عصر الأمم الديمقراطية
بقلم : الباحث سيهانوك ديبو
باحث أكاديمي- كردي سوري؛ عضو المجلس الاستشاري في معهد اسكندنافيا لبحوث السلام
قد نصل بُيسر إلى نتيجة مفادها بأن العالم بمجمله هذه اللحظات ينقلب يميناً ويساراً؛ عالياً وأسفله، وأن القرن الواحد والعشرين يبدو وفق هذه الانقلابات متشقلباً ليكون أشدها دموية وتدميراً، ومن المؤكد بأن ما يحدث اليوم من عواصف وأزمات سياسية لم تُخلق صدفة وإنما تحولت من شكل بسيط إلى شكل معقد آخر، وكينونة الأزمات حالها؛ حال الأمراض التي تعرضت لها البشرية وحصدت أرواح ملايين البشر: الطاعون والملاريا فيما سبق ونقص المناعة المكتسب لاحقاً وغيرها من الأمراض التي لم تكن سوى حالة فُقد السيطرة عليها وتحولت إلى شكلها الكارثي. ويمكن أن يكون مَرَدُّ الأزمات السياسية التي تجتاح بلدان الشرق الأوسط تتمنطق حول مشكلة أساسية (الخرائط أو الخربطة المتوسمة التي قسمت الشرق الأوسط قبل مائة عام) ومشاكل أقلها تأثيراً متعلقة أشدها بهذه الخربطة الاستفزازية لأصل المجتمعات وحيثية تكونها وصميمية تشكلها؛ منها النتوءات التي ظهرت في شكلها النهائي، ومنها ما يتعلق بحوامل التجميل للكوارث المستحدثة (الدول)، ومنها التنحي الحاصل لمنحى التغيير بالرغم من إطلالاته الأحادية وظهورها بحالة الانفعالية والارتجالية، ومنها تراجع دور الثقافي لمصلحة السياسوي، ومنها ما منها…. التي شكلت بمجملها حالات مرعبة خدمت الحالة المفروضة الكلية؛ التشظي.
العلاقة بين القصور السياسي والاستبداد:
في إحدى مؤلفاته؛ يظهر نيكولاي غوغول ذروة القصور المجتمعي بشكل لافت للنظر؛ حينما يصدف وجود موظف بسيط يحضر مسرح باليه ويرى بأن مديره العام قد جلس في الكرسي الذي بجانبه، والتحولات التي طرأت حينها على سيكولوجية الموظف والصراع الداخلي الذي استحذه وصل به مُعتقداً بارتكابه جريمة ستسبب بفصله من العمل لأنه سمح لنفسه أن يجلس بجانب مديره، وحتى انتهاء العرض المسرحي الذي لم يشاهد منه شيئاً؛ تملكه الصراع الداخلي ومنعه من التحرك أو حتى النظر إلى جانبه، وفي اليوم الثاني ذهب عدة مرات إلى المدير كي يعتذر عن (الخطيئة التي ارتكبها) وفي كل مرة
يمتنع المدير مقابلته بسبب انشغاله فقط، واصراره على اللقاء أودت بالمدير إلى فصله عن العمل.
الحالة الفردية في أعمال غوغول تكثيف لجسدية الثقافة المجتمعية وقصديتها العمومية، ويبدو أن القصور السياسي الذي يصبح مع الزمن من مستحاثات الاستبداد بكل أنواعه السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، فكما تبدو أن العروة بين حالة القصور وبين حالة الاستبداد وثيقة لا يمكن فصلها؛ فإن الناظر إلى الوضع السوري أو بالأصح الأزمة السورية يرى بأن الاستبداد المتحصل من زمنِ الخمسين عامٍ سبّب لدى أغلبية غالبة من الشعب السوري حالة قصوى من القصور السياسي، وهذا ما تم ملاحظته في المُراكمة للعضويات التي خالفت النظام الاستبدادي في سوريا فُسميّت عنوة بالمعارضة، وهذه المعارضة التي لم تمتلك طيلة السنوات الخمس بل طيلة السنوات الخمسين من أي مشروع نهضوي سوري (ليس بالقومي؛ ليس بالطائفي؛ ليس بالإسلاموي؛ ليس بالعسكرياتي؛ ليس بالسوري عموماً عامة)، جعل هذا النظام الاستبدادي في حالة متقدمة عن هذه المعارضة، والفرصة التي قدمها الشعب السوري في ثورة مطالبة بالحقوق والتغيير وهدم جدران الخوف المتكومة؛ كانت لها أن تتحول إلى أكبر نقطة انعطاف في تاريخ المعارضة كي تؤطر حالتها بشكليها المعرفي والسياسي؛ لكن؛ علاوة من تضييعها هذه الفرصة التاريخية، ارتكبت خطراً جسيماً حينما حولت نفسها مستفيدة من النهوض الشعبي منافسة النظام الاستبدادي بذلك إلى مجرد قناة عريضة لأجندة الخارجي والذي رأى بدوره ما يحدث في سوريا من توطئة استبدادها في محلاتها على حساب المحلة السورية.
لا شك أن توليفة الخربطة (الخرائط) الذي أدت إلى تشكيل دول نمطية حولت نفسها من خلال استبدادها بكل مؤسسات الدولة ومنها مؤسسة الدستور –المفترض- أن يكون وطنياً إلى مراسيم تؤطر شكل الدولة النمطية القوموية ورئيسها إلى حاكم مطلق كما حال كل الدول النمطية في الشرق الأوسط.
العلاقة الوثيقة بين الحرب والسلام
غياب الحلول التي تؤسس لحالة السلم والاستقرار تؤدي إلى نشوب الحروب، ونشوء الحروب بمجملها نتيجة حتمية لانسداد الطرق التي تمنع من حدوث الحروب بكل مضامينها: العسكرية، الاقتصادية، الثقافية، علماً أن اشتعال الحروب والانتهاء بها ليس من الضرورة أن تكون خاتمتها إيصال المتحاربين إلى الحلول، خاصة ما تم ملاحظته بعد الحرب العالمية الثانية التي رأى فيها بعض (مروّضي الحروب) إلى اندلاعها ورخوِّ حبالها إلى أقصى الدرجات لكن دون أن تكون منفلتة بأشدها، إذاً قد نكون أمام أشباه الحلول تحت يافطة المتدرج منها، وقد نكون أمام جولات سكون يُعتقد بأنه السلم ويُظهر كذلك؛ لكن حالة الاستعارة في أشدها، وهذا ربما يفسر الانتقال الحربيّ الساخن من الوضع المشهود الساكن؛ دفعة واحدة أو على عدة دفعات في جغرافيات تشهد على ذلك ومن بينها الجغرافية السورية، والحرب في سوريا مثال قويم على ذلك ومثال على حالة غير قويمة أنتجته، والأخيرة تتبدى في حالة التنميط الدولتي القوموي وحالة الاستبداد التي ظهرت كحامٍّ لها وعلى علاقة عضوية مرتبطة بها. وحينما يكون الحديث عن السلام السوري يجب عدم الوقوع في علاقة شرطية مقلوبة رأسها على عقب؛ خاصة؛ من خلال التقرّب من محاولات اللاعبين الأساسيين في الساحة السورية وزجهم بمجملهم في حالة التهمة القومية. بشكل عام؛ لا لائمة من مرء يحمل كيس مملوء بنوع محدد طيلة عمره ونسأله عن أمر آخر، ولا لائمة من الحشد والحشو والتفريخ الأُحادي لنظام استبدادي قاهر لمعارضته ومروض له وأن نسألهما في محطة مفصلية عن أفق حل جديد بعد نمطية أحاطت بهما طول هذا الوقت بل الزمن. والمشكلة السورية متعلقة بنشوئها وليست لها علاقة بحل إنشائي يشبه الترقيع، كما أنه ليس له العلاقة بالخلط المعرفي أن يكون الهدف هو الحل كما حال أغلبية المعارضة السورية وحالة التشدق بدولة المواطنة، ومثل هذه الحالة أشبه بالغمغمة التي تؤثر على الحديث بجرأة عن الحقوق للمكونات السورية، فحالة المواطنة هو هدف وليس نمط أو صيغة، وحالة المواطنة لا يمكن تحقيقها حين القول بأننا أمام الجمهورية (العربية) السورية، ومثل هذا التنميط يعني إقصاء آخر للشعوب في سوريا: الكُرد والسريان والآشور والأرمن والتركمان وغيرهم، وهذا يعني ممارسة أقصى أنواع التقسيم. وللخروج من هذا الدوّامة الدائمة لا بد من الاقرار أن سوريا أو الجمهورية السورية تتكون من شعوب لها الحق أن تقرر شكل الانتماء إلى الدولة الوطنية السورية وأن تدير شؤونها بشكل تقوي حالة السيادة وتشكيل الهوية الوطنية. دون خوف ودون تشكيك؛ هذه التأسيس هو ما يؤدي إلى تشكيل الأمة الديمقراطية.
الكُرد كيف يجب النظر اليهم؟
من المهم بداية أن نميز بين الكُرد أو الكورد وبين الأكراد. إن كلمة أكراد لغوياّ هي الجمع الدال على القلة، في حين أن كلمة كُرد/ كورد هي الجمع الدال على الكثرة، والقلة والكثرة مرتبطان بدورهما بمفاهيم التنميط، فالقومويين من العرب يستخدمونها دائماً ويريدون من خلالها الاستدلال بأن الكرد في سوريا هم مجرد أكراد وبحسبهم هم أقلية مهاجرة لا أصل لها في سوريا، وهم مغادرون من تركيا (التنميط القوموي أيضاً) بسبب الحرب والإنكار ووجدوا في سوريا ملاذاً لهم، وهذا ما رددته صنوف كثيرة من المعارضة بشكل لا يختلف مطلقاً مع ممارسات النظام طيلة فترة استبداده، ومنهم من تحدث عن الكرد بأنهم مهاجرون من اليمن ومنهم من شبهه بحال الأقليات المهاجرة في فرنسا…. كما هو الحال المعهود بالنسبة للأنظمة في الشرق الأوسط: أتراك الجبال، ومرتدون فاسقون في إيران. كما يمكن الاستدلال الصريح للفظ الأكراد دليل الدونية والتقسيم الحاصل في مواطنة الاستبداد؛ أي؛ مواطنو الدرجة الثانية، وفي سوريا البعث تحديداً تحولوا منقسمين إلى مواطني الدرجة الثالثة أيضاً وخاصة بعد مشروع الفصل العنصري الرهيب وتجريد حوالي 120 ألف من الكرد في سوريا من جنسيتهم، والبعض منهم مات وهو مكتوم القيد (درجة رابعة للمواطنة)، وحالة الدونية هذه خلقت حالات صعوبة مزمنة تُصَعِّبُ من عملية إعادة الثقة بأي هدف ننحو إليه كسوريين وكَكُرد أمام هذا الحجم الكبير من النمطية القسرية الذي خلقتها النظام القوموي وأكملتها المعارضة القوموية، ويبقى السؤال هل فشلت الأحزاب الكردية بمجملها من تعديل هذه النظرية بسبب الشكل التقليدي الذي أظهرته حين الطرح؟ أم بسبب تحصن الفكر التقليدي والنمطية التي مانعت من تقبل مثل هذا الطرح؟
جدوى البحث عن الإجابة في غير محله، خاصة أن الطرفين أو الأطراف تمتلك في جعابها الكثير من الحجج من أجل تفنيد مقابلها، وبخاصة أن ميزة شعوب الشرق الأوسط مازالت تتحجج ولا تحاجج، وتجاهد ولا تجتهد، وتطوّق ولا تنفتح؛ إنه التأطير … إنها الأمم النمطية التي أطالت النظر على الكرد وأصرّت بأنهم أوراق أمنية لضرب أمن بلدان غيرها. هذه النظرة يجب أن تتغير بشكل قطعي كامل، والكرد هم شعب تناستهم لعبة الأمم أو نسيانهم لذاتهم العاجزة جعلهم في نتيجة اليوم الذي يؤكد-خلاف ما حدث- بحالة انتقال قويمة يعيشونها ويستطيعوا أن يكونوا شركاء لغيرهم من مكونات الشرق الأوسط: عرباً وفرساً وتركاً وليس أعراباً وأتراكاً وأفراساً؛ لهم ولغيرهم من مكونات الشرق الأوسط برمته؛ إذْ كانت المائة عام الأخيرة من الدماء لم تجلب معها إلا المزيد من الدماء وتُبشر بالمزيد منها في حال طغيان جبروت التوحد النمطي الدولتي مرة أخرى. وإذْ يكمن الحل بالتفكير سويّة للتأسيس بممهدات الدالة على الأمم الديمقراطية كأنجع الحلول وأنجحها، والبحث –ذهنياً- منذ الآن في تشكيل الإدارات الذاتية الديمقراطية؛ تعتبر أيضاً بمثابة المبادرة الكبرى في تاريخ الشرق الأوسط وتعتبر خارطة الحل العظيمة التي تنتظر الجميع حتى العيش بأمان.
من المهم هنا أن لا يطلب أحدٌ من الكُرد أن يكونوا كما يريد الآخرين أن يكونوا، ومن المهم جداً أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم كيفما ينتمون إلى سوريا.. إلى العراق.. إلى تركيا… إلى إيران.
لأننا بالفعل أمام عصر الأمم الديمقراطية.
لمحة عن الكاتب: