اتفاقيات الشراكة العابرة للحدود.. تحد جديد للديمقراطية المباشرة!
بقلم : برونو كوفمان
ما من شَك في أن الإتفاقية المُزمعة للتجارة الحُرّة بين الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والمعروفة باسم إتفاقية الشراكة في التجارة والإستثمار عَبر المحيط الأطلسي (TTIP)، تسلّط الضوء بِجلاء على مَواطن القوة والضّعف لحقوق الشعوب. مع ذلك، لا يُمكن لهذه العملية أن تتجنب إضفاء الصيغة عَبْر الوطنية لوسائل الديمقراطية المُباشرة الحديثة على المدى الطويل بأي حال من الأحوال.
لم تَنفرد الإنتخابات البرلمانية الأخيرة (18 أكتوبر 2015 – التحرير) في سويسرا بإظهار تقدّم القِوى السياسية الوطنية التي تبحث عن المستقبل من خلال الماضي. ومن خلال استخدام مُصطلحات مثل “هجرة الشعوب” و”دجاج الكلور” [في إشارة إلى تطهير الدجاج الأمريكي بالكلور، وهي مُمارسة مَحظورة في أوروبا] و”فوضى اللجوء” و”العدالة الموازية” و”القُضاة الأجانب” و”المفاوضات السرية”، تتم تغذية مُختلف المخاوف من كافة الأطراف، بدءً باليمين المُتطرّف وحتى أقصى اليسار.
وفي الواقع، تَحمل هذه المخاوف قاسِماً مُشتركاً مُمَثلاً (بشكل أو بآخر) بالدولة القومية الديمقراطية، باعتبارها الحُصْن المنيع في وجه أي تهديدات مُحتملة عابِرة الحدود، يمثلها المهاجرين مثلما تؤكد أحزاب اليمين أو الإتفاقيات التجارية التي تقض مضاجِع اليساريين بشكل خاص.
وباعتبارها دولة غنية تتمتّع بإدارة مُمتازة وتوازن سياسي صحي في قلب أوروبا، تُجَسِّد سويسرا مثالاً ساطِعاً على نوع التحديات التي تواجهها الديمقراطيات الحديثة اليوم في جميع أنحاء العالم. والمُهمة المطلوبة الآن، هي جعل أسُس ديمقراطيتنا الحديثة التي اكتُسِبَت بالكِفاح عبْر سنوات طويلة – المُمَثَلة بسِيادة القانون والتفويض والمُشاركة – صالحة للمستقبل، ما يعني إرساؤها عَبْر الحدود الوطنية أيضاً. ذلك أن البَديليْن المعروضيْن اليوم، عاجزَين بِقَدر ما يتّصفان بالرِّجعية أيضاً. وفي الواقع، تتواجه هناك مواءمات تكنوقراطية توصف بالمُستقلة أحيانا لتعديلات لا يمكن إجتنابها، أو مكفولة من قِبَل دول عُظمى أو تراجع إلى حدود الدولة القومية مُغَلَّف بالمقاومة الديمقراطية.
في هذا الصدد، بالإمكان توضيح كلا الخيارين بشكل جيّد في مثال معالجة سويسرا لمسألة العقود التجارية. فبهذا الخصوص، تَتَّبِع الحكومة الفدرالية منذ عقود نَهج تأمين المنافذ الحيوية للإقتصاد السويسري المتطوّر في الأسواق الأخرى، من خلال عقْد الإتفاقيات الثنائية (بين الحكومات) للتجارة الحرّة. وهنا، لا يُبدي اليمين السياسي أي اعتراض ما دام الأمر يتعلّق باتفاقات تخصّ بضائع مُحدّدة، كما يعمل على امتِصاص تذمر اليسار من خلال التدابير المُصاحبة. وقد نجحت سويسرا في إبرام والمصادقة على أكثر من 100 من هذه الإتفاقات منذ سبعينيات القرن الماضي.
ولكن، عندما تشمل هذه العقود عدّة دول في نفس الوقت ويتم – بالإضافة إلى ذلك – خلق حريات عابرة للحدود، فسوف يتطلّب ذلك في العادة تنظيم استفتاء شعبي، أي اكتساب شرعية مُستَمَدَّة من الديمقراطية المباشرة. وكان هذا هو الحال في أول اتفاق للتجارة الحرة تم التوصل إليه مع المجموعة الأوروبية في عام 1972، وكذلك عند إبرام الإتفاقيات الثنائية الأولى والثانية مع الإتحاد الأوروبي في مطلع الألفية الثالثة.
وهذا ما يجب أن يكون عليه الحال دون شك فيما لو أرادت سويسرا الإرتباط باتفاقية نافذة المفعول بالفعل للتجارة الحرّة بين الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في يوم ما. ومن المتوقّع أن تؤدي هذه الإتفاقية التي تحمل إسم ‘اتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار’ (TTIP)، والتي شُرِع في التفاوض بشأنها على جانبي المحيط الأطلسي منذ عام 2013، إلى إنشاء واحد من أكبر فضاءات التجارة الحرّة في العالم. بَيْد أن المسار المؤدّي لهذه الإتفاقية، لا يبدو مؤكّداً على الإطلاق في الوقت الراهن، بالنظر إلى الإنتقادات الكثيرة الصادرة من الجانب الأوروبي على وجه الخصوص، سواء كان ذلك حول النّهج المُتَّبَع في عملية التفاوض، أو بشأن المُحتوى المطلوب.
وفي الآونة الأخيرة، تمّ الإعراب عن هذه الإنتقادات بوضوح في جملة أمور، منها مبادرة شعبية أوروبية ذاتية التنظيم، بالإضافة إلى خروج تظاهرات احتجاج كبيرة في برلين وغيرها من المدن الألمانية [مثل ميونخ ولايبزيغ وشتوتغارت وفرانكفورت]، فضلاً عن مدن أوروبية أخرى. وكان عدد المتظاهرين في العاصمة الألمانية فقط يزيد عن 200,000 شخص.
وبالنسبة لسويسرا، التي تُفَضِّل تعزيز التجارة الحرة – إلى جانب الإتفاقيات الثنائية الخاصة بها – عَبر منظمة التجارة العالمية، لا تشكّل الأقلمة المُتزايدة للسياسة التجارية أمراً مؤاتياً هذه المرّة أيضاً. وكما كان عليه الحال مع مسألة الإندماج في الإتحاد الأوروبي أو التطورات الحاصلة بخصوص السرية المصرفية، تقِف الكنفدرالية موقف المُتفرج عندما يتعلق الأمر بتبنّي إصلاحات عابرة للحدود.
ومثلما حدث في عملية التكامل الأوروبي، سوف تُحَدَّد الآن أيضاً بعض العادات القديمة في مسار مفاوضات إتفاقية الشراكة الأطلسية و(التي يؤمل) التخلّص منها. وإحدى الأمثلة على ذلك هي آليات الحماية القانونية لاستثمارات القطاع الخاص في دول ثالثة، التي نشأت في ظل البنك الدولي. وتُعتبر مثل هذه الهيئات التحكيمية التي تجعل القرارات الحكومية المُتَخَذة ديمقراطيا موضع مساءلة، بمثابة العقبات الرئيسية أمام وَضع نهاية ناجحة للمفاوضات الخاصة باتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والإستثمار، كما قد تجد نفسها مُضطرة لإفساح المجال لحلٍّ أوسع نطاقاً من خلال محاكم تجارية عابرة للحدود.
كما توضح العقبات الحالية القائمة أمام إتفاقية الشراكة الأطلسية، إقتضاء مثل هذه المفاوضات للمزيد من الشفافية والإنفتاح في المستقبل، دون أن يتطلب الأمر تعبئة ملايين البشر ضدها.
وهكذا، تواصل السياسة العابرة للحدود تطوّرها، دون مشاركة فعلية من سويسرا، التي تُعَدّ مَرجِعاً دولياً لمزيج ناجح من الحُكم مُتَعَدِّد المستويات والديمقراطية التشاركية. وكان قد تمّ التخلي عن محاولة مُماثلة لإبرام إتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة في إطار إتفاقية ثنائية قبل أكثر من 10 أعوام، بسبب مقاومة الدوائر الزراعية السويسرية.
وبشكل عام، يعكس الوضع القائم أيضاً نقاط القوة والضعف الأساسية لحقوق الديمقراطية المباشرة للشعب كما تُمارس في سويسرا، والمُعضلة التي يتسببها لأي ديمقراطية بالتالي: فأولئك الذين يملكون القدرة على اتخاذ قرارات في إطار مجتمع مُعيّن، يجدون صعوبة في توسيع هذا الإطار.
وهذا ما كان عليه الحال مع إدخال حَق المرأة في الإقتراع، وعند خَفض سِن الإقتراع والوضع القائم اليوم بشأن مَنح حق التصويت والمواطنة لـ “الأجانب”، أو – كما هو الحال هنا – إضفاء الطابع الديمقراطي على المستوى العابر للحدود، الذي تُتَّخَذ فيه المزيد من القرارات الأكثر أهمية باستمرار.
وفي المستقبل، سوف تُحسن سويسرا صُنعاً بانخراطها بثقة أكبر من اليوم في أي مكان يُمكن أن تكون فيه التجربة الثرية لهذا البلد الصغير في قلب أوروبا، بمثابة المرجِع والإلهام. فعندما يتعلق الأمر بالجَمع بين تقرير المصير والمُشاركة، لم يَعُد بإمكاننا الإلتفاف حَول مسألة تعزيز المُمارسات الديمقراطية على المستوى العابر للحدود.
لمحة عن الكاتب: