مقالات

الجزائر في مواجهة كورونا : ضرورة تكامل واجبات الدولة والمواطنة التشاركية للأفراد

اعداد : د. عبد المجيد رمضان – باحث في العلوم السياسية / جامعة ورقلة (الجزائر)

  • المركز الديمقراطي العربي

 

مقدمة

وسط جهود متسارعة لاحتواء وباء فيروس “كورونا” في العالم، أثارت الاحتجاجات الحاشدة المستمرة في الجزائر منذ عام، استغراب المراقبين من تصميم المحتجين على مواصلة الحراك الأسبوع الماضي، حيث تحدى آلاف الجزائريين تهديد انتشار الفيروس وتظاهروا في الأسبوع السادس والخمسين عبر مختلف شوارع المدن الجزائرية. وتعالت أصوات عديدة من صناع الرأي في الجزائر من أطباء وشخصيات اجتماعية وسياسية للمطالبة بتوقيف المسيرات والتجمعات في هذا الظرف الصحي المعقد الذي تشهده الجزائر وعديد بلدان العالم.

وفي تطور إيجابي لافت، توافقت المكونات السياسية والمدنية للحراك الشعبي على الاستجابة وعلى تعليق مؤقت للتظاهرات والاحتجاجات للمرة الأولى منذ 22 فبراير 2019، على خلفية المخاوف من تزايد حالات الإصابة بالوباء، خصوصا في العاصمة الجزائر والبليدة قرب العاصمة. وانتهى نشطاء الحراك في بيان خاص إلى الاستعداد للمساهمة في أي مجهود مجتمعي تعاضدي لمواجهة أية تطورات تمس سلامة الصحة العامة.

واعتبر بعض المتابعين أن تعليق المظاهرات قرار حكيم، حيث اتخذ الحراكيون الخطوة الصحيحة والمسؤولة، مطالبين السلطة من جانبها بتغليب الحكمة، خاصة أن الظرف يستدعي إلغاء المنطق الأمني لصالح التضامن وتشارك جهود الدولة والأفراد من أجل القضاء على الوباء كأولوية قصوى، حيث بلغ عدد المصابين 60 فردا، وتوفي أربعة أشخاص إلى نهاية منتصف شهر مارس.

واجبات الدولة والمواطن في حفظ الصحة:

ثمّن الإرث الاجتماعي عند الأمم باختلافها الصحة، وجعلتها في صدارة اهتماماتها. وقد كان المفهوم الكلاسيكي والشائع للصحة العمومية أنها من اختصاص الدولة وحدها، غير أن المفهوم توسع ليشمل كل الهيئات العمومية والخاصة ومنظمات المجتمع المدني وجميع المواطنين، يعكفون معا على الوقاية من الأمراض، وتربية الفرد على قواعد النظافة الذاتية، ووضع الشروط الاجتماعية الكفيلة بضمان لكل عضو من الجماعة مستوى من العيش منسجم وملائم لحفظ الصحة وطول العمر.

ويضمن الدستور الجزائري الرعاية الصحية ويعتبره حقا للمواطنين. وتتكفل الدولة بالوقاية من الأمراض الوبائية والمعدية وبمكافحتها (المادة 66). وينص قانون الصحة أن الدولة تضمن وتنظم الوقاية والحماية والترقية في مجال الصحة (المادة 14)، وتنفذ الترتيبات من أجل الوقاية من الأمراض المتنقلة وغير المتنقلة ومكافحتها، قصد تحسين الحالة الصحية للمواطنين ونوعية حياة الأشخاص (المادة 15). ويخضع الأشخاص المصابون بأمراض متنقلة والأشخاص الذين يكونون على اتصال بهم وقد يشكلون مصدرا للعدوى، لتدابير الوقاية والمكافحة المناسبة (المادة 38).

وبخصوص الوقاية من الأمراض ذات الانتشار الدولي ومكافحتها مثل فيروس “كورونا”، فتنص (المادتان 42 و43) من ذات القانون أن هذا الأمر يخضع لأحكام اللوائح الصحية الدولية لمنظمة الصحة العالمية، وتضع الدولة التدابير الصحية القطاعية الرامية إلى وقاية المواطنين وحمايتهم من الأمراض ذات الانتشار الدولي مع تفعيل مهام مصالح المراقبة الصحية على مستوى نقاط الدخول الحدودية.

ومن حيث واجبات المواطن، واستنادا إلى الدستور، فعلى المواطن أن يؤدي بإخلاص واجباته تجاه المجموعة الوطنية كل في موقع عمله ومنصب مسؤوليته. كما يمارس كل مواطن جميع حرياته، لكن في إطار احترام الحقوق المعترف بها للغير. بمعنى أن المواطن ملزم بالتقيد بالضوابط التي تفرضها ضرورة اتباع التعليمات الصحية المطلوبة وعدم التشبث بحقوقه كحق التظاهر بما أن ذلك سيؤدي إلى عواقب وخيمة على المجتمع برمته.

تدابير وقائية واستجابة غير واعية لفئة من المواطنين:

في أول إجراء احترازي في الجزائر لمنع انتشار فيروس كورونا، تم تقديم العطلة الربيعية وإغلاق جميع المدارس والجامعات ومراكز التكوين المهني والمدراس القرآنية. وتم إغلاق الحدائق العمومية والمرافق الثقافية والمساحات التجارية الكبرى والمقاهي وقاعات الحفلات في أغلب المدن، ونصبت خلايا أزمة متعددة القطاعات في جميع الولايات لمتابعة التطورات واتخاذ الإجراءات المناسبة للتصدي لانتشار الفيروس، وباشرت الجهات المختصة عمليات تطهير وتنظيف تمس بعض المرافق والساحات العمومية والأحياء بالمواد المطهرة. وقررت وزارة الشباب والرياضة إقامة جميع مباريات البطولة والمسابقات بدون جماهير، إلا أن انتشار الفيروس، أجبر المسؤولين بعد ذلك على غلق المنشآت الرياضية وتعليق كافة الأنشطة لمدة ثلاثة أسابيع.

وتقرر أيضا إجراء تعليق جزئي لعدد من الرحلات الجوية والبحرية إلى عدد من البلدان الأوروبية، ما أثار جدلا في شبكات التواصل الاجتماعي، يطالب فيها المدونون بتعليق تام لجميع الرحلات القادمة من وإلى فرنسا خصوصا، باعتبارها مصدر الإصابات الأولى للفيروس المسجلة في الجزائر. وبررت الحكومة موقفها بإتمام إجلاء الرعايا الجزائريين العالقين في المطارات إلى الخميس 19 مارس كآخر أجل. واستتبعت الإجراءات بغلق المراكز الحدودية بين الجزائر وتونس، وتعليق جميع الرحلات الجوية الـمتوجهة والقادمة من عدة  عواصم عربية وإفريقية.

في سياق آخر، تعامل كثير من الجزائريين مع هذا الوباء رغم خطره الشديد وانتشاره السريع بنوع من الاستهتار واعتباره أمرا هيّنا لا يحتاج في نظرهم إلى العزل الصحي والمكوث في البيوت؛ حيث تهافتت العائلات، في أول يوم من العطلة المدرسية المقدّمة، على الحدائق العمومية بأعداد رهيبة وتجولت في الأسواق الشعبية التي عرفت اكتظاظا كبيرا، فضلا عن الحركة الواسعة المسجلة في المقاهي وقاعات الشاي والمطاعم والأزقة والشوارع وغيرها من الفضاءات العمومية التي يكثر فيها الاحتكاك مع الغير.

وناشد جمع من الأطباء والإعلاميين هؤلاء المواطنين بضرورة تغيير سلوكاتهم وبواجب التأقلم مع الوضع الجديد تفاديا لأي سيناريوهات غير محمودة العواقب، لأن مواجهة هذا الوباء العالمي مسؤولية جماعية يتشارك فيها أفراد الشعب برمته، فكلهم في قارب واحد وسلامة كل فرد هي سلامة الجميع. وما قد يزيد من تعقيد الأمور، ضعف القدرة الاستيعابية للمستشفيات في الجزائر وعدم تجهيزها بالكافي لمواجهة هذه الطوارئ، حيث لا يتجاوز عدد الأسرة في غرف الإنعاش 400 سرير، مع نقص الوسائل الوقائية في الصيدليات من أقنعة ومواد مطهرة وارتفاع أسعارها عن المعتاد إن توفرت.

وانطلقت، بموجب هذه الأوضاع، عمليات تحسيس عبر وسائل الإعلام وتكنولوجيات الاتصال تنادي بالتحلي بقيم المواطنة من خلال الانصياع إلى التعليمات بالمكوث في البيوت واحترام التدابير الوقائية، والحذر من مغبة تكرار سيناريو أوروبا في الجزائر.

كورونا .. امتحان حقيقي لقياس التزامات الدولة وقيمة المواطنة

ثمة معادلة اجتماعية وسياسية في كل المجتمعات، مفادها الجوهري هو أنه حينما تغيب قيمة المواطنة وتتراجع أنظمتها وإجراءاتها ومتطلباتها، تبرز اللامبالاة والفوضى وتتصدع العلاقة بين المواطن والدولة. فالمواطنة تمثل العلاقة الطبيعية بين الفرد والدولة من أجل ترسيخ المصالح العليا للدولة وتحقيق المنافع العامة لأفرادها.

وتمر السلطة الجزائرية أمام الشعب بامتحان صعب، سيقيس مدى قدرتها على الوفاء بالتزاماتها لمواجهة هذا الوباء والتحكم في الوضع، لكن ذلك لن يتم دون التشارك مع المواطنين المطالبين بالانخراط في هذا المسعى بتضامنهم. فالتضامن من القيم الأساسية للمواطنة لأنه يقوم على فكرة مساعدة الفرد لغيره، ويناقض الأنانية والفردانية.

وتجسيدا لهذه القيمة، انطلقت مبادرات محمودة أطلقها رواد مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر تحت شعار “أنا متطوع .. أنا في خدمة الجزائر”، و”متطوعون في خدمة الوطن، لنتحد ضد كورونا”، وذلك لمساعدة السلطات على مواجهة فيروس كورونا، معلنين استعدادهم للخدمة المدنية ضمن خطط تنفيذ تدابير محتملة يضعها المسؤولون لمواجهة الوضع، واعتبروا ذلك ترقية حقيقية لسلوك المواطنة، وإيمانا بمسؤولية المجتمع المدني في إدارة الأزمات وتفعيل الدور الاجتماعي اتجاه الوطن.

وكانت لبعض الهيئات الاجتماعية والعرفية في جهات مختلفة من الوطن، مواقف صائبة بدعوة المواطنين إلى إلغاء كل التجمعات والنشاطات من الأعراس وغيرها خلال هذه العطلة ، وعدم السفر والتنقل إلا للضرورة القصوى، وتوعية الناس بمخاطر هذا الوباء وسبل الوقاية منه، وذلك عملا بقواعد الشريعة التي توجب الحفاظ على الأنفس وضرورة دفع المضرة قبل جلب المصلحة.

الخاتمة:

إن الواقع الذي يفرضه وباء كورونا يقتضي على كل من الدولة والمواطن النهوض بواقعهما وتغيير الممارسات إزاء بعضهما البعض؛ فالسلطة التي تنشد بناء جزائر جديدة مطالبة بانتهاج مسار مغاير للمسارات السابقة، يقوم على تفعيل الاتصال المؤسساتي وخاصة خلال الأزمات، والمواطنة تقتضي التشارك في عمليات التحسيس والتوعية وتنفيذ التدابير الوقائية ونشرها في المحيط العام، لما لهذه المشاركة من دور هام في المجتمع، فانعدامها يصيب البنى المجتمعية القائمة بضعف في الاستعداد للتضحية، ووهن في الولاء الاجتماعي، وفتور في الهمة للإسهام بالجهدين المادي والمعنوي.

فليس ثمة نهضة واستقرار للوطن بدون جهود مشتركة لطرفي العلاقة (الدولة والمواطن)، فأغلب الانتكاسات الوطنية كانت نتيجة تغييب مبدأ المواطنة. وتعتبر المشاركة الفعالة والمسؤولة من المواطن في الإسهام في الشأن العام، الدافع القوي لإنتاج دولة متطورة ومتحضرة. فالمواطن المسؤول يعتبر صانع التغيير لواقعه ولوطنه، فهو يسهم في تخفيف الأعباء عن دولته، ويرشدها في تبني الحلول الناجعة لتحقيق التطور المنشود.

4.5/5 - (15 صوت)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى