السياسة الخارجية السودانية تجاه أزمة سد النهضة “2011 – 2020”
إعداد: إسلام منير محمد المصلحى – عبد الرحمن محمد عبد السميع
- المركز الديمقراطي العربي
مقدمة:
على مدار ثلاثة عقود تمثلت أولويات السياسة الخارجية لنظام الإنقاذ في تعزيز قدرة النظام على البقاء في الحكم على حساب تحقيق مصالح السودان الوطنية.
تعددت مظاهر التغير الذي شهدته سياسة السودان الخارجية منذ سقوط نظام الإنقاذ في أبريل من عام 2019، والتي شملت جانبي المبادئ والإجراءات، وهو ما تمثَّل بوضوح في:
تراجع تأثير البعد الأيديولوجي على السياسة الخارجية للسودان سواء أكان على مستوى المواقف أم على مستوى التحالفات، فطوال سنوات حكم نظام الإنقاذ اصطبغت السياسة الخارجية السودانية بصبغة أيديولوجية واضحة تسببت في العديد من المواقف التي أضرت بالسودان على نحو بالغ، بعدما تورط النظام السوداني في استضافة عناصر إرهابية. كما ظهر هذا البعد الأيديولوجي جليا في اختيار الحلفاء خصوصًا على المستوى الإقليمي، حيث لعب السودان دورًا مهمًّا في توفير نقاط لوصول كل من إيران وتركيا وقطر لمنطقة الشرق الإفريقي والبحر الأحمر. وفي المقابل بدت السياسة الخارجية للسودان منذ بداية المرحلة الانتقالية مدفوعة بالأساس باعتبارات المصلحة الوطنية للسودان في ظل وضع بالغ الصعوبة، والذي تعاني منه البلاد.
وقد تغير نمط صنع السياسة الخارجية، خصوصًا في ظل البنية المركبة لمؤسسات الحكم الانتقالية، والتي تنقسم إلى مجلس للسيادة يضم عناصر عسكرية ومدنية، ومجلس للوزراء يتمتع بصلاحيات موسعة، الأمر الذي كشف عن تعددية واضحة في مراكز صنع السياسة الخارجية للسودان، وهو ما ظهر في بعض المناسبات في صورة مواقف متباينة نسبيًّا وهنا نقوم بعرض سياسة السودان تجاه ازمة سد النهضة ، ومن ثم سنقوم بعرض التعريف بالأزمة كجانب نظري وتطبيقها علي ازمة سد النهضة التي تعتبر السودان عضواً فعالا فيها وأيضا نعرض بإيجاز تطورات سد النهضة من البداية حتي الان مستغلين بذلك توضيح موقف السودان من العلاقات الثنائية بينها وبين مصر واثيوبيا وموقفها في سد النهضة ونعرض في النهاية لسيناريوهات مقترحة لحل الازمة بين الدول الثلاثة في ضوء المتغيرات الراهنة .
أولا : التعريف بمفهوم الازمة
شكلت نهاية الحرب الباردة مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، اتسمت بإعادة بناء العديد من المفاهيم التي كانت متواجدة منذ قدم البشرية ومنحها الأولوية في الخطابات السياسية لارتباطها المباشر بالظواهر الدولية، ومن بين الكم الهائل من هذه المفاهيم نجد “مصطلح الأزمة” والذي يُعد من المصطلحات الأكثر استخداماً في عصرنا الحالي الذي يمكن وصفه بعصر الأزمات، فأزمات اليوم مست كل جوانب الحياة وأضحت متواجدة على الكافة الأصعدة والمستويات، سواءً على المستوى الفردي بمواجهة الفرد لأزمات نفسية واجتماعية في حياته اليومية، أو على المستوى الوطني بمواجهة الحكومات والمؤسسات لأزمات سياسية واقتصادية، وكذا على المستوى الدولي ببروز ما يُعرف اليوم بالأزمات الدولية [1].
حيث يواجه مفهوم الأزمة مشكلة من نوع خاص تتمثل في كونه، وعلى حد تعبير جيمس روبنسون، “مفهوما عاما يبحث عن تعريف، ومعنى علمى متخصص” فالبعض يعاملونه كمرادف للضغط ، أو الانهيار ، أو الكارثة ، أو العنف ، أوالعنف الكامن. أما في إطار ممارسات المدرسة الطبية، فإن استخدام مفهوم الأزمة من قبل المنتمين إليها إنما يتم للدلالة على “نقطة تحول بين التحول المحظوظ وغير المحظوظ في حالة الكائن الحى”، أى بين الحياة والموت، خصوصية مفهوم الأزمة تزداد صعوبة إذا أخذ في الاعتبار حقيقة أن المفهوم يكثر استخدامه من قبل العديد من المتخصصين في علوم النفس، والاجتماع، والسياسة، والتاريخ، وفى غيرها من مجالات العلوم الاجتماعية، الأمر الذى يترتب عليه قصور فائدة المفهوم في بناء نظام معرفى حول الأزمة كظاهرة اجتماعية. وعلى ضوء ذلك يرى روبنسون أن هناك اتجاها عاما نحو استخدام المفهوم للتدليل على “نقطة تحول تميز ناتج حدث ما بشكل مرغوب أو غير مرغوب فيه، بين الحياة والموت، العنف أو اللاعنف، الحل أو الصراع الممتد [2].
ومن ثم، ففى إطار السعى نحو التوصل إلى دلالات أكثر دقة وتحديدا لمفهوم الأزمة، فإن الاتجاه العام ينصرف إلى التمييز بين جوانب جوهرية وأخرى إجرائية عند تعريف الأزمة، كما يتم التمييز أيضا فى الأزمة كموقف اتخاذ قرار. وبينما يستند التعريف الجوهرى للأزمة على تحديد محتوى السياسة، أو المشكلة، أو الموقف، فإن التعريف الإجرائى يؤكد على السمات الجوهرية الأساسية للموقف بدون النظر إلى ما إذا كانت حالة خاصة تتضمن على سبيل المثال، أزمة داخلية، أو سياسية، أو حتى أزمة على المستوى الفردى .
أما تعريف الأزمة كموقف قرار، فإنه يتطلب تحديد عناصر ثلاثة أساسية:
- أصل الحدث لصانع القرار، سواء كان هذا الحدث داخليا أو خارجيا.
- الوقت المتاح لاتخاذ القرار أو للاستجابة، وهنا يتم التمييز بين مستويات ثلاثة: قصير، متوسط، طويل.
- وأخيرا تحديد الأهمية النسبية للقيم موضع الخطر بالنسبة للمشاركين من حيث كونها عالية أو منخفضة [3].
هناك من يتجه إلى تعريفها بأنها “فعل أو رد فعل إنسانى يهدف إلى توقف، أو انقطاع نشاط من الأنشطة، أو زعزعة استقرار وضع من الأوضاع، بهدف إحداث تغيير في هذا النشاط أو الوضع لصالح مدبره”[4].
فيما يُقدم شارلز هيرمن – Charles Hurman تعريفاً أخر للأزمة الدولية على أنها: “الوضع الذي يُهدد أحد الأهداف الرئيسية للوحدة السياسية، بحيث يحد من الوقت للتفكير والتخطيط والاستجابة من أجل تغيير النتيجة المحتملة”، والواضح من تعريف هيرمن أنه ركز على عنصر المفاجئة أي أن الأزمة تحدث بشكل مفاجئ لم يُتوقع من قبل صانع القرار.
وكما عرفها كال هولستي – Kal Holsti أنها “تغير مهم في كمية و نوعية أو شدة تفاعلية الأمم”، فالأزمة عند هولستي هي أحد مراحل الصراع، تنشأ عن طريق مفاجئة أحد الأطراف للطرف الأخر بفعل ما، مما يؤدي إلى زيادة حدة التوتر و التهديد بين الطرفين لدرجة تفرض على صانع القرار اختيار أحد البديلين إما الحرب أو الاستسلام.[5]
أعطى ميخائيل بريتشرMikhil Britcher تعريفاً للأزمة الدولية على أنها: “حالة تميزها وتتنبأ بها أربعة أمور تتلخص كما تراها المستويات العليا لصانع القرار في: ظروف داخلية وخارجية، بروز تهديد للقيم الأساسية الحالية والمستقبلية، تصاعد احتمال حدوث أعمال عنف عسكرية، فرض وقت محدد يكون قصير للتعامل مع هذه التهديدات”.
انطلاقاً من التعريفات السابقة الذكر وبناءاً على تحليلات مختلف الاتجاهات النظرية المهتمة بدراسة الأزمة الدولية، يمكننا أن نقدم تعريفاً عاماً للأزمة الدولية على أنها: “نقطة تحول مفاجئة في العلاقات بين الدول، تتضمن تهديداً مباشراً للقيم والمصالح العليا لمختلف الفواعل، مما يفرض على صانع القرار اتخاذ مواقف سريعة وفعَّالة في فترة ضيقة، وعادة ما تتم مواجهة الأزمة بإدارتها، أو التلاعب بعناصرها المكونة لها، وبأطرافها بهدف تعظيم الاستفادة من ورائها لصالح الأمن القومى[6] .
ثانيا : التطورات التاريخية لأزمة سد النهضة
ان فكرة إنشاء سد من قبل إثيوبيا على النيل الأزرق ارتبطت بفترة حكم الإمبراطور هيلاسلاسي، وتحديدًا في أواخر خمسينيات القرن الماضي عندما كلّف مكتب الاستصلاح الأمريكي بإعداد دراسة عن السدود الإثيوبية. وبالفعل صدر التقرير عام 1964 واقترح موقع السد الحالي في إقليم بني شنقول على بعد نحو 40 كلم من الحدود السودانية، وأطلق عليه آنذاك سد الحدود. تم إحياء الفكرة مع ميلس زيناوي ابتداء من عام 1993 الذي كان يحلم بأن تصبح المياه الإثيوبية بمثابة الذهب الأزرق والتي ُتقايض بالمال. ومع ذلك تحولت فكرة السدود الإثيوبية إلى واقع ملموس عام 2009 حيث أجريت المسوح المطلوبة في المنطقة. وفي عام 2010 انتهت التصميمات الخاصة بالسد. وخلال تلك الفترة كان العمل يتم بشكل سري وأطلق عليه اسم “المشروع إكس”[7].
وفى ابريل 2011م قام رئيس وزراء إثيوبيا أنذاك بوضع حجر الاساس وقال ان السد سيقلل من تحكم مصر والسودان في المياه ، حيث تصل تكلفة السد الى حوالى 4.8 مليار دولار اميركي؛وتم اسناد المشروع الى شركة ساليني الايطالية مستغلة انشغال مصربأحداث ثورة 25 يناير 2011 .
ترجع بداية الازمة الى اتفاقية عنتيبي عام 2010م التي تعتبر هي شرارة الازمة التي ادت اندلاع أزمة دبلوماسية بين مصر واثيوبيا والسودان ، واتفاقية عنتيبي تم توقيعها بين خمس دول من دول حوض النيل هم(تنزانيا-اثيوبيا-كينيا-اوغندا-رواندا).
وقد رفضت مصر والسودان هذه الاتفاقية الموقعة في غيابهما؛ والتي تنص على الغاء الحقوق التاريخية لكلا من مصر والسودان في الموارد المائية لنهر النيل والتي تقدر بـــــ(55.5مليار متر مكعب لمصر -18.5 مليار متر مكعب للسودان)؛كما نصت على الاستخدام المنصف والعادل للموارد المائية من قبل دول حوض النيل ؛واعلنت جنوب السودان في مارس 2013م انها ستنضم الى تلك المعاهدة [8].
وقد تمكنت إثيوبيا بالفعل من الحصول على الموافقة المصرية والسودانية على بناء السد بعد الاتفاق المصري الإثيوبي على المبادئ العامة خلال قمة الاتحاد الأفريقي في مالابو في يونيو 2014، ثم توقيع إعلان المبادئ بشأن سد النهضة في الخرطوم في مارس 2015.
حيث تظهر خبرة جولات التفاوض مع إثيوبيا أنها استطاعت أن تفرض سد النهضة كحقيقة واقعة، وأن تحصر نطاق التفاوض في الجوانب الفنية.
ففي الجولة الأولى2011) -2013) تم تشكيل لجنة فنية ثلاثية وتحديد ولايتها. وقد اشترطت إثيوبيا أن تستمر عملية بناء السد أثناء المفاوضات. كما قدمت لجنة الخبراء الدولية تقريرها الذي أشارت فيه إلى مشكلة أمان السد وضرورة استكمال الدراسات البيئية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بتأثير السد.
أما جولة التفاوض الثانية2014)-2015) فقد شهدت توقيع إعلان المبادئ الخاص بسد النهضة، والذي كان بمثابة شهادة ميلاد رسميه له، وهو ما جعل إثيوبيا تعتمد على نهج التصرفات الأحادية خلال تلك المرحلة.
واستطاعت إثيوبيا خلال الجولة الثالثة 2016)-(2019 أن تحصر عملية التفاوض في قضية قواعد ملء وتشغيل سد النهضة بعيدًا عن الجوانب القانونية والسياسية الأخرى التي تضمن الحقوق المائية لكل من السودان ومصر، وهو ما أدى إلى فشل هذه الجولة التفاوضية[9].
وقد شهدت الجولة الرابعة(نوفمبر 2019- فبراير 2020) تدخّل كل من الولايات المتحدة والبنك الدولي، ورغم التوصل إلى مسودة اتفاق نهائي وقّعت عليه مصر فإن إثيوبيا قررت الانسحاب ورفض الضغوط الأمريكية عليها، ولجأت كل من مصر والسودان إلى مجلس الأمن الدولي الذي أحال ملف سد النهضة إلى الاتحاد الأفريقي، لتبدأ الجولة الخامسة للمفاوضات الثلاثية برعاية الاتحاد الافريقى منذ 26 يونيو 2020، والتي أعادت فيها إثيوبيا نهج الحلول الجزئية وعدم رغبتها في التقيد بأي اتفاق ملزم من الناحية القانونية، واتفقت الدول الثلاث على أن ترفع كل منها تقريراً لجنوب إفريقيا بوصفها الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي يشمل مجريات الاجتماعات ورؤيتها حول سُبل تنفيذ مخرجات اجتماعي هيئة مكتب الاتحاد الإفريقي على مستوى القمة اللذين عقدا يومي 26 يونيو 2020 و21 يوليو الماضيين واللذين أقرا بأن تقوم الدول الثلاث بإبرام اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة [10].
وأخيراً وليس اخراً وفى 10 يناير 2021 فشل الاجتماع السداسي بين وزراء الخارجية والري من السودان ومصر وإثيوبيا في التوصل لصيغة مقبولة لمواصلة التفاوض حول سد النهضة الإثيوبي.
وبدأت هذه المفاوضات بمشاركة وزراء الخارجية والري في مصر والسودان وإثيوبيا، برئاسة دولة جنوب أفريقيا لبحث الوصول لاتفاق ملزم بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة.
وقال وزير الري والموارد المائية السودانية ياسر عباس إن بلاده “طالبت خلال الاجتماع بتغيير منهجية التفاوض وطريقته وتوسيع دور الخبراء للحد الذي يمكنهم من لعب دور أساسي في تسهيل التفاوض وتقريب شقة الخلاف خاصة بعد الاجتماعات الثنائية البناءة مع الخبراء حول ضرورة تحديد مرجعية واضحة لدور الخبراء”.
وأضاف “لا يمكننا أن نستمر في هذه الحلقة المفرغة من المباحثات إلى ما لا نهاية بالنظر لما يمثله سد النهضة من تهديد مباشر لخزان الروصيرص والذى تبلغ سعته التخزينية أقل من 10 في المائة من سعة سد النهضة إذا تم الملء والتشغيل دون اتفاق وتبادل يومي للبيانات”.
وأشار عباس إلى أن “السودان تقدم باحتجاج شديد اللهجة لإثيوبيا والاتحاد الإفريقي حول خطاب بعثه وزير الري الإثيوبي للاتحاد ومصر والسودان في الـ8 من يناير الجاري أكد فيه عزم بلاده الاستمرار في الملء للعام الثاني في يوليو2021 بمقدار 13.5 مليار متر مكعب بغض النظر عن التوصل لاتفاق أو عدمه”.
وأبدت وزيرة العلاقات والتعاون الدولي لجنوب إفريقيا جي بندور “أسفها للطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات”، وقالت إنها سترفع الأمر للرئيس سيريل رامافوزا رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي “لاتخاذ ما يلزم”[11].
ثالثاً : العلاقات السودانية المصرية بشأن مياه النيل
تمتد الحدود المصرية السودانية نحو 1273كم، ويمثل السودان العمق الإستراتيجى الجنوبي لمصر، لذا فإن أمن السودان واستقراره يمثلان جزءًا من الأمن القومي المصري.
وتعود العلاقات الدبلوماسية المصرية السودانية إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، منذ أن بدأ محمد علي والى مصر في بناء الدولة الحديثة. وفي عام 1820 تقدمت جيوش الدولة المصرية لأول مرة لتقوم بتجميع أطراف المناطق الواقعة جنوبها، ممثلة في سلطنات وممالك وقبائل السودان، لتصنع من كل هذا كياناً إدارياً وسياسياً واحداً، وهو الذى اصطلح على تسميته بالسودان.
كان فتح السودان عام 1820، ثالث الحروب التي خاضت مصر غمارها في عهد محمد علي لتأليف وحدتها السياسية، ولو لم تلح عليه تركيا في المبادرة إلى تجريد الجيوش على شبه جزيرة العرب، لكان فتح السودان أول حروبه بعد ان رد الغزو الانجليزي، لأن محمد علي لم يكن ليغفل عن اهمية السودان الحيوية لمصر.
استمرت مرحلة التوحيد والتكوين هذه زهاء نصف قرن، إلى أن اكتمل السودان الحديث في العام 1874 بعد أن تم إلحاق سلطنة دارفور بالسودان على يد “الزبير باشا ود رحمة الجموعي” الذي كان قائدا سودانيا تحت إمرة الخديوي إسماعيل، وكان قد سبق ذلك استكشاف وضم إقليم جنوب السودان الذي كان يعرف في ذلك الوقت باسم “المديرية الاستوائية”، عبر ثلاث حملات استكشافية كبرى.
وقد ظل الترابط بين السودان ومصر قائماً ولم ينقطع إلا لفترة محدودة في عهد الدولة المهدية (من 1885 إلى 1898)، حيث عادت مصر مرة أخرى للسودان عبر الحكم الثنائي (المصري-البريطاني) إلى أن حصل السودان على استقلاله في الأول من يناير 1956.
ومنذ استقلال السودان في مطلع العام 1956 والعلاقات المصرية السودانية تمر دورياً بحالات من المد والجزر، أو بدورات من الصعود والهبوط.
الا ان مصر والسودان لا غنى لإحداهما عن الأخرى مهما كان اختلاف الأنظمة الحاكمة هنا أو هناك، وأن هناك ضرورات يجب أخذها في الاعتبار قبل الإقدام على أي فعل أو رد فعل.. وهي أن مصر والسودان باقيان في هذا المكان منذ فجر الخليقة.. وسوف يظلان كذلك، مهما كانت الأحداث أو التطورات في شمال الوادي أو جنوبه، وأن هناك تأثيرا وتأثرا متبادلين سوف ينتج أثرهما في كل الأحوال، ومن ثم فإن التعاون من أجل الصالح المشترك هو الأجدى والأكثر نفعا، وهو المنطق الطبيعي للأمور، وأنه مهما افترقت السبل فإنه ليس هناك مفر من العودة إلى التعاون والتفاهم والتنسيق من جديد[12].
-اذ يعتبر نهر النيل هو أطول نهر في العالم 6650كم وقامت علي ضفافه اقدم واعرق الحضارات الانسانية في مصر والسودان واثيوبيا، بوروندي، رواندا، الكونغو الديمقراطية، كينيا، تنزانيا واريتريا، اوغندا بالإضافة لجنوب السودان. ويعتمد أكثر من 300مليون نسمة في هذه الدول علي مياه نهر النيل.
ويأتي حوالي 86% من مياه النهر من الهضبة الاثيوبية (59% النيل الازرق و14% من السوباط و13% من نهر عطبرة) بينما تساهم البحيرات الاستوائية بحوالي 14% فقط من مياه نهر النيل وتقدر كميات مياه نهر النيل التي تصل اسوان سنويا بحوالي 84 مليار متر مكعب وهذا يجعل نهر النيل من أضعف واقل الانهار مياه في العالم مقارنه بمساحه حوضه وطوله وعدد دول المشاطئة. وهذا الضعف الحاد فيه وارد المياه السنوي يمثل المشكلة الاساسية والكبرى لنهر النيل ودول حوض النيل، وقد بدأت المفاوضات بين السودان ومصر حول استعمالات مياه النيل في اوائل القرن ال20 اثر التفكير في انشاء مشروع الجزيرة في السودان. وعلي أثر ذلك [13]
وقعت مصر والسودان اتفاقيتين لتنظيم العلاقة المائية فيما بينهما، وهما
· اتفاقية 1929: وهذه الاتفاقية تؤكد على ضرورة التنسيق بين الدولتين عند إقامة أي مشروعات في السودان، كما تقوم الحكومة المصرية بتقديم جميع التسهيلات لعمل الدراسات والأبحاث المائية لنهر النيل في السودان، ويمكنها إقامة أعمال لزيادة مياه النيل لمصلحة مصر بالاتفاق مع السلطات المحلية.
· اتفاقية 1959: وهذه الاتفاقية جاءت مكملة للاتفاقية السابقة (1929) وليست لاغية لها؛ إذ تشمل الضبط الكامل لمياه النيل الواصلة لكل من مصر والسودان في ظل المتغيرات المستجدة على الساحة آنذاك، وهي الرغبة في إنشاء السد العالي ومشروعات أعالي النيل؛ لزيادة إيراد النهر، وإقامة عدد من الخزانات في أسوان.
وفي إطار مواكبة التطورات على الساحة الإقليمية ودول حوض النيل تم استحداث آليات جديدة للتعاون فيما بين دول حوض النيل، بجانب الاتفاقيات الثنائية السابقة، التي تم توقعيها في عهد الاستعمار. وبالفعل تم استحداث عدد من الآليات منذ ستينيات القرن العشرين، مثل:
. هيئة مياه النيل: وقد أنشئت بموجب اتفاقية 1959 بين مصر والسودان؛ لزيادة إيراد النهر، وعمل مشروعات لزيادة إيراد النهر.
· مشروع الهيدروميت: وقد انطلق هذا المشروع في 1976 بمشاركة دول حوض النيل العشر، مصر وكينيا وأوغندا وتنزانيا والسودان، ثم انضمت إليها رواندا وبورندي والكونغو الديمقراطية، وأخيرًا إثيوبيا. وهو الخاص بدراسة الأرصاد الجوية والمائية لحوض البحيرات الاستوائية.
· تجمع الأندوجو: كانت مصر صاحبة إنشاء هذا التجمع في 1983. ويهدف بالأساس لتنظيم الاستفادة من مياه النيل بقدر الإمكان، والتشاور فيما بين دول حوض النيل، ودعم مشروعات التعاون فيما بين دول حوض النيل، خاصة في مجال التنمية، وتبادل الخبرات فيما بينها.
· تجمع التيكونيل: وقد أنشئ هذا التجمع في ديسمبر 1992 بمشاركة ست من دول حوض النيل هي: (مصر والسودان وتنزانيا وأوغندا ورواندا والكونغو الديمقراطية)، وهو تجمع للتعاون الفني بين دول حوض النيل؛ للتنمية وحماية البيئة.
· مبادرة حوض النيل: في عام 1997 قامت دول حوض النيل بإنشاء منتدى للحوار؛ من أجل الوصول لأفضل آلية مشتركة للتعاون فيما بينها، وفي عام 1998 تم الاجتماع بين الدول المعنية، باستثناء إريتريا، في هذا الوقت. وفي فبراير 1999 تم التوقيع على هذه الاتفاقية بالأحرف الأولى في تنزانيا. وسميت” بمبادرة دول حوض النيل“ بهدف وضع إستراتيجية للتعاون بين الدول النيلية، ورفعت المبادرة شعار “,”تحسين معدلات التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر“,”.
. المكتب الفني الإقليمي للنيل الشرقي (الإنترو): وقد تأسس في مارس 2001، بالاتفاق بين كلٍّ من مصر والسودان وإثيوبيا، ومقره في أديس أبابا. ويهدف بالأساس إلى بحث المشروعات المائية المشتركة، والتي تم تجميعها في برنامج العمل لحوض النيل الشرقي[14].
رابعاً : العلاقات السودانية الاثيوبية
على مدار ثلاثة عقود تمثلت أولويات السياسة الخارجية لنظام الإنقاذ في تعزيز قدرة النظام على البقاء في الحكم على حساب تحقيق مصالح السودان الوطنية.
تعددت مظاهر التغير الذي شهدته سياسة السودان الخارجية منذ سقوط نظام الإنقاذ في أبريل من عام 2019، والتي شملت جانبي المبادئ والإجراءات، وهو ما تمثَّل بوضوح في:
تغير نمط صنع السياسة الخارجية، خصوصًا في ظل البنية المركبة لمؤسسات الحكم الانتقالية، والتي تنقسم إلى مجلس للسيادة يضم عناصر عسكرية ومدنية، ومجلس للوزراء يتمتع بصلاحيات موسعة، الأمر الذي كشف عن تعددية واضحة في مراكز صنع السياسة الخارجية للسودان، وهو ما ظهر في بعض المناسبات في صورة مواقف متباينة نسبيًّا. ويأتي هذا النمط مخالفًا للسائد خلال فترة حكم «البشير» التي كان القرار الخارجي يصنع خلالها بمركزية شديدة على نحو ما تجسد في الإقالة المفاجئة لوزير الخارجية «إبراهيم غندور» عام 2018 على إثر اختلاف في وجهات النظر مع الرئيس «البشير».
وقد تبنت منطق التوازن في العلاقات على جميع مستوياتها، وهو ما تجلى بوضوح في ملف سد النهضة، حيث ظل السودان في موقع أقرب لإثيوبيا منذ بداية المفاوضات عام 2011؛ بسبب التحالف الاستراتيجي بين نظام الإنقاذ، وجبهة تحرير تيجراي التي كانت تقود النظام الإثيوبي، لكن التغيير في السودان انعكس في صورة مراجعات واضحة لموقف السودان من قضية سد النهضة وفق اعتبارات المصلحة السودانية. وعلى المستوى الدولي، وعلى الرغم من استهداف السودان تحسين علاقاته مع الولايات المتحدة بصفة خاصة، فإن هذا الهدف لم يمنعه من تطوير العلاقات بأطراف أخرى في مقدمتها الدول الرئيسة في الاتحاد الأوروبي.
فتحولت من تصدير الاضطرابات إلى دعم الاستقرار الإقليمي، فخلال فترة حكم «البشير» لعب السودان أدوارًا سلبية في إذكاء الصراعات والتوترات في العديد من دول جواره الإقليمي؛ الأمر الذي تسبب في أزمات متعددة كانت آخرها مع «إريتريا» التي أصدرت في الأشهر الأولى لعام 2019بيانات متعددة، نددت فيها باستضافة السودان عناصر إريتريَّة مهددة للاستقرار بدعم من قوى من خارج الإقليم، ومن الواضح أن السلطات الانتقالية في السودان تتبنى توجها جديدا يقوم على الامتناع عن التدخل في الشأن الداخلي لأي من دول جواره، ويستهدف تحقيق الاستقرار على مستوى الإقليم.
ومرت علاقات السودان الخارجية بتحولات متعددة على جميع الأصعدة والمستويات، حيث شملت دول الجوار المباشر، والقوى الإقليمية من الشرق الأوسط، وكذلك القوى الدولية، وهي التحولات التي يمكن تفصيلها مع التحول التي شهدت علاقة السودان بعدد من دول جواره تطورا ملحوظًا لأسباب متعددة داخلية وخارجية، ففي ظل تعقد ملف السلام بين الحكومة الانتقالية والحركات الانفصالية وجدت الحكومة السودانية نفسها مضطرة إلى طلب العون من حكومات دول الجوار، والتي تجمعها بالحركات المسلحة علاقات وطيدة، وهو الأمر الذي تجلى في العلاقات المتطورة مع كل من جنوب السودان وتشاد، وبدرجة أقل مع إثيوبيا وإريتريا[15].
وباستقراء التاريخ، لم تكن مسألة المياه عاملا مؤثرا سالباً في مسيرة العلاقات بين البلدين، وربما يرجع ذلك بساطة وبدائية اقتصاد الدولتين المعتمد علي استثمارات المشروعات المائية في الزراعة والصناعة وحتي ما حدث منها كان علي عهد الدول الاستعمارية وبأهداف اقتصادية، عبرت عن الاتفاقيات بين بريطانيا وإيطاليا، واحيانا اثيوبيا كدولة توسعية تقاسم الدول الاستعمارية حصتها، حيث وفدت اتفاقيات ميان النيل الأزرق في (1881-1902-1929-1935). اما بعد اعلان الدولة الوطنية في السودان 1956م كانت اول ظواهر لبوادر مشكلة حول مياه النيل الأزرق بين السودان واثيوبيا كانت في عهد الامبراطور هيلا سيلاسي عندما اعلن فور استقلال السودان رغبة اثيوبيا بالاحتفاظ بحقها في موارد مياه النيل الأزرق، تلي ذلك في النصف الثاني في عقد السبعنيات محاولة اثيوبيا تأكيد حقها في المياه وذلك عن طريق طرح المشروع الأمريكي لتنمية النيل الأزرق ، ويظهر ان عامل الوجود الأجنبي الذي بدا بالدول الاستعمارية بريطانيا ثم إيطاليا وفرنسا في منطقة حوض النيل ،هو الذي زرع وفجر عوامل الصراع وزعزعة الاستقرار ونسف أصول التواصل بين دول المنطقة. ومع تصاعد قوه العلاقات الاسرائيلية الاثيوبية، والتي يعبر عنها توقيع عدة اتفاقيات لإقامة مشروعات حول المياه حول بحيره تانا مجرى النيل الازرق عام 1990 الى عام 1996،كل ذلك بدون علم او استشاره السودان واطراف حوض النيل الاخرى خاصة مصر، كان ذلك عاملاً مؤثراً في العلاقات ما بين الدول الثلاث فبرغم وجود النيل الازرق كظاهره طبيعية وتفرض ديمومة تبادل موارده خاصة المياه، الا ان ما يجري في هذا الشأن لم يتعدى الحلول المؤقتة والجزئية لتصبح العلاقات السودانية الاثيوبية من حساب المؤقت والمؤجل وتعقيدات المصالح لهذه الدول والدول الأجنبية خاصة أمريكا وإسرائيل[16].
وبعد حرب عام 1998دخلت العلاقات السودانية الاثيوبية في سبات منذ أمد طويل ليحددا بدقة حدودهما التي يبلغ طولها 744 كيلومترا
وفي هذا الإطار، كانت الفشقة هي أصعب منطقة لتسوية الخلاف حولها، فوفقا لمعاهدات الحقبة الاستعمارية لعامي 1902 و1907 تمتد الحدود الدولية إلى الشرق منها.
وهذا يعني أن الأرض ملك للسودان، لكن الإثيوبيين استقروا في المنطقة حيث مارسوا الزراعة وهم يدفعون ضرائبهم للسلطات الإثيوبية.
ووصلت المفاوضات بين الحكومتين إلى حل وسط في عام 2008 حيث اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية، لكن السودان سمح للإثيوبيين بالاستمرار في العيش هناك دون عائق.
لقد كانت حالة كلاسيكية لـ “الحدود الناعمة” التي تمت إدارتها بطريقة لا تسمح لموقع “الحدود الصلبة” بتعطيل سبل عيش الناس في المنطقة الحدودية حيث ساد تعايش لعقود حتى طالبت إثيوبيا بخط سيادي نهائي.
وترأس الوفد الإثيوبي إلى المحادثات التي أدت إلى تسوية عام 2008 آبي تسيهاي، المسؤول الكبير في جبهة تحرير شعب تيغراي[17]
وبعد الإطاحة بجبهة تحرير شعب تيغراي من السلطة في إثيوبيا في 2018، أدان زعماء عرقية الأمهرة الاتفاق، ووصفوه بأنه صفقة سرية، وقالوا إنه لم تتم استشارتهم بشكل صحيح بشأن ذلك الاتفاق.
ولكل جانب قصته الخاصة حول ما أشعل الاشتباك في الفشقة، لكن ما حدث بعد ذلك ليس محل خلاف، فقد طرد الجيش السوداني الإثيوبيين وأجبر القرويين على إخلاء أماكنهم[18]. وقد تنامت العلاقات السودانية-الإثيوبية بعد اتفاق الدولتين على الوقف المتبادل لكافة أشكال الدعم للمعارضة السياسية والمسلحة. ثم اتخذت العلاقات مسارًا تصاعديًّا بالتوافق على تسوية النزاع الحدودي بمنطقة الفشقة، وتوقيع العديد من الاتفاقيات لتعزيز التجارة والاستثمار والنقل البري والربط الكهربائي.
ومع تدشين مشروع سد النهضة الإثيوبي، أمسكت السودان بالعصا من المنتصف، بعدم التوقيع على اتفاق عنتيبي، دون الاعتراض على إنشاء السد، متخذة موقف الوسيط في الأزمة، رغم كونها شريكًا أساسيًّا فيها. لكن بمرور الوقت انحازت الخرطوم لأديس أبابا، فتحولت إلى داعم أساسي للسد. وتجلى ذلك في إعلان البشير تأييده الصريح لإنشاء السد في ديسمبر 2013، وتوقيع اتفاق دفاعي بين الدولتين في مايو 2014، لتشكيل قوات مشتركة لتعزيز أمن الحدود، ومواجهة أي عدوان أو تهديد خارجي محتمل.
وقد أسست السودان هذا الموقف على أساس اعتبارين هما: الجدوى الاقتصادية المباشرة لإنشاء السد، والمصالح والاعتبارات السياسية، حيث تنخرط إثيوبيا في كل قضايا السودان، باستضافتها المفاوضات بين نظام الإنقاذ ومعارضيه، وكذا بين الخرطوم وجوبا، ووجود قواتها في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان[19].
وقد تحدث السفير علي حاضر عن العلاقة مع أثيوبيا قال “كما ذكرت في البداية هي علاقات مهمة جداً، فأثيوبيا دولة جارة وليس بيننا وبينها أي مشاكل أو تعقيدات. أثيوبيا دولة عدد سكانها 100 مليون نسمة، وأرضها جبلية ولا يمر عام إلا ويصيبها القحط والجفاف، وهي بلد حبيس ليس له منفذ على البحر بعد ان انفصلت عنها أرتيريا، وبالتالي السودان ساعد أثيوبيا بأنه أعطاها قطعة من الأرض في ميناء بور سودان على البحر الأحمر لتستخدمه في الصادرات والواردات، وهناك أراضٍ زراعية متاخمة على الحدود المشتركة أيضاً، يستفيد الأحباش منها في الزراعة لتأمين الغذاء لقطاع كبير من السكان، وهناك تعاون بين السودان وأثيوبيا في مجال الكهرباء والنقل والتجارة، والعلاقات عموما مزدهرة جداً، ونخطط لخلق تكامل في كل المجالات مع الجارة أثيوبيا في القريب العاجل”[20].
خامساً : موقف السودان من سد النهضة
يعد موقف السودان من أكثر الموقف التي تحتاج الي تفسير واضح ابان حكم البشير، وذلك من خلال اتباع عدة مواقف تمثلت في مجموعة من السمات هي:
1-البشير والمراوغة السياسية: بطبيعة نهج النظام السابق وموقفة من الدولة المصرية وتصديره لمشكلات غير حقيقية مع مصر، تبني نهج المراوغة وعدم وضوح الموقف من سد النهضة حتي ترك السلطة في ابريل2019 فقد كان يدعم موقف ومطالب مصر في بعض المراحل، وموقف اثيوبيا في مراحل اخري بحسب جودة العلاقات الثنائية بينهما والاهداف المرحلية التي يسعي اليها.
2-تحقيق أكبر قدر من المكاسب: كان ولايزال النظام السوداني يحاول تحقيق اكبر قدر من المكاسب من خلال الظهور بمظهر محايد للطرفين وتأكيده للحلول الوسطي واستخدام ذلك كورقة ضغط علي الجانبين.
3-دعم الحل السياسي: حيث يؤكد السودان علي ضرورة الامتثال لقرارات اللجنة الفنية وحلول اللجنة التفاوضية بين الأطراف دون محاوله من السودان لإظهار شرعية طرف علي حساب الاخر.
4-لاموقف بعد البشير: علي الرغم من تقارب المجلس العسكري السوداني مع الدولة المصرية وبعض الدول العربية، ومحاولة استغلال ذلك التقارب في ملف سد النهضة فانه من الواضح انه لا موقف محدد للسودان خاصة مع طبيعة العلاقات مع اثيوبيا في المرحلة التي تلت خلع البشير من السلطة، حيث لعب ابي احمد دور الوساطة لحل الخلافات بين القوي السودانية بعد سقوط نظام البشير والتي كللت بالإعلان عن الوثيقة الدستورية وتشكيل الحكومة السودانية[21].
ربما يكون من المتفق عليه أن الرئيس المخلوع عمر البشير ووفق مفهوم قاصر قد نحّى المصالح السودانية في هذا الملف، وتم توظيفه في مسائل التوظيف والابتزاز الإقليمي الذي كان بارعاً فيها إلى حد إعادة تموضع السودان الإقليمي أكثر من مرة على مدى سنوات قليلة، وذلك على نحو يخالف مصالح الدولة الاستراتيجية، وفي هذا السياق تم تعطيل أية دراسات سودانية فنية عن هذا السد في أروقة الجامعات السودانية مثلاً أو حتى في وزارة الري التي تبنت خطاباً يمجد في السد ويعدّد الفوائد العائدة على السودان منه وهي المتمثلة في التحكم في فيضان النيل الأزرق والحصول على كهرباء بأسعار تفضيلية كما وعد الإثيوبيون، حيث تم إسكات الأصوات التي كانت ترى خطورة هذا السد على مصالح الخرطوم، وتم منع حلقات النقاش العلني في هذا الأمر تحت سقف انخفاض الحريات العامة وتحكم أجهزة الأمن في نظام البشير في المحتوى الإعلامي، وكذلك اللجوء إلى توقيف ومصادرة الصحف.
ولكن مع تغيُر النظام في أبريل (نيسان) 2019 وبداية تبلور أطراف جديدة للنظام السياسي السوداني في أغسطس (آب) من العام ذاته، انفتحت أبواب النقاش الداخلي في ملف سد النهضة، كما أفاق السودان على صدمة عدم الحضور الإثيوبي لجلسة التوقيع على اتفاق تم بلورته تقريباً عبر ثلاثة أشهر من المباحثات برعاية من الإدارة الأميركية والبنك الدولي، وذلك في فبراير (شباط) عام 2020، كما احتكت النخبة السياسية السودانية الجديدة وعن قرب بالأداء الإثيوبي وطبيعة مراوغاته في مباحثات واشنطن.
وراهنت إثيوبيا على انحياز سوداني كامل لها، وأسست هذا الموقف على أدوارها النشطة في دعم الثورة السودانية، خصوصاً في أروقة الاتحاد الأفريقي الذي انخرط في مطالبة المجلس العسكري بتسليم السلطة للمدنيين بالكامل طبقاً لوثيقة “لومي” عام 2002 التي توافقت فيها الدول الأفريقية على منع الاعتراف بالانقلابات العسكرية ومواجهة صعود النخب العسكرية للسلطة، كما نشطت إثيوبيا أيضاً في منع مواجهات قاسية كانت متوقعة بين التحالف الثوري السوداني “قحت” والمجلس العسكري على خلفية فض الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في 3 يونيو (حزيران) 2019، وهو ما أسفر عن وقوع ضحايا واغتصاب نساء واختفاء نشطاء، في واقعة لم يتحدد المسؤول عنها حتى اللحظة الراهنة.
وقد اعتبرت إثيوبيا أن هذا الأداء السياسي من جانبها يمكن أن يؤمن موقفاً سودانياً منحازاً إليها بالكامل، خصوصاً أن القطاعات الشبابية والقوى السياسية السودانية راهنت على الدعم الإثيوبي لها في مسألة التحول الديمقراطي التي هي حلم سياسي ممتد على مدى التاريخ السوداني المعاصر، وذلك في مواجهة وحدات النظام العربي، التي تسعى ولا تزال إلى تقويض فرص هذا التحول. في هذا السياق أغفلت أديس أبابا أن أداءها السياسي في ملفي الحدود وسد النهضة قد تسبب في وجود قلق سوداني عميق على المستويين الرسمي والشعبي، حيث وفرت أديس أبابا معطيات لهذا القلق يمكن تفصيلها في الآتي:
– إن عدم الالتزام الإثيوبي بالتوافقات التي يتم التوصل إليها في سياق سد النهضة، يسهم بشكل أساسي في تآكل مصداقيتها على المستوى السوداني الرسمي، ويبدد الثقة فيها كدولة يمكن الاعتماد عليها في تأمين المصالح السودانية الواقعية، والحفاظ على شرعية الثورة السودانية وحكومتها الانتقالية أمام جماهير شعبها، وذلك في ملف حساس يرتبط بمعاش الناس المرتبط بالزراعة، وكذلك في أمنهم..
– أما الخطوة الثانية الإِثيوبية التي أسهمت في وجود مسافة تتزايد بين عاصمتي البلدين فهي في رغبة اثيوبيا في ملء لبحيرة سد النهضة من دون اتفاق مع الشركاء في حوض النيل الأزرق. وهو أمر يؤثر بشكل واضح في بحيرة سد الروصيرص الذي تبعد بحيرته عن سد النهضة بنحو 100 كيلومتر فقط كما يقول وزير الري السوداني. وبطبيعة الحال مع هذا النوع من التصريحات الإِثيوبية شعرت الخرطوم أنها مهددة كما القاهرة في الحصول على حصتها المائية، وأن عدم الالتفات الإثيوبي إلى مسائل الجفاف والجفاف الممتد المؤثر في حياة الناس في كل من مصر والسودان، والإصرار على الملء المتعجل لبحيرة السد هي أمور تجعل المصالح السودانية أمام مخاطر لا يمكن تحملها[22]
وفي اخر الجولات التفاوضية بين الدول الثلاث في هذا العام في3 يناير 2021 استأنفت مصر والسودان وإثيوبيا، مفاوضات سد النهضة التي دعت إليها جنوب أفريقيا التي تترأس الاتحاد الأفريقي حاليًا بعد توقف لشهر كامل، بدون إحراز أي تقدم ، وناقشت الاجتماعات المقترحات السودانية بمنح دور أكبر للاتحاد الإفريقي عبر خبرائه للوصول لاتفاق قانوني ملزم للسودان ومصر وإثيوبيا، والنظر في المسودة التفاهمية التي أعدها خبراء الاتحاد الإفريقي للوصول لاتفاق مرض للأطراف الثلاثة، أكدت مصر خلال الاجتماع على ضرورة التوصل في أقرب فرصة ممكنة إلى اتفاق على سد النهضة، وقبل بداية المرحلة الثانية من ملء خزان السد، وبما يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث ويؤمن في الوقت ذاته حقوق مصر ومصالحها المائية، وقد خلُص الاجتماع إلى التوافق على عقد جولة مفاوضات بين الدول الثلاث تمتد لمدة أسبوع بهدف التباحث حول الجوانب الموضوعية والنقاط الخلافية في اتفاق سد النهضة على أن يتم في نهاية هذا الأسبوع عقد اجتماع سداسي وزاري آخر برئاسة جنوب أفريقيا للنظر في مخرجات جولة المفاوضات الثلاثية.
5 يناير 2021 وزير الخزانة الأمريكي “منوشن ” واشادتاً بموضوعية وإيجابية مصر خلال مفاوضات “السد الإثيوبي” خلال استقبال الرئيس السيسي له.
١٠ يناير ٢٠٢١ عقد الاجتماع السداسي لوزراء الخارجية والمياه في مصر والسودان وإثيوبيا وقد أخفق الاجتماع في تحقيق أي تقدم بسبب خلافات حول كيفية استئناف المفاوضات والجوانب الإجرائية ذات الصلة بإدارة العملية التفاوضية، حيث تمسك السودان بضرورة تكليف الخبراء المُعينين من قبل مفوضية الاتحاد الأفريقي بطرح حلول للقضايا الخلافية وبلورة اتفاق سد النهضة، وهو الطرح الذي تحفظت عليه كل من مصر وإثيوبيا وذلك تأكيداً على ملكية الدول الثلاث للعملية التفاوضية وللحفاظ على حقها في صياغة نصوص وأحكام اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة، خاصةً وأن خبراء الاتحاد الأفريقي ليسوا من المتخصصين في المجالات الفنية والهندسية ذات الصلة بإدارة الموارد المائية وتشغيل السدود [23].
خاتمة:
هذا وبعد ان قمنا بعرض اخر التطورات اللي لاحقت بناء سد النهضة والتعرف علي العلاقات الثنائية بين السودان واثيوبيا والتي استمرت لعقود كعلاقات وثيقة الي ان حدثت بعض الخلافات بين الدولتين وصولا لانتهاج سياسة العصا بين الطرفين المصري والاثيوبي، وأيضا العلاقات السودانية المصرية التي تنبع من جذور تاريخية وباعتبارهم ارض المصب لنهر النيل وتاريخهم المشترك فقد قمنا بعرض اخر التطورات التي طرأت علي العلاقات الثنائية بين الدولتين من اختلاف الرؤي بين الدولتين ابان حكم البشير الحكم الذي غلب علية الطابع الايدولوجي الإسلامي ومحاولة استغلال الفرص كسد النهضة والترويج له علي انه منفعة مشتركة للدول الثلاث وتبني موقف اثيوبيا في بناء السد فقي كثير من فترات التفاوض التي طال امدها واستمرت لمدة عقد من الزمن، ولكن مع التغير في الحكم وتولي المجلس العسكري الحكم أصبحت السودان تري ان لسد النهضة اضرار جسيمة ستؤدي الي هلاك السودان ومن ثم تصحير الأراضي السودانية والاضرار بسد الروصيرص حيال نقص الكمية الواردة من مياه نهر النيل والبالغ كميتها 18 ملياركم مكعب وهو ما ايقنته القيادة السودانية في الآونة الأخيرة فضلاً عن المناوشات الحدودية بين الدولتين والتدخل الاثيوبي في الشأن الداخلي السوداني.
هذا وتكمن سيناريوهات ازمة سد النهضة والتوصل الي حل مرضي للأطراف جميعاً وذلك بعد التوقيع علي اتفاقية المبادئ مارس 2015 التي تنص علي عدم شروع أي طرف من الأطراف الثلاثة الي إجراءات تؤثر علي الطرفين ولذا مرت المفوضات بعدها بخمس سنوات لكن دون جدوي حقيقية والتي تمثل في اقتناع مصر والسدان بان كل ما ترغب به اثيوبيا هو كسب مزيد من الوقت لملئ خزان سد النهضة ومن ثم يصبح الامر واقعي امام الاطراف الثلاثة وعلي ذلك تكمن السيناريوهات الثلاثة امام الثلاث دول في:
فإن السيناريو الأول يتمثل في “الحل السياسي المبني على موازنة المصالح والاستثمار في الفرص القائمة ومحاولة إيجاد صيغة تقاربية بين الأطراف الثلاثة والتي تتمثل قواعد ملئ وتشغيل السد العالي وهو الأكثر ترجيحا في حال موافقة اثيوبيا علي التفاوض بشأن قواعد ملئ وتخزين الميه والتوقيع بعدم حصول أي اضرار للسودان ومصر من سد النهضة في حالة رغبة الدول لان يكون الحل السياسي هو الأول والأخير في المفاوضات.
الثاني فيتعلق بـ”احتمال نجاح الاتحاد الإفريقي في دمج مقترحات البلدان الثلاثة والتوصل إلى صيغة قانونية ملزمة”، وهو ما تطالب به مصر والسودان.
الثالث يتمثل في الوصول الي الية للتحكيم ويضعف استخدام هذا السيناريو في ظل ترجيح السيناريو الأول والثاني محاولا تفادي نقط تصادم بين الدولقودنا الي الرجوع مرة اخري لنقطة البداية.
[1] مفهوم الأزمة الدولية، الموسوعة السياسية
[2] محمد محمود منطاوى، الحروب الأهلية و آليات التعامل معها وفق القانون الدولي، المركز القومى للإصدارات القانونية، القاهرة، مصر ، 2015 ص 57
[3] محمود عبد الفتاح ، إدارة النزاعات و الصراعات في العمل ، المجموعة العربية للتدريب والنشر ، القاهرة ، مصر، 2012 ، ص21
[4] محمود عبد الفتاح ، مرجع سبق ذكره ، ص22
[5] ماهية الأزمة الدولية في اطارها النظري
https://hichamoukal.blogspot.com/2014/12/blog-post_78.html
[6] التحولات في المرتكزات العالمية وعناصر عدم الاستقرار، موقع كتابات
[7] حمدي عبد الرحمن حسن، أزمة سد النهضة: تحدي الهيمنة المائية والمأزق السوداني المصري،مجلة دراسات شرق أوسطية ‘ القاهرة،مصر،العدد93 ،خريف 2020 ص45
[8] أزمة سد النــهضة وتداعيتها على مصر (سياسيا – اقتصاديا واجتماعيا – احصائيا وجيولوجيا)،المركز الديمقراطى العربى ، منشورة بتاريخ 20 أغسطس 2018
ازمة سد النــهضه وتداعيتها على مصر (سياسيا – اقتصاديا واجتماعيا – احصائيا وجيولوجيا)
[9] حمدي عبد الرحمن حسن ، مرجع سبق ذكره ، ص 46
[10] سد النهضة.. فشل الاتفاق حول طريقة استكمال المفاوضات ، موقع العربية نيوز
[11] فشل الاجتماع السداسي حول سد النهضة، موقع قراءات إفريقية
[12] الهيئة العامة للاستعلامات
، https://www.sis.gov.eg/section/125/1191?lang=ar
[13] الهيئة العامة للاستعلامات، كتاب مصر والسودان
[14] مي غيث، أزمة سد النهضة والأمن المائي المصري، المركز العربي للبحوث والدراسات،
http://www.acrseg.org/2240/bcrawl
[15] -احمد امل، تحولات خريطة العلاقــات الخارجية السودانية ما بعد نظام البشير، مركز دعم واتخاذ القرار
https://idsc.gov.eg/IDSC/DocumentLibrary/View.aspx?id=4367
[16] أية طلال مأمون البربر، بحث تكميلي لنيل درجة البكالريوس بعنوان “العلاقات السودانية الاثيوبية[16] من 1998-2012″”، صفحة 27،28 ،2015
[17] -بي بي سي عربية، إثيوبيا والسودان: لماذا تتنازعان على منطقة الفشقة؟
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-55522543
19- ايمن شبانة، لماذا تتنقل السودان بين المحاور الإقليمية المتناقضة؟[19]،مركز المستقبل https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/3632/%D8%AA%D9%82%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D8%AA%D9%86%D9%82%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%86%D8%A7%D9%82%D8%B6%D8%A9
[20] -السفير علي حاضر عن “تطورات السياسة الخارجية السودانية
https://sitainstitute.com/?p=1861
[21] باسم رزق عدلي، مواقف واسانيد مصر والسودان واثيوبيا في ملف سد النهضة، مجلة السياسة الدولية، العدد219-يناير2020 ص227
[22] اندبندنت عربية، هل تحول الموقف السوداني بشأن سد النهضة؟ ، https://www.independentarabia.com/node/127706/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D8%AD%D9%84%DB%8C%D9%84/%D9%87%D9%84-%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D9%82%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A8%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9%D8%9F
[23] الهيئة العامة للاستعلامات ، مصر
https://www.sis.gov.eg/section/11281/14597?lang=ar