الدراسات البحثيةالمتخصصة

الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي المعاصر

اعداد الباحث : عبد الله أحمد جلال الدين محمد – المركز الديمقراطي العربي

 

مقدمة:

إن الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي المعاصر يدور حول توزيع الدخل والثروة، وكثيراً ما يرفع المتصارعون شعارات وروايات أيديولوجية أو دينية أو عرقية تحجب أهدافهم الحقيقية، غير أن طبيعة الصراع وأساليبه وأدواته تتوقف على مدى التنظيم الاجتماعي في كل مرحلة تاريخية.

وقد عرف العالم القديم المؤسسات الرأسمالية إذْ نمتْ هنا وهناك جيوب الرأسمالية مزدهرة في القرون الوسطى، ولا سيما في أواخرها.إذ نما التبادل التجاري بين مراكز رأسمالية أو شبة رأسمالية متباعدة على طرق تجارية طويلة كتجارة الحرير والتوابل بين الشرق والغرب، كما أن ظهور الرأسمالية المعاصرةمرتبطبلا شكبمراحلها السابقة وخصائصها الجوهرية التي عرفت على هذا النحو منذ أن برزت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وتجميع العائدات والثروات والاستثمار على الصعيد الوطني والدولي، وديناميكية التغيير المتوجه نحو استمرار الامتيازات للأقليّة البرجوازية، ولكن بعض الملاحظات الأخرى تلفت النظر إلى حجم التغيير في وسائل الإنتاج التي تتمثل في تقنيات إنتاج جديدة، ومؤسسات مالية وتحولات في أشكال الملكية، وأساليب الإدارة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة[1].

سوف تحاول في هذه الورقة الإجابة عن السؤال التالي هل يمكن وجود مجتمع بدون ملكية خاصة لوسائل الإنتاج؟ وكيف يتم التوزيع العادل للدخل والثروة بين افراد المجتمع؟ وهل التطور الاقتصادي في النظام الرأسمالي يؤدي بالضرورة الى توحيد العمال ضد البرجوازية؟

الصراع الطبقي في النظام الرأسمالي:

إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوي تاريخ صراعات طبقية، حُرّ وعَبْد، نبيلٌ وعاميّ، بارون وقِنّ، معلم وصانع، أو بكلمة ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حرباً متواصلة تارة معلنة وطوراً مستترة، حرباً كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعين. وفي العهود التاريخية الأولى نجد في كل مكان تقريباً تقسيماً كاملاً للمجتمع أي إلى مراتب متمايزة مثلاً في روما القديمة كان ثمة نبلاء، فرسان، وعامة وعبيد، وفي القرون الوسطى، أسياد إقطاعيون، ومقطعون، ومعلّمون وصُناع وأقنان، وهذا ما يسفر عن تراتبية فارقة وطبقية داخل المجتمع[2]. والأمر نفسه نجده في مختلف مراحل التطور الاجتماعي تاريخاً بين الطبقات المستغَلة والطبقات المستغِلة أو بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة، لكن هذا الصراع قد بلغ الآن مرحلة أصبحت فيها الطبقة المستغَلة والمقهورة “البروليتاريا” غير قادر على تحرير نفسها من الطبقة التي تستغِلها وتقهرها “البورجوازية[3]

وفي المجتمع البرجوازي العصري الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي لم يلغ التناحرات الطبقية، بل أحل محلالطبقات القديمة طبقات جديدة، وحالات اضطهاد جديدة وأشكالاً جديدة من النضال، غير أن المجتمع البرجوازي يتميز بتبسيطه التناحرات الطبقية، فالمجتمع كله ينقسم أكثر فأكثر إلى معسكرين وهما البرجوازية والبروليتاريا.

مع الأسواق الجديدة لم يعد نمط الإنتاج الإقطاعي أو المشغل الحرفي في الصناعة، يسد الحاجة المتنامية فحلت المانيفاتورة محل هذا النمط وأزاح الصناعيون المتوسطون أصحاب المشاغل الحرفية، وكانت الأسواق تتسع والطلب يزداد باستمرار فأصبحت المانيفاتورة عاجزة بدورها،وعندئذٍ جاء ثورة البخار والآلة الإنتاج الصناعي،وحلت الصناعة الكبيرة الحديثة محل المانيفاتورة، الصناعات الكبير أوجدت السوق التي مهد لها اكتشاف أميركا، والسوق العالمية أنمت، بما لا يقاس التجارة والملاحة والمواصلات البرية. وهذا النمو أثر بدوره في توسيع الصناعة، فبقدر ما كانت الصناعة والتجارة والملاحة والسكك الحديدية تتوسع، كانت البرجوازية تتطور معها. فالبرجوازية لعبت في التاريخ دوراً بارزاً حيث ظفرت بالسلطة ودمرت كل العلاقات الإقطاعية، والبطريركية والرومانسية، ولم يبق أية رابطة بين الإنسان والإنسان سوى رابطة المصلحة. وأصبحت العلاقات بين الناس في ظل النظام الرأسمالي تقوم على أساس المصالح فقط.

إن الأسلحة التي صرعت بها البرجوازية الإقطاع ترتدّ على البرجوازية نفسها، ويبدو أن البرجوازية لم تصنع الأسلحة التي تودي بحياتها فحسب بل أنجبت أيضاً الرجال الذي سيستعملون هذه الأسلحة، وأقصد هنا العمال العصريين أو البروليتاريا، وبقدر ما تنمو البرجوازية أي “رأس المال” تنمو ايضاً البروليتاريا أي طبقة العمال العصريين الذين لا يعيشون إلا إذا وجدوا عملاً، ولا يجدون عملاً إلا إذا كان عملهم ينمي رأس المال وهؤلاء العمال المكرهون على بيع أنفسهم قطعة،قطعة هم سلعة كأي صنف تجاري أخر وهم بذلك معرضون لكل الصروف والمزاحمة ولكل تقلبات السوق. ويبدأ نضال البروليتاريا ضد البرجوازية، وتصبح المصادمات بين الفرد العامل والبرجوازي الفرد أي بصور فردي، وتتخذ أكثر فأكثر طابع مصادمات بين الطبقتين وعندئذ يبدأ العمال في تأليف اتحادات ضد البرجوازيين، ويتكاتفون عليها للحافظ على أجر عملهم ويؤلفون جمعيات دائمة للتموّن تحسُّباً لانتفاضات محتملة، ومن وقت إلى آخر ينتصر العمال لكن انتصارهم ليس في النجاح المباشر بل في اتحاد العمال المتعاظم باستمرار وهذا الاتحاد يعززه نمو وسائل المواصلات التي تربط بين العمال بمختلف النواحي.

عندما يقترب الصراع الطبقي من الحسم تتخذ عملية التفسخ داخل الطبقة السائدة، وداخل المجتمع بأسره إلى حد أن قسماً صغيراً من الطبقة السائدة ينسلخ عنها وينضم إلى الطبقة الثورية التي تحمل بين يديها المستقبل، مثلما انتقل في الماضي قسم من النبلاء إلى البرجوازية، وينتقل الآن قسم من البرجوازية إلى البروليتاريا[4].

إن التمايز الطبقي القائم على أساس تمركز رأس المال لدى أقلية وانسحاق فئات متسعة من الشعب، وهذا التمايز المرتبط بوجود الرأسمالية المعاصر والمتعمق بفعل استمرارها أو حتى تطورها يؤدي إلى تفاقم الصراع الطبقي و”تخندق” كل من الطرفين المصارعين البرجوازية التي تحمي مصالحها بكل جبروت السلطة والدعم الامبريالي، والشعب المتمايز طبقيًا لكن “الموحد” في الصراع الطبقي سواء كانت نتيجة للوحدة الهدف في الصراع ضد السلطة أو الطبقة المسيطرة، أو لأن الحدود الطبقية لم تترسخ نتيجة لطبيعة البنية الاقتصادية ذاتها وخاصة في ظل النظام الرأسمالي المعاصر[5]

مفهوم الملكية الخاصة:

هل الملكية الخاصة هي خطوه حاسمة في ارتقاء المجتمع البشريوتشكيل المجتمع الطبقي الذي هو أساس نشوء الحضارة؟

نقيس هنا على المجتمع البدائي ولا شك في أن الماركسية أقامت تصورها لا رتقاء التاريخ على هذا المفهوم، فهو مفصل الانتقال من المشاعة إلى المجتمع الطبقي وكل المجتمعات التي لم تصل إلى الملكية الخاصة ظلت “ما دون” المجتمع الطبقي “هذه هيفكرة ماركس عن نمط الآسيوي” ولهذا بنت الماركسية تصورها للصيرورة التاريخية على أساس تحوّل اللاملكية “المشاعة” إلى الملكية الخاصة، كماأن اكتمال الصيرورة يقتضي تحقق صيغة أعلى من اللاملكية في الاشتراكية “الملكية العامة”، وبالتالي فإذا كان نشوء الملكية الخاصة هو أساس نشوء المجتمع الطبقي، فإن انتقاءها هو أساس تحقق الشيوعية[6].

إن الفرق بين الأحرار والعبيد، يظهر الفرق بين الأغنياء والفقراء، فالتقسيم الجديد للعمل يرافقه انقسام جديد للمجتمع إلى طبقات. وفوارق الملكية بين مختلف رؤساء العائلات تفجر المشاعة البيتية الشيوعية القديمة حيثما ظلت قائمة، ومع هذه المشاعة تزول حراثة الأرض بصورة مشتركة بوسائلها. وتوضع الأراضي الصالحة للزراعة تحت تصرف العائلات الفردية لكي تستغلها، أولا لفترة من الوقت، وفيما بعد إلى الأبد. إن انتقال هذه الأراضي إلى الملكية الخاصة الكاملة يتحقق تدريجياً وفي آن واحد مع الانتقال من الزواج الثنائي إلى أحادية الزواج[7].

إن مفهوم الملكية الخاصة مفصلي عند ماركس وهو أساس الانقسام المجتمع إلى طبقات عبّر تملك وسائل الإنتاج والعمل، وبالتالي فهو محور تشكل علاقات الإنتاج المحدد “بالمالك” و”العامل” وهو إذن عنصر هام في مفهوم البنية التحتية ومن ثم البنية الفوقية لأن الدولة هي أداة لطبقة المسيطرة، التي بدورها لا تحدّ إلا عبر الملكية الخاصة، فإن الأيديولوجيا المسيطرة هي أيديولوجيا الطبقة المسيطرة وبالتالي تحيل إلى الملكية الخاصة. وكما أن الملكية الخاصة هي التي تشكل المجتمع الطبقي لأنها لم توجد التمايز بين البشر فقط بل كرّست هذا التمايز قانونياً ليصبح “حقاً طبيعياً” و “مقدساً”،وإذا كانت المشاعة هي التعبير عن البشر لحاجتهم الطبيعية وبالتالي لإعادة إنتاج الذات في وضع يفتقد إلى وسائل المعيشة، ويحتاج إلى عمل جماعي لتوفير هذه المسائل، فإن توفير هذه المسائل عبر العمل والاستقرار مع اكتشاف الزراعة قد أفضى إلى نشوء إمكانية “السطو” على فائض الإنتاج، وتملكه فردياً ومن هنا أصبح التملك الفردي ممكنا[8].

تعتبر الملكية الخاصة من أسس النظام الرأسمالي لأنه يقوم عليها بصفة أساسية، وتحظى في ظل النظام الرأسمالي بتقدير والحماية، وتكون القيود عليها أكثر ملاءمة ومرونة وحرية تبعاً للظروف والملابسات المتغيرة في الواقع الاقتصادي للمجتمع.

إن الملكية الخاصة تعني العمل ورأس المال وهناك علاقة بينهما، ففي البداية ما زالا موحدين ورغم أنهما منفصلاً مغتربان إلا أن كلا منهما يطور الآخر ويغديه كشرط أكيد بين العمل ورأس المال، كما أن هناك تناقضا بينهما؛ إذ يحاول كل منهما أن يستعبد الآخر فالعامل يرى في الرأسمالي نفي وجوده، والعكس بالعكس، وكل منهما يحاول أن يسلب الآخر وجوده، وينقسم رأس المال إلى فائدة وربح، والرأسمالي الذي يضحي به كلية وهو يسقط إلى صفوف الطبقة العاملة في حين أن العامل “بشكل استثنائي” يصبح رأسمال، والعمل كلحظة من لحظات رأس مال، وتصبح الأجور تضحية لرأس المال[9].

وتنبع العلاقات الطبقية من علاقات الإنتاج، وبصور أكثر تحديداً من أنماط الملكية والسيطرة التي تميز تلك العلاقات، وبالتالي فإن “الطبقتين الكبيرتين” في المجتمع الرأسمالي هما البرجوازية والبروليتاريا؛ وتتكون الأولى من المالكين والمسيطرين على وسائل الإنتاج المادية، وتتشكل الثانية من الذين يملكون قوة عملهم فقط ،وهم مجبرون على بيعها للطبقة البرجوازية من أجل العيش، ولم يرتكز عرض ماركس للعلاقات العدائية بين الطبقات على الملكية وحدها،بل أصبحت ملكية قوة الإنتاج المادية هي الوسيلة لاستغلال العمال بوساطة البرجوازية من خلال العملية الإنتاجية ذاتها، والتي تكمن في “نظرية قيمة العمل وهذا ما صرح به ماركس في قوله” إن العمل في المجتمع الرأسمالي أصبح سلعة كأي سلعة أخرى، لكن يتميز العمل الإنساني بأنه هو وحده القادر على إنتاج القيمة الجديدة، ولا تستطيع المواد الخام “السلع” مثل الخشب والحديد والقطن وحدها إنتاج القيمة ولكن تُضاف القيمة عندما يتم العمل عليها من خلال العمال لإنتاج السلع جديدة يمكن بيعها في الأسواق، وبالتالي تصبح الطبقة العمال قوى اجتماعية حقيقية لها القدرة على تغيير المجتمع[10].

فالعلاقات الملكية كلها كانت خاضعة لتغير تاريخي مستمر، فالثورة الفرنسية مثلاً قضت على الملكية الإقطاعية لمصلحة البرجوازية. غير أن الملكية الخاصة للبرجوازية العصرية هي آخر تعبير وأكمله عن الإنتاج وتملك المنتجات القائم على التناحرات الطبقية، وعلى استغلال البعض للبعض الآخر. فإن الملكية البرجوازية تتحرك بشكل تناقضي بين رأس المال والعمل المأجور.

العمل المأجور في المجتمع الرأسمالي:

إن العيش في المجتمع الذي يسوده النظام الرأسمالي الذي أصبح ينمو ويتكاثر يوماً بعد يوم، ولا يستطيع العمال أن يعيشوا إلا لقاء أجر معين ومحدد من مالكي وسائل الإنتاج وبهذه الطريقة يتم تحديد نفقات العامل في مجمل وسائل عيشه أو بالأحرى من مجمل أثمان هذه البضائع نقداً، فإن هذه الأثمان في جوهرها مرتبطة بقدرة العامل على العمل ورهينة بقدرة العامل على الاستمرار في العمل، وفي الوقتنفسه لدى صاحب أدوات الإنتاج أو صاحب رأس المال “البرجوازي” الذي يقوم باستبعاد من لا يقدر على استكمال العمل أو الاستمرار في عملية إنتاج السلعة…… ولكي يضمن أصحاب رأسمال استمرارية الإنتاج قاموا بتحديد وسائل العيش لهؤلاء العمال وبحيث تكون وسائل العيش قادر على استمرار العمال في العمل وحتى لا يندثر جنس العمال[11].

إن الثمن الوسط للعمل المأجور هو الحدّ الأدنى لأجر العمل، أي جملة وسائل العيش الضرورية لبقاء العامل على قيد الحياة، وما يمتلكه العامل المأجور بجهده يكفي فقط لإعادة إنتاج حياته.

أصبح الرأسمالي يمنح العامل مبلغاً معينا نظير حجم العمل الذي يبذله من إنتاج السلعة، فاذا افترضنا أن الرأسمالي أو صاحب رأس المال وأدوات الإنتاج يقوم بدفع 10 وحدات نقدية للعامل مقابل أن يعمل لمدة 12 ساعة في اليوم، وهكذاأصبح عاملاً متحكماً فيه بوصفه أحد وسائل الإنتاج، كما يمكن اعتباره أحد الخامات التي يستعملها في إنتاج السلعة، حيث أصبح سعره كعنصر إنتاجي مثل 10 وحدات نقدية في حين أن  وسائل الإنتاج المادية الأخرى مثل الحديد والنحاس والقطن وغيرها الذي يقوم بتشكيلها تتكلف 20 وحدة نقدية[12]،ومن ثمة فكل شيء يشترى بالعمل وأن رأس المال ما هي إلا عمل متراكم.

إن الطلب على الناس يحكم بالضرورة إنتاج الناس كما يحكم أي سلعة أخرى في الأسواق العالمية والمحلية، وكلما زاد العرض عن الطلب انحدر قسم كبير من العمال إلى التسول أو التضور جوعاً، ويصبح العامل بذلك سلعة تابع وتشترى ويكون من حسن حظه أن يجد من يشتريه.والعامل لا يصارع من أجل معيشته فقط بل يصارع ليحصل على عمل وخاصة في فترة التدهور الاقتصادي، باعتباره العنصر الذي يعاني أكثر من الجميع، حتى في حالة تزايد ثروة المجتمع التي تكون فيها الظروف مواتية للعمال لكي يعملوا أكثر من أجل زيادة الأجور، إلا أنه يدفع العمال إلى التضحية بأوقاتهم من أجل شهوة المال وهذا ما يؤدي بهم إلى فقدانحريتهم تماماً، وتصبح المنافسة بين العمال كبيرة مما يؤدي إلى انخفاض الأجور ويبقى العنصر المستفيد من تراكم رأس المال هو السيد البرجوازي[13].

ويزيد تراكم رأس المال من تقسيم العمل، ويزيد تقسيم العمل من عدد العمل، وبالعكس فإن عدد العمال يزيد من تقسيم العمل، كما أن تقسيم العمل يزيد من تراكم رؤوس الأموال. وبحكم تقسيم العمل في ناحية وتراكم رؤوس المال في الناحية الأخرى تزداد تبعية العامل للعمل، ويتحول الانسان إلى نشاط مجرد ومعدة فإنه كذلك يزداد تبعية الكل تذبذب في سعر السوق ولأستخدم رؤوس الأموال ولمزاج الأغنياء. أن الزيادة في عدد الناس الذين يتعمدون كلية على العمل تضاعف المنافسة بينهم وبذلك تنخفض ثمنهم، وأن ارتفاع الأجور يثير لدى العامل جنون الرأسمالي بالثروة وهو ما لا يستطيع تحقيقه الا بالتضحية بذهنه وبدنه، وارتفاع الأجور يفترض ويستتبع تراكم رأس المال، وبذلك يضع ناتج العمل في مواجهة العامل كشيء تتزايد غربته عنه، بالمثل فإن تقسيم العمل يجعله أكثر أحادية وتبعية إذ تجلب معه المنافسة لا مع الناس فحسب، بل مع الآلات. فما دام العامل قد هبط إلى مستوى الآلة فإنه من المكن أن يواجه الآلة كمنافس[14]، بالتالي اما أن ينتهي بألقاء قسم كبير من العمال خارج العمل أو تخفيض اجورهم.

المجتمع الرأسمالي الجديد:

تتميز المسيرة الحالية للرأسمالية في معالمها الرئيسية بحرية تعامل الأفراد مع المنشآت في السوق بيعاً أو شراءً أو تصديراً، أو استيراداً، أو تأجيراً، أو استئجاراً، أو عقد عمل أو تصنيع، وغير ذلك من عقود التعامل بالسلع والخدمات ذات القيمة الاقتصادية في السوق.

إن تراكم رأس المال لدى المصارف والمؤسسات المالية الأخرى ولدى أرباب العمل مما يتيح لهؤلاء القيام بالمشاريع المنتجة للسلع والخدمات التي يحتاجها السوق. ويعد العمل عنصرا من عناصر الإنتاج “غير المادية” وتتحدد الأجور وفق قواعد العرض والطلب في السوق، ويقابل حرية صاحب رأس المال في ممارسة نشاطه الاقتصادي والتعاقد مع الغير، تمتع العامل بحرية التعاقد والتكتل في نقابات واتحادات تسعى لحمايته من أصحاب رأس المال، ولكن تحقيق الحصول على هذا الحق يتوقف على الظروف والأحوال الاقتصادية العامة وفرص العمل المتاحة من جهة وموقف السلطة الحاكمة من جهة أخرى[15].

إن التغيرات الحاصلة في آليات الإنتاج الرأسمالي مرتبطةبمجموع التغييرات بين التكنولوجيا والتقنيات الجديدة التي تستولى على العمليات المالية بما فيها إدارة الإنتاج والتجارة الإلكترونية على حد سواء، وتشكل هذه التقنيات سمات التعددية الأممية على وجه الخصوص، والأموال الكبير والأسواق وجميع مؤسسات التي تملك من الآن فصاعداً بعدا عالميا شاملا.

تنتمي الليبرالية الجديدة إلى إعادة التأكيد على السلطة المالية أي تنتمي إلى المالكين الرأسماليين “في النظام الرأسمالي حيث تنفصل الملكية عن الإدارة”. كما أن إحدى سمات العصر الليبرالي الحديث هي التطور الهائل للنشاطات المالية والتمويل، وكذلك ظهور مفاجئ في العمليات المالية، وفي القطاع المالي والنشاطات المالية للمشاريع. فنحن نعلم الأثر الناتج في أسعار مختلف البورصات التي ارتفعت معاً في البلدان المتطورة منذ بداية أعوام الثمانينات، حيث يشكل هذا الصرح بالتأكيد بعض المخاطر التي تسود فيه الوفورات الرأسمالية التي تذكر بالانهيار المالي في 1929م.

إذا كانت الليبرالية الجديدة تعبيرا عن عودة الهيمنة المالية، والتأكيد على السمات الرأسمالية المهمة “حقوق وأرباح المالكين” فقد لا تكون تحولاتها مثقلة بالغموض بنسبة أقل، لأن الثورة الإدارية بتحفيزها من جديد قد تطور الكوادر والموظفين، تطمس بشكل أكبر حدود الانشقاق الرأسمالي – البروليتاري. فهي قد خلقت أشكال الملكية الجديدة في بداية القرن العشرين، وجعلت هناك مسافة ما بين المساهم والشركة، مشوهة بذلك مفهوم ملكية وسائل الإنتاج، ورأت الرأسمالية المعاصرة التي يصفها البعض بالمؤسساتية ضرورة تركيز رأس المال في أموال ضخمة “تقاعدية وتوظيف أموال” تدار من قبل متخصصين، وبهذا فقد صمدَ تموضع المالك الرأسمالي مؤكداً من جديد تفوقه، لكن من خلال تحولات مؤسساتية تنتج من التوكيلات المتعددة وتُحلّه بطريقة معينة[16].

استطاع النظام الرأسمالي المعاصر تحقيق تقدم هائل في مجال التطور التكنولوجي للآلات والأدوات المستخدمة في الإنتاج، وكما أفلحت في تحسين طرائق الإنتاج وتطويرها من خلال التخصص وتقسيم العمل، وقد أدى ذلك إلى تحسين نوعية الإنتاج وزيادة كميته زيادة كبيرة، وقد أفلحت الدولة الرأسمالية في إيجاد أسواق خارجية حرة لتسويق بضائعها عن طريق استعمار البلدان الضعيفة أو بسط سلطانها ونفوذها عليها. وقد أدى ذلك إلى زيادة أرباح الطبقة البرجوازية وزيادة ثرواتها زيادة هائلة مما ساعد على ظهور الاحتكارات الكبيرة التي تركزت بأيد أقلية.

وقد تنبأ ماركس بقضية تنامي النظام الرأسمالي على هذا النحو وأن ذلك سيوصله إلى مرحلة تصبح فيه علاقات الإنتاج معرقلة لتطور قوى الإنتاج، لا سيما من خلال الأزمات الاقتصادية الدورية والحروب المستمرة، والإفقار المتزايد للعمال، وتكدس فائض الإنتاج لدى الرأسماليين أن هذه التناقضات في النظام الرأسمالي إذا وصلت مدها الأقصى فإنها لا محالة ستؤدي إلى الثورة واستيلاء الطبقة العاملة على الدولة ووسائل الإنتاج لتبدأ عهداً جديد يؤدي إلىمرحلة الشيوعية[17].

تنبأ ماركس وفقاً لتحليلها القائم على تمركز رأس المال واتساع القاعدة العمالية في النظام الرأسمالي، أن تضطرم ثورة البروليتاريا وتتحقق الاشتراكية في الدول ذات التقدم الرأسمالي الأكبر، لكن الذي حدث بعد هذه التنبؤ هو العكس، إذ قامت الثورة البلشفية عام 1919م في روسيا القيصرية، وكانت روسيا ذات نظام إقطاعي ومتخلف رأسمالياً، وكذلك في الصين حيث انتصرت الثورة الشيوعيين بزعامة ماوتسي تونغ 1949م في ظل نظام زراعي وإقطاعي. ولم تحدث هذا الثورة في بريطانيا صاحبة الثورة الصناعية الرأسمالية، ولا في الولايات المتحدة الامريكية زعيم العالم الرأسمالي اليوم ولا في اليابان التي أصبحت مؤخراً قوة اقتصادية عظمى[18]. بل هذه الثورات كلها كانت في بلدان زراعية متخلفة اقتصادياً، وهو أمر يخالف منطق ماركس وتوقعاته المستقبلية.

ولا شيء سيقف في طريق تطور النظام الاقتصادي الرأسمالي في ربط العالم بعلاقات الإنتاج التبادلية في السوق العالمي اليوم، وهذه التطورات لا تؤدي إلى ثورة وإلغاء الملكية الخاصة كما يدعي ماركس بل يؤدي إلى ثورة من نوع أخروهو ثورة المعلومات والعولمة التي أدت بدورها إلى تعظيم وسائل الإنتاج وخلق أنماط جديدة من وسائل الإنتاج والتبادل التجاري بين الناس في الأسواق العالمية التي تتمثل في التجارة الإلكترونية والسوق الحر الذي يقوم على أساس المنافسة الحرة بين المستثمرين وأصبحت الأموال تتدفق بدون قيود، وهذا ما أدى إلى زيادة الاستثمار في الابتكار وخلق نوع جديد من الملكية، وتعرف بالملكية الفكرية – ولاسيما حماية براءات الاختراع ذات نهج التجاري التي تساعد في نمو رؤوس الأموال.

قائمة المراجع:

  • جاك بيديه وأوستاش كوفيلاكيس، معجم ماركس المعاصر، دراسات في الفكر الماركسي، ترجمة سمية الجرّاح، (مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، فبراير، 2015).
  • هرمان دونكر، البيان الشيوعي، (النص الكامل مع دراسة وتحليل) ترجمة عصام أمين، دار الفارابي، بيروت، 2008.
  • ماركس وإنجلز، البيان الشيوعي، ترجمة العفيف الأخضر، مكتبة الفكر الجديد.
  • سلامة كيلة، من هيغل إلى ماركس (التصور المادي للتاريخ) بيروت، 2010.
  • فريدريك إنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ترجمة، الياس شاهين.
  • كارل ماركس، مخطوطات، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، 1844.
  • روزماري كرومبتون، الطبقات والتراصيف الطبقي، ترجمة، محمد عثمان حداد – غسان رملاوي، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016).
  • ساهر رافع، شرح رأس المال لكارل ماركس، الدار العالمية للكتب،2011.
  • حيدر غيبة، ماذا بعد إخفاق الرأسمالية والشيوعية، (نحو إيديولوجيا جديدة للتوازن الاقتصادي والاجتماعي، إسلامية وعالمية) بيروت، 1995.
  • هاشم يحيى الملاح، فلسفة التاريخ، (دراسة تحليلية في فلسفة التاريخ التأملية والنقدية) دار الكتب العالمية، بيروت، 2007.

[1]جاك بيديه وأوستاش كوفيلاكيس، معجم ماركس المعاصر، دراسات في الفكر الماركسي، ترجمة سمية الجرّاح، (مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، فبراير، 2015)، ص،117.

[2] هرمان دونكر، البيان الشيوعي، (النص الكامل مع دراسة وتحليل) ترجمة عصام أمين، دار الفارابي، بيروت، 2008، ص، 54.

[3]ماركس وإنجلز، البيان الشيوعي، ترجمة العفيف الأخضر، مكتبة الفكر الجديد، ص، 28.

[4]هرمان دونكر، البيان الشيوعي، ترجمة عصام أمين، دار الفارابي بيروت، 2008، ص، ص، ص، 56، 59، 69.

[5]سلامة كيلة، من هيغل إلى ماركس (التصور المادي للتاريخ) بيروت، 2010، ص، 226.

[6]نفس المرجع، ص، 17.

[7]فريدريك إنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ترجمة، الياس شاهين، ص، 85.

[8]سلامة كيلة، من هيغل إلى ماركس (التصور المادي للتاريخ) بيروت 2010، ص، 18.

[9]كارل ماركس، مخطوطات، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، 1844، ص، 87.

[10]روزماري كرومبتون، الطبقات والتراصيف الطبقي، ترجمة، محمد عثمان حداد – غسان رملاوي، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016) ص، ص، 80 – 81.

[11]كارل ماركس، مخطوطات، ترجمة، محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديد، 1844، ص، 15.

[12]ساهر رافع، شرح رأس المال لكارل ماركس، الدار العالمية للكتب،2011، ص، 14.

[13]كارل ماركس، مخطوطات، ترجمة، محمد مستجير مصطفى، ص، 17.

[14]نفس المرجع، ص، 19.

[15]حيدر غيبة، ماذا بعد إخفاق الرأسمالية والشيوعية، بيروت، 1995، ص، 14.

[16]جاك بيديه وأوستاش كوفيلاكيس، معجم ماركس المعاصر، دراسات في الفكر الماركسي، ترجمة سمية الجرّاح، (مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، فبراير، 2015)، ص،122.

[17]هاشم يحيى الملاح، فلسفة التاريخ، (دراسة تحليلية في فلسفة التاريخ التأملية والنقدية) دار الكتب العالمية، بيروت، 2007، ص، 348.

[18]حيدر غيبة، ماذا بعد إخفاق الرأسمالية والشيوعية، بيروت، 1995، ص، 141.

تحريرا في 23 – 5 – 2017

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى