الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

صنع السياسة (القرار) في سوريا … مقاربة نظرية

اعداد : بشار بصرو شيخ علي (باحث سياسي أكاديمي)

  • المركز الديمقراطي العربي

 

تدور أحداث مسلسل “دقيقة صمت” حول قصة فساد تتشابك فيها الأحداث والخطوط لتشمل مستويات عديدة ضمن الدولة ممثلةً بمسؤوليها وموظفيها، حيث يتناول السيناريو قصة مسؤولين فاسدين قاموا باستبدال مجرمين محكومين بالإعدام، بشاهدين على قضية فساد كبرى بالتواطؤ مع مسؤولين في السجن، ثم هروب المحكومين بالإعدام بعد القيام بتلك العملية، وهنا تبدأ أحداث المسلسل من خلال المساوامة التي تدار بين شخصيات المسلسل والصراع بين المتواطئين في القضية لإنهائها.

وبين الممنوع والمسموح، و”طوطم” السلطة الذي يمهد الطريق لحامل شارته والمتحدث بإسمه لفعل ما يريد، فصراع السلطة ليس صراعًا على المنصب بقدر ما هو صراع على قوة وإمتيازات هذا المنصب، مثلًا في دولة قريبة مثل العراق الصراع على منصب رئيس الجمهورية الشكلي يكاد لا يوجد بالمقارنة بالصراع على منصب رئيس الوزراء –الحاكم  الفعلي للبلاد-، وهنا تأتي الأنثربولوجيا بعدة مواضيع تتداخل فيها العناصر بحيث يمكن تطبيقها على الواقع الحالي أو النظر إلى هذا الواقع من خلالها.

فالأنثروبولوجيا، تتحدث عن المقدس والمدنس، بوصفهما ثنائية من الممكن إسقاطها على الواقع لتوجيه دفة التفاعلات والعلاقات، وذلك ما حدث في العلاقة ما بين الغرب والهنود الحمر في الأمريكيتين، ذلك أن السلطة ومن يمثل هذه السلطة هو شيء مقدس ينتمي إلى عالم ما خارج مقدرة الإنسان البدائي المبسط للأمور، بينما المدنس هي أمور منفعية يومية في متناول أيدي البشر العاديين، ومن هنا تأتي حكاية الرجل الأبيض والسلطة، من خلال تجسيد الرجل الأبيض كإله عائد لهؤلاء البدائيين، وذلك من خلال غرس القيم الداعمة لفكر أفضلية العرق الأبيض على غيره، ما ظهر جليًا في أفريقيا أثناء الحقبة الاستعمارية.

ويتضح في سياق قريب نوعًا ما، في علم النفس خاصةً مع كارل يونج والمنهج الرمزي، فالرموز قد يبنى عليها لغرض أداء وظيفة معينة، يتم إلصاق صفة القداسة على مجموعة من الأشخاص أو زرع صورة نمطية أو بورتوتياب معين في أذهن عامة  الناس عن هؤلاء الأشخاص، وغالبًا ما يكون هؤلاء هم ممثلي السلطة والممسكين بزمامها، بالتالي تكون الرموز التي جرى خلقها لصيقة بهؤلاء وورثتهم، وتمكنهم هذه الخاصية تخطي من كافة الخطوط على اختلاف ألوانها ومسمياتها، بصفتهم الحريصين والساهرين على مبادئ أو أفكار أو قيم معينة، وهذه الفكرة مشابهة  لفكرة الحق الإلهي في أوربا العصور الوسطى كون الملك أكتسب هذا المنصب من الله مباشرةً، ومنصب ولاية الفقيه في إيران ومبدأ حماية المستضعفين، أو الولايات المتحدة الأمريكية ورعاية الديمقراطية كمبرر للسياسات الخارجية للإدارة الأمريكية، بالتالي من خلال ذلك الربط السيكولوجي تتم عملية إضفاء صفة القداسة على ما تقوم به السلطة، ومن يمثل هذه السلطة يتمتع بالعديد من الإمتيازات المترتبة على ذلك، وهنا يتحدث “غوستاف لو بون” في كتابه “سيكولوجية الجماهير” عن التكييف السيكولوجي والخصائص المتعلقة بالجماهير ومن خلال التصنيف الذي قام به نجد الربط في فئة الجماهير المجرمة كيف أن الوسط المحاط به الفرد يمكن أن يدفعه للقيام بأي عمل  بغض النظر عما إذا كان اخلاقيًا أو لا، لطالما وجد أن الفعل مقبول جماهيرًا بل يتم تقديم الثناء والشكر له ومكافئته، بالتالي الجندي النازي الذي أحرق اليهود والغجر وغيرهم كان محاطًا بغلاف عاطفي يقيه ويجعله بعيدًا عن تمحيص مدى خيرية أو شر تلك الافعال، بل قد يقتنع بأنها خيرة لمجرد إقتناع المجموعة من حوله بذلك وتقوم بتخضيم عظمة ذلك الفعل، بالتالي ألمانية الشخص والقيم الألمانية ومتطلبات الوصول إلى الألمانية لها دور بالقيام بذلك الفعل بشكل كبير بالإضافة إلى الحسابات العقلانية التي قد تملي عليه القيام بذلك للحفاظ على حياته.

ومن هنا ننتقل إلى عملية اتخاذ القرار، بين العديد من المقاربات تحت مدخلين هما الفطرة والعلمي، ذلك المدخل الفطري مبني على الطبيعة البشرية للشخص وودافعه وتجاربه الشخصية بالمقارنة بالمدخل العلمي المبني على عدة عوامل، تفترض الرشادة والتقنين من خلال عملية منظمة تتضمن التشخيص وحساب التكاليف والموارد والتوقيت والعوامل الشخصية العقائدية للفرد، بالتالي تتداخل العوامل البيئية على اختلاف مستوياته، بحيث يقع الفرد تحت ضغط مجموعة معينة من العوامل تفرض عليه اتخاذ مسار معين أوخلط مسارات معينة، وربما يكون  ذلك عشوائيًا في الأساس.

بالتالي أصبحنا ضمن دائرة تضمن العديد من الحلقات وهي، السلطة و قيم السلطة والثقافة الداعمة لها، وأسلوب السلطة واتخاذ القرار، قيم وثقافة عامة الشعب وهي الفئة المستقبلة.

ويمكن للناظر إلى هيكل وبناء الدولة السورية أن يلاحظ وجود العديد إذ لم يكن الكثير من المؤسسات والمنظمات الحكومية، وذلك مقنن ضمن دستور جديد –دستور 2012 المعدل- يتضمن قيم وقواعد متينة وعقلانية تفضي إلى دولة مؤسساتية قوية وحديثة، بيدا أن القياس الفعلي والواقعي على مدى قدرة تلك المؤسسات في صنع التغيير أو التحكم في مجرى الأمور ومسارها، يعطي نتائج ومعطيات مغايرة لما هو مرئي أو ظاهر، ذلك أن البرلمان السوري “مجلس الشعب” مثلًا ، خالي الوفاض تقريبًا سواء من حيث نوعية الأعضاء ومهنيتهم أو من حيث قدرة هذا البرلمان على المحاسبة والاستقلالية وإصدار قوانين حقيقية، كما أن تلك المؤسسات لا تستطيع اتخاذ قرارات مفصلية وفي بعض الأحيان القرارات البسيطة والروتينية قد تحتاج العودة إلى مواضع التمركز البيروقراطي.

وفي خضم الحديث عن مواضع التمركز البيروقراطي، لابد من العود في الزمن قليلًا خاصةً مع “محمد الزعبي” رئيس الورزاء السوري عام 1987م، ومن خلال هذه المثال نصل إلى ثنائية الشخص والمنصب، ذلك أن المنصب قد لا يمتلك القوة لضبط الشخص المتحكم به، وكيف أن الزعبي اختلف عن سابقه، من خلال توسيع سلطته وتقليص سلطات الوزراء والعاملين في مجلس الوزراء، ذلك أن سابقيه كانوا يتركون العديد من المهام والأمور لغيره من الوزراء والمحافظين والمدراء، بيدا أن الزعبي جعل كل شيء يمر عبر مكتبه تقريبًا، بالتالي المنصب هنا أعتمد على شخص رئيس الوزراء، الذي كان يحل العديد من الملفات ويتخذ العديد من القرارات من خلال مكتبه أثناء الاجتماع  بالقيادات الأمنية والحزبية، علاوة على الإنتماءات التي تكون سببًا رئيسيًا في شغل العديد من المناصب، وعلى الرغم من وجود الفئة الأكاديمية ولكن يمكن القول أن تأثير هذه الفئة هو ذو طبيعة أستشارية، لطالما أن القرار في النهاية يؤخذ ضمن دائرة صغيرة، وذلك ظهر واضحًا في العديد من المواقف منها تأجيل وإلغاء العديد من القرارات بعد إصدارها حيثما تبين عدم التطابق مع الواقع.

وقد يظل الملف على رفوف إحدى المكاتب، رهن أسلوب المعالجة إما بالرشاوي والمحسوبيات أو الإحالة إلى المسار القانوني والقضائي، الذي بدوره يعطي بعضًا من الوقت وهكذا، وربما القضية ذاتها قد لايجرأ شخص على المساس بها لأنها ترتبط بإسم أو بجهة معينة في الدولة على مستوى عالي من السلطة أو من أرباب السلطة وأصدقائها، هكذا نذهب إلى الدوائر الصغيرة التي يتم من خلالها صنع السياسات والقرارات، وضمن هذه الدوائر تلعب شبكات فساد عميقة دور كبير في صياغة القرار والسياسة التي تصل إلى مكتب الوزير أو الجهة المختصة، ويدخل ضمن ذلك مجموعة من العلاقات الشخصية والمصالح المتناقضة، بحيث يخرج القرار بشكل مشوه لايتناسب مع مصالح العامة، وقد يتسبب بالكثير من الضرر دون رقيب أو حسيب، مثلًا بعض السياساتالأمنية يتم صناعة محتواها بشكل كبير ضمن ثنائية أمنية عسكرية ومدنية، تتمخض في شبكة من العلاقات المزدوجة غير الرسمية غالب الأوقات، يشوبها الفساد والمصالح الضيقة في الكثير من الأحيان، ويضم الطرف الأمني القيادات الامنية في المستويات المتوسطة والصغيرة، بينما الطرف المدني يضم برجوازيين وتجار وأُناس مستفيدة من تلك العلاقة، وقد تكون بعض مواضيع تلك العلاقة ليست لها أية علاقة بعملية صنع القرار، ولكنها تسهم بطريقة أو ما في تلك العملية،  بالتالي المادة الخام تنتقل إلى المستويات العليا التي يتلخص دورها في الإشراف والإصدار، وعلى الرغم من جهود مكافحة الفساد التي يتم الإعلان عنها وكذلك عملية التنمية التطوير بيدا أن هذه الشبكات تقوم بإبتلاع أية محاولة مناهضة لها وربما تضمها إلى صفها، بالتالي تختفي الجهود الرامية لمكافحة الفساد دون أن يُسمع عنها خبر، مثال ذلك وزير التنمية الإدارية السابق “حسان النوري”.

ومع الأزمة استفحلت شبكات الفساد وأصبحت تضم فروعًا جديدة، ونمت معها المواضيع التي  تم تناولها مسبقًا، ثم تضافرت ظروف الأزمة مع العديد من العوامل، منها دخول مبادئ وقيم جديدة عوضًا عن السابقة التي كانت تتمحور حول الفكر العروبي والمقاومة بأفكار جديدة تتمحور حول الحرية والإرهاب والعدالة والأمان، بالتالي قداسة جديدة للاعبين تبدلت ظروفهم ولاعبين جدد، وأصبحت خطوط صناعة القرار أضيق وغير واضحة، بالتالي أنحصرت في مجموعة من اللاعبين سواء مدني أو رسمي، أو حتى لاعبين خارجيين باتوا يملون على الطرف الداخلي الخطوط الممكن التحرك ضمنها، لتتوسع هذه الشبكات وتصبح أعمق من ذي قبل، بل أن الأطراف المتنازعة باتت تتعامل مع بعضها في الليل وتتصارع في النهار تحت بنود تسوقها المصالح والأموال.

وأنصرفت الجماهير تتجند وتنضم لأي كيان تحت أي مسمى، لطالما يرتدي ثوب القداسة، وتحت مسمى هذا الكيان كثرت ولازلت تكثر الأفعال الشائنة التي تختلف تماما عما قيل أو عن المبادئ التي تم تسويقها، ولطالما المحيط كان مقتنعًا بذلك أو الرموز والمثل تقبل ذلك فأنه لا يوجد ما يمنع السرقة أو التخريب تحت ذريعة تهمة معينة، مثلًا أنت مؤيد أو معارض هذه التهمة تبيح لهم فعل ما لايتصوره العقل.

في النهاية، من الواضح أن عملية اتخاذ القرار تتم بأسلوب مؤقت غير إستراتيجي، لمواجهة مشاكل حالية، مما يفسر عدم نجاح الكثير من الخطط طويلة الآجل والعميقة، ذلك أن الفساد المستشري في أروقة الدولة والفئات المستفيدة من ذلك، تعرقل نجاح المشاريع التي تستهدف التنمية والتطوير ومعالجة المشاكل، حيث أن تطور المؤسسات يترتب عليه بالضرورة التطور في أساليب الإدارة وعملية التخطيط والمحاسبة والرقابة وأنظمة اتخاذ القرار وما له صلة بذلك، بالتالي تطور دستوري قانوني هيكيلي يقوم يتضيق هوامش المناورة غير الرسمية والمساحات التي يتولد ضمنها الفساد، بالتالي عملية تصحيح المسار لا تستلزم قيم ومبادئ شكلية بقدر ما تستلزم سلطة موزعة تمكن كافة فئات المجتمع والدولة، وثقافة جديدة تترتب على قوة القوانين وليس قوة الأشخاص والمناصب.

المصادر:

غوستاف لو بون، سيكولوجية الجماهير، (بيروت، دار الساقي، 2015)، الطبعة السادسة، ص ص 161-166.

فولكر بيرتس، الاقتصاد السياسي في سوريا تحت حكم الأسد، (بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 2012م)، الطبعة الأولى، ص ص 365-343.

ميريل وين ديفيز وبييرو، مقدمات الأنثروبولوجيا، ( إيطاليا، منشورات المتوسط، 2016)، الطبعة الأولى، ص ص 118-150.

مظهر يوسف، ” صناعة القرار في سوريا”، سيريانديز، 2010م، متاح على: http://www.syriandays.com/finance/?page=show_det&select_page=3&id=2693

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى