الفلسفة والإيمان : أفاق لرؤية جديدة
اعداد : ياسين عتنا – أستاذ مادة الفلسفة
- المركز الديمقراطي العربي
تعد إشكالية الإيمان والفلسفة من القضايا الإنسانية الشائكة، التي تتطلب رزانة معرفية كبيرة، ومرجعية فكرية دقيقة، وصرامة منهجة بحثة، لكونها قضية مركبة ومعقدة ومتداخلة إلى حد الالتباس.إن المدخل الإبيستمولوجي لتفكير في هذا الأمر، يفرض علينا الوقوف على الثبت المفاهيمي له، وخاصة التركيز على مفهوم الإيمان، الذي يشر في اللغة إلى التصديق، و حسب المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا؛ إلى الطمأنينة والثقة، والاعتقاد و التسليم بشيء ما تسليما راسخا، لا تقل قوته من الناحية الذاتية عن قوة اليقين، ومظهرا من مظاهر حرية الاختيار[1].
كما يجادل جميل صليبا في نفس المرجع، أن الأفعال الإيمانية- هي نفسها الأفعال التي تقوم على أساس الاعتقاد- تنقسم إلى ثلاث أضرب[2] :
- الفعل الإرادي الذي توافق به على صحة قضية غير بديهية، أو على صدق قول لم يقل عليه برهان.
- التعبير عن الإيمان الديني باللسان، العبادات أو الطاعات.
- الإعتراف العلني بقبول رأي أو فكرة أو مبدأ.
من هذا المنطلق المعجمي الفلسفي، نكون أمام تعدد المعاني والشروط المكونة للمفهوم الواحد، لكن جلها تجمع على أساس فكرة واحدة ووحيدة، الآ وهي الاعتقاد بفكرة ما، بدون أسباب علمية عقلية برهانية، وعلى هذا الأساس يمكن أن نتفقد الكرونولجيا التصوراتية للفلسفة، التي تفيد الجمع بين الطرح الفسلفي والإيمان من هكذا منظور، وأبلغ مثال على ذلك الاعتقاد الفلسفي لدى إيمانويل كانط بوجوب العمل على مقتضيات الواجب الأخلاقي، كمبدأ أساسي في الحياة الإنسانية، من أجل حفظ الكرامة الإنسانية وتقديرها، ويعد الشك الأيقونة الفلسفية التي تعبر على الاعتقاد الديكارتي في سلطان الشك بأنه الطريق الأنجع للوصول إلى عالم الحقائق والمعيار الأسمى لها، في حين يوصم فرديريك نيتشه من موقعه تاريخ الفلسفة بالإيمان بالإنسان الخارق، الذي لا يقهر ولا يكل، حيث هو سيد نفسه وسيد قراراته، وتعد فكرة الإيمان بقدرات الإنسان والمركزية التي اكتسبها في الأطروحات الفلسفية أشد مثال يوضح العلاقة الكامنة بين الإيمان والفكر الفلسفي.
إننا اليوم أمام قراءة جديدة للعلاقة الجدلية بين الإيمان والفلسفة، يجب فيها إعادة التفكير في مفهوم الإيمان أكثر من أي وقت مضى، لأن العالم اليوم قد عرف جملة من الديناميات الفكرية والعقدية في حد ذاتها، بالإضافة إلى أن المجتمعات المعاصرة وكذا الفلسفة التي تقوم عليها، تعبر أكثر من مرة على وجوب العمل بفتح أفاق التفكير الديني الإيماني على التفكير الفلسفي، لكي يسع أكبر الفئات الاجتماعية، وهذا ما عبر عنه يورغن هابرماس حينما قال ” إن التغلغل المتبادل للمسيحية في الميتافيزيقا اليونانية والعكس، لم يحمل معه فقط الشكل الروحي الثويولوجي للعقيدة وهلينية المسيحية التي لم تنتصر في كل الأحوال، بل شجع كذلك من جهة أخرى على التقريب بين بعض مضامين المسيحية والفلسلفة. وقد أرسى هذا التقارب دعائمه عن طريق شبكة من المفاهيم المعيارية كالمسؤولية والاستقلال والتاريخ والتذكر والبداية الجديدة والتجديد والرجوع والتحرر والجواني والتشخيص والفردانية والجماعة… وهو تأويل يتجاوز مضمون المفاهيم المسيحية لجماعة دينية محددة ليشمل العموم: معتنقي ديانات أخرى والذين لا يؤمنون بأي دين “[3]. وأفصح أنموذج على هكذا تصور فلسفي هو مفهوم الروح المطلق عند فرديريك هيجل. في حين في المنظومة الفكرية العربية وعلى نفس النهج يؤكد حسن حنفي على فكرة ” قلب الإلهياء إلى إنسياء”[4]، بمعنى وجب على الإنسان العربي أن يحاول تنزيل أوصاف المثل الأعلى الذي هو الله على شكل مفاهيم إنسانية و إلباسه بها.
بناءا على ما جاء أعلاه، فإن فكرة الإيمان بمنظورها الكلاسيكي المنحاز لنفسه، قد أصبحت صنم بدون روح، لذلك وجب ضخها بروح جديد تكون مرجعية و أرضية لكافة الفئات الاجتماعية، مع حفظ فكرة الاختلاف والتعايش معها.
هوامش:
[1] جميل صليبا، المعحم الفلسفي، الجزء الأول، باب الألف، دار الكتاب العربي، 1994، بيروت-لبنان، ص 186-187.
[2] نفس المرجع، ص 187.
[3] يورغن هابرماس و جوزيف راتسنغر، جدلية العلمنة : العقل و الدين، تعريب و تقديم حميد الأشهب، دار جداول للنشر و الترجمة و التوزيع، الطبعة الأولى، بيروت- لبنان، ص58-59.
[4] عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، المركز الثقافي العربي ، ص 82.