الحرية في أختلاف الفلسفة الجمهورية عن الليبرالية
حوار يجريه الدّكتور نابي بوعليّ مع الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ
- المركز الديمقراطي العربي
يخوض الاستاذ الدّكتورعليّ رّسول حوارا نقديا مفتوحا على مجالات معرفية متنوعة وحساسة، وإسهاما منا في هذا الحوار المفتوح والنقدي، نود أن نطرح علية بعض الأسئلة حول الحرية بالمعنى والمفهوم الجمهوري حيث يدعو دائما الى إستئناف النظر بقيًم الجمهورية، وقد تناول في دراساته قضايا المواطنة الجمهورية ومكانة القانون في الجمهورية ومكانة الدين في الجمهورية …….
س// الدّكتور نابي بوعليّ: ابتداءً سؤألنا: ماهو المفهوم الليبرالي للحرية حتى نفهم اختلافه عن الجمهوري لاحقًا؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: لقد صًورت الليبرالية مفهوم الحرية بالأسلوب السلبي المألوف، فقد أعتبرت الحركة الليبرالية الحرية المثل الأعلى وفسرته على أنه عدم تدخل، اذ تميل الليبرالية الى تاييد فكرة الحد الأدنى من الدولة. أيً يُعد غياب التدخل كافياً للحرية. فأكون حرا “إلى الدرجة التي لا يتدخل فيها أي إنسان في نشاطي” كما يقول ايزيا برلين. فأعتقدت بأن المفهوم الوحيد الممكن، وربما الوحيد المعقول، للحرية هو أنها عدم تدخل. بينما تنظر الجمهورية الى الحرية على أنها عدم هيمنة أوعدم سيطرة؛ ايً أنً الحرية بصفتها عدم هيمنة هي عدم وجود قدرة من جانب أي فرد أو جماعة للتدخل التعسفي في حياة أو شؤون فرد أو جماعة أخرى.
س// الدّكتور نابي بوعليّ :ماذا يعني التدخل؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يستدعي كلا المعنيين للحرية مفهوم التدخل. وما يمكن ملاحظته أولأً أنه يتطلب، في جميع التفسيرات تقريبًا، أن يكون التدخل أفعالًا متعمدة ومقصودة، ويتحمل من يقوم بها المسؤولية عنها. قد يقتصر التدخل على الأفعال التي تجعل بعض الخيارات مستحيلة على الفرد؛ أو قد يتم توسيعها لتشمل الأفعال التي تجبر الفرد أو تتلاعب به في الاختيار بين الخيارات.
يشمل التدخل أفعالًا تؤدي إلى تفاقم حالة الفرد إما عن طريق تقليل البدائل المتاحة في الاختيار، أو زيادة التكاليف الفعلية أو المتوقعة المرتبطة ببعض البدائل. وهكذا يمكن منع الفرد من فعل شيء ما؛ أو قد يُهدد ببعض التكاليف الإضافية في حالة القيام بذلك؛ أو قد يُعاقب لارتكابه الفعل المعني. فتستدعي الحرية كعدم التدخل مفهوم التدخل؛ بينما تذهب الحرية كعدم الهيمنة إلى أبعد من ذلك وتتذرع بالتدخل على أساس تعسفي.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: إذن، ما الذي يجعل فعل التدخل تعسفيًا ؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يمكننا القول، إذا أًرتكب الفعل على أساس تعسفي، وإذا كان خاضعًا لتحكم فرد أو قراره أو حكمه على الآخرين حسب رغبته. ونظرًالأرتباط التدخل بالاخرين فيتم اختياره أو رفضه دون النظر الى مصالح المتأثرين به. ولا يُجبر هذا الاختيار على تتبع ما تتطلبه مصالح الآخرين وفقًا لآرائهم أوأحكامهم الخاصة.
وقد يكون فعل التدخل تعسفيًا بالمعنى الإجرائي- أيً قد يحدث على أساس تعسفي – دون أن يكون تعسفيًا بمعنى أنه يتعارض مع مصالح الأشخاص المتضررين أو أحكامهم؛ وليس بحكم النتائج أو العواقب التي ينتج عنها.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: كيف ينظر التقليد الجمهوري لتدخل سلطة الدولة فيما يخص الحرية ؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: لقد اتخذ التقليد الجمهوري وجهة نظر مميزة لما هو مطلوب لكي يكون الفعل تدخليًا. إنً ما هو مطلوب من سلطة الدولة غير التعسفية أن تمارس السلطة بطريقة تأخذ بالأعتبار، ليس الرفاهية الشخصية لصاحب السلطة أو رؤيته للعالم، ولكن رفاهية المجتمع ونظرته للعالم. وأن تكون أعمال التدخل التي ترتكبها الدولة مدفوعة بالمصالح المشتركة للمتضررين؛ وما تتطلبه تلك المصالح، على المستوى الإجرائي على الأقل، من قبل المتأثرين.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: هناك مفهومان متقابلان لمعنى الحرية: أحدهما الليبرالي ويضع الحرية كمقابل للتدخل بشكل مباشر، لكن كيف يغير المفهوم الثاني- الجمهوري هذه المقابلة؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يغير الثاني- الجمهوري هذه المقابلة بأن لا ينطوي على الحرية بوصفها التدخل في حد ذاته، وإنما التدخل على أساس تعسفي. علاوة على ذلك، لا يتوقف هذا التقابل الثاني للحرية عند التدخل التعسفي الفعلي فقط ولكن يشمل أمكانية الفرد المتدخل على التدخل ايضا. فاذا تدخل الفرد بشكل غير تعسفي في خيارات فرد آخر، فإن ذلك لا ينتهك حرية ذاك الفرد مهما كان الضرر الناجم عن التدخل، فعدم التعسف يكفي لضمان عدم المساس بحريته. وللمفهوم الجمهوري تأثير آخر أيضًا وهو إذا كان لدى فرد القدرة على التدخل بشكل تعسفي في أي من خيارات الاخرين، فإن ذلك يهدد حريتهم في حد ذاته؛ إنهم يعانون من فقدان الحرية حتى لو لم يمارس ذاك الفرد بالفعل قدرته على التدخل.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: يُحدث فقدان الحرية اختلافًا في تأثير القانون على الحرية بموجب المفهومين، فكيف يعالج المفهومان هذا ؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يكون نظام القانون طبقًا للحرية بالمعنى الليبرالي بوصفها عدم تدخل قسريا بالضرورة، بأعتباره يهدد حرية الناس بشكل نظامي systemic، حتى لو كانت نتيجة وضع النظام موضع التنفيذ هي تقليل التدخل بشكل عام. فيمثل الخضوع للقانون في حد ذاته خسارة للحرية. بينما لايمثل الخضوع للقانون بموجب المفهوم الجمهوري هذه الخسارة لأي شخص يعيش في ظله، بشرط – وبالطبع شرط كبير- أن يكون صوغ القانون وتفسيره وتنفيذه ليس تعسفيًا. أيً شريطة أن يمثل الإكراه القانوني حكمًا عادلًا مقيدًا بتتبع ومراعاة مصالح المتضررين وأفكارهم.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: ألا يكون لنظام الإكراه القانوني، رغم أنه لا يشكل في حد ذاته مساومة على الحرية، تأثير العائق الطبيعي نفسه في تقييد الخيارات المتاحة للناس أو في جعلها أكثر تكلفة في تحديد النطاق الذي يتمتعون فيه بخيار غير خاضع للسيطرة؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: لا يعتبر أنصار الحرية بوصفها عدم تدخل العوائق الطبيعية عوامل تقوض الحرية لأنها ليست مقصودة بأي حال من الأحوال، لكنهم يعتبرون بأن مثل هذه العوائق تؤثر على نطاق الاختيار الذي يمكن أن تمارس فيه هذه الحرية. عندما يتحدث مؤيدو هذا النموذج من الحرية بوصفها عدم تدخل فعالة، وليس مجرد حرية شكلية، أفترض أنهم يفكرون في إزالة أو تقليل العقبات لممارسة هذه الحرية من خلال توسيع نطاق الاختيار المتاح للناس· أما أنصار الحرية بصفتها عدم هيمنة فينقلون موضع هذه الحدود. فيعتبرون التدخل المرتبط بسيادة القانون العادلة، مثل العائق الطبيعي، يحد من حرية الناس ولكنه لا يضر بها: فلا يعتبر القانون في حد ذاته تعديًا أو انتهاكًا أو انتقاصًا أو إهانة لحرية الناس. إنً الحالة القصوى للتدخل القانوني هي العقوبة على جريمة. وستعمل هذه العقوبة دائمًا على اعتبار حرية الناس تاتي من عدم الهيمنة أو السيطرة.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: ماهما الاختلافان الرئيسان المرتبطان بمقابلة الحرية كعدم هيمنة بدلاً من التدخل، فنحتاج الى توسع وتدقيق أكثر من اجل ان تكون الفكرة مفهومة ؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: أود أن اقدم ثلاث ملاحظات من أجل التأكيد على بعض النقاط المهمة لفهمها بشكل أفضل. أولاً، على الرغم من أن الهيمنة تتشكل من خلال امتلاك فرد القدرة على التدخل على أساس تعسفي في شؤون فرد أو جماعة آخرين، إلا أن بعض الافتراضات التجريبية المعقولة تربطها بوعي مشترك من جانب الأفراد أو الجماعات المعنية بوجود هذه القدرة، وأن تكون الدرجة التي تتمتعون فيها بالحماية من خلال الوسائل القانونية وغيرها بارزة لجميع المعنيين. ويترتب على ذلك ستكون عدم الهيمنة مسألة اعتراف مشترك بين الأفراد المعنيين. وهذا شيء له أهمية كبرى؛ لأنه يعني أن فهم طرق تحقق الحرية باعتبارها عدم هيمنة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على النظر في أعين الآخرين، دون الاضطرار إلى الانصياع لهم أو الخوف منهم.
ثانيا، إذا كان شخص ما يتمتع بالحرية على أنها عدم هيمنة، فلا يكفي ألاً يمارس الآخرون عليه تدخلًا تعسفيًا؛ بل يجب أن يفتقر هؤلاء الآخرون إلى القدرة على التدخل التعسفي في حياته، وليس من غير المرجح أن يتدخلوا فقط.
افترض أنك ربما تتعرض للتدخل على أساس تعسفي من شخص يحبك حقًا وهو من غير المرجح أن يتدخل. لكن إذا كان لا يزال هناك، وفقًا لمعايير صفة الإرادة الحرة، لديه القدرة على التدخل على أساس تعسفي إلى حد ما، عندئذٍ يعتبر مًهيمن عليك فتكون غير حر. أنك تعاني إلى الحد الذي يكون فيه هذا التدخل متاحًا لهم له مهما كان من غير المحتمل أنه سوف يمارسه. فتعني قدرته على التدخل التعسفي، على سبيل المثال، أنك تفتقر إلى أساس للحالة الذهنية الذاتية التي تتماشى مع الحرية باعتبارها عدم سيطرة؛ اذ لديك سبب للإذعان إلى ذلك الشخص ومحاباته باستمرار.
ثالثا، ليس الحرية باعتبارها عدم هيمنة مسألة الكل أو لا شيء، أي أما هيمنة كاملة أو عدم هيمنة. قد يكون للفرد المتدخل قدرة أكثر أو أقل استعدادًا للتدخل. وقد يكون التدخل لمن يمتلك القدرة عليه أكثر أو أقل خطورة، وقد يكون ممكنا أو متاحًا له إلى حد ما دون تكلفة، ودون التعرض للأنتقام مثلا. وبالتالي فإن الحرية باعتبارها عدم هيمنة لأولئك الذين هم في وضع يمكن التأثير عليهم قد تكون أكثر أو أقل حدة؛ فكلما أضعف الأفراد ذو القدرة على التدخل زادت حرية أولئك الذين قد يؤثرون عليهم.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: كيف ترتبط هذه الحرية بوصفها عدم هيمنة بمسألة تعدد الخيارات؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: قد تكون الحرية كعدم هيمنة في نطاق معين أو آخر؛ وقد تكون متاحة لعدد أصغر أو أكبر من الخيارات التي تكون أكثر تكلفة أو أقل، أو ذات الأهمية الأقل أو الأكبر بشكل بديهي. حتى لو وصلنا إلى أقصى حد ممكن من عدم الهيمنة للأشخاص في المجتمع، فهناك مجال لتحسين نطاق الاختيار غير المسيطرعليه والمتاح لهم: قد نجعل نطاق الاختيار أكبر، أو أقل تكلفة، أو أكثر أهمية. و حتى لو أزلنا جميع التأثيرات المساومة على الحرية باعتبارها عدم هيمنة، يظل من الممكن إزالة التأثيرات التكييفية أيضًا، ايً، تعويد الشخص على التصرف بطريقة معينة أو قبول ظروف معينة.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: لماذا يعتبر المفهوم الجمهوري للحرية مهمًا للدولة الحديثة سياسيًا ؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: باختصار، لأنه سيذكر الدولة بأداء الخدمة للمواطنيين عموما والتي من المتوقع أن تؤديها جمهورية- حتى جمهورية مخفية تحت شكل نظام ملكي. لقد تغيرت بشكل كبير منذ القرن الماضي القيود المفروضة على ما يمكن أن نتخيله تقوم به الدولة، والقيود المفروضة على ما يمكن أن نتخيله أن يسمح المجتمع المدني للدولة بالقيام به أو نحو ذلك.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: بما أننا نعيش في عصر العولمة وأنشار الرأسمالية وأنفتاح الأسواق وتوسع القطاع الخاص في اغلب دول العالم ومنها العربية ومن أجل توضيح الطريقة التي يمكن أن يؤثر بها هذا المفهوم الجمهوري على تفكيرنا، أود أن نلتفت الى اهمية قضايا إعادة التوزيع، حيث تقع هذه القضية في قلب المناقشات السياسية المعاصرة. فإلى أي مدى يكون التوزيع العادل للحرية على أنها عدم تدخل يتفق مع عدم المساواة في الأبعاد الأخرى؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: نعم، أنه مهم النظر في مدى اتساقها عمليًا مع مستويات مختلفة من توفير السلع الأساسية مثل الغذاء والمأوى، وأنماط النقل ووسائل الإعلام الذي يقدم معلومات موثوقة؛ وفي الخدمات الأساسية مثل الرعاية الطبية والاستشارات القانونية والتأمين ضد الحوادث؛ وفي رأس المال البشري من النوع المرتبط بالتدريب والتعليم؛ وفي رأس المال الاجتماعي من النوع الذي يتألف من القدرة على الاتصال بثقة بالآخرين؛ وفي رأس المال السياسي مثل المنصب والسلطة الممنوحة؛ وفي رأس المال المادي الضروري للإنتاج.
إنه يتعلق بالنظر في الى المدى الذي يُرجح أن يتطلب الأمر تصحيح أوجه عدم المساواة في هذه الأمور أو على الأقل التخفيف من آثارها: أيً تصحيحها بشكل قسري، أو التخفيف من آثارها بشكل قسري، في إطار مبادرات الدولة على وجه الخصوص.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: إن سؤالي هنا إلى أي مدى يكون مطلوب ما سأصفه، باختصار، إعادة التوزيع؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: الحكمة الشائعة حول هذا السؤال هي أن التوزيع المتساوي الأقصى للحرية على أنها عدم تدخل سيترك الكثير مما هو مرغوب فيه فيما يتعلق بإعادة التوزيع: فهو سيفشل في تحقيق عدالة التوزيع كما قال راولز. أعتقد أنها حكمة جيدة، وأود أن أزعم، في هذا الصدد، أن الحرية باعتبارها عدم هيمنة تمثل نموذجًا مغايرًا ومختلفًا بشكل حاد، حيث يتطلب التوزيع المتكافئ الأقصى لهذه الحرية التزامًا أكبر بكثير في إعادة التوزيع. بينما العلاقة بين الحرية كعدم تدخل وعدالة التوزيع علاقة فضفاضة للغاية.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: يُطرح هنا سؤالين متلازمين من وجهة نظر الحرية على أنها عدم تدخل فيما يتعلق بإعادة التوزيع. أولاً، إلى أي مدى تستلزم إعادة التوزيع تدخل الدولة في حياة الناس؟ وثانيًا، إلى أي مدى تقلل إعادة التوزيع من احتمالية تدخل العوامل الأخرى؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: الإجابة عن السؤال الأول هي: تنطوي إعادة التوزيع، من وجهة نظر الحرية على أنها عدم تدخل،على درجة من التدخل من قبل الدولة دائمًا. فحتى أبسط أشكال إعادة التوزيع تتضمن فرض ضرائب على البعض لمنحه للآخرين ( وقد اصبح هذا سائدا ليس في الدول الراسمالية فقط، بل وحتى الريعية ، والدولة العربية الريعية مثالا)، وهذا يعتبر بحد ذاته تدخلاً من وجهة النظر هذه؛ اذا “يحرم” أولئك الخاضعين للضريبة من الاختيار في كيفية استخدام أموالهم. تتطلب معظم أشكال إعادة التوزيع – من وجهة النظر هذه للحرية- إلى جانب الضرائب، أيضًا وجود مفتشين ومسؤولين آخرين للإشراف على العملية. وبالتالي تنطوي إجراءات إعادة التوزيع على خلق إمكانيات جديدة للتدخل في حياة الناس.
تعني الإجابة على السؤال الأول أن عبء الإثبات يقع دائمًا، من منظور الحرية على أنها عدم تدخل، على عاتق أولئك الذين يدافعون عن إعادة التوزيع. إذن، يعتمد دعم إعادة التوزيع في أي دولة على ما إذا كانت الإجابة على السؤال الثاني تُظهر بوضوح أن الهامش الذي من خلاله ستقلل إعادة التوزيع من التدخل في المجتمع أكبر من الهامش الذي تقدم بموجبه التدخل نفسه. يجب أن يكون هامش التغيير للأحسن والنمو المتوقع كبيرًا بما يكفي لضمان أنه حتى عندما نخصم الحالة غير المؤكدة للتوقع، فإن الحجة تبقى لصالح إعادة التوزيع.
ليس من السهل إيجاد أسباب للدفاع عن الإجابة المطلوبة عن السؤال الثاني؛ لكن من الممكن للخصم أن يجادل بأنه، طالما أننا لا نفكر في صاحب العمل والمحظوظ نسبيًا في المجتمع بوصفه شرير تمامًا، فنتوقع منه ألًا ينزع عمومًا إلى إيذاء المحرومين، وألًا يكون بحاجة إلى التقصير في دولة إعادة التوزيع.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: اذن يمكن أن نتوقع منهم بدل التدخل يكون السعي وراء علاقات جيدة ومنتجة؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: نعم ممكن ولكن قد يقع- مثلا- أولئك الذين يفتقرون إلى الرعاية الطبية والاستشارات القانونية فريسة لعديمي الضمير. ومن جهة أخرى يمكن أن نتوقع من الأطباء والمحامين أن يكونوا مستعدين لتقديم الخدمات دون مقابل لهؤلاء الفقراء، خاصة عندما يكون مردود ذلك نشر دعاية جيدة لصالحهم عن تقديم مثل هذه الخدمات؟
س// الدّكتور نابي بوعليّ: كيف تكون الحرية كعدم هيمنة مع إعادة التوزيع؟ وما هو أختلافها عن الحرية كعدم تدخل؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يمكننا أن ندرك أهمية النموذج الجمهوري للحرية في علاقته بإعادة التوزيع عندما نلاحظ اختلاف ارتباطها بالحرية كعدم تدخل. فمعادلة الحرية على أنها عدم تدخل الى أقصى مستوى ممكن أن يعادي إعادة التوزيع بطريقتين:
أولاً، تُقدم افتراضًا ضد إعادة التوزيع بإلقئها العبء على عاتق الشخص الذي يريد أن يحاجج لصالح إعادة التوزيع. وثانيًا، تضمن أن تكون أي حجة لإعادة التوزيع احتمالية تخضع لتغيير الصدفة بطريقة تجعل من السهل مقاومتها. وعليه، أود أن أزعم أن المثل الأعلى لتعظيم الحرية بصفتها عدم هيمنة الى أقصى مستوى يختلف عن المثل الأعلى المرتبط بالحرية على أنها عدم تدخل في كلا الجانبين.
تقدم الحرية بصفتها عدم تدخل افتراضًا ضد إعادة التوزيع، لأعتبارها إعادة التوزيع نوع من شر التدخل بحد ذاتها. لكن لا توجد حجة مقابلة متاحة للحرية على أنها عدم هيمنة. لأنه إذا كان من الممكن اتباع تدابير إعادة التوزيع المعتمدة في ظل حكم القانون العادل على هذا النحو، فإنها لا تقدم أي شكل من أشكال الهيمنة. أفترض أن العديد من التدابير المتوخاة حول عدالة التوزيع يمكن اتباعها في ظل حكم القانون العادل. إذن، لا تقدم الحرية بصفتها عدم هيمنة أي افتراض ضد إعادة التوزيع من النوع المرتبط بالحرية على أنها عدم تدخل.
ليست العملية بريئة تماما بالطبع. إن أي حكم قانون لإعادة التوزيع سوف يزيل خيارات معينة أو يرفع تكاليف متابعتها أوالحصول عليها. لكن لا ترقى هذه الطريقة في تقييد الاختيار وفي تكييف حرية الناس على أنها عدم هيمنة إلى مستوى المساومة على هذه الحرية. إذا نجحت في الحد من مدى تعرض حرية الفقراء أو المرضى أو المحتاجين للخطر، فإن هذه التكلفة في تكييف حرية الناس تستحق الدفع.
ثانيا، تعتبر إعادة التوزيع في ظل سيادة القانون العادلة طبقا للجمهوري شكلاً من أشكال تكييف الحرية على قدم المساواة مع التكييف المتأثر بعوامل مثل الفقر أو الإعاقة أو المرض أو أي شيء آخر.
تتضمن إعادة التوزيع التحرك تجاه الاسباب التي تعمل كمؤثرات تكييفية على الحرية: وهذا دون أن تهيمن أو تسيطر على أحد؛ ودون المساس بحرية أي شخص بوصف الحرية عدم هيمنة. فإذا كان يمكن أن يؤدي إعادة تنظيم الاسباب أو العوامل ذات الصلة بالحرية إلى زيادة درجة الحرية المتساوية في المجتمع، فعندئذٍ لايوجد سؤال يمكن طرحه حول هذه القضية، ولا يوجد سبب لوجود قرينة ضدها.
تقوم هذه الحجة على افتراض أن إعادة التوزيع تجري في ظل حكم القانون العادل. ويظل هذا الافتراض مقبولًا إلى مستوى معين فقط، أيً في ظل نوع معين من إعادة التوزيع من قبل الدولة.
أود أن اقول في هذا السياق، لطالما وضع التقليد الجمهوري تفكيره في الدولة تحت تمحيص شديد، خوفًا من أن تصبح سلطات الدولة تعسفية. ليس المثل الأعلى للحرية على أنها عدم هيمنة معاديًا لإعادة التوزيع، وغير معادي للحرية باعتبارها عدم تدخل، ولأقصد رفض هذا التقليد. أعتقد أنه إذا كنا نقدًر الحرية على أنها عدم هيمنة، فعلينا أن نكون يقظين بشأن عدم السماح للدولة بأنواع معينة من السلطة؛ وأن نكون حريصين على خضوعها لجميع أنواع القيود الدستورية وغيرها. إنً وجهة نظري هي فقط أنه، شريطة أن تكون الدولة مقيدة بشكل كافٍ، لا يوجد شيء مرفوض بطبيعته حول السماح لها باستخدام وسائل إعادة التوزيع.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: طبقًا لما لاحظنا في النقطة الثانية بشأن الأهمية التوزيعية لمعادلة عدم التدخل يبرز السؤال عما إذا كان أي إجراء لإعادة التوزيع قد زاد من حرية الناس لأن عدم التدخل ظل أمرًا احتماليًا لا محالة؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: ربما يمكننا مراقبة أصحاب العمل للتأكد من أنهم لا يتدخلون بطرق تعسفية مع موظفيهم. قد يكون لدى صاحب العمل القدرة على التدخل بشكل تعسفي في شؤون الموظف بحيث يمكنه تغيير شروط العمل المتفق عليها، وجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للموظفين، أو حتى ممارسة التدخل غير القانوني في شؤونهم بسهولة. لكن يمكن معالجة ذلك بإدخال نظام إعانات بطالة كافي، ومجموعة من اللوائح الصحية والآمنة، و ترتيب معين للتحكيم في النزاعات في مكان العمل، حيث من شأنه تحسين الكثير من أوضاع من الموظفين.
لا يقدم افتراض توافق النظام مع سيادة القانون العادل مصدرًا للهيمنة بحد ذاته، وأن مجرد وجود إعانات بطالة معقولة من شأنه أن يقلل من مدى استعداد الموظف لتحمل التدخل التعسفي من قبل صاحب العمل، وعلى المنوال نفسه يقلل من قدرة صاحب العمل على التدخل في حياة الموظفين متى شاء.
ونقطة أخرى هي، أن الناس الفقراء أو الأميون أو الجاهلون أو غير قادرين على الحصول على مشورة قانونية أو غير مؤمًن عليهم من المرض أو غير قادرين على الالتفات الى حقيقة أنهم يفتقرون إلى القدرات الأساسية في أي من هذه الجوانب تجعلهم عرضة لنوع معين الاستغلال والتلاعب. لكن أي تحسن في نصيبهم أن يقلل من قدرة الآخرين على التدخل بشكل تعسفي في حياتهم بشكل أو بآخر. فأي تحسين من هذا القبيل يزيد من حريتهم كعدم هيمنة.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: هل يأتي الاختلاف الجوهري في هذا الصدد بين الحرية كعدم التدخل والحرية باعتبارها عدم هيمنة، من حقيقة أن النموذج الأول لا يتعرض للخطر إلا من خلال التدخل الفعلي، والثاني من خلال القدرة على التدخل التعسفي؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: يبدو أن هناك تدابير ما تقلل فعليًا من المستوى العام للتدخل الذي يمارسه صاحب العمل. فحتى لو أفترضنا أن صاحب العمل هو شخص حميد وكريم، وملتزم بعمل سلس ومنتج فعليًا ، وبالتالي من غير المرجح أن يتدخل في شؤون الموظفين؛ تبقى هناك حاجة بشكل كبير الى إدخال مزايا خاصة بالعمل، وهي كما ذكرت سابقا تتعلق بلوائح الصحة والسلامة، وإجراءات التحكيم، فهي ستقلل من احتمال التدخل التعسفي في مثل هذا السيناريو. لن يعتمد ما إذا كان صاحب العمل يتدخل أم لا على أخلاقه الحسنة؛ ولكن سيتم تقييده إلى حد كبير من خلال عوامل خارج إرادته.
س// الدّكتور نابي بوعليّ: ألا ترى أن أخرين سوف يردون بأنه لا يوجد سبب يجعلنا نرغب في تقليل قدرة صاحب العمل على التدخل في عمل الموظفين، لا سيما بالنظر إلى تكلفة القيام بذلك، عندما يكون من المؤكد أنه لن يحدث أي تدخل فعليًا؟
ج// الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ: لكن هذا تحويل للقضية من ما قد يتطلبه نموذج الحرية على أنها عدم هيمنة- وعلى وجه الخصوص، من متطلب أن يكون صاحب العمل مقيد – الى ما إذا كانت نموذج جذاب. إن هدفي هنا ليس أن أثبت في أنه نموذج جذاب، ولكنه نموذج يعضد إعادة التوزيع فقط. لقد رأينا- في سياق حوارنا- قد تًعظم الحرية بوصفها عدم تدخل في ظل قيود التوزيع المتكافئ إلى حد ما، دون الحاجة إلى أي إعادة توزيع كبيرة للموارد. وما رأيناه الآن، في هذا الصدد، هو أن الحرية كعدم هيمنة مختلفة تمامًا. إنً النموذج الجمهوري قادرًا على تقييم وتاثير تدابير إعادة التوزيع التي يعتقد الكثير منا أنه من المعقول طلبها من الدولة الحديثة. وبينما يظل – النوذج الجمهوري- نموذجًا للحرية، فإنه يعطي تعبيرًا مناسبًا عن الطموحات الأكثر تطلبًا والتي يجدها غير الليبراليين مقنعة.