النظرة الصحيحة … لجيوش العصور الوسطى
بقلم: د. ميثاق بيات ألضيفي – المركز الديمقراطي العربي
تعد المسائل العسكرية جزء من النشاط الاجتماعي للجنس البشري وما في هذا من شك, ولهذا فقد وضعت دراسة تلك المسائل ضمن الفلسفة الاجتماعية لدراسات الجيوش في القرون الوسطى, على انه تبعاً للتقاليد ظلت المشاكل العسكرية جزءاً من النظريات السياسية فلذا قبل البدء في وصف الحرب نحتاج إلى محاولة تخيل الأخطار التي أحاطت بالجيوش والشعوب وأساليب الحياة في أي بلد, اذ لم يكن لديهم الوسائل التقنية والعسكرية لنشر الدمار الشامل غير إن هذا لا يعني أن الحروب في تلك الحقبة كانت أقل شراسة من حروب اليوم كما انها كانت دموية ومرعبة وفوضوية.
إن أخذنا في الاعتبار عدد السكان الأصغر في تلك الأوقات فأن جيشا من عشرين ألف شخص كان يعد كبير جدا, وقد نبعت عدم الدقة في شهادة واراء وكتابات المؤرخين من حقيقة صعوبة التقدير لحجم الجيوش حسب عدد الفرسان المشاركين فيها وذلك لانه كان كل فارس يمثل بذاته واتباعه المرافقين له حصريا كوحدة قتالية قابلة للتوسع جدًا، اذ كان بإمكانه الحصول على ما بين اربعة مرافقين إلى ثلاثين مرافقا من أقاربه وأصدقائه وفي جميع الحالات من ذوي الخبرة فيشاركون هؤلاء الناس في المعركة مع الفارس مهاجمين ومدافعين عنه، ومع انه كان مفهوم الانضباط العسكري ضعيفا إلى حد ما في ذلك الوقت غير إن مفهوم الشراكة العسكرية بين الفارس ورفاقه كانت لها دلالة صوفية تقريبا وكثيراً ما أظهر المرافقين شجاعة كبيرة من أجل الحفاظ على حياة وسمعة فارسهم.
حرب العصور الوسطى ما هي الا حروب ارستقراطية اعتبر بها الفارس كوحدة قتالية متنقلة وهو شخصيا لا يُطلب منه القتال الفعلي انما الاشراف والتوجيه للمرافقين لذا يكون أقل عرضة للخطر من الآخرين, وجنبا إلى جنب مع الوحدات العادية المتمحورة بالكتائب والمفارز الصغيرة كان للجيوش قوات مساعدة مسؤولة عن الدعم الفني للحرب وكان اولئك محترفين ومختصين في مختلف الحرف العسكرية. وقد كانت تحت سلم التسلسل الهرمي العسكري وحدة المرتزقة التي تعد بأنها القوة الأكثر وحشية التي كان تحت تصرف البارونات وكانت تلك الوحدة واحدة من أهم عناصر الجيش وتستخدم على نطاق واسع في كل من العمليات العسكرية وأثناء عمليات الحصار وذلك ولوحشيتهم وهمجيتهم، ومن المستحيل ألا نقول عن الرعب الذي لا يمكن محاسبته وفقا للقانون والذي هدر كل الحقوق وطال كل شيء بدون شفقة وبدون خوف من الله ومن كل حساب دنيوي.
جحافل المرتزقة كانت بالفعل بلاء للمجتمع وكانت أحد المضايقات الرئيسية للسكان في كل مكان، ومنها كان الحكام يشكلون معظم جيوشهم الجاهزة للقتال إذ كانوا كأفراد عصابات اليوم وأكثر خطورة لأنهم كانوا متورطين في اجرام تلك المهنة بشكل احترافي ويبتزون باستمرار البارونات وحتى أرباب عملهم ويهددون بمهاجمة أراضيهم لعدم دفع رواتبهم ومغانمهم في الوقت المحدد واثناء قيام الحروب نهبوا الأراضي المهزومة وتخاصموا مع الجيوش النظامية بسبب الغنائم بحيث انتهت الانتصارات في كثير من الأحيان بمعارك بينهم وبين الفرسان النظاميين. وتم تشكيل قادة ووحدات عصابات وجحافل المرتزقة في معظمها من رجال غريبين, وكانت لا تدرك الانضباط ولا تعرف النظام ولا الانصياع لقادتها ولا تعترف سوى قادتها، وامتازت بميزتين اساسيتين من وجهة نظر عسكرية, أولها انها كانت معروفة باحتقار قواتها المطلق للموت اذ لم يكن لديهم ما يخسرونه في القتال سوى ارواحهم والتي كانت لا قيمة الا بعد إن ينهبوا ويسرقوا فاندفعوا بلا خشية نحو أي خطر, وثانيها كانت الخسائر الكبيرة بأرواح المرتزقة لا تعرض البارونات او قادة الجيش الى اية متاعب او احراج او لوم من قبل القائد الاعلى. ومن بين اعنف تلك العصابات تم تشكيل كتائب الصدمة والتي تسببت في رعب لا حدود له اذ لا يكتفون بالسرقة والعنف انما تمادوا ليذبحون ويعذبون من أجل المتعة لدرجة انه اشيع انهم يستمتعون بقلي الاطفال على درجات حرارة منخفضة أو تمزيق جثثهم وركل رؤوسهم.
بالإضافة إلى الفرسان وجنبا إلى جنب مع حاشيته والأخصائيين الفنيين والمرتزقة من جميع الأنواع، انتقل العديد من المدنيين مع الجيش وحملوا معهم كمية هائلة من الأمتعة كالخزانات المحملة بالأسلحة والدروع والمظلات، اضافة الى المطابخ والخيم، وكل ما تحتاج إليه أعمال التحصين وتركيب آليات الحصار. وكان للجيش أيضا وحدة نسائية خاصة به لاعمال غسل الملابس وعمل الكتان وغيرها, كما ان بعض المحاربين كانوا قد جلبوا معهم زوجاتهم وأطفالهم. ولا يفوتنا إن نذكر إن تلك الجيوش كانت قد اجتذبت حشود كبيرة من المتشردين والمتسولين والفضوليين واللصوص والباعة المتجولين والمشاة مع كتلة من الناس عديمي الفائدة الذين كانوا يأملون في الربح على نفقته مما تسبب بأعباء إضافية على البلدان والمناطق المحتلة.
ان التكوين التقريبي للجيش في حملة القرون الوسطى وبغض النظر عن صغر حجمه أدى إلى الارتباك وشل حركة المرور على الطرق وزرع الذعر بين السكان والمناطق المدمرة المجاورة اقتصاديا وسياسيا. وكانت الحرب في الأساس هجمات وحصارات ادت فيها المدفعية دوراً كبيراً مخترقة جدراناً سميكة ناهيك عن الدمار الذي أحدثته في المدن المحاصرة، وكان هذا العمل طويلاً وخطيرًا فكانت حرب الحصار في معظم الأحيان حرب استنزاف. وقد أجبر نهج العدو السكان المحليين على الفرار إلى القلاع والمدن المحصنة اثر الاستيلاء على ممتلكاتهم ومواشيهم لذلك أدى الحصار إلى المجاعة والأوبئة، وقامت الجيوش بتدمير الحقول وحرق المحاصيل وقطع الأشجار المثمرة لإجباره على الجوع وقد حاول كل من هؤلاء وغيرهم تلويث الآبار وبالتالي فإن الأمراض وإخفاقات وفساد المحاصيل أخذت أرواحا أكثر من المعارك سواء في الجيش المحاصر أو المحاصر.
عانى السكان المدنيون أكثر من الجيوش المحاربة من الجوع ومن فظائع القتل والقسوة وأملوا أن يقاتلوا بالوسائل المعتادة أو أن يخرجوا بسلام منها, وإن وجهة نظري حول ذلك الجيش تؤكد انه كان له انطباع رهيب لدى معاصريه وانه ومهما كانت نتيجة الحروب فإن مجرد وجود العديد من الجنود المرتزقة في البلاد كان وكأنه كارثة وطنية. وعلى الرغم من ان الحروب الوسيطة تمحورت نتائجها بالذكاء والشجاعة والدراية بالعلم العسكري فأنها كآلة ذات أغراض معنوية وبقيت الوسائل والأصول للمستويات المعنوية ثابتة ومحددة بقواعدها. ومع هذا فان أهم الحقائق البارزة كانت صراعاً للبقاء وكانت الحرب فيه طبيعية وضرورية لتقرير ما هي الدولة التي يجب ان تستمر والتي يمكن ان تتخير ما بين الفناء والبقاء, لهذا كانت الحرب محكومة بأن تنتهي إلى قرار لانها الوسيلة الافضل بوضع الدولة المهزومة تحت رحمة الدولة المنتصرة, وبسبب هذه الأهمية المركزية فأن توجيهها لا يمكن ان يترك للصدفة بل يجب التأهب له, واعداد التدابير الكافية اللازمة إلى الحد الذي يجعل النصر مؤكداً إلى اقصى ما يمكن. وتبعاً لجعل هزيمة العدو وتدمير قواته الهدف الأساسي للحرب, صار الفكر العسكري ميداناً مستقلاً له مبادئه الموجهة وله منطقه وأساليبه الخاصة وبذلك بات في هذا العصر من الممكن مناقشة المشاكل العسكرية على أسس فنية, ولكي يكون الأمر اكثر إيجازا كان من الممكن تقدير كل الانظمة العسكرية بالنسبة لغرض واحد أو لهدف واحد أساسي. ولأنه لم تكن النظرية العسكرية لتقف عند حد إيجاد القواعد والأسس لتشكيل النظام الصحيح للمعركة, وبما إن المعارك هي المقياس الحقيقي للحروب فمن الواضح انه يجب تخطيطها وتحليلها وتوضح مثل تلك الاعتبارات وبأن الدور الذي تلعبه الترتيبات النظرية والتوجيه التخطيطي للعمل العسكري في الحرب الحديثة كان كبيرا, وان إدخال تلك الاتجاهات الثقافية الجديدة لإدراك أهمية الابتكار والفردية إلى جانب العوامل الفنية في النظرية العسكرية تتفق مع القول بأن دقة التحليل الخاص بالمشاكل العسكرية لربما تتوقف على النظرة الصحيحة لطبيعة الحروب.