الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

المؤسسة العسكرية الأمريكية: مقدمات ونتائج

بقلم : التجاني صلاح عبدالله المبارك – المركز الديمقراطي العربي

 

في شهر أغسطس من العام الماضي أجرت الصين اختبارا لصاروخ تزيد سرعته على سرعة الصوت خمسة أضعاف وتمكن الصاروخ من الدوران حول العالم قبل أن يعود ليسقط في الصين. صحيفة (وول ستريت جورنال) ذكرت في افتتاحيتها عدد 4 نوفمبر 2022 أن تلك الصواريخ الصينية يمكنها ضرب أي مدينة أو منشأة في الولايات المتحدة، وقد يحدث ذلك من دون إمكانية رصدها.. وأضافت أن حقيقة كون الاختبار فاجأ الولايات المتحدة وتجاوز قدراتها العسكرية أمر سيئ، وأن خسارتها في سباق الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت أمام الصين وروسيا أمر يستحق جلسات استماع في الكونجرس.

قائد القيادة الاستراتيجية الأميركية في تقييمه لميزان القوى بين الدولتين: الولايات المتحدة والصين، قال: بينما أقوم بتقييم مستوى الردع لدينا ضد الصين، فإن السفينة تغرق ببطء.

وقال القائد العسكري الأميركي: إن أزمة أوكرانيا التي نمر بها الآن مجرد إحماء والحرب الكبرى قادمة ولن يمر وقت طويل قبل أن نختبر بطرق لم نعرفها منذ زمن بعيد.

وفي ذات الصحيفة (وول ستريت جورنال) عدد الخميس الماضي 1 ديسمبر، ذكرت خبرا مفاده أن مسحا سنويا يقوم به معهد ريغان للوقوف على موقف الرأي العام من المؤسسة العسكرية أظهر أن 48% فقط من الأميركيين الذين شاركوا في الاستطلاع أعربوا عن ثقتهم في الجيش الأميركي، مقارنة بـ 70%عبروا عن ثقتهم فيه عام 2018.

كما أشارت إلى أن النتيجة التي توصل إليها معهد ريغان في تراجع الثقة في المؤسسة العسكرية تتفق تماما مع نتائج استطلاعات أخرى، مثل الاستطلاع الذي قام به مركز بيو للأبحاث (Pew Research) هذا العام، الذي كشف عن تراجع عدد الأميركيين الذين أعربوا عن ثقتهم في أن جيش بلادهم يعمل من أجل الصالح العام بنحو 14 نقطة منذ عام 2020.

المتأمل لهذه النسبة المتدنية في تراجع وانخفاض الثقة في المؤسسة العسكرية، يدرك لأول وهلة أن مياها كثيرة جرت في تلك الفترة الزمنية، أي ما بين عام 2018 إلى تاريخ الاستطلاع في هذا العام 2022 أو إلى تاريخ حديث قائد القيادة الاستراتيجية الأمريكية” تشارلز ريتشارد”، ويدرك أيضا أن تراجع ونقصان الثقة إنما بدأ في حقيقته بعد مرور عام على تولي “ترامب” مهام الرئاسة في يناير2017

وإذا تتبعنا أجزاء يسيرة في سنوات ولايته، لأنه يصعب الحصر، فإن أي مراقب بوسعه أن يقف على أحداث ارتكبها “ترامب” وصقوره، من شأنها أن تهز الثقة وتضعفها، فقد أحدث “ترامب” تغييرات واسعة في قيادات الجيش على سبيل المثال، كان لها مردودا عكسيا سيئا داخل المؤسسة، مثل تغيير وزير الدفاع نحو خمس مرات، والإطاحة بعدد كبير من الجنرالات السابقين، وفي الوقت ذاته تعيين الصقور المتقاعدين مثل “ماتيس” و”مكماستر” و “كيلي” و “مايكل فلين” الذي اختاره أول مستشار للأمن القومي خارج الخدمة، وهو الاختيار الذي خالف التقاليد المتبعة في اختيار المستشارين العسكريين، وقد تكون وقتها انطباع عام لدى جنرالات سابقين في المؤسسة العسكرية بأن الجيش أصبح مسيسا، إلى الحد الذي تجمعت فيه تساؤلات عديدة عن أثر هذا التغيير بحق قادته وتقاليده، في بنية الجيش وعقيدته وسياسته الدفاعية.

داخل الجيش كانت قضية المتحولين جنسيا واستيعابهم داخل الوحدات العسكرية شأن آخر، وهي القضية التي تعارضت فيها سياسة وتخطيط “ترامب” مع سلفه السابق “باراك اوباما”.

ففي الوقت الذي أعلنت فيه إدارة “اوباما” أن المتحولين جنسيا يمكنهم الخدمة بشكل علني في الجيش الأمريكي، وفي الوقت الذي اندفع فيه الآلاف من المتحولين جنسيا إلى الالتحاق بفروع الجيش (قدرت مؤسسة “راند كوربربيشن” أعدادهم بنحو أربعة ألف متحول فيما ذهب آخرون إلى أنهم عشرة الآف جندي) فأجاء “ترامب” الجميع بأن هؤلاء المتحولين جنسيا غير مرحب بهم في الجيش الأمريكي، وقال: بعد استشارة الجنرالات والخبراء العسكريين، فإن الحكومة الأمريكية لن تقبل أو تسمح بأي شكل من الأشكال بقبول المتحولين جنسيا في الجيش الأمريكي، وانطلق في تبريره لذلك القرار ليس من نواحي إنسانية أو أخلاقية، بل من نواحي مادية صرفة فقد قال: يجب أن يركز جيشنا على النصر الحاسم، ولا يمكن إثقاله بالتكاليف الطبية الباهظة والإخلال بسير العمل اللذين يتسبب فيهما المتحولون جنسيا.

لكن لا أحد غيره كان مقتنعا بهذا التبرير، فالنفقات الصحية للمتحولين جنسيا من ناحية كانت تتراوح من 2.4 إلى 8.4 مليون دولار سنويا، في حين أن النفقات التي يدفعها الجيش الأمريكي للمنشطات الجنسية أعلى من ذلك بكثير، ومن ناحية ثانية فقد مثل ذلك القرار انزعاجا كبيرا في الأوساط الحقوقية الأمريكية، التي تري أن غالبية الأمريكيين يوافقون على قبول المتحولين جنسيا في وحدات الجيش! ليس ذلك وحسب بل أن قرارات “ترامب” أدخلت وزارة الدفاع في مأزق كبير، ودفعتها للقول بأنه لا تغيير تجاه سياسة المتحولين جنسيا حتى يصدر الرئيس قرارا آخر.

ومن الواضح أن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، والذي اعتبرته قيادات في البنتاغون أن من شأنه أن يحرم الولايات المتحدة من استمرار الضغط على تنظيم طالبان للالتزام بشروط اتفاق السلام الموقع مع حكومة كابل، ويحد من قدرة الولايات المتحدة على مواصلة محاربة تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، كان له مردودا سلبيا وأحدث تراجعا في ثقة الكثير من الأمريكيين، وذكرهم بانسحابهم السابق من فيتنام.

ولأن القيادة الأمريكية التزمت سياسة الغموض الاستراتيجي في السياسة الخارجية، خاصة في النقاط الساخنة الملتهبة أو مصادر الإزعاج لها، المتمثلة في “بوتين” روسيا و “شي جين” الصين و” أون” كوريا الشمالية وآيات الله في إيران، فقد كان لهذه السياسة أيضا مردود سلبي يشي باللامبالاة أو تحريض الآخرين وحسب.

ففي المسألة التايوانية عبر “بلينكن” عن موقف الإدارة الأمريكية تجاه قضية تايوان، وهو أن نهج الولايات المتحدة ثابت عبر العقود والإدارات وهو التزام بلاده بسياسة “صين واحدة” التي يسترشد بها قانون العلاقات مع تايوان، وأكد معارضة الولايات المتحدة لأي تغييرات أحادية الجانب للوضع الراهن من أي من الجانبين، إلا أن “بايدن” يزيد ذلك الغموض بدوره ليؤكد أن الولايات المتحدة ستتدخل عسكريا إذا تعرضت تايوان لهجوم صيني، وكان رده على سؤال حول إذا ما كان الرئيس الأمريكي على عكس سياسته تجاه أوكرانيا، سيستخدم القوة العسكرية للدفاع عن تايوان، أجاب “بايدن” : نعم.. هذا هو الالتزام الذي قطعناه على أنفسنا.

لكن الواقع المشاهد اليوم يؤكد أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا كشف عن قصور كبير في انخفاض قوة الردع العسكري الأميركي، التي أصبحت حقيقة لا يعترف بها علنا سوى قلة قليلة من قادة الولايات المتحدة كما تصف ذلك “وول ستريت جورنال”.

وفي الوقت الذي قطع فيه” بايدن” العهد على استخدم القوة العسكرية للدفاع عن تايوان، فإن الصين هذا العدو الجديد الذي تخلى عن سياسته الخارجية المهادنة نسبيا، ويسعى حثيثا إلى إعادة صياغة قواعد النظام السياسي لصالحه، وينظر اليه الأمريكيون باعتباره العدو الأول لبلادهم، وبحسب آخر إحصائية أجراها معهد ريغان فإن %75 من الأمريكيين يرون في الصين عدوا لبلادهم مقارنة بنسبة 55% في مسح أجري عام 2018 هذا العدو المحتمل من المتوقع أن يمتلك ألف رأس نووي في عام 2030 وسيكون مستعدا لخوض حروب ذكية في العام 2027 ومن المتوقع أيضا أنه ما بين 2020 و2040 سيزداد العدد الإجمالي لسفن البحرية الصينية بنحو %4وهذا من شأنه أن يجعل الصين قوة مسيطرة حقيقية في الصراع ضد الولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي.

يمكن القول إن تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية للصين وصعودها كقوة عسكرية نووية، باتت تشكل مصدر قلق وصداع عظيمين للولايات المتحدة، التي تحاول ردع الدول المارقة في عدة أقاليم جغرافية.

ما ذكرته من العوامل والأسباب التي لم أحاول فيها بلوغ النهاية والاستقصاء، والتي أدت وتؤدي إلى تراجع الثقة في المؤسسة العسكرية الأمريكية، وربما أي مؤسسة عسكرية أخرى، إذا اختلط فيها الاستبداد مع المصالح الشخصية، والطغيان مع الظلم، ربما يقود إلى حقيقة بدايات التمرد في الخارج والداخل؛ ففي ظل الأزمة الروسية الأوكرانية التي تراجع فيها الدور الأمريكي فإنه ليس من المستبعد أن تقوم الصين مثلا، بسحب الحلفاء المواليين للولايات المتحدة إلى صفها في محاولة لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد، وسحب البساط من الولايات المتحدة. وربما تجد إسرائيل من ناحية ثانية أن الولايات المتحدة التي تمثل أقوى حليف لها في الصراع العربي_ الإسرائيلي قد تلاشت. قد يبدو كلامي غريبا بعض الشيء، لكنها الحقيقة فيما أتصور.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى