التنظيم الإداري في المغرب بين الفكر الإسلامي وارض الواقع
اعداد : الحسن بن الحسين بن محمد الفرياضي
مما لا شك فيه أن دراسة النظم الإدارية في الفكر الإسلامي هي الاتجاه الرشيد الذي تنشده الإنسانية، لان القيادة الإدارية في الإسلام تتسم بأنها: “قيادة سوية لا هي متسلطة فظة وفق الاتجاه المتطرف في الفكر الإداري العلمي، ولا هي قيادة متراخية غير مبالية وفق الاتجاه المتطرف في الفكر الإداري الإنساني، بل نجذها بين ذلك قواما”[1].
ويتمثل هذا الاتجاه السوي في القيادة الإسلامية في قوله تعالى مخاطبا رسوله الكريم – باعتباره قائد الأمة الإسلامية – : (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)[2].
وفي ضوء هذا المنهج القويم للإدارة الحكيمة، سيكون الحديث في هذا المطلب عن المقارنة بين التنظيم الإداري وفق النموذج المغربي، والتنظيم الإداري في الفكر الإسلامي، وذلك من اجل قبول ما يتفق منه مع الإسلام ورفض ما لا يتفق معه.
ومن المعلوم أن المشرع المغربي – لا سيما بعد صدور الدستور الجديد للمملكة في: 30 يوليوز 2011م- قام على المزج بين أسلوبي المركزية واللامركزية في تنظيمه الإداري، ومن هنا يسأل سائل عن طبيعة وظائف كلا الأسلوبين؟
والجواب، أن: ( المركزية تعني استحواذ السلطة في يد جهة أعلى، سواء أكانت فردا أم جماعة، على أن تكون هي وحدها صاحبة كل القرارات، وعلى الجهات الأخرى الأدنى القيام بتنفيذها فقط بموجب التعليمات المرفقة بها أيضا.
أما غير المركزية فهي تفويض اكبر قدر ممكن من هذه السلطة الخاصة بالجهة العليا إلى جهات أدنى بما يمكنها من التصرف بصورة أسرع في القيام بأعمالها)[3].
ولا شك أن السلطات الأساسية التي تتولى ممارسة وظيفة الإدارة المركزية في الدولة المغربية، هي: الملك والحكومة، في حين يرتكز نظام اللامركزية على الجماعات الترابية التي تتولى الأمور والقضايا ذات الطابع الجهوي والإقليمي والجماعي[4].
وبالرجوع إلى الدستور الجديد لسنة 2011 م، والذي أتى بمقتضيات جديدة تؤطر المجال الإداري، لا سيما ما يهم الإدارة اللامركزية، حيث نص بضرورة الارتقاء وتفعيل الجهوية المتقدمة التي هي عبارة عن: (جماعة ترابية خاضعة للقانون العام، تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال الإداري والمالي، وتشكل احد مستويات التنظيم الترابي للمملكة، باعتباره تنظيما لا مركزيا يقوم على الجهوية المتقدمة)[5]، وبالرغم أن هذا القانون ينص صراحة على أن نظام اللامركزية في المغرب يتمتع بالشخصية المعنوية العامة، والاستقلال الإداري والمالي، إلا أن هذا الاعتراف يبقى فقط شكلي يمكن الاستغناء عنه في ظل الاختصاصات الواسعة التي منحها الدستور للملك في هذا المجال، حيث: (يقوم الملك بدور رئيسي وأولي في النظام السياسي إذ بمقتضى الفصل 41 من الدستور الجديد ل: 2011 يمارس الملك اختصاصات دينية حصرية بصفته أمير المؤمنين، ويعد بذلك حامي الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية، ويتولى رئاسة المجلس العلمي الأعلى، ويمارس الملك هذه الصلاحيات المخولة له حصريا، والمتعلقة بإمارة أمير المؤمنين بمقتضى ظهائر.
وبموجب الفصل 42 من الدستور الجديد تم التأكيد على الاختصاصات الدستورية التي تحدد مكانة الملك كرئيس للدولة وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضمان دوام الدولة، واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، والساهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة، كما أن جلالة الملك وطبقا لمقتضيات الفصل 42 من الدستور الجديد هو الضامن لاستقلال البلاد، وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة، ويمارس جلالته مهامه السيادية والضمانية والتحكيمية بمقتضى ظهائر من خلال السلطات المخولة له صراحة بنص الدستور.
وتبعا لباقي فصول الدستور الجديد ل: ،2011 يمارس جلالة الملك اختصاصات أساسية في مختلف المجالات التشريعية والقضائية والتنفيذية، بما فيها المجال الإداري، مما يؤكد السمو الدستوري للمؤسسة الملكية التي تعلو كل السلطات، ومنها السلطة التنفيذية التي يعد جلالة الملك رئيسها الفعلي، ويمارس اختصاصاته كرئيس للدولة بمقتضى نصوص دستورية صريحة)[6].
وبعد قراءة طبيعة التنظيم الإداري المغربي في ضوء الدستور الجديد، يمكن الآن مقارنته بالتنظيم الإداري في الفكر الإسلامي، فما هي طبيعة الإدارة في الفكر الإسلامي، هل هي مركزية أم لا مركزية؟
إن التراث الإسلامي حافل بنماذج مختلفة في مجال التنظيم الإداري، وفي هذا السياق يمكن تقديم كتاب: “الأحكام السلطانية” للماوردي (ت: 450هـ/1058م)، كنموذج متميز لما ألف في أصول الإدارة في الحكومة الإسلامية، حيث: (يعالج من الموضوعات ما تتناوله اليوم احدث مؤلفات الإدارة العامة، أو الإدارة الحكومية، فهو يعرض لرئاسة الدولة أو ما يعرف في الدولة الإسلامية بالإمامة، كما عرض للوزارة، وللديوان وأقسامه، وعرض كذلك للحكم المحلي عندما تكلم في تقليد الإمارة على البلاد، وشمل بدراسته الرقابة سواء ما كان منها على عمال الإدارة بمعرفة ديوان المظالم أو ما كان على نشاطات الأفراد بوجه عام عن طريق نظام الحسبة، فضلا عن دراسته لموضوعات الإدارة المالية في الدولة الإسلامية)[7].
وكل ما يمكن أن نستخلصه من هذا الكتاب فيما يتعلق بالسؤال الذي طارحناه آنفا عن طبيعة التنظيم الإداري في الفكر الإسلامي، أن الإدارة في الإسلام لم تكن إدارة مركزية بصورة مطلقة، كما أنها لم تكن إدارة لا مركزية بصورة مطلقة، حيث تحدث الماوردي في الباب الأول من هذا الكتاب عن واجبات الإمام العامة التي فيها تفويض الأعمال لنصائحه، ولذوي الكفاية، والأمانة، ومتابعة المفوض إليه، كما انه أجاز للعمال أن يستخلفوا في بعض اختصاصاتهم وتحت إشرافهم ومسؤوليتهم[8].
وبهذه المقارنة يتضح أن التنظيم الإداري وفق النموذج المغربي له صراحة سند شرعي في التراث الإسلامي، لكن التراث الإسلامي لا يتلاءم دائما بالضرورة ظروف المجتمع الإسلامي في كل زمان ومكان، وبخاصة إذا كان هذا التراث من الأمور الاجتهادية، لذلك ترك الإسلام للمسلمين حرية التنظيم الإداري لما يناسب ظروف مجتمعهم في كل زمان ومكان، على أن يكون ذلك في إطار الشرع الحكيم، وفي هذا الصدد يشير الدكتور “محمد القطب”: (ويجب – بهذه المناسبة – أن نتنبه إلى شيئين: أولهما أن الإسلام في شؤون الإدارة والحكم، وفي شؤون كثيرة غيرهما، لم يأت إلا بكليات ومبادئ عامة، أما التطبيقات والتفصيلات فهي متروكة للأجيال، يجتهدون فيها بما يتفق والمصلحة العامة، هذه المصلحة التي تتغير عادة بتغير الزمان والمكان، وكل الشرط في هذا الشأن أن يكون هذا الاجتهاد في إطار تلك المبادئ العامة والكليات.
وأما الشيء الثاني – وهو مبني على الأول – أن كل اجتهاد – بالشرط المتقدم – ولو بالنقل عن الغير، هو جزء من الشريعة التي تتسع باستمرار لكل ما يصلح شؤوننا دنيا وأخرى)[9]، ومن هنا نجد – وبالرغم من السند الشرعي للتنظيم الإداري المغربي في التراث – أننا بحاجة إلى إعادة قراءة هذا التراث قراءة تساير المبادئ الديمقراطية التي يدعوا إليها الإسلام، إذ أن هذا النموذج الذي تحدث عنه الماوردي وان كان صالح لفترة زمنية في الماضي، يطل في هذا العصر بعيد المنال تحقيقه، وذلك لان التطور في النظم الإدارية اليوم تدعوا إلى فصل الصلات، واستقلال القضاء، فنجد مثلا في التنظيم الإداري الانكليزي أن البرلمان: ( قلما يتدخل للانتقاص من حرية الهيئات اللامركزية، وإذا ما تدخل فيكون غالبا لصالح تلك الهيئات، بان يمنحها اختصاصات أوسع لم تكن لديها من قبل، في حين للقضاء الانجليزي – القضاء العادي – حق إجبار الهيئات اللامركزية على احترام القانون وعدم مخالفة أحكامه، إذ لا يقف دوره عند حد إلغاء القرارات الإدارية الفردية والتنظيمية المخالفة للقانون، بل يجوز له أن يصدر إلى الإدارة وموظفيها الأوامر، والنواهي الملزمة أيا كانت السلطة المصدرة لها، إدارة مركزية أو لا مركزية)[10]، فهل يجوز للقضاء المغربي إلغاء الظهائر الملكية أو تعويضها؟
المصادر والمراجع:
1- الدكتور إبراهيم كومغار، التنظيم الإداري وفق النموذج المغربي، دار العرفان للنشر والتوزيع – اكادير، طبعة 1438 هـ /2016م.
2-الدكتور حمدي أمين عبد الهادي، الفكر الإداري الإسلامي والمقارن، دار الفكر العربي للطبع والنشر، الطبعة الثالثة، 1990م.
3- احمد بن داود المزجاجي الاشعري، مقدمة في الادارة، الطبعة الاولى، 1421 هـ / 2000م.
4- الدكتور القطب محمد القطب، نظام الادارة في الاسلام: دراسة مقارنة بالنظم المعاصرة، دار الفكر للطبع والنشر، الطبعة الاولى، 1398 هـ / 1978 م.
5- الدستور الجديد للمملكة المغربية الذي صدر في: 30 يوليوز 2011م.
6- القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات.
7- أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق الدكتور احمد مبارك البغدادي، الطبعة الأولى، 1409 هـ/1989م، مكتبة دار ابن قتيبة – الكويت.
[1] – الفكر الإداري الإسلامي والمقارن، ص:179.
[3] – مقدمة في الإدارة، ص: 114.
[4] – انظر: الفصل 135 من الدستور المغربي الجديد.
[5] – انظر: المادة 3 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات.
[6] – التنظيم الإداري وفق النموذج المغربي، ص:44
[7] – انظر: الفكر الإداري الإسلامي والمقارن، ص:192.
– انظر: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، للماوردي. [8]
[9] – نظام الادارة في الاسلام، ص:12.
[10] – التنظيم الاداري وفق النموذج المغربي، ص:34-35.