عتبة التغيير: كيف تُبنى الدولة السورية بعد عقود من الخراب؟
بقلم: د. طالب عبد الجبّار الدغيم (كاتب وباحث سوري)
- المركز الديمقراطي العربي
بعد أربعة عشر عامًا من اندلاع الثورة السورية، ومع سقوط نظام الأسد، واِنهيار أجهزته الأمنية والعسكرية، يقف السوريون على أعتاب مرحلة تاريخية مصيرية. وبين نشوة الانتصار على نظام الاستبداد، وتحديات الإرث الثقيل للحرب الطاحنة التي مزقت أوصال البلاد، تبرز لحظة فارقة لرسم مستقبل سوريا الجديدة. فهذه المرحلة ليست فقط نهاية عهد مظلم، بل بداية فرصة لإعادة بناء وطن على أسس حديثة تُلبي تطلعات الشعب، وتعالج جراح الماضي. فهل ستتمكن سوريا من تحويل هذا التحدي إلى انطلاقة جديدة نحو العدالة، والاستقرار، والازدهار الذي طالما حلم به أبناؤها؟
هذه المرحلة تتجاوز مجرد إعادة الإعمار أو المصالحة الوطنية، لتصبح عملية شاملة تهدف إلى بناء مؤسسات دولة قادرة على إحداث التغيير، وتهيئة الظروف لمستقبل مستدام. وتتطلب هذه العملية مرتكزات أساسية للمرحلة القادمة، من أبرزها:
- إعادة بناء المؤسسات الخدمية والفاعلة
إعادة بناء المؤسسات الحكومية تُعدّ الركيزة الأساسية لأي مشروع يهدف إلى تأسيس دولة حديثة قادرة على تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة. فقد أدت سنوات الصراع بين نظام الأسد وحلفائه من جهة، والشعب السوري الحرّ من جهة ثانية، إلى ضعف وترهل مؤسسات الدولة، وغياب فعاليتها، مما زعزع الثقة بين المجتمع والدولة. والتغيير المؤسسي يتطلب اعتماد نظم وتقانة عصرية، وتعتمد مبدأ الشفافية والمساءلة واللامركزية، وتطوير نظام قضائي مستقل يضمن العدالة، ويمنع التدخلات السياسية والحزبية. وإن تبسيط الإجراءات الحكومية، وتحقيق الكفاءة الإدارية ليس خياراً، بل ضرورة ملحّة للانتقال نحو دولة قادرة على تلبية تطلعات مواطنيها.
- أهمية إعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنية
إعادة بناء جيش وطني وأجهزة أمنية فعّالة يُعدّ حجر الزاوية في تحقيق الاستقرار وإطلاق مسار التنمية في سوريا ما بعد الصراع. فالجيش الوطني والأمن المهني يمثلان دعامة أساسية لدولة حديثة، ما يستوجب إعادة هيكلتهما على أسس وطنية شاملة، تعكس تطلعات الشعب السوري وتضحياته، مع ضمان استقلاليتهما عن التجاذبات السياسية والاجتماعية، واعتماد معايير الاحتراف والانضباط.
وفي ظل انهيار المنظومة الأمنية والعسكرية للنظام السابق وتآكل بنيتها بفعل سنوات الحرب، تصبح الحاجة إلى إعادة البناء ملحة. ويمكن لسوريا أن تستلهم من تجارب تاريخية دولية ناجحة، مثل اليابان التي أعادت تشكيل جيشها بعد الحرب العالمية الثانية، ليصبح قوة وطنية، تركز على حماية السيادة، وخدمة مصالح الشعب، وتجربة كولومبيا التي نجحت في نزع السلاح، وإعادة دمج المقاتلين السابقين، مما عزز السلم الأهلي، وأعاد التماسك الاجتماعي.
وإلى جانب ذلك، يتطلب هذا البناء إدخال مفاهيم حديثة للأمن الشامل تحترم حقوق الإنسان، وتعزز الثقة بين الأجهزة الأمنية والمجتمع. واعتماد برامج تدريبية متقدمة، وتطوير أساليب عمل تركز على خدمة المواطنين وحماية حقوقهم، يُعد خطوة جوهرية لبناء مؤسسات أمنية حديثة قادرة على حماية الدولة والمجتمع، وتحقيق تطلعات السوريين في الأمن والاستقرار.
- صياغة دستور جديد
الدستور الركيزة الأساسية لبناء الدولة، والعقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين السلطة والمواطنين، ويحدد الحقوق والواجبات. وفي سوريا التي عانت من النزاعات والانقسامات، تبرز أهمية صياغة دستور جديد يؤسس لدولة حديثة قائمة على التعددية السياسية والثقافية، ويعكس طموحات الشعب السوري في العيش بحرية وكرامة وقيم إنسانية وأخلاقية رفيعة.
وينبغي أن يضمن الدستور الجديد نظام حكم ديمقراطي متوازن يفصل بين السلطات الثلاث، ويشمل ضمانات واضحة لحقوق الإنسان الأساسية، مثل حرية التعبير والمعتقد والمساواة بين جميع المواطنين. كما يجب أن تكون عملية الصياغة شاملة وشفافة، بمشاركة كافة مكونات المجتمع السوري، لضمان تمثيل عادل، وتعزيز الشعور بالملكية المشتركة لهذا العقد الاجتماعي.
ويمكن الاستفادة من دستور الجمعية السورية التأسيسية لعام 1950م، الذي استند إلى تجارب ديمقراطية عالمية، كمرجعية قابلة لتعديل بعض الصياغات، بما يتناسب مع تطورات المرحلة الراهنة. وتجربة جنوب إفريقيا تقدم نموذجًا ملهمًا، حيث أسهمت المشاركة الواسعة لجميع الأطياف في صياغة دستور تقدمي عزز الوحدة الوطنية. وعلى هذا الأساس، يمكن لسوريا أن تُنشئ لجانًا وطنيةً تمثيليةً تضم القوى السياسية والاجتماعية، ومنظمات المجتمع المدني، بحيث تضمن صياغة دستور يعبر عن الإرادة الشعبية بدون استثناءات، ويؤسس لدولة تحترم الحقوق وتحقق العدالة والاستقرار. وبموجب هذا الدستور الجديد، ينال المكوّن الكردي حقوقه المسلوبة من نظام الأسد، باعتباره جزءًا أصيلًا من النسيج المجتمعي السوري.
- إدارة التنوع الاجتماعي وتحقيق العدالة الانتقالية
إدارة التنوع الثقافي والديني والعرقي تُعدّ من أبرز التحديات التي تواجه سوريا في المرحلة الانتقالية. ولأجل تحقيق الوحدة الوطنية وبناء مجتمع متماسك، يجب اعتماد سياسات تضمن المساواة والعدالة الاجتماعية، وتكفل تمثيلًا عادلًا لجميع الفئات في مؤسسات الدولة. ويتطلب ذلك ترسيخ قيم المواطنة والحريات من خلال برامج ثقافية وتوعوية، تُعزز التعايش السلمي، والانتماء الوطني، وتُعمّق الثقة المجتمعية.
وأما العدالة الانتقالية فهي ليست مجرد محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم التي شهدتها سوريا، بل هي إطار شامل لتمتين المصالحة الوطنية، وترميم النسيج الاجتماعي المتضرر. وتُعد هذه العدالة أداة إستراتيجية لبناء الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، من خلال الجمع بين المحاسبة على الجرائم، والتسامح المدروس الذي يهدف إلى تعزيز الوحدة الوطنية. ويشمل ذلك إنشاء محاكم مختصة بالجرائم الكبرى، ولجان تحقيق مستقلة تعمل على توثيق الانتهاكات، وكشف الحقائق بدقة تامة، إضافة إلى ضمان العدالة للضحايا، وإعادة تأهيلهم نفسيًا واجتماعيًا. وهذه الخطوات تُظهر مدى التزام الدولة بمبادئ العدالة والإنصاف، مع تعزيز شعور الانتماء لجميع السوريين، بما في ذلك المتضررون والمجتمعات التي تأثرت بالحرب.
وفي هذا الإطار، تقدم تجربة رواندا مثالًا بارزًا، حيث اعتمدت محاكم “غاتشاكا” التقليدية التي جمعت بين المحاسبة، وإعادة دمج الجناة في المجتمع، مما لعب دوره في تحقيق الاستقرار الوطني. ويمكن لسوريا أن تستلهم من هذا النموذج، مع الأخذ في الاعتبار الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمع السوري. وذلك يتطلب تصميم آليات عدالة انتقالية تعكس تطلعات السوريين، وتضمن العدالة دون السقوط في دائرة الانتقام، مع التركيز على تعزيز الوحدة الوطنية، وإرساء أسس المصالحة المستدامة، وتكون فرصة لبناء مستقبل أكثر عدالًة واستقرارًا يعكس تطلعات الشعب السوري في السلام والبناء والتنمية.
وإن الحوار الوطني الشامل يُعدُّ أداةً أساسية لتجاوز الانقسامات، وتوحيد الصفوف. حيث ينبغي أن يُبنى هذا الحوار على التشاركية، ويشمل جميع أطياف ومكونات المجتمع السوري، من القاطنين في مناطق سيطرة النظام والتي خضعت حديثاً لسيطرة العمليات المشتركة، بالإضافة إلى قوى الثورة المدنية والعسكرية، والمجتمع المدني إلى ممثلي الطوائف المختلفة. ويمكن لهذا الحوار أن يرسم خارطة طريق واضحة للمرحلة الانتقالية ويؤسس لرؤية مشتركة لمستقبل سوريا. ومن المؤشرات الإيجابية، المبادرات الجارية لعقد مؤتمر حوار وطني في دمشق، وهو خطوة هامة نحو المصالحة الوطنية، وإعادة بناء التوافق المجتمعي.
- موازنة العلاقات مع العالم العربي والمجتمع الدولي
إدارة القيادة السياسية في دمشق للعلاقات الإقليمية والدولية يشكل أحد أبرز التحديات التي تواجه سوريا في مرحلة ما بعد انتصار الثورة وسقوط نظام الأسد، حيث تتعدد الأطراف الإقليمية والدولية، وتتباين أجنداتها ومصالحها. ولتحقيق توازن بين المصالح الوطنية والعلاقات الخارجية، يجب على الحكومة السورية تبني دبلوماسية ذكية تسعى إلى بناء علاقات متوازنة مع جميع الأطراف الدولية، وذلك على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. ويرتبط نجاح هذه الدبلوماسية بمدى تماسك الجبهة الداخلية، وتحقيق المصالحة الوطنية، والانتقالي السياسي، وتوفير بيئة لحرية العبادة والتعبير، فكلما كان الوضع الداخلي مستقرًا وقويًا، زادت حاجة المجتمع الإقليمي والدولي لتطوير علاقات محترمة وحتى شراكات إستراتيجية مع الدولة السورية الجديدة.
- إعادة الإعمار والبناء الاقتصادي ..
يمثل إعمار الاقتصاد السوري إحدى الركائز الأساسية لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة بعد سنوات طويلة من الحرب التي ألحقت دماراً واسعاً بالبنية التحتية، وشلّت القطاعات الاقتصادية الحيوية. ويتطلب هذا الإعمار وضع خطة مدروسة وشاملة تهدف إلى إعادة تأهيل القطاعات المحورية، مثل الزراعة والصناعة وحرية التجارة، وتحفيز الاستثمار المحلي والدولي. ويجب أن تركز الخطة على توفير فرص عمل جديدة، خصوصاً في المناطق الأكثر تضرراً، من خلال إطلاق برامج دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد المحلي. وهذه الجهود ستسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي، وتوفير بيئة ملائمة للنمو الاقتصادي العادل والمستدام.
إعادة الإعمار تمثل تحديًا اقتصاديًا ضخمًا، حيث تُقدّر تكلفتها بأكثر من 450 مليار دولار أمريكي، وهو عبء يفوق إمكانات سوريا وحدها. ولتحقيق هذا الهدف، يتطلب الأمر الحصول على دعم مالي وتقني من المؤسسات الدولية والدول المانحة، إلى جانب تفعيل القطاعات الإنتاجية داخل سوريا، ووضع خطط تنموية محددة. وتلعب تركيا دورًا محوريًا في توفير الخدمات الأساسية، مثل الطحين والمحروقات، كما تمتلك خططًا لتأهيل المطارات، وشبكات الكهرباء، والسكك الحديدية بالتعاون مع الحكومة القَطرية. وفي السياق ذاته، تُعدّ استعادة العلاقات مع الدول العربية ركيزة أساسية لتمكين سوريا من استعادة دورها العربي والإقليمي، والمساهمة في جهود إعادة الإعمار. كما أن رفع العقوبات الأمريكية والغربية يُعدّ عنصرًا مكملًا لهذا الجهد، حيث يُتيح مساحة أوسع للحكومات، ورجال الأعمال، والمؤسسات التنموية لتنفيذ مشاريع خدمية، وإعادة إعمار واسعة النطاق، بما يسهم في تسريع عملية التعافي الاقتصادي والاجتماعي.
سوريا بعد سقوط الأسد تقف على أعتاب فرصة تاريخية لإعادة بناء كيانها الوطني، رغم التحديات الكبيرة ومخاطر المرحلة. إن تبني رؤية شاملة تضع مصلحة الإنسان السوري في صدارة الأولويات، وتعتمد على قيم العدالة والمساواة وسيادة القانون، يمكن أن يفتح آفاق النجاح للمرحلة الانتقالية. وهذه المرحلة تمثل فرصة لتأسيس نظام ديمقراطي يعزز الثقة بين الدولة وأبناء المجتمع. ومن خلال الاستفادة من التجارب الدولية الملهمة، وبناء مؤسسات وطنية قوية، يمكن لسوريا أن تتحول من ساحة صراع إلى نموذج مُلهم، يُحتذى به في البناء والاستقرار والتنمية.