الاقتصاديةالدراسات البحثية

الأزمة الاقتصادية العالمية : قراءة في الأسباب الاقتصادية والتداعيات السياسية

The global Economic Crisis  A reading of Economic Reasons and Political Implications . Touil Nassima (Algeria)

العدد الثالث “يونيو – حُزيران” لسنة “2017 ” من مجلة العلوم السياسية والقانون

احدى اصدارات المركز الديمقراطي العربي

اعداد : طويل نسيمة – أستاذ محاضر في العلوم السياسية والعلاقات الدولية جامعة بسكرة – الجزائر

 

الملخص:

إن الأزمة المالية العالمية تداعياتها ما زالت مستمرة وستستمر لفترة لاحقة ، حيث أن الاقتصاد العالمي يتجه نحو مزيد من الركود والكساد.  يتضح حجم هذه التداعيات من خلال المؤشرات الاقتصادية للعديد من الأقطاب الاقتصادية الكبرى على المستوى العالمي .

  تعددت أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية وتعددت نتائجها وانعكاساتها ، ولعل أـبرز هذه الانعكاسات طويلة الأجل التي ظهرت على مستوى خارطة القوى الدولية حيث سمحت هذه الأزمة بظهور دولا كبرى نتجت عن تكافؤ القوى بعد تراجع الاقتصاد الأمريكي والأوروبي .

Abstract:

   The global financial crisis is still going on and will continue for a while, as the global economy is heading towards further recession and recession. The magnitude of these implications is illustrated by the economic indicators of many major economic poles at the world wide level.

 There are many reasons for the global economic crisis and the results and their repercussions. Perhaps the most prominent of these long-term implications that it have emerged at the level of the map of international forces where this crisis allowed the emergence of major countries resulted from the parity of forces after the decline of the US and European economy.

مقدمة :

تأكد دور المتغير الاقتصادي في تغيير مسارات ومستقبل العلاقات الدولية، ويبرز أهمية هذا المتغير من خلال الدور الكبير الذي لعبته الأزمة المالية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة ثم انتشرت لتمس كل دول العالم ، في تغيير خارطة توزيع القوى على المستوى العالمي .

حيث كانت هذه الأزمة بمثابة نقطة مفصلية في تراجع أو صعود اقتصاديات الدول العظمى وبالتالي تزايد المكانة أو تراجعها لدى العديد من هذه الدول، ويظهر ذلك من خلال استقراء ومقارنة التداعيات الاقتصادية للأزمة العالمية على مستوى المؤشرات الاقتصادية لهذه الدول وتأثير ذلك على حركة صعود أو نزول مستويات النمو لاقتصاديات الدول التالية : الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العالمية الأولى ، الصين باعتبارها القوة الاقتصادية الثانية على مستوى العالم ، ثم الإتحاد الأوروبي باعتباره مرشحا قويا للخلافة الأمريكية وهيمنتها على العالم.

تنطلق هذه المقالة من الربط بين المتغيرين التاليين : المتغير الاقتصادي المتمثل في انعكاسات الأزمة الاقتصادية على مستوى المؤشرات الاقتصادية وتأثيره على المتغير التابع وهو تأثير الأزمة الاقتصادية على النواحي السياسية للدول الكبرى المذكورة أنفا ، لذلك ستطرح الإشكالية التالية كإشكالية محورية للدراسة وهي  :

 ما هي الانعكاسات الاقتصادية للأزمة الاقتصادية العالمية وكيف أثرت على خارطة توزيع القوى الدولية تبرز أهمية الدراسة في هذا الموضوع من خلال المعطيات التالية :

– التأكيد على المتغير الاقتصادي كأهم متغير محرك وفاعل في تغير نمطية العلاقات بين الدول وكذلك من خلال التأثير على آليات الحركة في النظام الدولي .

– دراسة التداعيات السياسية للأزمة الاقتصادية المتواصلة لحد الآن ، والتي لم تقتصر تداعياتها على النواحي الاقتصادية .

– إعطاء لمحة عن المشهد الدولي المعاصر وما يحدث فيه من إعادة ترتيب للقوى على المستوى العالمي .

– التأكيد على قرب أفول الهيمنة الأمريكية على العالم ، وبالتالي نهاية كل المعطيات والمصطلحات والمسلمات في العلاقات الدولية والتي صاحبت هذه الفترة من الزعامة الأمريكية للعالم .

1- أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية :

إن الكثير من المحللين و مراكز الدراسات ممن تنبأ بالأزمة المالية العالمية ومند بروز مؤشراتها الأولى منذ عدة سنوات حيث تعود ملامح ظهور الأزمة الاقتصادية العالمية إلى فترة طويلة سابقة ، بدأت مؤشراتها الأولى مع حلول  سنة 2000 أين بدأت أسعار المنازل تزداد بارتفاع فاق الحجم الطبيعي عن منحنى ازدياد مؤشر أسعار المستهلك و بشكل لم يحدث  في سوق العقار الأمريكي خلال سنوات طويلة ماضية ، هذه الفقاعة المالية كما يطلق عليها الاقتصاديون شملت كل الولايات المتحدة الأمريكية.

– أسباب تراجع سوق العقار في الولايات المتحدة الأمريكية:
  المشكل المالي في الولايات المتحدة الأمريكية لم يبدأ بالارتفاع في أسعار العقارات بل نشأ بسبب التهاوي الخطير في الأسعار بعد هذا الارتفاع ، من الطبيعي إن يرتفع و يهبط إي سوق في الاقتصاد تبعا لدورة الاقتصاد ، لكن السؤال المطروح  في هذه الحالة لماذا هبط سوق العقارات بعد الارتفاع الكبير الذي عرفه ؟

– حصل في التسعينات ارتفاع شديد جدا في أسهم شركات التكنولوجيا واستمر لبداية عام 2000، الطلب الكبير على أسهم هذه الشركات خلق الفقاعة المالية التي عرفت باسم فقاعة “الدوت كوم” ، وفي سنة 2000 انفجرت فقاعة “الدوت كوم” مع وجود عرض أكثر من الطلب في السوق وحصل انهيار في أسهم شركات التكنولوجيا و انكماش مالي في سوق الأسهم بشكل عام.  مما دفع بالاقتصاد الأمريكي للدخول في دوامة مالية تسببت في  :

  • لدعم الاقتصاد قام الاحتياط الفيدرالي بخفض معدل الفائدة وضخ السيولة النقدية في الأسواق.[1]
  • مع إحداث 11 سبتمبر 2011 ، و واضطرارا بقي معدل الفائدة منخفضا لنفادي التداعيات الاقتصادية.
  • بسبب الانخفاض المتواصل لأسعار الفائدة حدث تضخم في السيولة الاقتصادية ، و وجد الكثير من المستثمرين في سوق العقارات ملجأ لتدوير أموالهم و تعويض الخسائر.
  • الإقبال الكبير للمستثمرين جعل أسعار العقار ترتفع ارتفاعا كبيرا.
  • مما شكل فقاعة مالية جديدة في سوق الاستثمار الأمريكي عرفت باسم الفقاعة العقارية صاحب ذلك ارتفاعا في الاقتراض نتج عن ثقافة الاستهلاك والرفاهية المصاحبة لطريقة التفكير والعيش الأمريكية . وفي نفس الوقت عجز الكثيرون عن سداد هذه القروض بسبب ارتفاع سعر الفائدة,
  • قامت البنوك (تبعا لشروط عقود الإقراض) بالاستحواذ على البيوت التي عجز أصحابها عن دفع أقساط القرض والفوائد لتبيعه في السوق[2].
  • انخفضت واردات البنوك من السيولة .
  • بدأت البنوك بدفع الضرائب القانونية على البيوت مما أدى لزيادة المصاريف.
  • لم تخطط البنوك لهذه المرحلة وبدأت  أسعار البيوت بالهبوط أكثر لزيادة العرض مقارنة مع الطلب.
  • بدأت البنوك تعلن إفلاسها، مما أنذر بأزمة مالية حادة .

انتشرت الأزمة المالية بعد ذلك انتشارا سريعا نحو دول العالم وكلما ازداد الارتباط المالي بالولايات المتحدة الأمريكية كلما  ازدادت أثار الأزمة المالية على اقتصاديات الدول ، حيث كانت بريطانيا من أشد الدول تضررا رغم أن أثار الأزمة شملت كل الدول الأوروبية وبنسب متفاوتة حيث تعتبر ألمانيا أقل الدول تضررا.[3]

– أثر الأزمة على الاقتصاد المالي العالمي  :

لم يتوقف تطور الأزمة عند إفلاس عدد من البنوك الأمريكية، بل تأثرت كل القطاعات الأخرى، كالقطاع الزراعي والصناعي والنقل الخ بسبب إفلاس البنوك وازدادت نسبة البطالة، وانكمش الطلب الكلي على جميع السلع والخدمات، مما أدى إلى انخفاض الإنفاق الكلي، و بالتالي انخفضت الدخول الفردية، وانخفضت حصيلة الضرائب ، مما زاد العجز في الميزانية الفيدرالية والذي تجاوز آل 500 مليار. كذلك تأثر قطاع الأعمال لدى جميع الدول المرتبطة بالاقتصاد الأمريكي لانهيار القطاع المالي الأمريكي تحت وطأت الديون العقارية ، وعدم القدرة على استردادها .

هذه الأزمة وبحجمها الكبير وحجم امتدادها كان لها تأثيرات جد سلبية على العديد من النواحي الاقتصادية العالمية منها[4]:

  1. نقص السيولة المتداولة لدى الأفراد والشركات والمؤسسات المالية، و قيام العديد من المؤسسات المالية بتجميد أو إيقاف منح القروض إلى الأفراد خوفاً من نقص السيولة وصعوبة استردادها. وهذا أدى إلى  حالة انكماش اقتصادي حاد لم يعرفه الاقتصاد العالمي منذ سنة 1929.
  2. انخفاض القروض البينية إلى حد كبير مما فاقم من مشكلة السيولة داخل النظام المالي والمصرفي كله .
  3. تردي قدرات معظم البنوك ومؤسسات الإقراض على الإقراض مما حرم الكثير من المشاريع الإنتاجية والخدماتية، أي الاقتصاد الحقيقي في كثير من الدول وخاصة النامية، من الاستفادة من خدمات تلك المؤسسات وبما ينعكس سلباً على الاقتصاد العالمي
  4. انخفاض مستوى التداولات في أسواق النقد والمال، مما أثر على قيمة الأسهم والأوراق المالية المختلفة.
  5. إفلاس بعض البنوك والمصارف والمؤسسات المالية، والعقارية، وشركات التأمين، بسبب نقص السيولة وزيادة.
  6. إفلاس بعض الشركات التي كانت تعتمد على التمويل بنظام القروض أو توقف بعض فروعها الإنتاجية.
  7. انخفاضا حادا في حجم المبيعات خاصة في قطاع العقارات والسيارات وغيرها.
  8. ارتفاع حجم الديون العقارية على نحو6 تريليون دولار، وارتفاع وحجم الديون على الشركات إلى18.4 تريليون دولار.

2– أثر الأزمة الاقتصادية العالمية على الأقطاب الاقتصادية الكبرى :

       تعد المصاعب الاقتصادية لدي العديد من الدول المتقدمة عاملا رئيسيا في تباطؤ النمو علي المستوي الدولي. حيث تعاني أغلب الاقتصاديات المتقدمة من مشاكل تعد من بقايا الأزمة الاقتصادية العالمية . تباطأ في هذا السياق النمو لدي الولايات المتحدة بصورة ملحوظة خلال السنوات اللاحقة للأزمة ، حيث تراجع معدل نمو الناتج الإجمالي المحلي خلال عام2011 و 2012 ،كما تباطأ النمو بشدة في منطقة اليورو منذ بداية عام 2011 ، كما ظهرت أزمات جزئية أثرت على اقتصاديات الدول من أهمها أزمة انخفاض أسعار البترول منذ سنة 2014. الناتجة أساسا من أزمة الركود التي تعصف بالاقتصاديات المتقدمة .

   – أثر الأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد الأمريكي :

تسببت الأزمة المالية العالمية في تدهور الاقتصاد الأمريكي حيث بلغت نسبة الانكماش مابين 0.2% إلى 1.1% بتراجع يتراوح بين 2% و2.8%. من جهتها أعلنت وزارة التجارة الأميركية انكماش الاقتصاد بمعدل سنوي بلغ 0.3% في الربع الثالث سنة 2009 مسجلا أقوى انخفاض في سبع سنوات. كما كشف تقرير الناتج المحلي الإجمالي انخفاض الدخل الشخصي المتوفر للإنفاق بمعدل 8.7% في نفس السنة مسجلا أشد هبوط منذ بدء إطلاق البيانات الفصلية لهذا البند عام 1947.

تواصل تراجع الاقتصاد الأمريكي ليعرف سنوات متواصلة من الإخفاقات الاقتصادية تجلت أهم مظاهرها في[5]:

= تراجع قيمة الدولار: حذر فريق التحليل الإستراتيجي لبنك jpMorgan  من التراجع المستمر في قيمة العملة الأمريكية رغم تسجيلها لارتفاع نوعي لأربع سنوات متتالية ، إلا أن التوقعات الاقتصادية تؤكد على أن سنة 2017 ستكون الأسوأ للاقتصاد الأمريكي .

– تزايد قيمة الدين العام : عرف الدين العام الأمريكي تزايدا مطردا منذ الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008 ليعرف أعلى نسبة له سنة2016  حيث بلغ 19 تريليون دولار أي بنسبة 78,9 بالمائة . ( أنظر المنحنى التالي ):

رسم بياني يوضح ارتفاع قيمة الدين العام للحكومة الأمريكية

المصدر: http://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/432011

ويؤكد المنحنى البياني السابق الذي يمثل الارتفاع المستمر لقيمة الدين الحكومي الأمريكي منذ سنة 2008إلى سنة 2016 حيث تزايدت النسبة بصفة متواصلة من 35% إلى 75%

ازدياد قيمة التضخم : تزايدت نسبة التضخم لتصل إلى 1,5 بداية سنة2017 .

– ازدياد نسبة البطالة : تزايدت نسبة البطالة لتصل إلى 4.7 سنة 2017 .

تدني مستويات المعيشة : حيث بلغ حجم الطبقة التي تخطت مستور المعيشة الجيدة  86مليون نسمة من 324مليون نسمة .

إن المؤشرات السابقة تؤكد ـأن الاقتصاد الأمريكي يعرف تراجعا مستمرا جعل الكثير من الاقتصاديين ينذرون بمرحلة الخطر وبمستقبل القوة الأمريكية برمتها .

  • أثر الأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد الصيني :   

       إن  قاعدة بيانات البنك الدولي تؤكد أن الناتج الصيني بدأ في الهبوط منذ الأزمة المالية العالمية، فبعدما بلغ 14.2% عام 2007 رغم ارتفاع غير مسبوق في أسعار الطاقة وكافة المواد الخام، تراجع في عامي 2008 و2009 على التوالي ليصل إلى 9.6% و9.2% بسبب التداعيات السلبية للأزمة المالية العالمية في العام 2008.

وكان عام 2010 استثناء بالنسبة لمعدل نمو الناتج الصيني حيث عاد ليرتفع فيه إلى 10.6%، وهو الأمر الذي أكد على قدرة الاقتصاد الصيني على قيادة الاقتصاد العالمي من خلال عودة تحقيقه لمعدلات نمو مرتفعة، رغم أن اقتصاديات الدول المتقدمة وأميركا في ذلك الوقت ظلت تسجل اقتصادا متراجعا[6].

غير أن الفترة من 2011 وحتى نهاية 2015 كانت عكس هذا التوقع، حيث انخفضت معدلات النمو في الناتج المحلي للصين لتنحدر إلى ما دون 7% نهاية العام 2015. رغم الإخفاقات السابقة يعتبر الاقتصاد الصيني أقل تضررا من انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمي ويدل على ذلك مؤشراتها الاقتصادية المسجلة . حيث تعتبر الصين خامس أكبر مصدر وثالث أكبر مستورد للخدمات التجارية. إضافة إلى ذلك، فإن الصين ثاني أكبر مزود للاستثمارات الأجنبية المباشرة بعد الولايات المتحدة، حيث شهدت عام 2014 خروج 116 مليار دولار بنمو 15% عن العام الذي سبق، مقابل نمو بـ3 %للاستثمارات الأجنبية المباشرة الخارجة من الولايات المتحدة.

كما تحتل الصين المرتبة الأولى عالميا من حيث الاستثمارات الأجنبية المباشرة الداخلة إلى البلاد والتي بلغت 129 مليار دولار عام 2014، ليس ذلك فحسب وإنما لدى الصين أكبر احتياطيات بالعملة الأجنبية بالغة 3.2 تريليون دولار.

وقد نجحت الصين في رفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد بأكثر من 40 ضعفا من 155 دولاراً للفرد عام 1978 إلى نحو 6400 دولاراً عام 2015، لكن مع ذلك يبقى ذلك أقل من المتوسط العالمي في إشارة إلى التطور الإضافي اللازم. ( أنظر المنحنى التالي )

رسم بياني يوضح تفوق الصين في نسبة النمو للناتج المحلي الإجمالي مقارنة بمجموعة [7]G7

يؤكد المنحنى السابق التفوق الواضح وطيلة ثلاثة عشر سنة في نسبة نمو الناتج المحلي للصين مقارنة بنظيره المسجل لدى مجموعة G7، واستمرارية التفوق الصيني حتى في حالات تسجيل تراجع في نمو الناتج المحلي الإجمالي، كما يبينه المنحنى منذ عام 2011.

وكما قامت الصين بتخفيض مستويات الفقر والارتقاء باقتصادها بفضل تحولها إلى مركز تصنيع للعالم، متخصصة بتجميع المنتجات محليا بالاعتماد على اليد العاملة الرخيصة نسبيا وتصدير السلع الرخيصة لجميع الدول.

وقد لعب القطاع الخاص دوراً هاما في دعم نمو الاقتصاد الصيني وخلق الوظائف، حيث ساهمت شركات القطاع الخاص بنحو 75% من إجمالي الناتج المحلي الصيني بين 2010 و2012 ويساهم بتسعين في المائة من الصادرات.

لكن الاقتصاد الصيني يواجه تحديات حيث سجل أبطأ نسبة نمو منذ عام 1990 العام الماضي. ونما 6,7 في المائة مقارنة مع مستويات النمو التي فاقت 10% سابقا. يأتي ذلك بسبب الحاجة مرة أخرى للتحول من اقتصاد يعتمد على الصادرات إلى اقتصاد يعتمد على الاستهلاك.  بحلول العام 2030 يتوقع الاقتصاديون أن تكون الصين أكبر اقتصاد عالمي متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية ومستردة المكانة التي فقدتها منذ 130 عاما[8].

أثر الأزمة الاقتصادية العالمية على اقتصاديات دول الإتحاد الأوروبي  :  على إثر الأزمة المالية التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية في 2008 دخل الإتحاد الأوروبي في أزمة ركود اقتصاديّ. ورغم كل الجهود الأوروبية لمواجهة هذه الأزمة إلا أنها تسربت لكل الدول الأوروبية وأثرت على العديد من الدول الأوروبية  ، خاصة عندما برزت أزمة الديون في كل من اليونان، وإسبانيا، والبرتغال، بعدما خفض السيولة في هذه الدول، فأدّى ذلك إلى رفع فائدة الاقتراض فيها. وكانت التداعيات الاقتصادية لهذه الأزمات كما يلي :

  • أزمة الديون اليونانيّة : الأزمة الاقتصادية التي عرفتها اليونان، كانت نتيجة الخوف الذي اعترى الدائنين من عدم استطاعة اليونان تسديد التزاماتها ودفع فوائد الدين. وما نتج عن ذلك من تضخم بالموازنة العامة مقداره 13% من الناتج القومي، إضافة إلى بعض العوامل الخاصة باليونان، منها استدانة كبيرة بلغت 120% من الناتج القومي. وزاد في عمق الأزمة نقص في الشفافيّة من قِبل الحكومة اليونانيّة في إظهار الدين، والعجز، والتضخّم.( أنظر المنحنى التالي )

حجم الدين العام اليوناني نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي بين أعوام 1999 و2010 مقارنة          

مع متوسط الدين العام الأوروبي[9]

يوضح المنحنى السابق الارتفاع الكبير في حجم الدين العام اليوناني مقارنة مع المتوسط الدين العام الأوروبي حيث وصل الفارق بين القيمتين 78 مليار أورو سنة 2016 .

التزم الأوروبيّون بدعم اليونان حيث زار فريق من الاتّحاد الأوروبيّ، والبنك الأوروبي اليونان لدراسة الأزمة ، وضمّ هذا الفريق خبيرًا من صندوق النقد الدوليّ للتدقيق في حسابات الدولة اليونانيّة. وعلى ذلك اتّخذ الأوروبيّون آنذاك قرارًا يمكّن دول منطقة اليورو من دعم أيّة دولة تعاني من صعوبات ماليّة بعد أن تكون قد طلبت مساعدة صندوق النقد الدولي.

  • الأزمة المصرفية في أيرلندا : سميت أيرلندا «النمر السلتي» بسبب النمو والتطور الاقتصادي الكبير الذي عرفته وعلى الرغم من ذلك، تأثّرت أيرلندا أكثر من غيرها، بأزمة الرهن العقاري الأميركيّة، وواجهت أزمة مصرفية ضخمة، هي الأكبر في تاريخها، إذ وصلت بنوك كبرى عدّة إلى حدود الإفلاس. فقامت الحكومة آنذاك بضخ مبالغ من الأموال العامّة في المصارف لإنقاذها من الإغراق، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع العجز العام بنسبة 32% من الناتج القومي, مساعدة صندوق النقد الأوروبي للاستقرار المالي. فقرّر الصندوق وضع 90 مليار يورو في تصرّف الحكومة التي قامت بطبع 50 مليار يورو، حسب الاتفاقيات الأوروبية التي تسمح لها بذلك وما صاحب ذلك من موجة تضخمية كبيرة أنهكت اقتصادها.
  • الأزمة في البرتغال: أواخر 2010م بلغ العجز العام لم يتعدَّ الـ10% ،أما الدين العام لم يتعدَّ 77% من الناتج القوميّ. مما دفع الحكومة البرتغاليّة إلى طلب مساعدة الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وأدت المفاوضات بين الفريقين إلى إعطاء البرتغال ما يقارب الـ80 مليار يورو في خطوة أولى نحو الإنقاذ في صيف 2011م.
  • الأزمة في إسبانيا : في إسبانيا وصل العجز العام وصل إلى 11% من الناتج القوميّ، إلاّ أنّ الحكومة الاشتراكيّة التزمت بتقليصه إلى النسبة المقبولة في الاتحاد الأوروبي أي 3%، إلاّ أنّها لم تنجح في ذلك.
  • الأزمة في إيطاليا: فقد بدأت بوادر أزمة الديون السياديّة بالظهور خلال عام 2011م، وزاد الضغط على الوضع المالي لزيادة الأزمات الداخلية السياسية، وعدت الحكومة بالقيام بإجراءات جدية للخروج من الأزمة، وإعادة التوازن إلى الموازنة. وضعت إيطاليا تحت وصاية الاتّحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي من أجل القيام بإجراءات جدّيّة للخروج من الأزمة .

إن أثار الأزمة في أوروبا كانت قوية وشاملة ومازالت انعكاساتها ممتدة إلى الآن حيث تعتبر سياسات التقشف التي تتبعها الدول الأوروبية امتداد التأثيرات الأزمة على اقتصاديات هذه الدول  ، حيث تعتبر سياسة التقشف التي تتبعها أوروبا محاولة للخروج من أزمة الديون التي ضربتها قبل عدة سنوات. ومن المؤشرات الدالة على ذلك، أن نسبة الديون إلى الناتج المحلي في اليونان قبل اشتعال أزمة اليورو عام 2011م، كانت 113%. والآن، بعد برنامج الإنقاذ الاقتصادي وكل الإعفاءات التي منحت لليونان، يبلغ حجم ديونها كنسبة من إجمالي حجم الاقتصاد، 174% وهذا بالتأكيد مؤشر خطير يدل على أن اليونان لم تخرج بعد من نفق الإفلاس المظلم. وفي إسبانيا كانت الديون قبل أزمة اليورو 40% من الناتج المحلي، والآن تبلغ 97% وفي إيطاليا، تفوق نسبة الديون إلى الناتج المحلي الـ100%، وكذلك حال الديون الفرنسية التي تتجه لتفوق نسبة الـ100% في العام المقبل، وهذه النسبة المرتفعة من الديون تعني أن كل إجراءات التقشف التي نفذتها دول منطقة اليورو خلال الأعوام الماضية، ومنذ العام 2012م، لم تفلح في خفض مستويات الديون، رغم أنها ضاعفت من المعاناة المعيشية لمواطني دول اليورو[10].

كما أنها فشلت في خفض معدلات البطالة، حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن بعض دول منطقة اليورو، وهي اليونان وإسبانيا والبرتغال وقبرص، تعاني من ارتفاع معدلات البطالة وتواجه احتمالات الاضطرابات والفوضى السياسية تحت وطأة الضغوط المعيشية وانحسار دولة الرفاه والمعاناة واليأس، فالبطالة في إسبانيا بلغت 24%، وفي البرتغال 13.4%، وفي ايطاليا 13.2%، واليونان 25.9%. ولكن يلاحظ أن البطالة وسط الشباب تحت الـ25 عاماً، في هذه الدول أعلى بكثير من هذه النسب، وتقدّر في المتوسط بنحو 23.2%، وحسب تقديرات المحلل الاقتصادي “لاري إيدلسون”، فإن هنالك نحو 28 مليون عاطل من العمل في دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 28 دولة. وتعد دول منطقة اليورو، البالغ عددها 18 دولة، الأسوأ من حيث معدل البطالة[11].

وقد عانت أوروبا من انخفاض معدلات التضخم فيما يسمى بهاجس التضخم عند الأوروبيين، وهو ما يعني أن الطلب على شراء السلع منخفض جداً وأن معدل النمو الاقتصادي يقترب من التوقف، حيث إن معدل التضخم في دول الاتحاد الأوروبي يقل عن 0.4% وهو ما يؤجج المشاكل الاقتصادية في دول الاتحاد الأوروبي عامًة ودول منطقة اليورو خاصًة.

يطهر جليا من خلال ما سبق حجم التداعيات السياسية على الإتحاد الأوروبي مما ينبأ بمستقبل مظلم ينتظره خاصة على مستوى استمراريته المرهونة بفعالية أدائه الاقتصادي .

3- التداعيات السياسية للأزمة الاقتصادية العالمية :

– التداعيات السياسية للأزمة الاقتصادية العالمية على الإتحاد الأوروبي :

ساهمت التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي صاحبت الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الإتحاد الأوروبي نتيجة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية في إعطاء مصداقية لخطاب الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة، وأصبحت أوروبا بصدد تحول سياسي هو الخطير من نوع خاصة ومع تزايد الاحتجاجات في الداخل الأوروبي رفضًا لسياسات التقشف والإصلاح الاقتصادي وعدم فاعليتها، وانتقاد استمرار تحكم المؤسسات الأوروبية في مجريات الدول الأعضاء والاقتناع التام بفقد السيادة لقيادات الدولة على مجريات الأمور في الداخل وكذلك انتقاد النخبة السياسية القائمة وتأكيد فشلها في سنوات ما قبل الأزمة المالية وتأكيد إفلاسها عمومًا والتأكيد على فساد النخبة القائمة والحاجة لبديل فعال يتسم بالنزاهة ولم يكن أمام الرأي العام سوى اليمين المتطرف، وكانت أهم ملامح الصعود اليمين المتطرف بأوروبا ما يلي[12] :

حققت الأحزاب والقوى اليمينية في السنوات القليلة الماضية تزايد واضح في شعبيتها، ما جعلها تحرز مكاسب انتخابية غير مسبوقة سواء على المستوى الوطني أو الأوروبي، ومن أبرز الأمثلة على التفوق الانتخابي لليمين الأوروبي ما حققه حزب الجبهة الوطنية في فرنسا في الانتخابات المحلية التي أجريت العام الماضي ليحكم سيطرته على 11 مجلس محلي، ويشغل مقعدين في مجلس الشورى الفرنسي، كما أحرز 25% من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو الماضي، متفوقًا على باقي الأحزاب الفرنسية. ورغم الهجوم الشديد الذي تعرض له من اليمين واليسار الفرنسي في أعقاب أحداث باريس، فقد نجح في تحقيق المركز الثاني في الانتخابات المحلية التي عقدت في شهر مارس 2015م، حيث حصل على حوالي 25% من الأصوات، مخيبًا توقعات استطلاعات الرأي بحصوله على 30% من الأصوات.

ورغم محاولات تضيق الخناق على اليمين المتطرف إلا أن الفشل الاقتصادي للحكومات المتعاقبة يوجه الرأي العام لليمين المتطرف ففي أكتوبر2010م مثلت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان أمام محكمة مدينة ليون بتهمة الكراهية العنصرية، لتشبيهها صلاة المسلمين في الشوارع بالاحتلال النازي إلا أن النيابة دعت إلى تبرأتها بدعوى حرية التعبير وقد نبه الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، الفرنسيين إلى عدم المخاطرة بدعم اليمين المتطرف، عندما بدأ حزب لوبان يستقطب المزيد من الأنصار، وقال في حديث للإذاعة الفرنسية: «لا تلجأوا إلى هذه الطريقة الانتخابية، لتبليغ رسائلكم، لمجرد أنكم غير راضين أو غاضبون، فهناك تبعات لهذا الفعل على الاستثمار، وعلى التجارة الخارجية، وعلى فرص العمل والنمو».

وفي بريطانيا، حقق حزب الاستقلال المعارض لاستمرار بلاده في عضوية الاتحاد الأوروبي، انتصارات مشابهة بتفوقه محليًا في الانتخابات المحلية الأخيرة ودخوله مجلس العموم لأول مرة، وتقدمه في القائمة البريطانية بانتخابات البرلمان الأوروبي. حتى وصل الأمر إلى وصول نسبة المؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي إلى 50% وهو مؤشر خطير على الوحدة الأوروبية.

وقد حقق الحزب الديمقراطي في السويد بأجندته المعادية للهجرة، تفوقًا في الانتخابات التي أجريت في سبتمبر 2014 بإحرازه 13% من الأصوات، ما أعطاه وجودًا مؤثرًا في البرلمان وقدرة على عرقلة أعمال الحكومة، فيما يتعلق بتمرير الميزانية مثلًا.

كما تقدم حزب الشعب في الدنمارك قائمة الأحزاب السياسية في انتخابات البرلمان الأوروبي مايو الماضي.

أستطاع اليمين المتطرف الفرنسي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة من تجاوز الدور الأول .

كما يعتبر خروج بريطانيا أحد الانعكاسات غير المباشرة لنتائج الأزمة الاقتصادية على الإتحاد الأوروبي ، حيث تعتبر أقوى ضربة تلقاها الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه وخاصة أن القرار البريطاني يأتي في أحنك الظروف التي يمر بها الاتحاد الأوروبي، من أزمة اللاجئين إلى الأزمة الاقتصادية في اليونان مروراً بالأزمة الأوكرانية، كل هذه المشاكل تطلب المزيد من التعاون والتنسيق، ولهذا فخروج بريطانيا من الاتحاد يصعب المهمة على باقي الدول وخاصة الكبيرة وذات النفوذ كألمانيا وفرنسا.

من البديهي أن الاتحاد الأوروبي لن ينهار بين ليلة وضحاها بسبب خروج البريطانيين إلا أنه بات مهدداً بالانهيار، وقد   قال رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك لصحيفة “بليد” الألمانية “أخشى أن يكون خروج بريطانيا مؤشرا ليس فقط على بداية انهيار الاتحاد الأوروبي و إنما الحضارة الغربية”، وما يهدد الاتحاد الأوروبي هو تحسن أوضاع بريطانيا ونموها بعد الانفصال بشكل أكبر وأسرع من قبل فهذا سيكون بمثابة شهادة دامغة على فشل الاتحاد الأوروبي ما يشجع حركات انفصالية جديدة.

ومن جهة ثانية فإن خروج بريطانيا يعد ضربة قوية لثقل الاتحاد الأوروبي السياسي، فلم تعد العقوبات الجماعية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي ضد الدول والحكومات الأخرى بنفس فاعليتها السابقة، وخاصة إذا ما اضطر الاتحاد الأوروبي إلى جعل سياسته الداخلية أكثر مرونة منعا لتصدعات جديدة.

– التداعيات السياسية للأزمة الاقتصادية العالمية على الولايات المتحدة ومستقبل الزعامة العالمية :    قبل عشر سنوات من انهيار الاتحاد السوفيتي تنبّأ المفكر الأوروبي إيمانويل تود Emmanuel Todd بذلك. وعام 2003، أصدر كتاباً تحت عنوان “ما بعد الإمبراطورية” After the Empire تحدث فيه عن سقوط القوة الأمريكية وفقدانها خاصية كونها أهم المتحكمين بالسياسات الدولية[13].

يؤكد تود في خاتمة كتابه على أنه ليس من الضروري أن يعني انهيار أمريكا اختفاءها من على خريطة العالم أو تفككها جغرافياً أو حتى تحوّلها إلى دولة فقيرة، بل يعني أن تنفلت خيوط اللعبة السياسية الدولية من بين أيديها، أو بمعنى آخر أن تتحول من المهيمن الأول إلى مجرد طرف فاعل مثلها مثل دول أخرى.

ويشير تود إلى أن أمريكا كانت تتوقع أن تتحول إلى قوة عظمى وحيدة تسيطر على الكوكب وتتحكم في شؤونه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لكن ما حدث هو أن قوى أخرى صعدت خاصةً بعد تكوّن الاتحاد الأوروبي والتطور الصناعي الكبير الذي أحرزته اليابان، وهذا حال دون ظهور عالم أحادي القطبية.

ورأى أن الصعود المستمر لهذه القوى واحتمالات تحالفها مع قوى أخرى مناهضة للولايات المتحدة كروسيا والصين يجعل من الصعب استمرار الحال على ما هو عليه. فإذا أخذت أوروبا على سبيل المثال في اعتبارها تعزيز القيمة العالمية لليورو أكثر، فربما تصبح عملتها في يوم ما نداً قوياً لسيطرة الدولار على الأسواق الدولية.

ويعتبر تود أن الولايات المتحدة تلجأ إلى بعض التكتيكات الذكية للإبقاء على نفسها قوةً رئيسية، من خلال ممارسة بعض الأدوار المزيّفة ومن ثم إقناع العالم بضرورة الإبقاء عليها في موضع الصدارة من أجل ممارسة هذه الأدوار.

ويقول إنها تظهر أحياناً في مظهر الراعي الأول للديمقراطية في العالم، فتشنّ الحروب على ديكتاتوريات ضعيفة للتأكيد على هذه الصورة، وتهدد بالحرب دولاً قليلة التأثير بوصفها محور الشر في العالم. ولكنّها من ناحية ثانية تتحالف مع أنظمة سلطوية. وأخيراً عدّت نفسها الراعي الأول لمحاربة الإرهاب[14].

وبرأي تود، إن “لجوء أمريكا إلى مثل هذه الأساليب لا يثبت سوى عجزها عن تقديم ما كانت تقدمه في السابق للعالم”، فأمريكا “لم يعد لديها بالفعل ما تقدمه سوى إثارة الحروب والقلاقل”.

تراجع القوة الأمريكية عقب التراجع المستمر في أداء الاقتصاد الأمريكي على إثر الأزمة الاقتصادية العالمية لم يصبح مجرد تنبوءات بل أصبح أمرا واقعا تؤكده مجموعة من الحقائق أهمها :

عدم قدرة الولايات المتحدة بمفردها على تحمل تكلفة دور القيادة العالمية، فمع أنها مازالت القوة العسكرية الأولى في العالم دون منازع، فإن إمكاناتها الاقتصادية تتقلص بشكل نسبي مما دفعها ابتداءً من حرب تحرير الكويت في 1991م، إلى طلب مشاركة حلفائها في أوروبا والخليج في “تحمل الأعباء”، وأصبح ذلك نمطاً متكرراً في السياسة الأمريكية[15].

كتبت “يو إس إيه توداي” أن الإحصائيات تشير الى أن 75% من 21 إلف شخص شاركوا في استطلاع رأي أعلنوا أنهم لم يعودوا يحترمون القيادة الأمريكية على الصعيد العالمي بعد الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في عام 2016. و وفقا للتقرير، فإن مكانة أمريكا تراجعت عما كانت عليه في الأعوام السابقة وفي مجالات مختلفة مثل العمل، المواطنة، السياحية، التعليم و غيرها، إلا أنها ما تزال أقوى بلد في العالم وتليها كل من روسيا والصين، حسب الصحيفة [16].

الدولة المهيمنة هي: “تلك الدولة التي تحوز من القوة ما يجعلها تتحكم في الدول الأخرى كافة بحيث لا تمتلك إي منها القدرة العسكرية على شن حرب عليها”[17]. وبتعبير أخر هي القوة العظمى الوحيدة في نظام دولي لا توجد فيه قوى عظمى أخرى ولا يتطلب بالضرورة إن تمتلك القوة العظمى القدرة على هزيمة كل منافسيها مجتمعين بل يكفي إن تكون هناك فجوة كبيرة وواضحة بينها وبين القوى الكبرى التي تليها . وفق التعريف السابق للهيمنة يمكن استنتاج أن تراجع القوة الأمريكية سيحرمها من أفضلية التحكم في الدول الأخرى خاصة على المستوى الاقتصادي. في مسار المستقبل تؤكد أن دور هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية البارز وعلى ضوء المتغيرات الدولية التي تتفاعل بين الدول الكبرى والتطورات داخل الدول الكبرى قد بدأ يأخذ إشكالا أخرى تعبر عن الواقع ألتعددي الذي يسود العلاقات فيما بين الدول المشاركة في توجيه النظام الدولي ولعقود قادمة.[18]

إن فقدان الولايات المتحدة الأمريكية مركز الرياده العالمية حتمية تاريخية تفرضها عوامل نشوء الإمبراطوريات وأسباب سقوطها وأسس الدورة الحضارية وقوانين التاريخ التي عبر عنها علماء الاجتماع،  فكل إمبراطورية لديها صيرورة تاريخية معينة تبدأ بنقطة الميلاد التي يتم من خلالها الظهور ونقطة النهاية التي تنتهي عندها في الأفول، ومثل كل نظام فإن  للإمبراطورية دورة حياة عضوية: تلقيح وحمل و ميلاد وطفولة ومراهقة وبلوغ الشيخوخة.[19]

كانت صحيفة واشنطن بوست قد نشرت مقالاً يعرض 11 كتاباً لمفكرين غربيين، منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن، يتحدثون فيه عن الانحسار المتزايد للطبقة الوسطى في أمريكا. حتى أنه صدر كتاب بعنوان “أمريكا كدولة من العالم الثالث” لأريانا هافنجتون Arianna Huffington وفكرته المحورية هي أن أكثر ما يميّز دول العالم الثالث – العالم النامي – هو تضاؤل حجم الطبقة الوسطى أو اختفاؤها، وهذا ما بدأت الولايات المتحدة تنحدر نحوه منذ عهد الرئيس الأسبق رونالد ريجان.

الكثير من الكتاب السابقين يؤكدون عن انحدار المكانة الأمريكية والتنبؤ بالعضوية القريبة للولايات المتحدة بين دول العالم النامي خاصة مع أزمة الشرعية التي صاحبت الانتخابات الأمريكية الأخيرة .

– التداعيات السياسية للأزمة الاقتصادية العالمية على الصين  واحتمالية نظام دولي متعدد الأقطاب :

يقدّم نافارو مجموعة من الحقائق التي تؤكد القوة الصينية مقابل التراجع الأمريكي ، كارتفاع مديونية الولايات المتحدة للصين (هي حالياً نحو 1.3 تريليون دولار من أصل نحو 19 تريليون دولار). ويعتبر أن هذه الأرقام هي نتيجة الغزو المُمنهج للبضائع الصينية غير القانونية والمدعومة حكومياً للسوق الأمريكية منذ عام 2001.

بيتر نافارو ليس الوحيد الذي تحدث عن مؤشرات تدل على أضرار جسيمة لحقت بالاقتصاد الأمريكي وتهدد ازدهاره، بسبب الصعود السريع والمستمر لجمهورية الصين الشعبية.

هنالك أيضاً ويليام كريستول William Kristol، الكاتب المعروف بتوجهاته الفكرية التي تنتمي إلى معسكر “المحافظين الجدد”. فقد سبق له أن وصف، في جريدة “ويكلي ستاندارد” Weekly Standard، الصين الشعبية بالبربرية المنظمة التي يجب أن يتخذ السياسيون في أمريكا مواقف أكثر شدّة تجاه مخاطرها على بلادهم.

التخوفات السابقة الذكر لها ما يبررها خاصة أن الاقتصاد الصيني مازال ينمو في ظل تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية ، لكن المتتبع للحركية الدبلوماسية الصينية يستوضح تحركا لدولة كبرى جديدة تستعد لاحتواء العالم لكن بأسلوب لين وهادئ يمكن تأكيده من خلال :

–      تسعى الصين  لبناء علاقات اقتصادية وبنية أساسية قوية مع البلدان في مختلف أنحاء العالم. وهذا من شأنه أن يمكن العديد من البلدان الأخرى من تعزيز نموها، وفي الوقت نفسه ترسيخ زعامة الصين الاقتصادية والجيوسياسية العالمية.
–   إن عدد المبادرات الصينية لتحسين صورتها الدولية وجذب الشركاء كبيرة ، حيث أطلقت الصين أربعة مشاريع كبرى تَعِد بإعطائها دورا كبيرا ممتدا في التجارة العالمية والتمويل العالمي. وقد انضمت الصين إلى روسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا في إنشاء بنك التنمية الجديد الذي سيتخذ من شنغهاي مقرا له. وسوف يساعد بنك الاستثمار في البنية الأساسية الآسيوي الجديد، ومقره بكين، في تمويل مشاريع البنية الأساسية (الطرق والطاقة والسكك الحديدية بين مشاريع أخرى).
– يسعى حزام طريق الحرير البري الجديد إلى ربط الصين باقتصاديات شرق وجنوب آسيا، وآسيا الوسطى، وأوروبا من خلال شبكات ممتدة من السكك الحديدية والطرق السريعة، وشبكات الطاقة وكابلات الألياف الضوئية، وغير ذلك من الشبكات. ويهدف طريق الحرير البحري الجديد في القرن الحادي والعشرين إلى تعزيز التجارة عبر المحيط بين منطقة شرق أسيا والمحيط الهادي

[20].
– تواجه الصين تحديات داخلية كبيرة، بما في ذلك اتساع فجوة التفاوت في الدخول، ومعدلات تلوث الهواء والمياه الشديدة الارتفاع، وضرورة التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون، فضلا عن نفس مخاطر عدم استقرار الأسواق المالية التي تربك الولايات المتحدة وأوروبا.  لكن النمو المطرد لاقتصادها كفيل بإنهاء كل هذه التحديات[21].

– في حين تسجل الصين صعودا ملموسا على الصعيدين الاقتصادي والجيوسياسي، يبدو أن الولايات المتحدة تفعل كل ما هو ممكن لإهدار المزايا الاقتصادية والتكنولوجية والجيوسياسية التي تتمتع بها وذلك بتدخلاتها العسكرية في الشرق الأوسط  وفي مناطق أخرى من العالم.

الخاتمة :

أكد الطرح السابق على أن النظام الدولي يعرف ترتيبا جديدا للقوى الكبرى بزعامة صينية أهلتها لاحتلال هذه الرتبة العالمية حجم اقتصادها وتحقيقه لنسب نمو في ظل أزمة ركود عالمية خانقة يعرفها النظام الاقتصادي العالمي رغم ذلك وللموضوعية العلمية لا تزال كتابات كثيرة تتحدث عن استمرار أمريكا في لعب دور القوة الأبرز في العالم، مقابل الكتابات الكثيرة التي تتحدّث عن أفول القوة الأمريكية.

حيث يلخّص أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة جهاد عودة هذه الكتابات بتأكيده أن أمريكا بالفعل لن تبقى القوة الوحيدة المتحكمة بالسياسات الدولية، ولكنها ستحتفظ في المدى المنظور بمقام الصدارة.

ويرى أن طبيعة القوة الأمريكية معقدة ولها عدّة أبعاد. فهي مزيج من القوى الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بالإضافة إلى سلطة جهاز إعلامي مؤثر جداً وشبكة مصالح مع الدول الصناعية الكبرى.

ويعتبر أن تلاحم هذه القوى يجعل أمر قرب انهيار أمريكا المزعوم صعباً. ففي حالة تراجع مؤشرات أحد هذه الأبعاد وهو أمر يحدث بالفعل من حين إلى آخر، خصوصاً على المستوى الاقتصادي، فإن الأبعاد الأخرى لمنظومة القوة تعمل على تعويض ذلك.

ويرى أستاذ العلوم السياسية العراقي كمال عبد المجيد أنه لا يمكن الحديث عن أفول أمريكا من منطلق النظريات التي تتحدث عن انهيار الإمبراطوريات القديمة. فالإمبراطورية الرومانية انهارت حينما انقضّ عليها نظام أكثر تطوراً منها على المستوى الاقتصادي وهو الدولة العثمانية. و كذلك انهارت الأخيرة إثر هجوم إمبراطوريات أكثر حداثة حلت بثورتها الصناعية محل النظام القديم القائم على الإقطاع الزراعي. أما في حالة الولايات المتحدة، فلم يظهر إلى الوجود نظام اقتصادي أقوى من هذا الذي تنتهجه.

قائمة المراجع :

المراجع باللغة العربية :

إبراهيم عبد العزيز النجار، الأزمة المالية وإصلاح النظام المالي العالمي ، (الإسكندرية ، الدار الجامعية ،2009).

لشرق الأوسط.. بين التراجع الأمريكي وصعود قوى التغيير في النظام الدولي، في الموقع : http://araa.sa/index.php?view=article&id=3612:2015-12-28-07-51-14&Itemid=172&option=com_content، يوم 2 ماي 2017 على الساعة 11.46

محمد إبراهيم السقا، جذور الأزمة المالية العالمية ، مجلة المصارف الكويتية ، فيفري 2009. في الموقع : http://economyofkuwait.blogspot.com/2009/02/1_06.htm

الصين زعيمة العالم الجديدة، في الموقع : http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2014/12/2

اليمين المتطرف يهدد ذولة الرفاه في أوروبا ، في الموقع :  https://www.google.dz/?gws_rd=cr&ei=tWgIWbf6BILzaLHVhpg

تراجع مكانة الولايات المتحدة ثلاث مراتب بعد إنتصار ترامب ، في الموقع : http://alwaght.com/ar/News/90398/%D8%AA%يوم 2 ماي 2017 على الساعة 12.30

كيف أصبحت الصين أكبر إقتصاد في العالم ، في الموقع : https://www.alarabiya.net/servlet/aa/pdf/317a6b66-1288-45cd-a08d-1f055a793cc4

محمد أيمن عزت الحمداني ، الأزمة المالية العالمية :أسبابها وتداعياتها ، في الموقع : http://www.mafhoum.com/syr/articles_09/midani.pdf

مهنة أمين ،  الزعامة الأمريكية للعالم نحو التراجع والإنهيار ، في الموقع  :  http://elhiwardz.com/?p=78542

نصار الربيعي ، تراجع المكانة الأمريكية ، في الموقع http://ara.reuters.com/article/entertainmentNews/idARACAE9B26HF20131016?pageNumber=2&virtualBrandChanne

يونان سعد ، إنهيار أمريكا القريب هل هو واقع أم خيال ؟ ، في الموقع : http://raseef22.com/politics/2016/01/30

المراجع باللغة الإنجليزية

Peter Jarrett, Balance courante américaine : s’attaquer au déficit, Département des Affaires économiques, OCDE-

, L’Observateur de l’OCDE, n°255, mai 2006, http://www.observateurocde.org

إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع القرن الحادي والعشرين ومشروع ” شرق الأوسط”

Strategic United States at the beginning of the Twenty-one century and a ” Middle East project”[1] – إبراهيم عبد العزيز النجار، الأزمة المالية وإصلاح النظام المالي العالمي ، (الإسكندرية ، الدار الجامعية ،2009)، ص. 19.

[2]– المرجع السابق ، ص.22.

[3] – محمد إبراهيم السقا، جذور الأزمة المالية العالمية ، مجلة المصارف الكويتية ، فيفري 2009. في الموقع : http://economyofkuwait.blogspot.com/2009/02/1_06.html

[4] – المرجع السابق .

[5] – Peter Jarrett, Balance courante américaine : s’attaquer au déficit, Département des Affaires économiques, OCDE, L’Observateur de l’OCDE, n°255, mai 2006, http://www.observateurocde.org/

[6] – كيف أصبحت الصين أكبر إقتصاد في العالم ، في الموقع : https://www.alarabiya.net/servlet/aa/pdf/317a6b66-1288-45cd-a08d-1f055a793cc4

[7] http://www.uabonline.org/ar/research/economic/1575160415781606157516011587160815751604/7691/0

[8] – محمد أيمن عزت الحمداني ، الأزمة المالية العالمية :أسبابها وتداعياتها ، في الموقع : http://www.mafhoum.com/syr/articles_09/midani.pdf

[9] http://www.noonpost.org/%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%

[10] – المرجع السابق .

[11]  – المرجع السابق .

[12]  – “اليمين المتطرف يهدد دولة الرفاه في أوروبا “، في الموقع :  https://www.google.dz/?gws_rd=cr&ei=tWgIWbf6BILzaLHVhpg

[13]  – يونان سعد ، إنهيار أمريكا القريب هل هو واقع أم خيال ؟ ، في الموقع : http://raseef22.com/politics/2016/01/30/

[14] – المرجع السابق .

[15]لشرق الأوسط.” بين التراجع الأمريكي وصعود قوى التغيير في النظام الدولي“، في الموقع : http://araa.sa/index.php?view=article&id=3612:2015-12-28-07-51-14&Itemid=172&option=com_content، يوم 2 ماي 2017 على الساعة 11.46

[16] – “تراجع مكانة الولايات المتحدة ثلاث مراتب بعد إنتصار ترامب “، في الموقع : http://alwaght.com/ar/News/90398/%D8%AA%

يوم 2 ماي 2017 على الساعة 12.30

[17] – نصار الربيعي ،” تراجع المكانة الأمريكية ، في الموقع http://ara.reuters.com/article/entertainmentNews/idARACAE9B26HF20131016?pageNumber=2&virtualBrandChannel

[18] – المرجع السابق .

[19] – مهنة أمين ،  “الزعامة الأمريكية للعالم نحو التراجع والإنهيار” ، في الموقع  :  http://elhiwardz.com/?p=78542

[20] –  الصين زعيمة العالم الجديدة، في الموقع : http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2014/12/2

[21] –  المرجع السابق .

طويل نسيمة – أستاذ محاضر في العلوم السياسية والعلاقات الدولية جامعة بسكرة – الجزائر

تحريرا في 1-6-2017

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى