البرامج والمنظومات الديمقراطيةالدراسات البحثيةالنظم السياسي

القيادة السياسية فى البرازيل وأثرها على الاستقرار السياسى

إعداد الباحث : محمود خليفة جودة محمد  –  المركز الديمقراطى العربى

 

فى كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية- مع اختلافها – توجد قلة نطلق عليها الصفوة أو النخبة, يكون لها الدور القيادى والمؤثر فى المجتمع, ومهما كانت درجة بدائية أو تحضر مجتمع من المجتمعات أو شعب من الشعوب, فإن له نخبة هيأتها الظروف والأسباب والإمكانات لتتصدر الحياة الإجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو الفكرية.

ومع نهاية العام 2011 م أعلنت البرازيل رسميا أنها أصبحت سادس اكبر اقتصاد على مستوى العالم متقدمة بذلك على بريطانيا, ووفقا لتصريحات وزير المالية البرازيلي فإن بلاده حققت نموا بنسبة 2.7% في الوقت الذي حقق الاقتصاد البريطاني نموا بنسبة 0.8% , وواقع الأمر فإن هذا الانجاز الذي تحقق بعد مرور عام من ولاية الرئيسة الحالية “ديلما روسيف” لم يكن إلا ثمرة نجاح برنامج اقتصادي إصلاحي طموح شهدته البرازيل طوال ثماني سنوات هي فترة حكم الرئيس السابق “لويس ايناسيو لولا دا سيلفا” الشهير بـ “لولا”.

وقد عمدت القيادة السياسية فى البرازيل على استغلال التقدم المتحقق فى الجانب الاقتصادى لتحقيق مكاسب سياسية, تقود إلى استقرار الأوضاع فى البرازيل وتقدمها, فمع وصول الرئيس السابق “لولا” إلى الحكم في 2003 لم يقتصر برنامجه الرئاسي على إصلاح الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد فقط، بل أيضا كان له برنامج شديد الطموح فيما يخص السياسة الخارجية. وقد استخدم “لولا” ببراعة شديدة النجاحات الاقتصادية التي استطاع تحقيقها في فترة رئاسته الأولى للحصول على مكاسب في مسار السياسة الخارجية، ومن جهة أخرى وجه سياسته الخارجية النشيطة لتحقيق مكاسب اقتصادية جديدة وهكذا بالتوازي .

مشكلة البحث:
يدور هذا البحث ويتمحور حول دراسة أثر القيادة السياسية فى البرازيل فى تحقيق الاستقرار السياسى فى البلاد وتحقيق التنمية السياسية, ومن ثم فأن السؤال البحثى الرئيسى الذى تدور حوله البحث هو : ما دور القيادة السياسية فى تحقيق الاستقرار السياسى فى البرازيل؟

ويتفرع من السؤال البحثى الرئيسى عدة تساؤلات فرعية كما يلى :
1- ما هى آثار القيادة السياسية ودورها ؟
2- ما ملامح وطبيعة التحول الديمقراطى فى البرازيل؟
3- ما هى ملامح وطبيعة النظام السياسى فى البرازيل؟
4- ما هو دور القيادة السياسية فى تحقيق النمو والتقدم فى البرازيل؟
5- ما دور القيادة السياسية فى تدعيم الديمقراطية فى البرازيل؟
6- ما دور التقدم الاقتصادى فى دعم الاستقرار السياسى فى البرازيل؟

الإطار الزمانى للبحث:
يرتكز هذا البحث على دراسة دور القيادة السياسية فى البرازيل منذ بدايات وأرهاصات التحول الديمقراطى فى البرازيل منذ دستور 1988م وحتى الآن, مع التركيز على دور فترة حكم الرئيس السابق لولا دى سيلفا.

الإطار المكانى للبحث:
هذا البحث ينصب فى الأساس حول دراسة دور القياة السياسية فى تحقيق الاستقرار السياسي فى دولة البرازيل.

منهج البحث:
نعتمد فى هذا البحث على منهج النخبة السياسية , فنجد فى كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية- مع اختلافها – توجد قلة نطلق عليها الصفوة أو النخبة, يكون لها الدور القيادى والمؤثر فى المجتمع, ومهما كانت درجة بدائية أو تحضر مجتمع من المجتمعات أو شعب من الشعوب, فإن له نخبة هيأتها الظروف والأسباب والإمكانات لتتصدر الحياة الإجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو الفكرية, ومن خلال دراستنا للنخبة السياسية سوف نحاول الوقوف على دورها وآثارها فى تحقيق الاستقرار السياسى .

الدراسات والأدبيات السابقة:

1- محمد عبد العاطى, البرازيل القوة الصاعدة من أميريكيا اللاتينية .
هذه الدراسة عبارة عن أحد ملفات مركز الجزيرة للدراسات حول القوى الصاعدة فى العالم, ويدرس البرازيل باعتبارها واحدة من أهم هذة القوى الصاعدة, متناولا فى دراستة الدولة والمجتمع فى البرازيل, والتنمية الاقتصادية, والدور الإقليمى والدولى للبرازيل, والمشاكل والتحديات التى تواجة الصعود البرازيلى.

2- أمل مختار, تجربة النمو الاقتصادي في البرازيل: نموذج استرشادي لمصر .

وتهدف الدراسة إلى الاقتراب من تجربة النهضة الاقتصادية البرازيلية في عهد الرئيس السابق “لولا دا سيلفا” (2003-2010) ومحاولة فهم سياساته الاقتصادية التي أدت إلى نقل البرازيل من هوة الإفلاس إلى قمة التقدم الاقتصادي في خلال ثماني سنوات فقط, وتقوم الدراسة في إطار هذا الهدف أولا بعرض موجز لمراحل تطور الأوضاع الاقتصادية قبل وصول” لولا” إلى الحكم في محاولة لفهم من أين بدأ”لولا”، ثم ثانيا الوقوف على أهم المشكلات الاقتصادية التي واجهها وكان منوطا بحلها، يليها ثالثا الإشارة إلى أيديولوجية “لولا” اليسارية بين الواقع العملي وما كان متوقع منه قبل انتخابه، أما رابعا فتقدم الدراسة عرض وشرح لبرنامج “لولا” الاقتصادي، وفى القسم الخامس تطرح الدراسة تحليلا لكيفية استخدام هذا التقدم الاقتصادي في مجال السياسة الخارجية، وأخيرا في القسم السادس تقدم الدراسة مجموعة من الدروس المستفادة.

3- محمد صلاح الدين, رائد النهضة البرازيلية: لولا دى سيلفا .
في هذا الدراسة يطوف بنا المؤلف في أرجاء البرازيل من ناحية الموقع، والتضاريس، والمناخ، واللغة، والسكان وغير ذلك, كما يستعرض أرجاء شخصية دي سيلفا وأعماق نفسه، ويضع الكتاب خطوطًا حمراء تحت محطات من حياة ذلك الرئيس البرازيلي؛ لنرى كيف صنع ذاك التحول الرائع في البرازيل خلال ولايتين متتاليتين، ثم نراه – بعد ذلك – وهو يتنازل عن السلطة في هدوء؛ ليسلم الراية لنائبته التي رشحها بنفسه للشعب البرازيلي؛ ففازت بالرئاسة من بعده؛ لتكمل مشوار النجاح الذي بدأه دي سيلفا وحقق منه الكثير والكثير.

4- William B Qandt, The comparative Study of Political Elites.
تتناول الدراسة فى بدايتها تطور دراسات النخبة السياسية, وموضوعات درستها فى الدراسات السياسية التقليدية والمعاصرة,والآشكاليات المنهجية فى دراسة النخبة ومستويات تحليل النخبة, والنخبة والثقافة السياسية, مع دراسة حالة تطبيقية .

الفصل الأول: إطار تمهيدى
المبحث الأول: ما هية النخبة السياسية وأدوارها
يستخدم كثيرمن علماء الاجتماع مصطلح القيادة السياسية للدلالة علي مفهوم النخبة الحاكمة‏.‏ فالقيادة السياسية هي السياسيون مثل رئيس السلطة التنفيذية‏,‏ والوزراء بالاضافة إلي أعضاء البرلمان‏.‏ وذلك للتفرقة بينها وبين القيادة الإدارية إو الإداريين الذين يحتلون قمة الهرم الوظيفي في جهاز الخدمة المدنية‏.‏ ومع أن كلا من مفهومي القيادة والنخبة يتعلقان بجانب التوجيه في العملية السياسية‏,‏ إلا أنه يجب التمييز بينهما من الناحية التحليلية‏,‏ فالقيادة في جوهرها ظاهرة فردية والنخبة في أساسها ظاهرة جماعية .

موضوعات النخبة السياسية حظيت فاهتمام الدراسات السياسية, وقد اهتمت الدراسات السياسية التقليدية حول الإجابة على تساؤلين هما من يجب أن يحكم؟ ومن يحكم بالفعل ؟, ثم بعد ذلك حدث تطور فى دراسة النخبة السياسية فى ظل الدراسات السياسية الحديثة, فبجانب الأهتمام بالسؤالين السابقين اهتمت بدراسة الجوانب السيكولوجية والعوامل الاحتماعية والخلفية العلمية والظروف والأوضاع المتعلقة بالنخب السياسية, مما أضفى قوة وعمق فى دراسة النخب السياسية .

النخبة السياسية هى طبقة قمة القوة وبالطبع فأنها لا تتضمن كل أعضاء الجسد السياسي مالم يكونوا جميعا يشاركون بنفس القدرة على قدم المساواة فى عملية صنع القرار وأن مدى المشاركة فى القوة يجب أن يتحدد فى كل موقف على حده حيث لا يوجد نمط من القوة العاملة الشاملة.

إن القيام بأعباء التخطيط والقيادة وإدارة السلوك الإنساني على مستوى الدولة هو أمر بالغ الأهمية والخطورة لأنه يتعلق باستيعاب الماضي والتعامل مع الحاضر والعمل للمستقبل , وهو أمر يخص النخبة السياسية خصوصاً وجماهير المجتمع عموماً في إطار الدولة وتمثل علاقة أشبه بعلاقة الروح بالبدن , فإذا كانت جماهير الشعب تمثل البدن فان النخبة السياسية تمثل الروح التي تعد سبباً لفاعليته واستمراره.

وبذلك تتكون للنخبة السياسية وظائف مميزة تختلف وتتميز بها عن باقي النخب الأخرى , ويعود ذلك إلى إن هذه النخب الأخرى مثلها كمثل الجماهير لا تبالي بالسياسة ولا تستطيع تشكيل رأي سياسي حول موضوعات السياسة العامة مثلما تقوم به النخبة السياسية من عملية تشكيل لهذا الرأي داخل المجتمع, والذي يتأسس على إدراك هذه النخبة للأهداف والمشكلات التي تخص الدولة ومجتمعها، كما تقوم النخبة السياسية بوظيفة التنسيق والموائمة بين أنشطة المؤسسات والهياكل المختلفة داخل المجتمع في إطار الدولة وخارج هذا الإطار في بعض الأحيان, وذلك لغرض الوصول إلى أفضل صيغة مشتركة وموحدة للعمل في إطار المجتمع ومواجهة مشكلاته وأزماته المختلفة .

وتقوم النخبة السياسية , من اجل تحقيق أهدافها بمحاولة التأثير على جماهير المجتمع لتغيير الواقع الاجتماعي العام بما يحقق مصالحها , بحيث إن التغيير قد يكون إيجاباً أو سلباً , محققاً لمصلحة الجماهير أو غير محقق لها عبر مجموعة من الوسائل المختلفة التي توفرها وظائف النخبة السياسية.

وفي إطار التأثير المتزايد لهذه النخبة في إحداث التغيير فإنها تقوم بوظيفة حفظ التوازن داخل المجتمع عن طريق اندماجها وتجددها الذي يكون التغيير محوره الأساس, وهي بتغيِرها (النخبة) تقوم بقيادة عملية التغيير والتطور داخل المجتمع, وتعد النخبة بذلك محوراً أساسياً من محاور عملية تمثل مبتغى ومطمح جماهير المجتمع وهياكل ومؤسسات الدولة ألا وهي عملية التنمية الشاملة , ويظهر ذلك جلياً في مجتمعات الدول النامية إذ تمثل التنمية فيها محور الحياة واختصاراً لأهدافها خصوصاً في الجانب السياسي منها والذي يتمثل في التنمية السياسية .

فوجود السلطة كممارسة سياسية داخل الدولة والمجتمعات والنظم السياسية يؤسس لوجود مجموعة من الأنساق والمؤسسات القائمة على أساس العلاقة السلطوية فيما بينها مما يعزز على نحو جلي وجود الحاكم والمحكوم بين مختلف المؤسسات الاجتماعية بمفهومها الشامل داخل وخارج المنظومة السياسية متناغمة بذلك مع التقسيم الطبقي داخل المجتمع .

المبحث الثانى: النخبة السياسية : وتحقيق التنمية والاستقرار السياسى
هناك شبة اتفاق فى أدبيات السياسة المقارنة على الربط بين تكامل النخبة السياسية وتوافقها فى المستويات العليا من ناحية, وبين القدرة على تحقيق الاستقرار السياسى والديمقراطية فى النظام السياسى من ناحية أخرى, فتماسك النخبة يعد شرطا لتحقيق التكامل السياسى فى المجتمع, وتحقيق التكامل السياسى هو شرطا بدوره فى تحقيق الاستقرار السياسى ,فوجود نوع من التكامل النخبوى يؤدى إلى تحقيق الاستقرار السياسى وغيابه يؤدى إلى عدم الاستقرار السياسى على مستوى المجتمع ككل.

ويتحدد دور النخبة من خلال درجة اندماجها في المجتمع الذي تـكـون فيه، ويمثل الاندماج والتكامل المجتمعي الجزء الأكبر من الدور التنموي للنخبة بشكل عام والسياسية منها بشكل خاص، إذ تقوم النخبة السياسية بأداء وظيفة تحقيق التكامل والاندماج بين الآراء السياسية والاتجاهات لمعظم القوى داخل المجتمع، بمختلف أنماطها وتأثيراتـــها، بهدف تحقيق استقرار المجتمع وثبات إستمرارية أنماط العلاقات البينية بين مؤسساته المختلفة، ويتوقف مستوى نجاح النخبة السياسية في أداء هذا الجزء من الدور على مستوى اندماجها بذاتها مع مؤسسات وبنى المجتمع الأخرى .

إن قيام النخبة بأداء دور الاندماج المجتمعي يهيئ السبيل لها لأداء دور التعبئة الاجتماعية التي تمثل قاعدة انطلاق أي فعل تنموي، إذ لا تتوحد موارد الدولة باتجاه تحقيق الأهداف العامة إلا بوجود التعبئة الشاملة التي تضطلع النخب بأدائها في ظل وجود نخبة (حاكمة)، هي النخبة السياسية المركزية التي تدور النخب الأخرى في فلكها بشكل أو بأخر، وتحقق هذه النخبة المركزية حالة الإجماع الذي تلتزم به باقي النخب طوعاً أو كرها, , وهذا ما يكفل تحقيق الوحدة والانسجام والتكامل بما يسهل عملية التعبئة القومية لموارد الدولة باتجاه تحقيق الأهداف التنموية لها .

ويتجسد كذلك الدور التنموي للنخبة من خلال مساهمتها في التخطيط ورسم الأهداف العامة، باعتبارها المؤسسة الأكثر درايةً وخبرةً في أدارة شؤون المجتمع، بما تمتلكه من إمكانات ذاتية لا تتوفر في غيرها من طبقات المجتمع الأخرى، إذ تحتوي النخب أكفأ الطاقات البشرية المؤثرة في مجال عملها الحرفي، وهو ما يجعلها معنية بصورة رئيسة في رسم الأهداف العامة للمجتمع، والتنموية منها على وجه الخصوص، بالإضافة إلى إدارة عملية تنفيذ هذه الأهداف وتقييمها، وهو ما يتضح جلياً في المراحل الكبرى لعملية التنمية الشاملة للدولة ، وبذلك يكونر دور النخبة في التنمية السياسية ممثلاً بأدائها لوظائف التعبئة والتخطيط والتنفيذ والرقابة، و تذليل العقبات والمشكلات التي قد تقف في طريقها، وذلك يعكس تدخل النخبة في جميع مراحل التنمية، مما يظهر دوراً بارزاً لها في هذه العملية، الذي يكون محكوماً (أي الدور) بمجموعة من العوامل التي تتحكم بزيادة فاعليته أو ضعفها .

الفصل الثانى: النظام السياسى فى البرازيل
المبحث الأول: طبيعة النظام السياسى فى البرازيل
تمكنت البرازيل من تخطي حاجز اللغة التاريخي الذي فصلها عن بقية دول أمريكا اللاتينية الناطقة بالإسبانية (البرازيل هي الدولة الوحيدة في أمريكا الجنوبية الناطقة بالبرتغالية)، وتمكنت من تعزيز نفوذها في محيطها الإقليمي منذ عودة الحكم المدني، مع تركيزها على التعبير عن قضايا أمريكا الجنوبية ومصالح الدول النامية في مختلف المؤسسات الدولية، لتصبح -وبحق- متحدثًا رسميًّا باسم أمريكا الجنوبية. ولعل هذا يفسر وصف وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس البرازيل، في عام 2007، بأنها “قوة إقليمية وشريك عالمي”، وهو وصف لم توصف به البرازيل على مدار تاريخها الحديث.

وقع في القسم الجنوبي من قارة أمريكيا الجنوبية ، تتربع البرازيل على ساحل الألوان الثلاثة الساحل المطل على المحيط الأطلسي ، و التي تعد البرازيل خامسة دول العالم مساحة ، وتسيطر على نصف القارة تقريباً ، والتي أصبحت ثامن أكبر إقتصاد في العالم ، إنها البرازيل التي سبق لها وان أحتلت من البرتغال .

على المستوى الديموغرافي تحتل البرازيل المرتبة الخامسة على مستوى العالم من حيث عدد السكان، (يبلغ عدد سكانها حوالي 198 مليون نسمة)، ويمكن اعتبار البرازيل دولة حضرية، حيث يقطن حوالي ثلاثة أرباع سكانها في المدن الحضرية الكبرى مثل ريو دي جانيرو وساو باولو، التي تعد العاصمة الصناعية والتجارية للبرازيل. كما يقطن عدد كبير من المواطنين، ممن يعيشون تحت خط الفقر، في المناطق الريفية.

وتتسم التركيبة السكانية في البرازيل بالتنوع، بحيث يمكن اعتبارها نموذجًا مثاليًّا للتعايش بين عرقيات وثقافات متعددة. وعادة ما كانت البرازيل بوتقة صهر لجميع سكانها على غرار الولايات المتحدة الأمريكية. وفي حين لا تتجاوز نسبة السكان الأصليين حوالي 1 % من مجموع السكان، يمثل المهاجرون الأوروبيون غالبية السكان. وتضم البرازيل أكبر عدد من المواطنين المنحدرين من أصول إفريقية، خارج إفريقيا، وأكبر عدد ممن ينحدرون من أصول يابانية خارج اليابان، بالإضافة للمهاجرين الأوروبيين، وعدد كبير ممن ينحدرون من أصول شرق أوسطية أغلبيتهم من اللبنانيين .

في الواقع تعود بداية الحقبة العسكرية فى حكم البرازيل إلى سنة 1930 عندما تولى الجنرال “غيتويلو فارغاس” الحكم ومن بعده تعاقبت الحكومات العسكرية وتراجعت الديمقراطية والحرية وانتشرت الاعتقالات والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية داخل البرازيل.

وفى منتصف السبعينيات تولى الجنرال “ايرنستو غيسيل” ومن بعده الجنرال “جون بابتيستا فيغوريدو” رئاسة البلاد حتى منتصف الثمانينات، وسار كلاهما في طريق التحول التدريجي نحو الحكم المدني، وهذا ما يعنى أن البرازيل شهدت عشر سنوات انتقالية بين نظامين سياسيين أولهما عسكري استبدادي قمعي وثانيهما مدني مؤسسي ديمقراطي، وتعاقب منذ 1985 الرؤساء المدنيين، وكان أولهم “خوسيه سارنى” وآخرهم حتى هذا التاريخ هي الرئيسة الحالية “ديلما روسيف” والتي كانت احد المعتقلين البارزين إبان الحكم العسكري ومن أهم النشطاء والمناضلين اليساريين في تلك الفترة. ولكن منذ 1985 وحتى 2012 اى خلال 27 عاما من الحكم المدني الديمقراطي عقب انتهاء الحقبة القمعية العسكرية، برز اسم الرئيس “لولا دا سيلفا” الذي تولى رئاسة البلاد لمدة ثماني سنوات (2003-2010)، حيث تقدمت البلاد خلال تلك الفترة تقدما كبيرا على الصعيدين السياسي والاقتصادي .

البرازيل جمهورية فيدرالية يحكمها رئيس يشغل في ذات الوقت منصب رئيس الحكومة ويساعده نائب. ويجرى انتخاب الرئيس ونائبه في ورقة اقتراع واحدة عبر انتخاب شعبي لفترة أربع سنوات (ويجوز إعادة انتخاب الرئيس مرة ثانية وأخيرة). وتتألف الهيئة التشريعية (الكونغرس) من مجلسين: واحد للشيوخ (ويضم 81 مقعدا تمثل 27 وحدة إدارية بواقع 3 أعضاء عن كل ولاية والمنطقة الفيدرالية للعاصمة)، ويتم انتخاهم لفترة مدتها ثماني سنوات عبر آلية اقتراع شعبي كل أربع سنوات لتجديد أعضاء المجلس بدءا باقتراع على ثلث الأعضاء وبعد أربع سنوات أخرى على الثلثين الباقيين)؛ أما المجلس الآخر فهو مجلس النواب ( ويضم 513 عضوا) ويتم انتخاب أعضائه لفترة أربع سنوات.

أما على المستوى القضائي، فإن أرفع هيئة قضائية هي المحكمة الفيدرالية العليا والتي تتألف من 11 قاضيا برتبة وزير يعينهم رئيس البلاد مدى الحياة (بشرط مصادقة مجلس الشيوخ)، فضلا عن محكمة العدل العليا، والمحاكم الفيدرالية الإقليمية (يعين فيها القضاة أيضا لمدى الحياة).

وتتميز الحياة الحزبية البرازيلية بالنضج والحيوية ويتصدر المشهد حزب الحركة الديموقراطية؛ وحزب العمال؛ والحزب الجمهوري؛ والحزب الشعبي الديموقراطي، والحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي، وحزب الشعب المسيحي وغيرها من الأحزاب ذات البرامج الليبرالية والديموقراطية واليسارية والمحافظة فضلا عن جماعات معارضة واتحادات عمالية وجماعات ضغط دينية .
تأسست الحياة السياسية الحالية في البرازيل على الدستور الفيدرالي الذي صدر عام 1988 ، ورغم أن هذا الدستور كان أثرا من آثار التحول الديموقراطي الذي شهدته البلاد بعد 21 عاما من الحكم العسكري1985 ) إلا أنه لا يزال حافلا بالاضطراب وكثرة البنود التي يعارض بعضها بعضا، – الشمولي ( 1964 والاستغراق في التفاصيل بالغة الإسهاب التي تسبب الوقوع في شرك التفسيرات والتأويلات، وذلك لأن الذي كتب هذا الدستور هم رجال السياسة وليس فقهاء القانون الدستوري. ورجال السياسة -كما هو معلوم- تحكمهم وتتحكم فيهم انتماءاتهم الحزبية، وتوجهاتهم السياسية، ومعتقداتهم الأيديولوجية, ولهذا فلم يكن مستغربا أن يشهد هذا الدستور خلال العقدين الماضيين تعديلات دستورية كثيرة لدرجة قد تبدو للقارئ مباَلغا فيها؛ إذ بلغ مجموعها 61 تعديلا .
المبحث الثانى:التنمية والنمو فى البرازيل
حققت البرازيل على مدى العقدين الماضيين استقرارا اقتصاديا، تجلَّى بعض مظاهره في انخفاض معدلات التضخم، وتحقيق نمو اقتصادي مرتفع، وانخفاض نسبة الديون إلى إجمالي الناتج المحلي، فضلا عن الحد من التفاوت في الدخول، وانحسار نسبي للفقر، كما أنها لم تتأثر كثيرا بتداعيات الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي تركت أثرا سلبيا على عديد من دول العالم, وتبدو البرازيل لأول مرة في تاريخها، مستعدة لامتصاص الصدمات الاقتصادية الخارجية، تتسلح في ذلك بسعر صرف مرن، واحتياط ضخم من العملات الأجنبية، وتناقص مستمر في نسبة الدين إلى الناتج، وإدارة رشيدة من البنك المركزي لمشكلة التضخم, فكيف قطعت البرازيل كل هذه الخطوات، حتى أصبحت ثامن أكبر اقتصاد في العالم؟, وكيف أقنعت المستقبل بأن “يطوي أشرعته على مرافئها” كما علقت ذات مرة صحيفة الغارديان البريطانية في إحدى افتتاحياتها عام 2008 وهي تستعرض عناصر القوة التي باتت تمتلكها هذه الدولة.

خلال سبعينيات القرن العشرين استمرت البرازيل في تشجيع الإستراتيجية التي اعتمدت على الديون كأحد الركائز الأساسية، والتي نقلت عبء النمو المرتفع إلى الأجيال المقبلة. وأصبح هذا الدين مرهقا خاصة حين ضربت أزمة الديون اقتصاد البلاد في الثمانينيات. واتسمت الفترة بين 1980 ومطلع تسعينيات القرن العشرين بتجريب محاولات متعددة للسيطرة على التضخم المفرط الذي أدى إلى إطالة أمد حالة النمو البطيء وفي تسعينيات القرن العشرين تبنت البرازيل توجها إصلاحيا لتوجيه البلاد نحو اقتصاد السوق، فاتبعت آنذاك النهج العالمي الهادف إلى الخصخصة والتحرير الاقتصادي والانفتاح (خاصة في قطاعي التجارة والمال) وهو ما عرض المنتجين المحلين للمنافسة الخارجية.

كما طبقت البرازيل أيضا بعض الإصلاحات الاقتصادية على المستوى التفصيلي، مثل تلك التي غيرت قانون الإفلاس، والتحكم في العجز العام على مستوى الولايات والبلديات، فضلا عن تنظيم سوق النفط من خلال كسر احتكار شركة بتروبراس للتنقيب عن النفط واستخراجه في البلاد.

ورغم أن البلاد حققت من وراء الإجراءات السابقة قدرا من التعافي قصير المدى، وجنت بعض المكاسب، إلا أن فترة ما بعد الإصلاح (التي امتدت من 1996 وحتى 2003 ) فشلت في تحقيق توقعات النمو الاقتصادي سلسلة ملفات القوى الصاعدة 60 البرازيل.. القوة الصاعدة من أميركا اللاتينية المأمولة, ففي تلك الفترة حقق الناتج المحلي الإجمالي معدل نمو مقداره 1.9 % سنويا في الوقت الذي كان معدل نمو الدخل الفردي يبلغ 0.4 % سنويا, وقد حققت تجربة البرازيل -وغيرها من دول أميركا اللاتينية- تقدما متواصلا في إدارة الاقتصاد الكلي خلال تسعينيات القرن العشرين، غير أن هذه التجربة أظهرت أن استقرار الاقتصاد الكلي ليس كافيا بمفرده لتحقيق نمو متواصل في الإنتاجية. وعلى أية حال، فإن الاقتصاد البرازيلي -الذي يزداد الطلب الخارجي على مواده الخام (زمن الأسعار المرتفعة، والنمو الاقتصادي العالمي) ويتمتع بإصلاحات اقتصادية على المستوى التفصيلي- شهد نموا متواصلا في الدخل, ( وفيما بين عامي 2004 و 2008 كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 4.7 % سنويا ,ورغم الأزمة المالية العالمية، حقق الاقتصاد البرازيلي معدل نمو مقداره 5.1 % في عام 2008 ، وهو العام الذي يمثل قمة الأزمة وذروة العاصفة، ثم حافظ على معدل أعلى بقليل في عام 2009 ، وبشكل عام فإن معدل النمو الحديث في الاقتصاد البرازيلي معدل إيجابي ويتراوح % بين 4 و 5 .

الفصل الثالث: القيادة السياسية وتحقيق الاستقرار السياسى فى البرازيل
المبحث الأول: دور القيادة فى تحقيق الاستقرار السياسى
توصلت القوى الديمقراطية فى تجربة البرازيل إلى ضرورة تأسيس توافق مع المؤسسة العسكرية على انطلاق عملية التحول الديمقراطي ، عبر إصدار العفو على المعتقلين السياسيين و تنظيم انتخابات نزيهة ، حيث تمكنت من سن قوانين العفو عن المعارضة، و تم تغيير نظام الاقتراع من اجل تكريس التعددية الحزبية بدل الثنائية .
إن تجربة البرازيل في التحول الديمقراطي أشرفت عليها المؤسسة العسكرية و ضمنت انفتاح النظام السياسي و تنظيم الانتخابات. و احترام نتائج صناديق الاقتراع.

إن مميزات التجربة البرازيلية تتجلى في العناصر التالية :
• نهج أسلوب يعتمد على دمقرطة النظام بتنظيم انتخابات.
• احترام المؤسسة العسكرية لنتائج الانتخابات .
• تمكن الحزب المعارض من الفوز في الانتخابات .
• إيمان المؤسسة العسكرية بضرورة التحول الديمقراطي. و نهجها المقاربة التشاركية رغم غياب تعاقد مكتوب. فقد سهلت الأحزاب السياسية عملية التحول خاصة حزب IDB .

فى مرحلة التحول إلى نظام حاكم ديمقراطي ليبرالي بقيادة إدارة سارني: 1985 – 1989 , لعبت النقابة العمالية دوراً محورياً في إنهاء الحكم العسكري, فقد تبنت البرازيل في تسعينيات القرن العشرين نهجا إصلاحيا لتوجيه البلاد نحو الديمقراطية، و تبين التجربة البرازيلية أهمية الأحزاب السياسية في صياغة المشهد السياسي البرازيلي، خاصة الحركة الديمقراطية البرازيلية التي شكلت المعارضة الأساسية داخل البلاد و استطاعت أن تحظى بثقة المؤسسة العسكرية.

بادرت الحكومة العسكرية بتقديم بعض التنازلات بعد تحالف جزء من قادتها مع المعارضة لإجراء تعديلات هيكلية للنظام السياسي البرازيلي لتحقيق الانتقال الديمقراطي، حيث لم تتصرف الحكومة والمعارضة كأعداء وإنما كشركاء غير مباشرين. بدأ التفتح السياسي من الأعلى إلى الأسفل، حيث وافقت الحكومة على دمقرطة النظام بإقرار التعددية السياسية و تنظيم انتخابات حرة، كما لم تعمل المؤسسة العسكرية على تجميد أو حل البرلمان أو القضاء على النظام الانتخابي .

ولم تشهد البرازيل استقرارا على المستوى السياسي سوى مع انتخاب فيرناندو هنريك كاردوسو رئيسا في عام 1994 ثم بعده لولا دا سيلفا في 2002 تمكن كاردوسو من إقامة دعائم النظام المدني مستعينا بخلفيته الأكاديمية وخبرته السياسية قضى فترة طويلة من عمره في المنفى إبان فترة الحكم العسكري، إلى جانب خبرته كوزير للخارجية ثم وزير للمالية خلال فترة حكم اتمار أوجوستو فرانكو منذ عام 1992 . وعقب فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 1994 على منافسه لولا دا سيلفا اليساري، بدأ كاردوسو في تنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية ساهمت في إعادة انتخابه مجددا للرئاسة لولاية ثانية في أكتوبر 1998 بنسبة تصويت قدرت 53,06%, و امتنع كاردوسو عن تعديل الدستور بشكل يمكنه من الترشح لفترة رئاسية ثالثة كما كان يرغب مؤيدوه, بل ساهم بشكل غير مباشر في انتخاب لولا دا سيلفا للرئاسة بإصراره على اتخاذ موقف محايد من الانتخابات الرئاسية.
وفى يناير/كانون الثاني 1995 م تولي فرناندو هنريك كاردو سو منصب الرئا سة( وعمد إلى الموافقة على تعديل يقر إعادة انتخاب رئيس الجمهورية ورؤساء حكومات الولايات والبلديات لمدة ثانية, وبدء فرناندو هنريك كاردوسو فترته الرئا سية الثانية فى ظل فوز أحزاب المعارضة في الانتخابات البلدية في عموم البلد .

ومنذ استعادة الديمقراطية فى البرازيل بعد دستور 1988م, استطاع جمع الرؤساء المنتخبين إقامة تحالف معقول مع أعضاء الأغلبية البرلمانية, فى أعقاب الانتخابات الرئاسية, وتحقيق مستوى عال من إداء الحكم فى ظل الالتزام الجاد من قبل الأحزاب المتحالفة فى الحكم, مما ساهم فى تحقيق الاستقرار السياسى , ولا يوجد فى ذلك استثناء سوى الفترة التى امتدت من مارس 1990م, وحتى أكتوبر 1992م, فى ظل حكم الرئيس فرناندو كولور الذى لجأ إلى تشكيل حكومة ائتلافية بشكل غير دمقراطى, مما عرضة للمسألة وعزل من قبل البرلمان .

وفى المجال الاقتصادى الذى يعد عصب الاستقرار السياسى, وعنصرا هاما لتحقيقه, نجد أن القيادات البرازيلية المتلاحقة عمدت إلى تحقيق نمو وتقدم اقتصادى ملحوظ خاصة فى فترة تسعينيات القرن العشرين أما في هذه الفترة والتي كان الجيش قد تراجع تماما عن الحياة السياسية وأتم الانتقال السلمي والتدريجي للسلطة إلى حكومات مدنية متعاقبة، فقد انتهجت الحكومات المدنية في خلال عقد التسعينيات سياسات اقتصادية رأسمالية، حيث تبنت سياسات الانفتاح الاقتصادي وسياسات السوق وعمت البرازيل حمى الخصخصة والتحرير الاقتصادي كما كان الحال في العديد من دول العالم الثالث التي اتبعت توجيهات صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما أدى إلى تقدم في مؤشرات الاقتصاد الكلى وهو ما لم يكن يعنى تقدما فعليا، بمعنى أن سياسات الانفتاح الاقتصادي أصابت المنتجين المحليين بخسائر فادحة مما أدى إلى مزيد من البطالة وتراجع حاد في الإنتاج المحلى ومن ثم تراجع معدلات التصدير وكذلك أيضا ارتفاع معدلات الفقر التي كانت مرتفعة بالأساس، وعلى هذا فقد أثبتت تجربة التسعينيات في البرازيل والعديد من دول العالم الثالث أن استقرار الاقتصاد الكلى لا يعنى بالضرورة نموا حقيقيا في الاقتصاد والإنتاج ولا يعنى تقدما في مستوى دخل الأفراد وحل المشكلات الاقتصادية مثل البطالة ومستويات الفقر المرتفعة ومشكلات الدين العام والتضخم وغيرها, وهكذا حرصت القيادة السياسية البرازيلية على النهوض بالاقتصاد الأمر الذى جعل من البرازيل قوة اقتصادية وقطب دولى صاعد .

المبجث الثانى: لولا دى سيلفا نموذجا:
فى إطار دستنا لدور القيادة السياسية فى تحقيق الاستقرار السياسى, فأننا سوف نحاول تسليط الضوء على دراسة دور لولا دى سيلفا كنموذج, فهو يعتبر صانع النهضة البرازيلية.

ولد لويس أغناسيوس دا سيلفا في تشرين الأول/أكتوبر 1945, لكننا لا نعرف عنه أكثر من ذلك، فيوم ولادته لا زال محل جدلٍ في عائلته المقربة, تربى دا سيلفا في عائلة فقيرة حيث كان السابع بين ثمانية أخوة في ريف ولاية برنامبوكو، شمالي شرق البرازيل، ثم في مدينة ساو باولو الصناعية, تنقل بين الأعمال البسيطة بدءًا بماسح أحذية، ثم بائع برتقال وبعدها معاون دبّاغ. وعندما بلغ 18 سنة، استطاع أن يحصل على دبلوم كعامِل معادن؛ لكنه بعد فترة قصيرة فقد إصبعاً من أصابعه في مكبس للمعادن.

وبينما كان يشاهد مباراة لكرة القدم، أتت هذا الشاب الذي أصبح قائداً نقابياً، فكرة جمع العمال المحرومين في مدينته في ملعب لكرة القدم, بعد مضي عام على بزوغ هذه الفكرة في مخيلته، أي في شهر آذار/ مارس 1979، ملأ ثمانون ألف عامل معادن ملعب فيلا أوكليدس لكرة القدم الذي يقع على مشارف مدينة ساو باولو, لكن المشكلة الوحيدة كانت عدم وجود مذياع, لكن هذا لم يمنع من إيصال خطاب هذا الزعيم النقابي ذي اللحية الطويلة إلى جميع الموجودين، حيث تناقلوا الخبر فيما بينهم حتى آخر الملعب, وفي نفس العام قاد إضرابا “لم يؤد إلا إلى تحسن طفيف في الأجور، لكنه أعطى دفعة مهمة لمستقبل لولا السياسي” كما يقول فري بيتو، وهو أول مدون لسيرة لولا الذاتية وحليف سابق له. ورغم إجراءات الجيش التعسفية بحقه ودخوله السجن عدة مرات، قاد لولا حركة تمرّد ثانية لعمّال المعادن في العام التالي، وهي الحركة التي عرفت نجاحاً كبيراً .

البرنامج الإصلاحي للولا دا سيلفا:
تولى لولا دا سيلفا أحد أشهر رموز اليسار في أمريكا اللاتينية مقاليد الحكم كأول رئيس عمالي في البرازيل في عام 2002 و فاز في الانتخابات بنسبة 61 % و بدأت خيبة الأمل تعتري الكثيرين داخل و خارج البرازيل. فقد تعرض لولا لحالة الاستنكار الداخلي الرسمي و الشعبي لسياساته الاقتصادية. لقد تسلم لولا من سلفه كاردوسو تركة اقتصادية مثقلة بالديون الخارجية بلغت 260 مليار دولار و ديون داخلية تشكل 61 % من إجمالي الناتج القومي، و زاد هذا الوضع من تذمر دوائر المال.

باختصار شديد تبنى هذا الرجل سياسات يسارية لحل معضلة الفقر البرازيلي ولانجاز تقدم قوى في تحقيق العدالة الاجتماعية، من جهة أخرى انتهج سياسات ليبرالية تفوق كل أحلام شريحة الرأسماليين لحماية صناعتهم واستثماراتهم لدرجة جعلت هذه الطبقة أكثر تأييدا لحكم لولا من الطبقتين الوسطى والفقيرة التي كان يمثل لهم البطل ذو الشعبية المطلقة لدرجة أن شعبيته كادت تصل إلى 80% قبيل انتهاء فترة رئاسته الثانية وكان هناك مطلب شعبي عارم بتغيير الدستور لتمكينه من فترة رئاسية ثالثة إلا انه رفض وفضل دعم “روسيف” مرشحة حزبه ورئيسة وزراءه السابقة .

أكد لولا في تعهداته الانتخابية التزامه ببنود الاتفاقية التي أبرمتها حكومة كاردوسو مع صندوق النقد الدولي و التي حصلت البرازيل بمقتضاها على 30 مليار دولار، و بدأ في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي اشترطها الصندوق، فاتبعت حكومته سياسة تقشفية مست مخصصات البرا مج الاجتماعية التي انخفضت إلى 22 % من إجمالي الناتج القومي لعام 2003 هذه الإجراءات أثارت انشقاقات شديدة داخل البرازيل و اتهام لولا بالتخلي عن يساريته، و قد هدد كثير من نواب حزب العمال الذي ينتمي إليه لولا بالتصويت ضد البرنامج الإصلاحي، لكن لولا لم يتراجع عن تلك الإجراءات و تبنى برنامجه الإصلاحي لغاية أن يستعيد السوق البرازيلي عافيته و يتحقق البناء الديمقراطي.

وفي ظل هذا البرنامج تحصلت الأسر التي يقل دخل الفرد فيها عن 60 ريالا برازيليا شهريا (نحو 28 دولار أميركيا) على دعم مقداره 62 ريالا لكل فرد، و 20 ريالا لكل طفل ( 15 سنة فأقل) بحد أقصى ثلاثة أطفال، كما تحصل الأسرة على 30 ريال أخرى لكل فرد في سن ما بين 16 و 17 سنة؛ ومن ثم فإن الأسر الفقيرة تحصل على متوسط إعانة شهرية إجمالية مقداره 182 ريالا وهو ما يعادل 40% من الحد الأدنى للأجر الشهري في البلاد, وقد شملت التغطية الإجمالية لهذا البرنامج أعدادا ضخمة من المستفيدين, فطبقا لوزارة التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقر في البرازيل وصل البرنامج إلى 11 مليون أسرة و 64 مليون مستفيد، وهو ما يعادل ربع سكان البلاد.

وفي المجمل يمكن الخروج بأن الاستقرار الاقتصادي، والنمو، والحد من الفقر، قد خلق حراكا جديدا في السوق المحلي في البرازيل، وكان لذلك الفضل في دمج فئات جديدة من السكان في سوق ويتوقع أن تشمل الإصلاحات الاقتصادية استئناف برنامج خوصصة الشركات المملوكة للدولة، وتنشيط الاقتصاد لخلق وظائف جديدة لاسيما مع الزيادة التي شهدتها أعداد الموظفين الحكوميين في البرازيل من 900 ألف إلى 1.1 مليون خلال الأعوام الأخيرة، فضًلا عن تنظيم الاقتصاد غير الرسمي الذي يصل إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 40 %، وتحسين أوضاع الفقراء الذين تصل نسبتهم لحوالي 20 % من إجمالي عدد السكان, وبناء على تلك المؤشرات، توقع جولدمان ساشس أن يصبح الاقتصاد البرازيلي الاقتصاد% السادس على مستوى العالم بحلول عام 2050 ، وذلك إذا استمر في النمو بمعدل لا يقل عن 306 .

من المهم الإشارة إلى انه مع وصول الرئيس السابق “لولا” إلى الحكم في 2003 لم يقتصر برنامجه الرئاسي على إصلاح الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد فقط، بل أيضا كان له برنامج شديد الطموح فيما يخص السياسة الخارجية. وقد استخدم “لولا” ببراعة شديدة النجاحات الاقتصادية التي استطاع تحقيقها في فترة رئاسته الأولى للحصول على مكاسب في مسار السياسة الخارجية، ومن جهة أخرى وجه سياسته الخارجية النشيطة لتحقيق مكاسب اقتصادية جديدة وهكذا بالتوازي.

إذا فقد كان برنامجه للسياسة الخارجية يقوم على أساس القيام بعمل دبلوماسي نشيط ليس فقط على المستوى الإقليمي داخل قارة أمريكا الجنوبية ولكن على المستوى الدولي، ويقوم على أساس احترام البرازيل للسيادة الوطنية للدول والحفاظ على علاقات تتسم بالسلمية مع كافة دول العالم، بل وأيضا مع طرفي العداء، بمعنى أن البرازيل في عهده قد التزمت بعلاقات ودية جدا مع الولايات المتحدة وكذلك أيضا إيران على الرغم من الصراع الدائر بين الدولتين. وقد شهدت فترة رئاسته تطورا ملحوظا في العلاقات البرازيلية الإيرانية، حيث استطاعت الدبلوماسية البرازيلية وفى قلبها شخصية الرئيس “لولا” أن تلعب هذا الدور ببراعة كبيرة والحفاظ على مسافات متساوية مع جميع الفرقاء، ولكن مع الاحتفاظ بدور فعال وليس مجرد التواجد على هامش المشهد الدولي .

نجد مما سبق أن لولا استطاع إنجاز وتحقيق العديد من الطموحات البرازيلية, وقد استطاع ان يحظى بشعبية كبيرة فى البرازيل, مما دفع الكثيرين للمناداة بترشحه لفترة ثالثة وهو ما رفضه لولا دى سيلفا, وقد ساعدت النجاحات التى حققها إلى تحقيق الاستقرار السياسى والتقدم الاقتصادى للبرازيل, فالاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة.

خاتمة:
نجد أن توفر الرؤية الواضحة، والإرادة السياسية القوية، والصدق والشفافية في التعامل مع أوضاع البلاد ومشاكلها،سوف يحقق العديد من المكاسب ومزيدا من الاستقرار, وإن ما تحقق من انجاز اقتصادي كبير على ارض الواقع في البرازيل، لم يكن ليتم في غياب ذلك المناخ الديمقراطي الراسخ , وضرورة احترام الدستورية لتحقيق الاستقرار السياسى ,فالشعبية العارمة لم تجعل “لولا” يستغل ذلك ويسعى لتغيير الدستور البرازيلي ليتمكن من إعادة ترشيحه مرة ثالثة كما فعل جاره “شافيز” في فنزويلا، ولكن “لولا” أعلن انه يفضل أن تحافظ البرازيل على قواعد الديمقراطية ومكتسباتها، وألا يعيد إلى بلاده آليات نظام عانى هو وزملاءه في النضال من اجل التخلص منه, كما نجد كذلك أيضا تقدم التجربة البرازيلية تصورا عن حل المشكلات المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والفقر يلخص في أن هذا الأمر لا ينبغي أن يتم بعيدا عن مراعاة حقوق الطبقات الغنية، ليس فقط باعتبارهم جزء من مواطني الدولة لهم كافة الحقوق وإنما أيضا من باب أن حماية حقوق المستثمرين ورجال الأعمال المحليين والأجانب يؤدى إلى انتعاش الأسواق وزيادة فرص العمل وهو ما يصب في النهاية لصالح النمو الاقتصادي بشكل عام وتحسين حالة الطبقات الفقيرة بشكل خاص.

قائمة المراجع أولا الكتب:
• محمد عبد العاطى, محرر,البرازيل القوة الصاعدة من أميريكيا اللاتينية ,مركزالجزيرة للدراسات, الدوحة, 2010.
• محمد صلاح الدين, رائد النهضة البرازيلية: لولا دى سيلفا, دار الفاروق للنشر, القاهرة,2012م.
ثانيا الرسائل والدوريات العلمية:
• أنطونيو دا روتشا,ترجمة صلاح معتمد , النظام السياسي في البرازيل.. التركة والإصلاح, بحث نشر في مركز الجزيرة للدارسات عام 2011م
• فاطمة مساعد, التحولات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية: نماذج مختارة, مجلة دفاتر السياسة والقانون, جامعة بغداد, عدد خاص , ابريل 2011م
• محمد شطب عيدان المجمعي, النخبة السياسية وأثرها في التنمية السياسية, مجلة جامعة تكريت للعلوم القانونية والسياسية, العراق, العدد 4, السنة الأولى
• William B Qandt, The comparative Study of Political Elites, Santa Monica, California , September, 1969
ثالثا تقارير:
تقرير موجز حول التجارب الدولية، والدروس المستفادة، والطريق قدماً, المنتدى الدولي حول مسارات التحول الديمقراطي, برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, 5- 6 يونيو 2011م.
رابعا المواقع الإليكترونية:
• أمل مختار, تجربة النمو الاقتصادي في البرازيل: نموذج استرشادي لمصر, مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية, متاح على الرابط التالى:
http://acpss.ahramdigital.org.eg/News.aspx?Serial=84
• رنا شحاتيت, ورقة بحثية عن النظام السياسى للبرازيل, متاح على الرابط التالى:
http://rana9.blogspot.com/2012/01/blog-post_11.html
• راشد الغزالى, البرازيل .. قطب دولي جديد,متاح على الرابط التالى:
http://rashedghazaly.blogspot.com/2010/01/blog-post_6788.html
• رسيد لزق, مداخل التحول الديمقراطي في التجارب الدولية, متاح على الرابط التالى:
http://www.lakome.com/?option=com_content&tmpl=component&id=12729
• تقرير لولا دا سيلفا … من قاع المجتمع إلى سدة الحكم, متاح على الرابط التالى:

3.2/5 - (10 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى