت على نفس المنوال، ومن جملة تلك القوى الحزب الوطني في مصر وجبهة التحرير الوطنية في الجزائر والمؤتمر الشعبي العام في اليمن…، ومسميات متعددة على شاكلة الكتلة الوطنية والمؤتمر الوطني والمجلس الوطني والحركة الوطنية، وفي مجملها قوى سياسية حاكمة ومؤثرة تأخذ الشكل الرمادي تجاه الأشياء والتحالفات، بحيث لا يعرف لها إيديولوجية واضحة، وتعتاش على نفس الفضلات الإقليمية والدولية، وتتاجر في الغالي والرخيص بهدف التكسب والتربح، ورغم تبنيها بعض الشعارات الاشتراكية إلا أنها لم تنفك عن الولاء للإمبريالية والقوى الاستعمارية الغربية.
وأثناء تركيب فسيفساء هذه النُظم والأحزاب أُخذ بالحسبان تدعيم طابعها الأمني الفاشستي، ولتعزيز ذلك تم الاعتماد على ممارسات ميكافلية بحيث وضِع على اليمين والشمال منها قوى يسارية وأخرى فتات من تيارات محافظة ولكنها ضعيفة ولا تملك شرعية ولا زخم جماهيري، وتم استغلال هذه القوى من أجل إثارة الصراعات الإقليمية والمحلية، والتكسُب والتربح من الشرق والغرب، يقودها ويصنع قرارها نخبة ألا نخبة، وتشمل الفشلة والعاطلين عن العمل، واللصوص وعديمي الأمانة والثقة، والكساله.
“الشعوبية الحديثة ومراحل كي الوعي “
يتلخص مفهوم الشعوبية الحديثة في سعي بعض النخب والزعامات المحلية نحو إحياء قيم قديمة منسية، وضخ دماء جديدة من خلال إحياء عادات وإحتفالات غابره، وتمجيد خصوصيات ثقافية بائدة وإندثرت منذ إجتياز سعد وخالد وعمرو وعبادة بخيولهم صحاري وبراري وأرياف وحواضر بلاد العرب ليدشنوا قلاع حضارة العرب.
وتسللت تلك النخب المتعصبة لموروثها البائد تحت غطاء قومي أو قُطري أو تحت ستار دعوات ثأر قديمة، ونشرت أفكارها بين شعوب المشرق العربي، واستغلت الجهل والأمية والفقر خلال بعض مراحل تراجع حضارة العرب والإسلام، وساعدها في مسعاها ذلك تزامن انبعاثها مع تسلل المستعمر إلى بلادنا نتيجة العجز الحضاري في حينه، مما أوجد بيئات خصبة ساعدتها لكي تعتاش وتنمو، وأتيحت لها وفق هذه البيئات والتحديات الحضارية المستجدة رفع شعارات تداعب مشاعر البسطاء وأصحاب النخوة والمرجلة الغير متعقلة، وتمثلت تلك الشعارات بإطروحات حول التحرير والاستقلال الوطني.
وتعزز دور الشعوبية حينما قام المستعمر بنفي وملاحقة الزعامات المتعارف عليها، وتكسير مراكز القوى المعتادة لدى مجتمعات المشرق العربي في حينه، وبالتزام مع ذلك نجحت الشعوبية في تحميلها تلك الزعامات والقوى أعباء الإخفاق الحضاري وحاولت إقناع العوام، وتصدرت المشهد الفوضوي، واستغلت اللحظة التاريخية.
وأسهمت الشعوبية الحديثة في تمزيق الممزق وتفتيت المفتت، وأدعوكم إلى دراسة تاريخ إنقلاب الحبيب بورقيبة على الفكر الدستوري في تونس، وأنصحك بان تتبع مراحل تدميره قلاع مدرسة الزيتونة، وغيره الكثير الكثير من الساسة المتحولين فكرياً ممن باعوا الأصالة بثمن بخس على عتبات النخاسة في محافل باريس، ودعونا نتحدث عن صراع الحبيب بورقيبة مع صديق الثورة يوسف بن علي، ودعونا نتتبع موقف بورقيبة من معمر القذافي زعيم ثورة الفاتح في ليبيا، وموقفه من جمال عبد الناصر والفكر الناصري.
ومزقت الشعوبية الممزق وعبثت بمنظومة القيم، وأسست لها صولجانات ومحافل متصارعة تحت شعارات الوطنية والقطرية المتعصبة والاستبداد العلماني في أراضي الكرد والترك والعرب والفرس والزنوج والأمازيغ.
وتمكنت الشعوبية التقليدية القديمة من زمام السلطة حينما تحالفت مع نخب شعوبية تتلمذت في مدارس الإستشراق، وأعجبت بأطروحاتها العصرية المستجلبة، وأشهر مدارسها في المشرق العربي الجامعة الأمريكية في بيروت وغيرها منذ أوائل القرن الماضي، وحملت هذه النخب على عاتقها ترجمة وتحقيق وتحوير تراث الأمة بما تشتهيه، وعبثت به، وزرعت بهِ شرورها، ووفر لها المستعمر أثير إذاعاته في القدس والقاهرة… منذ الربع الأول من القرن الماضي، ومنحها قبل ذلك عشرات المطابع والصُحف ودور الترجمة، وتحالفت النخب القومية مع الشعوبية الفوضوية القديمة لتؤسس نموذج جديد ومتشعب على شكل إخطبوط، ويشمل مراكز القوى والنفوذ والمصالح المستحدثة، ويصعب التغلب عليها بسهولة، ويمكن أن نسميها بالشعوبية الحديثة.
ولا أستغرب حينما أرى هذه الشعوبية المتعصبة بمسميات متعارضة في كل قُطر وهي تستشيط غضباً وخوفاً على عروشها في القاهرة ودمشق…، ولا أتعجب من مشهد تحالفها مع مجمل جيوش الأرض، جاءت بها من بعيد لتقتلع نبات وخضرة هذه الأرض الطيبة، ولا أستغرب حينما يخبرنا التاريخ عن أفاعيلها وشرورها في المشرق والمغرب العربي منذ قرون.
المراجع:
- وليم جاي كار، أحجار على رقعة الشطرنج.
- برهان غليون، الولادة الجديدة للعالم العربي، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 86، لعام 2011م.
- محمد ابو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، دار الفكر العربي – القاهرة.
- خالد فهمي، جلاء الطغاة والتحرر من الاستبداد – عالم عربي جديد، مجلة الدراسات الفلسطينية، لعام 2011م، العدد 86.
- محمد باقر الصدر، فلسفتنا، دار التعارف – بيروت – لبينان، 1982م.
- مكيافيللي، كتاب الأمير، ترجمة أكرم مؤمن، المكتبة العربية.
- محمود المقداد، تاريخ الدراسات العربية في فرنسا، عالم المعرفة، نوفمبر 1992، العدد 167.
- محمد قطب، مذاهب فكرية معاصرة.
- مؤلف مجهول، مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سوريا، تحقيق محمد غسان سبانو.