قضايا الهوية وكيف تتعامل الدولة مع نتائجها
اعداد : مونيكا نبيل توفيق – المركز الديمقراطي العربي
تمهيد
سيتم تناول قضايا الهوية وعلاقتها بالدولة لانها كانت محل للصراع السياسى والتوترات بين الاثنيات المختلفة خاصة فى عالم ما بعد سقوط القطبية الثنائية مع التركيز على الصراعات الثقافية وليست العرقية.
وقد برز الاهتمام بهذا الموضوع بسبب شعور بعض الافراد انه يجب ان يكون لهم مجتمع سياسى واحد وان يقيموا فى دولة تعبر عنهم نتيجة لاختلاف الولاءات التى تؤدى دائماً الى وجود صراعات مع الآخرين. ومن هنا يمكن القول ان الهوية مبنية ومكتسبة وليست طبيعية وموروثة لانها عمل عمدى يهدف الى اكساب اشخاص معينة هوية معينة, ولذلك قد تكون الهوية تعبير عن المواقع الطبقية فى المجتمع نتيجة الخلاف على العامل الاقتصادى وليس على الثقافة او قد تكون صراع على الموارد او للوصول الى السلطة مما يؤدى فى النهاية الى الصراعات الاثنية بسبب الصراع على امتلاك السلطة والتحكم فى الدولة لصالح هوية على آخرى.
مقدمة
الهوية لها قيمة كبيرة كونها “يمكن التعرف عليها”. الهوية تضمن الاعتراف؛ الهوية فهى توفر اليقين الأساسي لكل متطلبات الاعتراف. الأشخاص يشعرون بالاعتراف بأنها مسألة حياة أو موت ، ولهذا السبب فإنهم يطالبون بالمشاركة في المعركة حتى يتم الاعتراف بهم. من الممكن إذن أن نطلب الاعتراف دون الإصرار على الهوية، حتى في عصرنا، حيث ثبت أنه من الصعب الاستغناء عن الهوية. يصف هنتنغتون الطرق التي يصبح فيها كل “نحن” مدركًا لهويته الخاصة فقط من خلال إنشاء “غير نحن” كفئة من التغيير: إذًا، وهذا يعنى أننا لا نعرف أنفسنا بالقدر الكافى الأ من خلال وجود آخر أعرفه وأقوم بتحديده, ومن ثم معرفة من أنا, “نحن نعرف من نحن فقط عندما نعرف الآخر، وفي كثير من الأحيان فقط عندما نعرف من نحن ضد!”.
يشهد العالم تحولًا من الطبقة الاجتماعية والأمة إلى العرق، والجنس، والدين، وما إلى ذلك. يشير هذا إلى الاعتقاد بأن الهويات التي يتم تحديدها لأغراض سياسية، من خلال الوضع الاقتصادي والمصلحة، تعيش حياة غير مريحة في الحالة الراهنة للمجتمعات الحديثة. وهكذا، يتم الافترض أن “الحركات القائمة على الهوية” تحل محل “الحركات المستندة إلى المصالح”. إن الحركات القائمة على الهوية تعني محاولة النجاح في النضال من أجل تحديد التعريف العام لصفات وحقوق الناس وواجباتهم. إن تكوّن سياسة الهوية يعني أن سياسة الهوية أكثر سماكة مقارنةً بالعالمية. يحدد تايلور مطالب أنصار التعددية الثقافية من حيث الطلب على الاعتراف بالآخر. بالنسبة لتايلور ، فإن ما هو على المحك في المناقشات المعاصرة حول التعددية الثقافية هو الاعتراف بقيمة متساوية للثقافات المختلفة. إن المطلوب هو ليس الاعتراف بالهوية الثقافية فحسب بل الاعتراف بالقيمة الثقافية. الفرضية غير المعلنة وراء هذا الطلب هي أننا ندين بالاحترام المتساوي لجميع الثقافات.
يحدث التجزؤ بسبب الحركات الاجتماعية الجديدة القائمة على الهويات الثقافية. ومع ذلك، هذه الحركات ليست على الإطلاق خالية من المصالح الاقتصادية للطبقات الاجتماعية. ترمز سياسة الهوية إلى صعود الطبقات الاجتماعية الجديدة بدلاً من وضع علامة على نهاية الطبقات الاجتماعية باعتبارها هويات أكبر ومستقرة. يظهر الصراع بين مجموعات مختلفة على ما يبدو تمتلك “خصائص ثقافية متميزة” بسبب تحديد الحياة الفكرية للمجتمع ككل. وبالتالى يصبح الصراع بين الهويات ليس ثقافيًا بالمعنى المشار إليه, لكنه إقتصاديًا.
هل العالم بالضرورة هكذا؟ هل تتكون في الحقيقة فقط من مجموعات كثيرة، مجتمعات وحضارات، كل منها يتشبث بهويته الخاصة به، و كل هوية متميزة ومنفصلة عن كل الهويات الأخرى؟ الجواب هو “نعم” إذا كنا نعتقد أن العلاقات بين البشر تهيمن في المقام الأول عليها مبدأ الهوية. على النقيض من التعايش (الانفصال)، ينطوي التكاتف على مشاركة الآخرين. ولا يشارك الآخرون إلا بقدر ما نشعر به نحن، بدءا بمبدأ عدم الاكتمال وعدم التخلي عن حواجز الهوية ، لتصبح جزءا من شبكات التشابه. “السلام العالمي” قد لا يكون مكفولاً، لكن عدم اكتماله وتعاضده يترافق مع صراعات ترويضية تحاول تحقيق الخير العام للجميع.
لذلك سأقوم فى هذا البحث بالتطرق إلى المفاهيم الختلفة التى تتعلق بالهوية ومفهومها عن شكل الدولة وكيف تتداخل معها وتؤثر عليها مثل مبدأ الاعتراف وفكرة التعددية الثقافية وعلاقتهما بحيادية الدولة أو تحقيق الإندماج والاستيعاب أو التطرق لمفهوم جديد وهو الانتماء المشترك.
مفهوم الدولة عند القوميين والفوضويين
الدولة هى الإطار السياسى والكيان التنظيمى الواسع لوحدة المجتمع والناظم لحياته الجماعية وموضع السيادة فيه, بحيث تعلو إرادة الدولة شرعاً فوق إرادات الأفراد والجماعات الأخرى فى المجتمع وذلك من خلال امتلاك سلطة إصدار القوانين واحتكار حيازة وسائل الإكراه وحقَ استخدامها فى سبيل تطبيق القوانين بهدف ضبط حركة المجتمع وتأمين السلم والنظام وتحقيق التقدم فى الداخل والآمن من العدوان فى الخارج. وتتألف عناصر الدولة من الشعب والأرض والسلطة. ومن الناحية القانونية, تُعتبر الدولة شخصية قانونية موحَدة, وكياناً جماعياً, يتمتع بسلطة الأمر والنهى على نحو فريد فى المجتمع. وهو يتوافق مع فكر القوميين عن الدولة.
يمكن تعريف القومية على أنها “الاعتقاد أن الأمة هى المبدأ المركزى للتنظيم السياسى, ولذلك تقوم على افتراضين مركزيين. أولهما, ان الجنس البشرى ينقسم طبيعياً الى أمم متمايزة, وثانيهما ان الأمة أكثروحدة ملائمة للحكم السياسى (وربما الوجدة الوحيدة الملائمة).ولذلك عملت القومية السياسية الكلاسيكية على ان تجعل حدود الدولة تتطابق مع حدود الأمة, ومن هنا سيتطابق الانتماء القومى والمواطنة فى داخل ما يسمى بالدولة – الأمة. لكن القومية ظاهرة ايديولوجية مركبة وعالية التنوع, فلا توجد أشكال إثنية وثقافية وسياسية متمايزة للقومية, بل إن التداعيات السياسية للقومية اتسمت باتساع نطاقها وتناقضها فى بعض الأحيان. ومع أن القومية قد ارتبطت بالإيمان بمبدأ تقرير المصير القائم على افتراض المساواة بين الأمم, إلا أنه استخدام للدفاع عن المؤسسات التقليدية والنظام الاجتماعى القائم.
المهمة القومية الأكثر كمالاً هي الدفاع عن البلاد ضد الإمبريالية. كان ينظر إلى القومية باعتبارها ضرورية للتنمية الاقتصادية لحماية الاقتصاد النامي ولذلك هناك حاجة إلى القومية. كما أن القومية الكمالية تعني أيضاً فرصة لتحقيق “الاستقلال الذاتي”. بالإضافة إلى ذلك، كانت القومية الكمالية تأمل في توفير الظروف للذين ينتمون إلى أي عرق أو عقيدة دينية للعيش معاً.
إن التعامل مع القومية باعتباها أيديولوجيا فى حد ذاتها يعنى مواجهة ثلاث مشكلات كحد أدنى. أولها أن القومية تصنف أحياناً كمذهب سياسى وليس كأيدولوجيا مكتملة النضج لأن جوهرها هى الإيمان البسيط بأن الأمة هى الوحدة الطبيعية والمناسبة للحكم, ولكنها نظرة خاطئة. ثانيهما أن القومية يتم تصويرها أحياناً كظاهرة نفسية فى جوهرها بدلاً من تصويرها كتكوين نظرى. ثالثهما ان لها طابع سياسى متغير, ففى أوقات تكون تقدمية واحياناً تراجعية, عقلانية و لا عقلانية وهكذا. وتتعارض معها الفوضوية بشكل أساسى بسبب رفضها المباشر للدولة (وسوف نتطرق للحديث عنها). ولعل من أهم الأفكار والنظريات القومية: تقرير المصير وسياسات الهوية.
1-تقرير المصير: لم تظهر القومية كأيديولوجيا سياسية إلا عندما حدث اللقاء بين فكرة المجتمع القومى ومبدأ السيادة الشعبية فى كتابات جان جاك روسو. ومع أنه لم يتناول فكرة الأمة تحديداً او يناقش ظاهرة القومية, إلا أن تأكيده على السيادة الشعبية التى عبَرت عنها فكرة الإرادة العامة كان بمثابة البذرة التى نبتت منها المذاهب القومية. وفى إطار التقاليد القومية, تتصل الأمة والدولة ببعضها بصورة متداخلة, ويعد محك الاختبار بالنسبة للهوية القومية هو الرغبة فى تحقيق الاستقلال السياسى أو الحفاظ عليه, ويعبر عن الاستقلال السياسى عادةً من خلال مبدأ تقرير المصير القومى. ومن هنا فغاية القومية هى تأسيس الدولة-الأمة من خلال وسيلتين؛ التوحيد السياسى والاستقلال. تكمن القوة الضخمة للدولة-الأمة فى أنها تقدم إمكانية لكل من التماسك الثقافى والوحدة السياسية. وعندما يفوز شعب يتمتع أفرادة بهوية إثنية أو ثقافية مشتركة بحق الحكم الذاتى, تتطابق عنده المواطنة والانتماء القومى. ويضاف لذلك أن القومية تضفى الشرعية على سلطة الحكومة, إذ تستقر السيادة السياسية فى الدولة-الأمة لدى الشعب أو الأمة ذاتها. ويجدر الإشارة أن القومية لا ترتبط دائماً بالانفصالية, وإنما يمكن أن تعبر عن نفسها بدلاً من ذلك على هيئة الفيدرالية أو تفويض السلطة. ولكن ليس مؤكداً ان كان ذلك سيشبع مظالب الشعب القومية من عدمه.
2-سياسات الهوية: تتناول كل أشكال القومية مسألة الهوية, ومهما كانت الأسباب السياسية التى ترتبط بها القومية, فهى تقدم تلك الأسباب على أساس الإحساس بالهوية الجمعية التى يُنظر إليها باعتبارها الوطنية. وهناك بعض أشكال القومية أقل ارتباطاً بالمطالب السياسية الصريحة من الأشكال الأخرى, وينطبق ذلك على حالة القومية الثقافية (التى هى شكل للقومية يؤكد على تقوية أو الدفاع عن الهوية الثقافية فوق المطالب السياسية) والقومية الإثنية (التى تشير الى الولاء تجاه شعب متميز أو جماعة ثقافية أو منطقة جغرافية, وبينهم رابطة دم ولذلك يشعرون بتميزهم مع وجود قيم وممارسات وتقاليد خاصة بهم).
على النقيض من مفهوم القومية, يأتى مفهوم الفوضوية أو الأناركية والذى يشير إلى غياب الحكومة أو الدولة أو إلى إستخدام العنف كوسيلة لتهديد الدولة. يجب النظر إلى الفوضوية كحركة أيديولجية مثلها مثل الايديولوجيات الأخرى. وقد تم فهم هذا المصطلح من كتابات بيير برودون والذى يرى أنها لسيت غياب النظام ولا هى الغوغائية أو اللا مسئولية, لكنها الوضعية التى يصل إليها المجتمع فيستغنى فيها عن التنظيم المفروض عليه, وتكون الأخلاق حاكمة بدلاً من القانون.
وتُظهر بعض الكتابات انها تعامل مع الحكومة والدولة والسيادة والقانون والسلطة كواحدة, وبالتالى فهو يتحدث عن إلغاء الدولة كأساس لإلغاء الحكومة والسلطة. ويُرى برودون انه معادٍ للدولة, فبالنسبة له الدولة عبارة عن خيال خلقناه, وبالتالى فهى مؤسسة شكلية ومتغربة وهى مؤسسة إجرامية ومرتبطة بالعنف والاستغلال لأنها هى التى أسست الهيمنة وبالتالى تنفى حرية الإنسان وحقوق الأفراد وخاصة حرية السوق والملكية. وهم يرفضون القانون وذلك لأنه أداة طبيعية وضعت على أساس مفهوم خاطىء للإرادة الحرة.
بعد إيضاح نوعين متناقضين من الايدولوجيات, سنتحدث عن الوظائف المختلفة لتلك الإيديولوجيات. وعلى سبيل المثال وليس الحصر:
1-هى آلية أساسية لإدارة الصراع: فعلى المستوى الشخصى تعمل الايديولوجيا على مساعدة الأفراد على مواجهة الصراع الداخلى, وبالنظر للآخرين تعطى تفسيراً للأوجه المختلفة لحياة الفرد, أما على المستوى العام فهى تلطف بض الصراعات من خلال قنوات تنافسية والتى تعمل على خفض وتقليل السلوكيات المختلفة الناتجة عن اختلافات حاجات الأفراد أو الأعضاء المختلفين. فمن خلال الأيديولوجيا يعبأ الأعضاء الجدد بالأفكار والمثل العليا التى تحدد المسموح والممنوع, والأهداف والتطلعات التى تخلق الشهور بهوية عامة وارتباط الأعضاء فى النظام الاجتماعى تدعيماً للمجتمع, من خلال التربية كوسيلة لتقديم الإنسان إلى المجتمع.
2-هى آلية لتحقيق الهوية والتعبير عنها: الأيديولوجيا تسعى إلى تحقيق الذات القومية وذلك من خلال التماسك والوحدة داخل الدولة “إن الاشتراك العام فى مجموعة من الأفكار يؤدى إلى دمج الأفراد فى جماعة أو حزب أو حركة, فالأفكار التى يتم اعتناقها بشكل عام تحدد الأشياء المقبولة والمهام التى يجب إنجازها”. وبالتالى فالأيديولوجيا تؤدى وظيفة هامة وهى أن تخلق ارتباطاً وجدانياً بين الأفراد فتعطى إحساس بالهوية لأولئك الذين يشتركون فى اعتناقها. فهى تربط مؤسسات المجتمع ببعضها وتعمل على تأكيد الهوية وذلك من خلال تحديد الأدوار وتأكيد الشخصية من خلال هذه الأدوار.
مبدأ الحق فى الإعتراف وعلاقته بالهوية والدولة
عندما يفوز شعب يتمتع أفرادة بهوية إثنية أو ثقافية مشتركة بحق الحكم الذاتى, تتطابق عنده المواطنة والانتماء القومى ويبدأ فى البحث عن حقوقه فى الاعتراف به. يمكن للهوية أن تجمع بين الاعتراف واحترام “الآخرين”. إذا كان أحد يحترم الآخرين، فإن المرء ينسب له هوية أيضًا ؛ يعترف المرء إنه ليس فقط لدينا الحق في الحفاظ على هويتنا والدفاع عنها، ولكن أيضا “الآخرين” لديهم الحق في ذلك. هكذا تنشأ المعاملة بالمثل لضمان وضع عدم النزاع، مما يؤدي إلى التعايش. إذا كانت الهوية مساوية للنزاهة ، فإن الآخرين الذين تنتجهم هذه الهوية يصبحون حتمًا خطرًا. من الممكن الدفاع عن النفس من خلال التعصب والعزلة الذاتية. ويتم تنفيذ هذا عبر طرد الآخرين من الاراضى التى يسكنون بها او حتى قتلهم والقيام بعمليات لإبادتهم من اجل المحافظة على النفس من الآخرين.
يعطي هيجل الاعتراف دورًا أساسيًا كشيء ضروري لوجود الوعي الذاتي. الحصول على اعتراف الآخرين ضروري لتحقيق فهم ذاتي إيجابي لنفسك كشخص كامل. وهكذا، فإن الاعتراف ليس مهماً فقط لتطوير الوعي الذاتي ، ولكنه مهم أيضاً من الناحية السياسية. الفكرة هي أننا إذا كنا بحاجة إلى اعتراف لتحقيق حياة صالحة للعيش ، فإن عدم الاعتراف الاجتماعي يدفعنا إلى النضال من أجل ذلك. عدم الاحترام وعدم التقدير يمكن أن يسبب بالفعل الضرر، وبالتالي ينظر إلى تجنبها كقوة وراء الحركات الاجتماعية.
لم يدافع هيجل عن الديمقراطية في نظريته السياسية التي تركزت على تحقيق الحرية والاعتراف بمواقف اجتماعية معينة. كان أكثر أهمية بالنسبة له أن يتم تمثيل مصالح الجميع في مجتمع منظم بعقلانية من أن يحصل الجميع على التصويت. كان هابرماس أبرز المدافعين عن الرأي القائل بأنه بينما يحتاج المواطنون إلى تعلم بعض اللغات وأن يكونوا اجتماعيين ومثقفين ، فإن المجتمع السياسي منفصل عن الهويات السياسية السابقة. وقد جادل العديد من الآخرين، بما في ذلك تايلور، بأن التضامن المطلوب والوطنية وتحديد الهوية مع المشروع الديمقراطي الذي يتطلب الكثير من الجدال سوف يتطلب من الناحية العملية تحديد الهوية مع المجتمعات ذات التوجهات السياسية. يجادل تايلور بأن هذا لا يتطلب أي تجانس أحادي الثقافات أو قومية ، بل تعدد ثقافي حقيقي يمكنه الحفاظ على الهوية بمشروع مشترك. في الواقع ، يتفق المؤلفان على أن الأنظمة السياسية يجب أن تحترم وضع الجميع وأن تعترف بالاختلافات (ما قبل السياسية).
يمكن أن تكون النزعة القومية مثالاً بارزًا حيث يكون دور النظام السياسي هو الاعتراف بالأهداف المحددة سلفًا على المستوى السياسي وتعزيزها. قد تتشارك التعددية الثقافية في نفس النمط: يتم إعطاء الهويات ودور السياسة هو احترامها والاعتراف بها. إن الاعتراف يرتبط بالديمقراطية بمعنى تأسيسي: إذا كانت هناك ديمقراطية ، يجب أن تحصل بعض علاقات الاعتراف المكونة للديمقراطية. فمن ناحية ، يحتاج الأشخاص إلى الاعتراف بهم كمواطنين لكي يكون لهم دور نشط في العمليات الديمقراطية.
إن وضعنا كمواطنين (أو مؤلفين للقواعد) يجب أن يتم الاعتراف بها – من قبل مواطنين آخرين ومن الدولة – لكي نكون قادرين على المشاركة في صنع القرار الديمقراطي. وبافتراض أن طلبات الاعتراف الواجب بالمصالح والهويات السابقة على السياسة يمكن تحديدها بشكل مستقل عن تكوين الإرادة الديمقراطية ، يمكننا أن نسأل ما إذا كان الاعتراف الكامل أو المناسب تماما ممكن بدون ديمقراطية. هل أشكال أخرى من الحكومة هي أشكال من عدم الاعتراف أو أنها على الأقل تفتقر إلى إمكانيات لأشكال معينة من الاعتراف (مثل الأناركية التى تستند على فكرة عدم وجود نظام حكم متوافق مع الحرية الإنسانية الكاملة. إنه تقييد الحرية الشخصية للوقوف تحت سلطة القواعد الملزمة والحكام الأقوياء)؟ الجواب على هذا هو “نعم” إذا أخذنا “الاعتراف كمشارك في الحكم الذاتي الجماعي” ضروريًا للاعتراف الكامل. تعتبر المشاركة في الحكم الذاتي الجماعي في حد ذاتها جانباً مهماً من الاعتراف بها. علاوة على ذلك ، فإنه يضيف إلى الطرق التي يمكن من خلالها التعرف على الآخرين: من خلال المشاركة في وضع القوانين التي تعترف بالمصالح الخاصة للأقلية ، أو احترام حقوق أي شخص.
عندما تدخل بعض الجهات الفاعلة الجديدة في أماكن مركزية في المجتمع، فإنها تبدأ في تشكيل مجموعة اجتماعية وثقافية تسعى على ما يبدو إلى الحصول على اعتراف. لكن الهدف الفعلي لهذه الجهات الفاعلة الجديدة هو تحقيق حكم المجتمع في كل من الاقتصاد والنظام السياسي. ولتحقيق هذا الهدف، تتم الدعوة لسياسة الهوية، ونتيجة لذلك، تبرز مشكلة العيش معا. يشير هابرماس إلى أن الجمهورية القوية لا تحتاج إلى الوحدة الثقافية بل الوحدة السياسية. هناك حاجة إلى الدفاع عن الجمهورية لإظهار أن المبادئ السياسية هي ضمنية لتعاون الناس المتنوعون ثقافيا. من حيث الحريات والحقوق، يجب منح جميع الأفراد بموجب القوانين نفسها بموجب الدستور.
إن تحقيق كل مرحلة جديدة من الاعتراف في هذه العملية ليس مرضياً في حد ذاته ، وسوف يولد المزيد من الصراع حيث يكافح الأفراد للوصول إلى مستوى أكثر إرضاءً من الاعتراف. وأخيراً ، فإن الاعتراف بالدور المحدد الذي يلعبه كل فرد داخل المجتمع يسمح بتعمق مفهوم المساواة هذا من خلال إضافة اعتراف بهوية كل فرد على وجه الخصوص ، وبالتالي الوفاء باحتياجاته للاعتراف بمستوى أعلى من المستوى الاجتماعي “التقدير”.
التنوع الثقافى والتعددية الثقافية (الجماعات المهيمنة وجماعات الأقليات) وعلاقتها بالهوية
الهوية الثقافية هي هوية جماعية تنطبق على المجموعات والأفراد على حد سواء لأنها تنتمي إلى هذه المجموعات. قد تنتمي إلى مجموعة حسب الأصل أو عن طريق الانتساب ، ولكن ليس اختياريًا. المجتمعات الثقافية ليست نتيجة للقرار الطوعي والمهني من أعضائها للعيش معا. عادةً ما يُنظر إلى الهوية الثقافية على أنها هوية موروثة مرتبطة بالأصل والوراثة.
في حقبة الهجرة الجماعية، فإن الكثير من الجدل السياسي المعاصر يتعلق بالتنوع ، وخاصة العلاقة بين الهويات والأقليات القومية. عادةً ما تكون أصوات أعضاء مجموعة الأغلبية مسموعة للغاية ، ومن الشائع سماع المخاوف من تأثير هويات الأقليات على استدامة الهوية الوطنية المشتركة. قد يشعر البعض بالشعور المشترك فقط مع أولئك الذين يشغلون تقاطع هذه المجموعات المتداخلة. أنه من غير الحكمة افتراض أن التنوع يحد بالضرورة من التماسك الاجتماعي: يمكن أن تكون تعريفاتنا المتداخلة أساسًا لمختلف أشكال التماسك. يجب أن نتذكر أنه لكي يكون التعرف على شخص ما مع الآخرين مستدامًا ، يجب أن يتم التحقق من صحته اجتماعياً من قبل الآخرين.
يمكن للهويات المزدوجة أن تكون ذات أهمية خاصة للأقليات. في حين أن بعض المجموعات قد تكون مضمونة لتأمين الإدماج الوطني من خلال إستراتيجية التقوية, قد يرغب البعض الآخر أيضًا في تأكيد امتياز الأقلية. وغالباً ما يتم تعريف الهويات القومية من خلال الإشارة إلى مجموعة أغلبية مهيمنة ، وهذا يعني أن الأقليات قد تحتاج لأن تكون نشطة في إعادة تعريف الهوية الوطنية. العلاقات المتجانسة بين المجموعات المختلفة يمكن أن تتحقق إذا تم تصويرها على أنها تساهم في مجموعة مشتركة بطريقة تشبه أعضاء الفرق المختلفة الذين يساهمون في الفريق. إن قوة مثل هذه الصورة هي أنها تشير إلى قواسم مشتركة (تعمل فيها مجموعات مختلفة معًا) دون الإشارة إلى التجانس.
يجب التأكيد على أن الجمهورية (الدولة) لا تحتاج إلى الوحدة الثقافية فقط، بل الوحدة السياسية التي تضمن لكل عالم ثقافي أو إيديولوجي الحق في التعبير عن نفسه. بالإضافة إلى ذلك، تحتاج الجمهورية للدفاع عن نفسها من الأعداء لأن ثقافة معينة قد تحاول استعمار الدولة، مما يؤدي بدوره إلى القضاء على التعددية من قبل إرهاب الدولة. وبالتالي، فإن وجهات النظر التي تحتفل بـ “الاختلاف”، “الانقسام”، و”عدم التوافق” تحتاج إلى إشكالية. الانسانية حاليا حول الحق في “الاختلاف” ، ولكن لماذا يجب أن يكون الاختلاف متميزا يحتاج إلى إجابة. يجب التأكيد على أنه لا يمكن اعتبار النظرة الموحدة للأمة أو حجج الاختلاف كحق من حقوق الإنسان وسيلة لحل مشكلة العيش معاً.
قد يجادل المرء بأن تشكيل دولة عالمية لا يتطلب أي شيء أكثر من إحساس “رفيع” بالهوية الجماعية للتطور بين مواطنيها. قد يكون هذا الإحساس بالهوية المشتركة واسعًا بما يكفي لضمان أن جميع مواطني العالم يمكنهم الموافقة على الخضوع لسلطة عالمية واحدة على الاستخدام الشرعي للعنف، ولكن ما زال غير واضحًا بما يكفي للسماح لهذه الهوية الجماعية العالمية بالتعايش السلمي مع الآخرين. لكن المشكلة في هذا الرأي هي أنها تقلل إلى حد كبير من أهمية الهويات الجماعية التي تعمل على مستوى الدولة، والصعوبة التي يواجهها نظام الولايات في محاولة استيعابها. يؤيد مؤيدو الحركات القومية في جميع أنحاء العالم بشغف مسألة المكان الذي يجب أن تكون فيه مصادر سلطة الدولة، وعلى هذا النحو يصعب تصور كيف أن هذه المطالب بالاعتراف بهوية معينة يمكن أن تكون غير مفعلة على نحو فعال.
تدافع المفكر المشهور كميلكا بشكل بارز عن اعتراف أكبر بالهوية. ويصف الهويات الاجتماعية، وخاصة الثقافات، على أنها توفر سياقات تعطي خياراتنا وأفعالنا معنى أعمق. ثقافة المرء هو جزءا لا يتجزأ من شخصه ، ويشكل الأساس الذي يحدد من خلاله مفهوم الصالح. في حين أن الطلب على التعرف على الهوية يمكن أن يشير إلى العديد من الأشياء، مثل منح بعض المزايا المادية، والحقوق، والامتيازات لمجموعات الهوية التي كانت تعاني من الحرمان. إن المنافع الخاصة التي تحصل عليها المجموعة ستُنظر إليها على أنها وسيلة لإعطاء الاعتراف على نحو متساوٍ لبعض الهويات الاجتماعية التي هي في وضع غير مواتٍ لأنها ليست جزءًا من هوية الأغلبية أو بسبب التمييز ضدها، أو كليهما. وبالتالي ، فإن الفوائد في الواقع تعتبر خاصة. وهو ما سأتحدث عنه بالتفصيل لاحقًا
النتائج المترتبة على إغفال إختلافات الهوية
لا يختار الأفراد المجموعة الثقافية التي ينتمون إليها، فهم يولدون فيها – ومعها يولدون في مجموعة معقدة من العلاقات التاريخية والمؤسسية مع المجموعات الثقافية الأخرى. ومع ذلك ، لا ينبغي أن يعني هذا أنهم عرضة للتهميش في المجتمع، أو لا يتمتعون بالقدرة على زرع هوية ثقافية إذا اختاروا ذلك. يضمن التعددية الثقافية الليبرالية أن المجموعات الثقافية لا تخضع لظروف غير عادلة طالما كانت موجودة. الدولة يجب أن تقدم الحماية حسب الحاجة لضمان وجود مساحة يمكن للأفراد فيها تنمية هويات الجماعة كما يرغبون. يمكن أن يعزز الاعتراف المتبادل العلاقات الأفضل بين المجموعات وكذلك المساعدة في تشكيل عمليات بناء الدولة المستقبلية لتوفير شروط أكثر إندماجًا.
يعد التنوع الثقافى حقيقة حتمية. وتشير الثقافة إلى نظام متأصل تاريخياً فى المعنى والدلالة يتم على أساسه فهم وبناء جماعة من الناس لحياتهم الفردية والجماعية. التنوع الثقافى فى المجتمع الحديث له مصادره المتنوعة, تشتمل كثير من المجتمعات على جماعات عرقية ودينية وثقافية متعددة, وما يصاحبها من معتقدات وممارسات. ولطالما مُنعت هذه الجماعات من التعبير عن نفسها بأسم بناء الأمة أو أيديولوجيا مهيمنة, أما الآن فيتطلعون إلى ممارسة حرياتهم التى نالوها مؤخراً.
مثل “التعددية الثقافية”، كان مصطلح “ما بعد التعددية الثقافية” مصطلحًا متنازعًا عليه. أحد الأسئلة المهمة التي يثيرها هذا المصطلح هو ما إذا كانت (ما بعد) تعني استمرار التعددية الثقافية أو التراجع عنها. يستخدم علماء مثل كميلكا مصطلح “ما بعد التعددية الثقافية” لتقديم مرحلة معينة من التعددية الثقافية، حيث يكون التركيز “لتعزيز الاعتراف بالتنوع والحفاظ على الهويات الوطنية الجماعية”. يبدو أن هاتين المثاليتين قد سحبتا اتجاهات مختلفة في إطار النموذج القديم للتعددية الثقافية. في الواقع، غالباً ما تم انتقاد التعددية الثقافية لإعطاء الأولوية للحفاظ على الثقافة على حساب الهوية الوطنية القوية. على عكس التعددية الثقافية وكطريقة للمضي قدمًا، يُدّعى أن ما بعد التعددية الثقافية توفر طريقة للجمع بين الهوية الوطنية القوية والاعتراف الرسمي بالتنوع الثقافي.
عادة ما يتم تصور التعددية الثقافية من حيث “سياسة الاعتراف”، أو “المواطنة المتباينة” أو “حقوق الأقليات العرقية – الثقافية”. على الرغم من هذا التنوع المفاهيمي ، فإن المبدأ الأساسي للتعددية الثقافية التي تميزها عن الطرق الأخرى لإيواء التنوع العرقي والثقافي (مثل الاستيعاب) هو أنها تقوم على الاعتراف الرسمي بهذا التنوع. وعلى هذا النحو ، فإن التعددية الثقافية تصوّر بالتأكيد أكثر من تركيبة ديمغرافية لمجتمع متعدد الثقافات. و حول اعتماد مجموعة واسعة من السياسات العامة، الحقوق القانونية، وفي بعض الحالات، الأحكام الدستورية لإيواء الاختلافات الثقافية. كان النقد المركزي ضد التعددية الثقافية هو الجدل الدائر حول عزل المجتمعات الثقافية وظهور “المجتمعات الموازية”. كان لهذا النقد أهمية خاصة في البلدان الأوروبية ، حيث أدى إلى ظهور سياسات وخطابات جديدة أكدت على الحاجة إلى هوية وطنية مشتركة، والتماسك الاجتماعي، والمواطنة والتكامل المدني. يلقى باللوم على التعددية الثقافية في تقويض التماسك الوطني وتعزيز التجزئة الاجتماعية. ويضيف النقاد أن هذا التقسيم يقلل من “رأس المال الاجتماعي” (التماسك والثقة الوطنيين) ويختبره بعض المواطنين على أنه تهديد لهويتهم الوطنية.
مجموعات الأقليات مابين الميزة النسبية والاستيعاب/الاندماج
وجود مجموعات الهوية يسبب مشاكل في الديمقراطيات الليبرالية المعاصرة. يظهر الاعتراف بهذه المجموعات في وجهة النظر الحالية على أنها تهديد للنظام العام وأشكال الحياة المجتمعية. هذا هو السبب في أن جماعات الهوية والهويات الموروثة قد فقدت مصداقيتها في حين أن جماعات المصالح والهويات المختارة معترف بها باعتبارها شرعية. يأتي العداء تجاه التقاليد والهوية المنتمية أيضا من حقيقة أن قيمهم التأسيسية غير قابلة للتفاوض، بينما الفائدة. يجب عدم الخلط بين مجموعات الهوية ومجموعات الاهتمامات. يمكن تشكيل مجموعة المصالح بشكل جيد في حالة عدم وجود هوية متبادلة بين أعضائها.
وهناك إستراتيجيتين مختلفتين يتم تبنيها فى التعامل مع مجموعات الأقليات, وسوف يتم شرح كل واحدة على حدى:
1-الميزة النسبيةßالادعاء الأساسي لهذه النظرية هو أن مجموعات الأقليات يجب أن يكون لديها حماية حكومية في مكانها حتى لا تتعرض لحرمانها بشكل خاطئ بسبب وضعها الثقافي. ويقول إن بناء الأمة استخدم في فرض لغة وثقافة المجموعة المهيمنة على بقية السكان. ويحدد كيمليكا بعض عمليات بناء الأمة التي لها ميل لتقويض قدرة الجماعات الثقافية للأقليات: تبني اللغة. القوانين؛ التعليم الإلزمي المؤمم الذي يركز على لغة / تاريخ المجموعة المسيطرة؛ مركزية السلطة السياسية نشر لغة وثقافة المجموعة المسيطرة من خلال المؤسسات الثقافية (مثل: المتاحف ووسائل الإعلام العامة)؛ اعتماد الرموز الثقافية للمجموعة السائدة كرموز للدولة ؛ إنشاء نظام قضائي يعتمد على لغة الجماعة المهيمنة وقواعدها القانونية ؛ وتبني سياسات الاستيطان التي تنقل أعضاء المجموعة المهيمنة إلى مناطق تقيم فيها الأقليات تاريخياً؛ متطلبات المهاجرين لمعرفة لغة وتاريخ المجموعة المسيطرة؛ الاستيلاء على الأراضي / الموارد التي تعود إلى الشعوب الأصلية من قبل المجموعة المهيمنة. لكي يمكن اعتبار التنوع الثقافي الليبرالي بمثابة رد فعل ضد عمليات بناء الأمة التي تسعى إلى تقويض قابلية بقاء الجماعات الثقافية للأقليات. ويجب ألا تخضع مجموعات الأقليات لفرض غير عادل من الدولة عن طريق بناء الأمة.
أن كمليكا يميز بين أنواع الأقلية وأنواع الحماية التي يمكن تقديمها. كل المجموعات المختلفة – من الشعوب الأصلية إلى المهاجرين – تُمنح مجموعة متنوعة من وسائل الحماية من الدولة كطريقة لضمان جدوى سياقها الثقافي . ومع ذلك، فإن كل مجموعة من الحقوق المحددة للمجموعات تتشارك في نفس المبرر: فهي تُسن كاستجابة لضغوط بناء الأمة. قد يكون تبني سياسات متعددة الثقافات طريقة فعالة لإعادة تشكيل اتجاه وسرعة وقوة سياسات بناء الأمة بطريقة لا تضر بمجموعات الأقليات وتوفر شروطًا أكثر إنصافًا للتكامل. بعبارة أخرى ، هذه مسألة عدالة.
لا يتطلب الاعتراف بالاختلاف موافقة أو رفضًا للاختلاف، حيث إن مبادئنا الأخلاقية تحد من ما يمكننا التعرف عليه. ما يمكن أن تقدمه هو طريقة لإنشاء حوار إيجابي للمساعدة في تشكيل عمليات بناء الدولة لتكون أكثر شمولاً للمجموعات. وبهذه الطريقة، لا يتطلب الاعتراف بنا قبول أو حتى التسامح مع الممارسات والمعتقدات التي تتعارض مع مبادئنا الأخلاقية. بل إنه ببساطة يسمح لنا بفهم قيمة تلك الممارسات للآخرين بطريقة يمكن أن تساعد على الحوار بشكل أفضل. يمكن النظر إلى سياسة الاعتراف، هنا ، على أنها تنص على شروط أكثر عدلاً للاندماج مع مجموعات الأقليات. من خلال السماح لهم بالمشاركة في النقاش العام وتلقيهم علنًا باعتبارهم يحملون هويات ثقافية معينة قد تكون ذات أهمية مركزية لكيفية فهمهم لحياتهم، قد تكون الدولة مجهزة بشكل أفضل للاستجابة لمزاعم مجموعات الأقليات. يجب أن تتضمن التعددية الثقافية سياسة اعتراف؛ علاوة على ذلك، يتطلب إعادة توزيع السلطة والصوت في المؤسسات لدمج مجموعات الأقليات في النقاش العام.
استجابة للتحديات التي تطرحها مجموعات الأقليات، فإن أحد العلماء البارزين يفضل استراتيجية تزيل التمييز الصارم بين القطاعين العام والخاص وتجلب الجماعات الثقافية والعرقية والدينية إلى المجال العام مع القدرة على المساعدة في صياغة السياسة وشكل الدولة المتعددة الثقافات للمضي قدمًا تتميز هذه النسخة من التعددية الثقافية بـ (1) الاعتراف (والاحتفال) بالفرق؛ (2) المشاركة السياسية في مجموعات الهوية؛ (3) دمج الاعتراف كجزء من المساواة. ويبدو أن هذا يعتبر تحديًا لتعددية الثقافات ويمنح مجموعات الأقليات حصة أكبر في تشكيل مؤسسات الدولة.
2-الاستيعاب والتكاملß إن الجماعة السياسية تستلزم مفهومًا عريضًا مشتركًا لهويتها, وأن الهوية ينبغى أن تكون شاملة وتعكس تنوعها. عندما يبدأ المهاجرون فى الاستيطان, فإن التعريف السائد للهوية الوطنية ينبغى أن يشمهل هؤلاء المهاجرين ويضعهم فى الاعتبار؛ شريطة أن يكون هؤلاء المهاجرون على استعداد لأن يشعروا أنهم فى وطنهم ويندمجون مع هذا الوطن الجديد. يتحقق الانتماء المشترك مع المهاجرين وأفراد المجتمع الأصليين, ويكون الانتماء المشترك آمنًا عندما تتجاوز اللغة وإدراك الأغلبية والأقلية أى خلافات.
تعد الهجرة مصدراً للتنوع. تضم الهجرة العمال المهرة وغير المهرة الذذين يجندون انفسهم لتلبية احتياجات المجتمع الذي يحيون فيه ويندمجون مع أفراده الأصليين. يمثل السكان الأصليون والأقليات المتمركزة فى الأقاليم والجماعات دون القومية والجماعات الدينية والمهاجرون الأشكال المختلفة للتنوع, وهم بحاجة إلى ردود أفعال مختلفة. نحن بحاجة إلى تجنب ثلاث أخطاء شائعة فى نقاش موضوع الهجرة: 1-الهجرة لسيت هى المصدر الوحيد للتنوع الثقافى, فلا ينبغى أن نعتقد أن المجتمع كان متجانساً ثقافياً قبل بداية الهجرة. 2-أن المهاجرين ينتمون إلى جماعات عرقية ودينية مختلفة, فلا ينبغى أن نتجاهل تطلعاتهم المختلفة ومواردهم الثقافية. 3-أن المهاجرون فى العصور القديمة كانوا يتركون أوطانهم باعتبارهم لاجئين, فارين من الظلم فى بلدهم ويشعرون بامتنان للأوطان التى استقبلتهم لأنها منحتهم وطناً جديداً وأنقذتهم من موت محقق. لذلك يكونوا متحمسين للاندماج والاستيعاب داخل المجتمع. أما المهاجرون المعاصرون غالباً ما يهاجرون طلباً للعمل الذى يعتمد على المهارة باللأساس, لذا فإن علاقاتهم مع المجتمعات المُستقبلة لهم هى علاقات تعاقدية بصفة عامة وتفتقد إلى عنصر العرفان بالجميل. ويكونون متحمسون لاستعادة روابطهم واتصالاتهم مع أوطانهم الأصلية.
أ-الاستيعاب: لا يمكن لأى مجتمع أن يكون متماسكاً ومستقراً ما لم يندمه مهاجروه مع الثقافة السائدة ويصبحوا مثل باقى أفراد المجتمع الأصليين. يحتاج كل مجتمع نظاماً مشتركاً للمعنى والقيم, وإذا كان بعض أعضاء المجتمع يبغون التمسك بمعتقدات وقيم مختلفة, فقد لا يتقبلون بعض الأمور العامة ويصبحون غير قادرين على الأستمرار فى مشاركة أفراد المجتمع فى قيمهم ومعتقداتهم. لكن إن أرادوا أن يكونوا مقبولين كمواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات, فينبغى عليهم أن يندمجوا فى الثقافة الوطنية للبلد المستضيف ويغيروا هوياتهم المتأصلة فيهم, ويوافقوا على إعادة ميلادهم من جديد ثقافيًا. على العكس من ذلك, إذا تمسكوا بثقافتهم ووطدوا علاقتهم ببلدهم الأصلى, ومن ثم ظلوا مختلفين, فينبغى عليهم فى هذه الحالة ألا يشتكوا إذا رفض باقى أعضاء المجتمع الأندماج معهم ومعاملتهم بطريقة غير متكافئة. لذلك يجب عليهم أن يختاروا بين طريق الأندماج أم طريق الاختلاف. نوع الاستيعاب الذى يطلبه أنصار الاستيعاب لا يمكن تنفيذه لأن معظم الناس يستقون معتقدانهم الدينية من دينهم وتتمايز المجتمعات فى أمور كثيرة, وطالما أن المجتمع تنقصه الرؤية الأخلاقية الشاملة المتق عليها, فإن استيعاب المهاجرين سيكون قليلًا.
ب-التكامل: تم إقتراح مبدأ التكامل كنموذج بديل للاستيعاب. وقد يبدو من الوهلة الأولى أنه مبدأ مناسب لأن المهاجرين يتم تشجيعهم على أن يصبحوا جزءًا لا يتجزأ من المجتمع ولهم نفس الحقوق والواجبات, لكنه لا يمكن تمييزه عن مبدأ الاستيعاب و أنصاره يرون أن عملية التكامل ذات اتجاه واحد؛ فعبء التكامل يقع على عاتق المهاجرين وحدهم ومن ثم يوجَه لهم اللوم وحدهم عند فشل التكامل. لذلك يجب التأكيد على أن التكامل عملية ذات اتجاهين وليس اتجاهًا واحدًا, ويحبطه العزل العنصرى ورفض الآخر, فالأمر يقتضى أن يتكيف المهاجرون والمجتمع على اتساعه مع بعضهم البعض حتى يتحقق التكامل. ويتكون المجتمع من عدة مستويات؛ الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والثقافية, وقد يندمج المهاجرون فى مستويات ومستويات آخرى لا يندمجون.
بعض أنصار التكامل يقدرون أ المهاجرين قد يرغبون فى استعادة أجزاء من هويتهم الثقافية, وأن هذا التكامل من الممكن وينبغى أ يكون ضئيلاً ومحدودًا فى حدود المؤسسات العامة للمجتمع. لكن البعض يرى أن المجتمع لن يكون متماسكًا ومترابطاً ما لم يمتد التكامل أيضاً إلى مجالات الحياة الأخلاقية والاجتماعية والثقافية, إن السماح لهم بالتكامل جزئيًا فى المجتمع فيه تمييز لهم على أعضاء المجتمع الآخرين.
ولحل تلك المعضلة بين الاتجاهين؛ يجب التأكيد على فكرة روابط الانتماء المشترك والتى تسير فى اتجاهين وليس إتجاه واحد فقط, فالمهاجرون لا يستطيعون أن ينتموا إلى أى مجتمع, مالم يتم تجهيز هذا المجتمع للترحيب بهؤلاء المهاجرين . وعلى العكس من ذلك, لا يستطيع المجتمع أن يُدمج هؤلاء المهاجرين ما داموا لا يرغبون فى الانتماء لهذا المجتمع. الانتماء المشترك لا يستلزم اتفاقًا فى الآراء حول ما يتوقع عمله من كل جماعة, ومن الممكن أن تتحقق هذه الآشياء فحسب إذا اضطلع كل جانب بنصيبه من عهد أخلاقى. هذا الانتماء يعد عملية معقدة ومتشابكة يتم تدعيمها من خلال أعمال الكفاح والتضحيات التى يقوم بها أعضاء المجتمع لأجيال عديدة. فى الوقت الذى يلتزم فيه المهاجرون بقواعد وقوانين المجتمع المضيف, فمن المحتم على المجتمع أيضًا أن يلتزم نحو هؤلاء الأفراد؛ عن طريق مساعدتهم فى أن يندمجوا فى المجتمع بسرعة. فى أى مجتمع لا تكون الدولة بمفردها ولا تستطيع أن تكون الفاعل الوحيد لإحداث التماسك والانسجام فى المجتمع, ولكن الأفراد يلعبون دورًا حيويًا أيضًا.
إشكالية منهج الدولة فى التعامل مع الجماعات المختلفة الموجودة بها
1-أنصار الجماعية والذين يتبعون المنظور المجتمعاتى, يرون أن الأقليات الإثنية الثقافية خصوصًا تستحق الحماية لأنها معرضة للخطر, وبأن التعددية الثقافية هى الطريقة المناسبة لحماية المجتمعات من تأثير الاستقلالية الفردية التى تسببت فى تفتيت المجتمع, ومن ثم فهم يشددون على قيمة المجتمع وأهميته. وفى هذا الإطار, تلتزم الدولة الليبرالية بمبدأ الحيادية الإثنية الثقافية فى التعامل مع هويات مواطنيها الثقافية, ليكون ذلك علاجًا لمشكلة انبعاث الهويات الإثنية والقومية فى الدولة-الأمة, أى بمعنى وجوب أن تتعامل الدولة الليبرالية مع الثقافة بالطريقة ذاتها التى تتعامل بموجبها مع الدين, وذلك بأن يتم اعتبار الثقافة أمرًا يكون الناس فيه أحرارًا, سواء فى الاستمرار بممارسته فى حياتهم الخاصة أو عدم ممارسته, بحيث لا تدخل الثقافة فى اهتمامات الدولة ما دام الأفراد يحترمون حقوف بعضهم البعض دون أن تكون هناك ثقافة رسمية يتم إيلاؤها مكانة شرعية تعلو على غيرها من الانتماءات الثقافية الأخرى.
تتمثل حيادية الدولة ليس فقط فى الحيادية الاخلاقية, ولكن ايضا الحيادية السياسية أى عدم القيام بأى نشاط من شأنه ان يوسع أو يضيق من فرص الأفراد فى العيش طبقًا لمنظورهم الخاص عن الخير. ويعتبر راز أول من تكلم عن هذا الاتجاه, حيث يتم الاتفاق على الالتزام بفكرة نعاملة الناس باحترام متساو, ويرجع ذلك الى كون النظام ينأى بنفسه عن تبنى معتقد معين لأحد المكونات الاجتماعية. فلا تعبر الدولة عن معتقدات الأكثرية ولا الأقلية سواء كانت تلك المعتقدات ثقافية أو دينية. يتبين أن الغاية الرئيسية من حيادية الدولة هى إيجاد الظروف الملائمة لقيام التعايش بين المكونات الثقافية للمجتمع, وذلك عن طريق تعليمها التسامح وإبعادها عن دائرة التنافس والصراع على السلطة السياسية. وبذلك يتم اعتبار الدولة مشترك عام, لا يحق لأى مكون سياسى أو ثقافى باحتكاره على حساب المكونات الأخرى.
بناءًا على هذا كما يرى كوكاثاس؛ فكرة قابلية المراجعة والتقويم العقلانية وتعنى أنه لا يُفترض بالأفراد انتهاج معتقدات ثابتة وغير قابلة للتغيير, بل لا بد من تمتع الفرد بقدرته على تعديل غاياته إذا ما ثبتت عدم جدواها. وأيضًا فكرة الدولة غير الكاملة؛ حيث توفر الدولة للأفراد توزيع عادل للحقوق والموارد الاقتصادية بغية تمكينهم من الاستمرار فى ممارسة معتقداتهم. وهذا فى النهاية سيؤدى الى توليد ثقافة أحادية شاملة كل المجتمع السياسى وذلك باستيعاب كافة الاقليات الثقافية متمثلة فى حيادية الدولة وتشريعاتها فى التعامل مع الأفراد.
2-يؤكد أنصار التعددية الثقافية أن فكرة كون الدولة الليبرالية دولة حيادية هو أمر باطل بصورة واضحة. وذلك لان جميع الدول الليبرالية الديمقراطية قد انخرطت أساسًا فى عملية بناء الأمة, أى بمعنى أنها قد دشنت عملية تعزيز لغة مشتركة وإحساس مشترك بالانتماء إلى المؤسسات الاجتماعية القائمة على أساس تلك اللغة, فضلًا على اعتمادها المساواة فى الوصول الى تلك المؤسسات. ونتيجة لذلك رفضت الأقليات القومية خصوصًا فكرة الاندماج مليًا فى هذه الثقافة المجتمعية ومؤسساتها, مما أوجد حاجة ماسة إلى معالجة هذه المشكلة التى أخذت تهدد بنيان الدولة-الأمة من قواعده.
كميلكا: يرى أن ما يتجاهله أنصار الليبرالية الفردية هو كون الأقليات الثقافية غالبًا ما تكون ضعيفة فى مواجهة الضغوط الاقتصادية والثقافية والسياسية التى يمارسها المجتمع الأكبر, وبالتالى فإن قابلية البقاء والتطور لدى هذه الأقليات قد تتقوض بفعل القرارات الاقتصادية والسياسية التى تتخذها الجماعة المهيمنة. لذلك فبعض الحقوق مثل حق استخدام اللغة الأم والتمثيل السياسى المضمون, يمكن أن يساعد على معالجة الضرر والحرمان عن طريق تجنبيها للأقليات الثقافية من الوقوع فى حالة من الضعف والاستسلام لقرارات وسياسات دولة الأكثرية المهيمنة. وهذا ما يسمى بالمعاملة المتباينة بغية إشباع الحاجات المتمايزة للأقليات من حاجات الأكثرية.
قد أكد كميلكا على أهمية الانتماء الثقافى لأن الثقافة تشكل بيئة لممارسة الفرد حريته واستقلاله الذاتى وأيضًا تهب الأفراد حس الهوية, فهى توفر لهم مصدرًا غير مشروط وشامل للانتماء والارتباط ببعضهم البعض, إذ إنها تسهل إمكانية التفاهم المتبادل وتعزيز التضامن الاجتماعى والثقة فيما بينهم. ويرى انه العمل بحيادية الدولة يخل فعليًا بذلك التوازن المراد تحقيقه ما بين الجماعة المهيمنة ثقافيًا والجماعات الخاضعة لها, حيث تعمل هذه الحيادية على استمرار اللا توازن بينهما, لأنها تقوم عمليًا بضمان حيازة الجماعات الخاضعة لعدد محدود من الخيارات فى سياق تفاعلها المتبادل مع الجماعة المهيمنة وكيفية مجابهة ما تتمتع به الأخيرة من سيطرة وتفوق. وبالتالى فشل مؤسسات الدولة فى الاعتراف بثقافة وهوية جماعة ما وعدم احترامها, سيقود الى نتيجة متمثلة فى الإضرار البالغ باحترام الجماعة لذاتها وشعورها بالانتماء.
يرى كميلكا أن للتنوع الثقافى شكلين رئيسيين؛ التنوع القومى (ويشمل المجتمعات المكونة من عدة قوميات متعايشة داخل الدولة) والتنوع الإثنى (ويتمثل فى المجتمعات الناشئة بفعل الهجرة الدولية حيث تشكل الجماعات تجمعات سكانية منعزلة). ويمكن تحقيق الاندماج من خلال: 1-قبول الأقلية بالتكيف مع خصائص معينة تتسم بها الثقافة المهيمنة فى المجتمع مثل تعلم اللفة الرسمية والمشاركة فى مؤسسات عامة. 2-قبول الأكثرية بفكرة توسيع كامل النطاق الحقوق والفرص الممنوحة للأقليات وذلك من أجل استيعاب الهوية المميزة للأقلية, مما يعني تحقيق الاندماج المؤسساتى تحديدًا دون شمول العادات والتقاليد والدين وأنماط الحياة والذى بدوره سيتيح مجالًا واسعًا للتعبير عن التباينات الفردية والجماعية. وهذا الاندماج المؤسساتى سيؤدى إلى توليد الشعور بالانسجام والتطابق النفسى بين الأقليات والثقافة السائدة فى المجتمع.
ولذلك اقترح كميلكا مشروع لبناء الدولة متعددة الثقافات و1لك من خلال: 1- سياسة التعددية الثقافية والتى تعنى بثلاث أنواع من الأقليات؛ المهاجرون (والذى يرى أن السبيل الوحيد لهم هو الاندماج, ولكن تقوم الدولة بتقليل أعباء وشروط الاندماج المفروضة عليهم), السكان الأصليون (ةيتبنى فيها كميلكا تمتعهم بالاستقلال الذاتى فى الاماكن التى يعتبرونها وطنهم التاريخى داخل نطاق الدولة, ولكن يشترط وجوب عدم خضوعهم لقوانين الدولة السارية على الأكثرية المهيمنة والأقليات القومية وذلك بحكم اختلافهم الثقافى) و الأقليات القومية (التى غالبًا ما تلجأ الى المطالبة باستخدام الوسائل نفسها التى تعتمدا الأكثرية المهيمنة فى تعزيز بناء الدولة-الأمة مع وضع قيود للنزعة القومية بلأكثرية والتى تكون أسس بناء الدولة المتعددة الثقافات). 2-سياسة الفيدرالية المتعددة القومية؛ حيث يعد هذا النوع من الفيدرالية الآلية الوحيدة التى بإمكانها الاعتراف بمطالب الأقليات فى الاستقلال الذاتى. فحينما تتمركز الأقليات القومية إقليميًا, يمكن رسم حدود الوحدات الفرعية على النحو الذى تُشكل فيه الأقلية القومية أكثرية فى إحدى تلك الوحدات الفرعية, وبالتالى توفر هذه الفيدرالية استقلالًا ذاتيًا موسعًا للأقلية القومية, إذ تضمن لها القدرة على صنع القرارات دون أن تتمكن الأكثرية المهيمنة من تحقيق الغلبة العددية.
من خلال تلك الآليات؛ سيتم العمل على جعل التنظيم السياسى والإدارى للدولة مجسدًا لحقيقة التنوع الثقافى للمجتمع وذلك من أجل حماية الدولة من خطر الإنفصال وحفاظًا على التنوع الثقافى القائم من التهميش والاستيعاب القسرى. وهذا يكون طريق ثالث بين الاستيعاب القصرى للأقليات وبين حيادية الدولة فى التعامل مع التنوع الإثنى والقومى.
التطبيق على الوطن العربى
فى الوطن العربى, تنشأ أزمة الهوية ضمن نطاق بناء الأمة. إذ انها تُعنى بصناعة المشتركات من لغة مشتركة وقيم وعادات وتقاليد واسلوب حياة, غير أنها تتعلق بالأكثرية المهيمنة على مركز الدولة. ذلك أن ارتفاع مستوى بناء الهوية القومية, من منظور الأكثرية, يشكل عاملاً جوهريًا فى نمو فاعلية مؤسسات الدولة من حيث نيلها الشرعية اللازمة. أى ان الأكثرية المهيمنة تعمل بذلك على إكساب الدولة خصالها الثقافية لتغدو هى المشتركات بذاتها فى مقابل خُسران الأقليات لخصوصيتها الثقافية. ما يولد ذلك أزمة الهوية التى تتجسد فى ظاهرة انبعاث الهويات الفرعية, بحيث تتخذ الأزمة ردود فعل عكسية من جانب الأقليات تجاه عملتى تكوين وبناء الدولة معًا, فتنكفىء مل أقلية منها على ذاتها وتُبدى الممانعة الثقافية تجاه فكر الذوبان فى هوية الأكثرية المهيمنة.
ويرى الكاتب أنه يمكن معالجة حال الدول العربية من خلال انتهاج فكرة حيادية الدولة فى تعاملها مع مكوناتها مع تجريم العمل على أساس الانتماءات الفرعية وذلك لأن الانحياز فى عملتى تكوين الدولة وبناء الأمة الى صالح الأكثرية المهيمنة تقود بصورة كبيرة الى تناقص فاعلية الدولة وإهدار مواردها فى معالجة أزمتى الاندماج والهوية. وهو ما يعد مقبولاً داخل الوطن العربى خاصًة مع وجود أقليات أصلية لا يمكن تهميشها أو عدم الإعتراف بحقوقهم, ولكن التعامل معهم بمحاولة إستيعابهم جزئيًا داخل المجتمعات مع عدم رفض هويتهم الخاصة أو إعطائهم قدر من الإستقلال الذاتى بما لا يخل من استقرار وتماسك الدولة العربية.
الخاتمة
إن للهوية مفاهيم كثيرة تعتمد على المفهوم الذى يتبناه الفرد للدولة. فينبع معنى للهوية التى يتمسك بها من خلال الارض التى يعيش بها والأفراد الذين يقابلونه. لذلك تطرقت فى هذا البحث أولا إلى مفهوم الدولة سواء النظر إلى الدولة من خلال الأيديولوجيا القومية وبالتالى الإيمان بدور الدولة فى تنظيم مختلف مجالات الحياة حتى السياسات المختلفة التى تتبناها تجاه الجماعات المختلفة التى تتواجد بها, أم النظر الى الدولة باعتبارها من تكوين الفرد وبالتالى لا تتحكم فى الجماعات وهو ما يتبناه المنظور الفوضوى.
ثم الانتقال الى مبدأ الاعتراف الذى تسعى كل جماعة لأخذه من باقى الجماعات المختلفة بعد أن تأذن لها الدولة فى ممارسة نشاطها والذى من خلال يتم إشباع الوعى الذاتى بتحقيق التقدير والقبول. ومن ثم يتم الانتقال إلى جماعات الأقليات والتى تواجه إشكاليات كثيرة حتى بعد الإعتراف بوجودها فى أن: هل سيتم إعطائها ميزة نسبية فوق الجماعات الآخرى حتى تشعر بالتساوى مع الجماعات المهيمنة أم هذا سيؤدى إلى مشكلات مع الجماعات المهيمنة وبالتالى اللجوء الى استيعاب وإدماج تلك الجماعات من أجل تحقيق إستقرار المجتمع وتماسكه ويتم مناقشة هذا الجزء من خلال نظريتين مختلفتين.
وينقلنا هذا أخيرًا الى كيفية تعامل الدولة مع الجماعات المختلفة داخلها والتى تتجادل بشأنه نظريتين أيضاً وهما الحيادية مقابل الاعتراف بالتعدد والتنوع الثقافى مع النظر إلى حال الوطن العربى.
ويمكن فى النهاية القول أنه “فى الوقت الذى بدأت فيه الجماعة السياسية فى تقدير مكونها القائم على التعددية الإثنية, أدركت أن تنوعها الحالى ليس حديثًا, لكنه سمة من سمات التاريخ المتغير والمستمر. وبالتالى تستطيع أن تتكيف معه محاولة تعريف الذات والشعور بالهوية كجزء من المجتمع الذي يعيشون فيه, وبالتالى لا يوجد ما يسمى بالأقليات فالجميع متساوون فى الحقوق والواجبات مع محاولة تحقيق مبدأ الانتماء المشترك (السالف ذكره) بتجاوز خلافات اللغة وغيرها وإدراك الأغلبية للأقلية بإنهم مواطنين”.
المراجع
1-باللغة الانجليزية
1-Brian Greenhill, “Recognition and Collective Identity Formation in International Politics,” European Journal of International Relations, Vol. 14, No. 2 (2008): 343–368.
2- Daniel Cojanu, “Cultural Diversity and the New Politics of Identity,” RSP, No. 50 (2016): 31-40.
3-Dorota A. Gozdecka and others, “From multiculturalism to post-multiculturalism: Trends and paradoxes,” Journal of Sociology, Vol. 50, No. 1(2014): 51 –64.
4-Francesco Remotti, Maria Cristina Caimotto and Philip V. Bohlman, “Identity Barriers and Resemblance Networks,” Acta Musicologica , Vol. 84, No. 2 (2012): 137-146.
5-Ibrahim Kaya, “Identity Politics: The Struggle for Recognition or Hegemony?,” East European Politics and Societies, Vol. 21, No. 4 (2007): 704–725.
6-Nick Hopkins, “Dual Identities and Their Recognition: Minority Group Members’ Perspectives,” Political Psychology, Vol. 32, No. 2 (April 2011): 251-270.
7-Onni Hirvonen and Arto Laitinen, “Recognition and democracy – An introduction,” Thesis Eleven, Vol. 134, No. 1 (2016): 3–12.
8-Robert Maciel, “The Future of Liberal Multiculturalism,” Political Studies Review, Vol. 12 (2014): 383–394.
9-Robert E. Goodin, “Liberal Multiculturalism: Protective and Polyglot,” Political Theory, Vol. 34, No. 3 (June 2006): 289-303.
10-Sahar Akhtar, “Liberal recognition for identity? Only for particularized ones,” Politics, Philosophy & Economics, Vol. 10, No. 1 (2011): 66–87.
2-باللغة العربية
1-حسام الدين على مجيد, “إشكالية التعددية الثقافية فى الفكر السياسى المعاصر: دراسة فى نموذج ويل كميلكا,” رسالة دكتوراة أجيزت فى جامعة صلاح الدين-مجلس كلية القانون والسياسة, (العراق: 2009).
2-أسعد مفًرج ولجنة من الباحثين, “القاموس السياسى,” فى موسوعة عالم السياسة, (بيروت: 2006), ج23.
3-أندرو هيود, “القومية,” فى مدخل إلى الأيديولجيات السياسية, مُترجم محمد صفار (القاهرة: المركز القومى للترجمة, 2012): 177-216.
4-بيكو باريك, “المجتمع متعدد الثقافات وتقارب الهويات,” فى سياسة جديدة للهوية المبادىء السياسية لعالم يتسم بالاعتماد المتبادل, مُترجم حسن محمد فتحي ((القاهرة: المركز القومى للترجمة, 2013): 131-159.
5-عادل مجاهد الشربجى وآخرون, “أزمة الدولة فى الوطن العربى,” مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت: 2011).
6-عبد العزيز راغب شاهين, “الصراع القبلى والسياسى فى مجتمعات حوض النيل: اتجاهات نظرية ومنهجية ودرسات تطبيقية,” الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة: 2011).
7-مالك عبيد أو شهيوة و محمود محمد خلف, “الفوضوية الأسس النظرية والمظاهر الحركية,” فى الايديولوجيا والسياسة دراسات فى الايديولوجيات السياسية المعاصرة ج2, (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان): 87-135.