الدراسات البحثيةالعلاقات الدولية

مبدأ الرضائية في القانون الدبلوماسي

تأليف: صديقي سامية – باحثة في القانون الدولي والعلاقات الدولية – الجزائر 

  • المركز الديمقراطي العربي

 

 

تعتبر الدبلوماسية في الوقت الراهن وسيلة لتنظيم الحياة الدولية وليست فقط أداة لانفتاح الدول على بعضها البعض لاسيما وأن توجهات السياسة العالمية اليوم أصبحت متوجهة نحو السلام و الأمن و الإستقرار و معالجة أية خلافات عن طريق الحوار والتفاوض و العلاقات المتبادلة بدل من استخدام العنف و الحروب بين البشر، والدول لديها الحرية الكاملة والمطلقة في دخول في علاقات دبلوماسية مع من تشاء من الدول وبرضاها الكامل و بدون أية ضغوط من طرف أجنبي على أساس أن الدول تتمتع بحق المساواة في السيادة ، وعليه فإن الرضا يعتبر عنصر هام و جوهري في إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدول ، وأحد مظاهر سيادة الدولة و أحقيتها في إدارة شؤونها الداخلية و الخارجية.

يناقش هذا الكتاب موضوع مبدأ الرضائية لإقامة علاقات دبلوماسية من أجل توضيح أن كل دولة تملك حق إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى بإرادتها الحرة باعتبار أن التمثيل الدبلوماسي مظهر من مظاهر سيادتها، و يتم إقامة هذه العلاقات باتفاق بين دولتين صاحبتي الشأن أي أنه لا إلزام على الدول في ذلك و أن إيفاد دولة لبعثاتها لدى دولة أخرى لا يكون إلا بتراضي بين دولتين، و أنه لا يمكن أن يفرض على دولة ما قبول بعثات دبلوماسية أجنبية على إقليمها إذا لم تكن راغبة في ذلك ، و لكل دولة لها أن تحدد الأوضاع و الشروط الخاصة بقبول بعثات دبلوماسية لدول أخرى لديها من حيث عددهم و دوائر اختصاصهم و مدى هذا الاختصاص، وهو ما أكدته المادة  الثانية من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية  1961 التي نصت على أن« إقامة العلاقات الدبلوماسية و إرسال بعثات دبلوماسية دائمة يتم بالرضا المتبادل ».

ميزت المادة الثانية من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية 1961 بين وضعين هما إنشاء العلاقات الدبلوماسية و إرسال البعثات الدبلوماسية الدائمة على أساس أن الحالة الثانية لا تكون إلا تنفيذا لآليات التي رسمتها الأولى ، و أنه إذا كانت إقامة العلاقات الدبلوماسية تتطلب عنصر الرضا المتبادل و الاتفاق بين الدول فإن إرسال و استقبال بعثات دبلوماسية دائمة يتطلب أيضا عنصر الرضا المتبادل ،و هذا ما يتأكد من خلال التميز بين نظام الدبلوماسي الدائم و نظام الدبلوماسي المؤقت حيث تنص اتفاقية فينا للبعثات الدبلوماسية الخاصة لسنة 1969 على أن الدول بإمكانها إرسال و استقبال بعثات دبلوماسية خاصة بعد موافقة متبادلة بين بعضها البعض دون أن يكون هناك ضرورة لوجود علاقات دبلوماسية أو قنصلية بينها.

و تكمن أهمية مبدأ التراضي في دوره الهام في تكريس المساواة في الحقوق و الواجبات بين الدول المعنية، و الذي نادت به معظم المواثيق الدولية كميثاق الأمم المتحدة لسنة 1945و كذا الإعلان الخاص بمبادىء القانون الدولي الخاص بعلاقات الصداقة و التعاون بين الدول لسنة 1970 ، كون أن مباشرة التمثيل الدبلوماسي ليس حقا تملكه الدولة المرسلة أوإلتزام  يقع على عاتق الدولة المرسلة لديها، بل هو رخصة ممنوحة لكل دولة تتمتع بسيادة كاملة و استقلال تام  لها حرية في استعماله او تركه  ، كما أن أي دولة غير ملزمة بأن تكون لها بعثات دبلوماسية في الخارج، أو بأن تستقبل لديها ممثلين لدول أخرى.

وعليه فإن الإشكالية التي يمكن أن يطرحها الموضوع تتمثل في:

أين تكمن مظاهر موافقة الدولة عند دخولها في العلاقات الدبلوماسية مع دول أخرى ؟.

وللإجابة على هدا التساؤل  فقد ارتأيت أن تتم معالجة هذا الموضوع الهام من خلال محورين نتناول في المحور الأول إقامة العلاقات الدبلوماسية، ونتطرق فيه إلى وجهة تطور العلاقات الدبلوماسية، وكذا الشروط التي يجب توافرها من أجل إقامة العلاقات الدبلوماسية ، أما المحور الثاني نعالج فيه مسألة إيفاد البعثات الدبلوماسية،ويتم دراسته في إطار جانبين  نتحدث في الجانب الأول عن تشكيل البعثات الدبلوماسية،والثاني عن الحصانات والامتيازات الدبلوماسية .

الفصل الأول : إقامـة العلاقــات الدبلوماسيــة

برزت أهمية العلاقات الدبلوماسية مع التطور الكبير الذي شهده العالم ، وتعددت أشكالها وتنوعت أنماطها ، نتيجة لأهمية العلاقات بين الدول ، واهتمام الحكومات بالبعد الدولي في تطوير علاقتها  مع بعضها البعض، كما عرفت الدول تطورا كبيرا في إقامة العلاقات الدبلوماسية بينها وتنوعت أشكال الاعتراف المتبادل، ويعتبر مبدأ الرضائية من أهم المبادئ التي قامت عليها العلاقات الدبلوماسية باعتبار أن جوهرها هو اتفاق على كيفية التمثيل و شروطه ومستواه بالرضا المتبادل بين الدولتين المعنيتين بذلك، وعليه نعالج هذا الفصل في مبحثين حيث نتطرق في المبحث الأول إلى تطور العلاقات الدبلوماسية، أما المبحث الثاني تناول فيه شروط إقامة العلاقات الدبلوماسية بين دولتين.

المبحث الأول : تطور العلاقات الدبلوماسية بين الدول

تعرضنا في هذا المبحث إلى تطور العلاقات الدبلوماسية بدءا من صورتها الأولى المتمثلة في إقامة العلاقات الدبلوماسية المؤقتة أو ما يعرف بالدبلوماسية المتنقلة، كون أن البعثات التي كانت ترسل في ذلك الوقت تقوم بمهام محددة، فإذا أنجزتها عادت إلى أهلها، مرورا إلى المرحلة الثانية التي عرفت فيها العلاقات الدبلوماسية تطورا هائلا نتيجة الانتقال إلى صورة التمثيل الدبلوماسي الدائم ( المطلب الأول )، لنعرج بعد ذلك إلى الحديث عن الأسس القانونية التي يستند إليها لإقامة العلاقات الدبلوماسية الدائمة (المطلب الثاني).

المطلب الأول: التطور التاريخي لإقامة علاقات دبلوماسية

إن الدراسة التاريخية لإقامة علاقات دبلوماسية من أقدم النظم التي عرفتها المجتمعات القانونية الأولى، فمنذ الوهلة الأولى التي وجدت فيها على سطح المعمورة مجموعتان إنسانيتان أو أكثر تتمتع كل منهما اتجاه الأخرى بالاستقلال في شؤونها الداخلية وعدم هيمنة إحداها على الأخرى، كان لابد من وجود مصالح مشتركة تحتم عليهما الاتصال ببعضهما عن طريق الرؤساء السياسيين لهذه الوحدات، أو الممثل الذي يملك التحدث أو التفاوض باسم الجماعة التي ينتمي إليها،وقد مرت العلاقــات الدبلومـاسية بمرحلتين :

أولا : مرحلة إقامة علاقات دبلوماسية مؤقتة

إن الدبلوماسية التي عرفتها المجتمعات الأولى كانت دبلوماسية غير دائمة، بمعنى أن الشعوب كانت ترسل وتستقبل البعثات الدبلوماسية كلما كانت هناك مشكلة قانونية أو مسألة تهمها، فإذا انتهى حل المشكلة أو المسألة عاد المبعوث إلى جماعته، دون أن يكون هناك من يمثل هذه الجماعة ويقيم بصفة دائمة على إقليم الجماعة الأخرى.

و التاريخ أثبت أنه كان ثمة اتصال بين الجماعات البدائية التي أدركت بحكم ظروفها الاقتصادية والاجتماعية جدوى تحقيق المصلحة المشتركة عن طريق المفاوضات وعقد اتفاقيات بعيدا عن ميدان القتال وأعمال الغزو.

وقد عرفت شعوب منطقة الشرق الأوسط في العصور القديمة إقامة علاقات دولية ودبلوماسية ناشطة ، حيث كانت الأرض مابين نهري دجلة والفرات إلى وادي النيل، محاطة بمدن صغيرة ودويلات مدنية، أكبرها إمبراطورية الكلدانيين أو البابليين لجهة دجلة والفرات وإمبراطورية الفراعنة لجهة نهر النيل بمصر، وتميزت العلاقات في هذه المرحلة بسمات المجتمع الآسيوي التى شكلت القاسم المشترك لحضارات واسعة تمتد من مصر إلى سوريا وبلاد فارس حتى الهند الصينية  ، وباعتبار أن السلطة كانت مركزة في يد الحاكم أو الملك الذي يجسد الدولة، فإن العلاقات الدولية والدبلوماسية كانت تنفذ لخدمة السياسة الخارجية التي يحدد أهدافها الأباطرة والملوك، بيدا أن العلاقات بين شعوب هذه المدن لم تقتصر فقط على أعمال القتال أو الغزو بل كانت هناك علاقات سليمة، تنظم حسب اتفاق أو تعاهد يجرى بعد التفاوض عن طريق رسل أو مبعوثين تتوفر فيهم صفة الكفاءة والنزاهة، وكانت ضيافتهم وحسن استقبالهم من مستلزمات الجو الودي الذي يجب أن يتوفر في أية مفاوضات ناجحة، لذلك  كانوا محل اعتبار ورعاية خاصة عندما يتم إيفادهم للاتفاق على شروط الصلح أو الهدنة أو تبادل الأسرى وفديتهم أو إبرام معاهدات التحالف العسكري ضد العدو المشترك ومعاهدات عدم الاعتداء.

شهدت العلاقات الدبلوماسية في العصر الإغريقي بالتنوع في أساليب ممارستها وقد مرت بثلاث مراحل تمثلت المرحلة الأولى في مرحلة المنادين أو حملة الأعلام البيضاء حيث أصبغت على هؤلاء سلطات شبه دينية و وضعوا تحت حماية الإله هرمس، الذي يمثل السحر والحيلة والخداع ويقوم بدور الوسيط بين العالم العلوي والعالم السفلي، حيث كان الدبلوماسي المنادي يستخدم كرسول لإعلان رغبة السيد أو الملك حول موضوع معين والتفاوض بشأن بعض الأمور، ويشترط في الشخص الذي يقوم بوظيفة المنادي أن يكون صاحب حنكة وذاكرة قوية وصوت جوهري، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الخطباء وهي مستوى أعلى من مستوى المنادي، وكان اختيار المبعوثين من بين الخطباء والفلاسفة والحكماء وهي مرحلة الدبلوماسي الخطيب، و فيما يخص المرحلة الثالثة هي مرحلة ازدهار نظام الدولة المدنية الذي أوجد المئات من الدول المجاورة ذات مصالح مشتركة و على هذا الأساس سعت هذه المدن إلى إيجاد قواعد عامة تنظم العلاقات الدبلوماسية بينها في زمن السلم والحرب.

هكذا يلاحظ أن الإغريق قد عرفوا نظاما مميزا في إقامة العلاقات الدبلوماسية، حيث عرفوا مبدأ التسوية بالتــراضي أو المصـالحة التي تشير إلـى الرغبة في وقف الأعمــال العـدوانـية و إقامة علاقات ودية أساسها التفاهم و الترابط، كما عرفوا الاتفاق أي الهدنة المحلية المؤقتة، ثم عرفوا نوعا من التقارب بعقد اتفاقيات علنية إلى جانب التحالف، و الهدنة المقدسة التي تعقد في فترة الألعاب الأولمبية، ومنه فإن الشعوب الإغريقية ساهموا إلى حد كبير في تنظيم الدبلوماسية قبل إقامة التمثيل الدبلوماسي الدائم.

أما الدبلوماسية الرومانية فقد اعتمدت على مبدأ السيطرة وإخضاع الشعوب الأخرى، وكيفية استيعابها و صهرها في البوتقة الرومانية، حيث أدى تفوقهم العسكري إلى فرض إرادتهم على الشعوب و القبائل المهزومة و انعكس ذلك على نظرتهم للمعاهدات و أساليب عقدهـا ثم الإصرار على احتـرامـها  ، إذ  لم تكن المعـاهدات عندهم تعبيرا عن إرادة حـرة و المصلحة المتبادلة للطرفين المتعاقدين ، بقدر ما هي فرض لإرادة المنتصر على المغلوب و وثيقة اعتراف بمصالحة و التقيد بها لخدمتها ،  فكانت تعد المعاهدات و تطلب توقيعها من السفير الممثل للطرف الآخر المقيم بروما.

ولقد قامت تلك الدبلوماسية علي اسس ترتكز عليها:

  • أن تعيين السفراء يتم من طرف مجلس الشيوخ، الذي يزودهم بالتفويض و التعليمات اللازمة، و يختارهم من الشخصيات البارزة على مستوى أعضاء المجلس ، وعلى هذا الأساس تكون البعثة الدبلوماسية بمثابة لجنة تمثل مجلس الشيوخ و يتراوح عددها بين شخصين و عشرة أشخاص.
  • قيام مجلس الشيوخ بقبول سفراء الدول الأجنبية والاستماع إلى مطالبهم، وله الحق في حالة رفض مقابلة أي ممثل دبلوماسي منحه مهلة زمنية للمغادرة، فإن تجاوزها يفقد حصانته الدبلوماسية .
  • تقديم السفراء تقارير عن مهامهم إلى المجلس لمناقشتها و التصويت عليها بالموافقة أو الرفض.
  • منح المبعوثين الدبلوماسيين الأجانب حصانات كحمايتهم من أي اعتداء عليهم أو على ممتلكاتهم ، وقد اعترف بذلك قانون الشعوب غير أن الحصانة لا تمتد إلى أسرهم و خدمهم .

كما أن الدولة الإسلامية عرفت منذ فجر الإسلام إقامة علاقات دبلوماسية مع الخارج ، و تميزت الممارسة الدبلوماسية للدولة الإسلامية  بعدة خصائص منها:

  • كان السفير شخصية مميزة يتم اختياره من طرف الخليفة، ومن بين الشروط المطلوب توفرها فيه ما يتعلق بالثقافة ورجاحة العقل والوسامة و نفاذ الرأي و القدرة على كظم الغيظ .
  • كان على السفراء إذا ما عادوا من مهمتهم رفع تقارير مفصلة إلى الخليفة عن البلاد التي أرسلوا إليها ، و يتعرضون فيها للأوضاع السائدة في تلك البلاد بدقة محكمة.
  • كانت الدولة الإسلامية تستقبل المبعوث الدبلوماسي على حدودها وفي حالة اصطحابه إلى العاصمة فإن هذا يعد بمثابة الموافقة على اعتماده في المهمة الموكلة إليه ، و يقام عند استقباله الكثير من المراسيم ،كما يترك في دار الضيافة ثلاثة أيام قبل مقابلته للخليفة.
  • حرصت الدولة الإسلامية على تزويد سفراءها بوثائق تسمى تذاكر، تشبه إلى حد كبير بما يعرف حاليا بكتاب الاعتماد، وتتضمن أسماء وصفات السفراء و طبيعة مهامهم، و التي تسهل عملية تنقلهم ويقومون بتقديمها إلى الحكام الموفودين إليهم .

ثانياً: مرحلة إقامة علاقات دبلوماسية دائمة        

إن أهم تحول يمكن اعتباره نقطة انطلاق في الدبلوماسية الحديثة ، هو تعيين السفراء الدائمين الذي ظهر نتيجة تغير الدول وحاجاتها وأحوالها ، وتعود أول ممارسة لنظام البعثات الدبلوماسية الدائمة للمدن الإيطالية  .

ولقد تمكنت فرنسا من إدخال العديد من الأمور الخاصة بالعمل الدبلوماسي و تطويره، وكل ذلك يعود إلى الشخصية الفذة الكاردينال ريشيلو ( C.Richélien ) الذي كان أول من اعتبر أن فن المفاوضات يجب أن يكون نشاطا دائما وليس مجرد مسعى عاجل  ، وحتى تكون فعالة فإنه لابد أن يكون توجيه السفراء و الإشراف عليهم مركزا في يد وزير واحد، فجعل هذه المهمة وفقا لمرسوم 11 مارس 1926 من اختصاصه ،وبذلك تكون فرنسا سباقة إلى تأسيس أول جهاز مركزي دائم لرسم السياسة الخارجية بهدف الإشراف على إقامة علاقات دائمة ومستقرة مع الدول الأخرى .

أما التطور الحقيقي للعلاقات الدبلوماسية كان بعد الحرب العالمية الأولى التي أرست الدبلوماسية العلنية التي تهدف إلى إرساء و توطيد دعائم السلم الدولي الدائم، فلم تعد العلاقات الدبلوماسية مقوقعة في قالب واحد يقتصر على القارات الأوربية بل أصبحت تقام في وسط دولي متعدد الأنظمة السياسية و الاقتصادية و متعدد التنظيمات الدولية و الإقليمية، كما لم يعد التمثيل السياسي البروتوكولي هو الوظيفة الرئيسية للدبلوماسية ، بل أصبحت الوظيفة الدبلوماسية متشعبة و متداخلة في مجالات مختلفة سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو ثقافية أو في المجال التكنولوجي الفني..

المطلب الثاني : القواعد القانونية التي تحكم إقامة علاقات دبلوماسية

إن إقامة علاقات دبلوماسية بين الدول غرضها توطيد روابط الصداقة و المودة التي تجمعـهم لتمتين أواصـل التعـاون في المجـالات المختلفة من أجـل تحقيق مصـالح مشتـركة ، و العلاقـات الدبلومـاسية لن تكون نـاجحة إن لم تستند إلى قـواعد و أحكـام تنظمـها و التـي تجـد مصدرهـا من العرف ، و كـذا من الاتفـاقيات العـامة و الثنـائية ، إضافة إلى القانون الداخلي .

أولا :العرف الدولي               

يحتل العرف مكانة مرموقة بين مصادر القانون الدولي، كون أن المجتمع الدولي لم يكتمل له بعد مقومات التنظيم القانوني، فهو يفتقد إلى وجود السلطة التشريعية و السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ، بالمعنى المتعارف عليه في المجتمعات القانونية الداخلية المعاصرة وهذه المكانة تبرز بوضوح في حقل القواعد التي تحكم العلاقات الدبلوماسية  ، التي ضلت إلى وقت قريب خاضعة لقواعد و تقاليد العرفية كون أن الشرائع الدينية اعتبرته منذ البداية مرجعا للقواعد التي تحكم معاملة السفراء كتلك المتعلقة بحمايتهم و عدم الاعتداء على شخصهم و أموالهم على أساس أن « مقتضيات الوظيفة » و الغرض من إيفاد البعثة كان هو المبرر لمعاملة الرسل في العصور القديمة بمعاملة خاصة ، ثم اقترنت بالتدرج هذه الحصانـات و الامتيـازات بالعقيدة الدينية و أصبح لهـا صفة القدسـية ، فبعد أن كـان أساسهـا وظيفيا تفرضه الضرورة العلمية أصبح دينيا تأمر به الآلهة فكل الشعوب المتمدينة على مختلف ديـاناتها و معتقداتها كـانت تراعي هذه الحرمة بدقة محكمة خوفـا من غضب الآلـه و انتقامها إن هي أخلت بها  .

ثانياً : الاتفاقيات الدولية 

تعتبر الاتفاقيات الدولية الخاصة بالشؤون الدبلوماسية من المصادر الأساسية للقواعد التي تحكم العلاقات الدبلوماسية، و تصنف من حيث أهميتها و تأثيرها إلى  الاتفاقيات العامة و الاتفاقيات الخاصة .

  • الاتفاقيات العامة

المقصود بالاتفاقيات الدولية العامة أو جماعية و التي يطلق عليها بعض الفقهاء اصطلاح الاتفاقيات الشارعة ،الاتفاقيات التي تتضمن قواعد قانونية دولية واجبة الاحترام أي ملزمة لعدد كبير من الدول  ، ومن ثم فهي شبيهة بالقانون الداخلي الذي من أخص صفاته العمومية     وتعتبر اللائحة التي أقرها مؤتمر فينا بتاريخ 19 مارس 1815 أولى النصوص الدولية التي وضعت بشأن التمثيل الدبلوماسي، كونها وضعت حدا لفوضى الألقاب و المراتب الدبلوماسية فبعد أن كان يطلق على الدبلوماسيين شتى الألقاب و الأسماء مثل الوكلاء أو ممثلي البابا و خطبـاء و القاصدين الرسولين و النواب والسفراء حصرت الممثلين الدبلوماسيين في ثلاث درجات هي :

– سفراء و وكلاء البابا و القاصدون الرسولين.

– المندوبون و الوزراء المفوضين

– القائمون بالأعمال.

وهناك اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 التي تعتبر الأرضية الأساسية التي تنبثق منها القواعد الأساسية التي تحكم العلاقات الدبلوماسية قس الوقت الحالي حيث أكدت هذه الاتفاقية على أن إقامة العلاقات الدبلوماسية و إيفاد البعثات الدبلوماسية الدائمة لا ينشأ إلا بالرضا الدولتين الرغبتان في تبادل التمثيل الدبلوماسي، و على هذا الأساس وفقت بين مصالحتهما لاسيما في توفير ممارسة الاختصاص لكل منها على إقليمها

  • الاتفاقيات الثنائية

إن الاتفاقيات الثنائية التي تبرم بين دولتين لا أثر لها في خلق قواعد عامة تحكم العلاقات الدبلوماسية، و سبب في ذلك راجع إلى طبيعة هذا النوع من الاتفاقيات و إلى الغرض الذي تقوم من أجله، فهي تقتصر على تقرير تبادل التمثيل الدبلوماسي بين دولتين أو الاتفاق على رفع درجة التمثيل الدبلوماسي القائم بينهما، أو اعتراف للممثلين الدبلوماسيين للدولتين بقدر من الحصانات و الامتيازات أكبر من القدر الذي تنص عليه القواعد العامة في القانون الدولي، و هناك بعض المعاهدات الثنائية التي تكتفي بالإحالة إلى المبادئ التي تقرها قواعد القانون العام، ومن بين الاتفاقيات الثنائية هناك الاتفاقية المبرمة بين بلجيكا و ألمانيا الديمقراطية سنة 1972  التي نصت على إقامة العلاقات الدبلوماسية من خلال تبادل البعثات الدبلوماسية و تمتعها بالحصانات و الامتيازات المنصوص عليها في القانون الدولي العام .

و علي هذا فإن الاتفاقيات الثنائية لا ترسم إلا البنود العريضة للعلاقات الدبلوماسية بين دولتين و لا يجوز التمسك بها في علاقات أي منهما مع الدول الأخرى التي ليست طرفا فيها، و من هنا فإنها تفتقر إلى صفة العمومية التي تنشأ أحكام دبلوماسية عامة.

ثالثا: التشريعات الداخلية

تعد التشريعات الوطنية مصدرا للقواعد المنظمة للتمثيل الدبلوماسي، فعلى رغم من أن القانون الداخلي لأية دولة له سلطان في حدود ها فقط ، إلا أن التعامل الدولي جعل من هذه التشريعات و القوانين الداخلية التي تصدرها الدول و تنص على بعض القواعد الدولية قواعد قانونية ملزمة يمكن الرجوع إليها كوسيلة لإثبات القاعدة الدولية.

و مع تطور السياسة و الأنظمة التشريعية أصبحت جميع الدول تقريبا تملك تشريعات تتضمن أحكام تنظم عمل وحماية الممثلين الدبلوماسيين و تأكد حصانتهم و امتيازا تهم.

المبحث الثاني: شروط إقامة علاقات دبلوماسية

إن حق ممارسة التمثيل الدبلوماسي بين دولتين ما هو إلا مجرد أهلية أو رخصة لإنشـاء علاقـات دبلومـاسية و يشمل هذا الحق على وجهين أو مظهرين ، مظهر إيجـابي و مظهر سلبي ، فالأول يقصد به مقدرة الدولة على إرسال مبعوثين دبلوماسيين لدى الدول الأجنبية و يدعى حق التمثيل الإيجابي، أما ثاني فهو مقدرة الدولة على استقبال أو قبول مبعوثين دبلوماسيين لدول لديها و يدعى حق التمثيل السلبي.

وحق إقامة علاقات دبلوماسية بين الدول و تبادل ممثلين دبلوماسيين هما من مظاهر سيادة الدول و تأكيد لوجودها القانوني و استقلالها السياسي في مواجهة الدول الأخرى، ومن الناحية العملية لا يمكن للدولة أن تباشر حقها هذا إلا إذا كانت كاملة السيادة (المطلب الأول)، إضافة إلى اعتراف بحكومة الدولة من قبل الدولة التي ترغب في إقامة علاقات دبلوماسية معها(المطلب الثاني)، و تعتبر الدولتان اللتان تنويان إقامة علاقات دبلوماسية و تبادل بعثات دبلوماسية عن رضاها في اتفاق يوقعه الطرفان(المطلب الثالث)

المطلب الأول: تمتع الدول بالسيادة الكاملة

إن حق ممارسة التمثيل الدبلوماسي بوجهيه السلبي و الإيجابي لا تتمتع به إلا دول ذات السيادة والمستقلة، بغض النظر عن الاختلاف في الأنظمة الدستورية أو الحقوقية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العقائدية التي لا تحول دون إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدول، غير أن العلاقات بين الدول ذات الأنظمة المتماثلة تكون غالبا أكثر قوة و أشد تماسكا من الدول ذات الأنظمة المتعارضة.

المطلب الثاني: تبادل الاعتراف بين الدول 

إن استكمال الدولة لعناصرها الثلاثة (الإقليم و الشعب و السلطة السياسية) و تمتعها بالسيادة الكاملة و بالشخصية القانونية الدولية لا يكفي بحد ذاته لإقـامة علاقات دبلومــاسية بل لا بد من اعتراف الدولة الأخرى بها و بشخصيتها لكي تدخل معها في العلاقات الدبلوماسية،

الاعتراف بسيادة الدولة معناه الاعتراف بشخصيتها القانونية الدولية على أساس أنها وحدة قانونية مستقلة تمتع بأهلية كاملة ( أهلية الوجوب و أهلية الأداء) تسمح لها بممارسة بعض الحقوق التي يقرها لها القانون الدولي مقابل التزامات تقع على عاتقها

المطلب الثالث: مبدأ الرضا في إقامة علاقات دبلوماسية

 1- الاتفاق على إقامة علاقات دبلوماسية بشكل الكامل

عادة ما تتفق الدول على إقامة علاقات دبلوماسية بينها وتختار شكل البعثة الدائمة في تمثيلها كونها أكمل الأشكال التي تقام عليها العلاقات الدبلوماسية المتبادلة، و تقليديا يوجد نوعان فقط من البعثات الدبلوماسية الدائمة و هي السفارة و المفوضية  ، و تعتبر السفارة من أعلى مراتب التمثيل الدبلوماسي و يترأسها عادة سفير معتمد ، كما يمكن أن يترأسها القائم بالأعمال الأصيل أو بالنيابة ، أما المفوضية فهي بعثة دبلوماسية من الدرجة الثانية يرأسها عادة وزير مفوض معتمد كما يمكن أن يترأسها القائم بالأعمال ، و هنا يكون التمثيل مقيم لوجود بعثة دبلومــاسية دائمة في عاصمة كل من الدولتين تقوم بإدارة العلاقــات الخارجية لدولتها باعتبارها مرفقا عاما يسند إليه هذه المهمة  .

2-  الاتفاق على إقامة علاقات دبلوماسية بشكل غير الكامل

أقرت اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 الأشكال أخرى للتمثيل الدبلوماسي تتمثل في  التمثيل المشترك و التمثيل المتعدد و هي بمثابة صور استثنائية لإدارة العلاقات الدبلوماسية بين الدول و تعتبر بمثابة التبادل الدبلوماسي غير الكامل من أجل تمكين الدول الفقيرة و الصغيرة من ممارسة أي شكل دبلوماسي ترتئه انطلاقا من تقديرها للظروف الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية التي تحيط بها، نظرا لما يتطلبه العمل الدبلومـاسي من تقنيـات و تكـاليف بـاهظة ترهق كـاهل هذه الدول لقلة مواردهـا المالية .

و المقصود بالتمثيل المتعدد قيام الدولة الموفدة بتكليف رئيس أو عضو البعثة الدبلوماسية التابعة لها و المعتمدة لدى الدولة الأجنبية بتمثيلها لدى دولة أجنبية أخرى أو عدة دول.

أما التمثيل المشترك فهو  قيام دولتين أو أكثر بتكليف نفس رئيس البعثة الدبلوماسية الواحدة لتمثيلها لدى دولة أخرى شريطة عدم اعتراضها على ذلك، و لا يشترط في هذا النوع من التمثيل أن يكون لدول المعتمدة بعثة مشتركة واحدة بل يمكن أن يكون لكل منها بعثة دائمة خاصة و توضع في مجموعها تحت إدارة و إشراف ممثل لهم جميعا،  والممارسة الدولية عرفت مثل هذه التجربة كقيام فرنسا وألمانيا الغربية سنة 1988 بافتتاح سفارتان مشتركتان الأولى في منغوليا و الثانية في بوتسوانا، وكذا إنشاء سفارات مشتركة بين بريطانيا و ألمانيا سنة 1991 في بعض دول أوروبا الغربية و الشرقية

  • نسبية مبدأ الرضا في إقامة علاقات دبلوماسية

إن الوضع الدولي الراهن جعل من مبدأ الرضا كعنصر جوهري في إقامة علاقات دبلوماسية بين دول نسبي ، نتيجة لعدة أسباب لعل أهمها سياسة فرض القرار و الإبقاء على التبعية السياسية من جهة إضافة إلى عدة أسباب أخرى مجملها تنبع من واقع القوة والسيطرة على نظام الدولة المعنية في إقامة علاقات دبلوماسية معها، و من جهة أخرى لعبت السياسة الاستعمارية دورا كبيرا في فرض هيمنة الدول المستعمرة لسياستها على الدول الضعيفة و لا تزال تبعات هذه السياسة إلى يومنا هذا.

يعتبر قرار مجلس الأمن رقم 1680  المؤرخ في 18 ماي 2006 سابقة في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين الدول في ظل تغير التوازنات الدولية و إنفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتحكم في مسار القرارات الدولية لأنه يحث سوريا و لبنان على إقامة علاقات دبلوماسية فيما بينها ، حيث  نصت فقرته الرابعة على أنه( يشجع بشدة حكومة سوريا على الاستجابة بشكل إيجابي للطلب الذي قدمته حكومة لبنان تماشيا مع الاتفاقيات التي تم التوصل إليها في الحوار الوطني اللبناني،….إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة و تمثيل دبلوماسي ، مع إشارة إلى أن من شأن هذه الإجراءات أن تشكل خطوة مهمة نحو تأكيد سيادة لبنان و سلامة أراضيه و استقلاله السياسي ، و تحسين العلاقات بين البلدين ، ما يقدم مساهمة إيجابية للاستقرار في المنطقة ، ويحث كلا الطرفين على القيام بجهود عبر حوار ثنــائي إضـافي لتحقيق هـذا الغرض ، مستذكرين أن إقــامة العلاقـات الدبلومــاسية بين الـدول و إنشاء بعثات دبلوماسية دائمة يتم بموافقة متبادلة).

إن هذا القرار جاء واضحا ودقيقا لتبينه نوعية العلاقة التي يفترض أن تقوم عليها العلاقة بين سوريا و لبنان ، و هي أن تكون علاقات دبلوماسية دائمة و كاملة و هذا ما يتنافى مع أحكام القانون الدولي لا سيما مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول و كذا مبدأ الرضا المتبادل بين الدولتين لإقامة العلاقات الدبلوماسية، لأن الدول لها الحق أولا و أخيرا في تحديد إذا كانت تود إقامة العلاقات الدبلوماسية أم لا و تحديد النوعية و الكيفية ثانيا.

و عليه فإن الوضع الدولي الراهن جعل من قـاعدة الرضا المتبادل في إقامة علاقـات دبلوماسية نسبي ، و أصبح العالم يميل إلى استعمال الضغط الدبلوماسي و أحيانا القوة العسكرية و الضغوط الاقتصادية و غيرها من الإجراءات الردعية من أجل فرض جو من التمثيل الدبلوماسي.

الفصل الثاني: إرسال البعثـات الدبلوماسيـة الدائمة

إن حق الدولة في مباشرة التمثيل الدبلوماسي لا يقابله التزام الدولة بقبول المبعوثين الدبلوماسيين للدول الأخرى، وبأن تبادلها التمثيل تبعا لذلك فتوفد لديها مبعوثين من قبلها، بل أن ذلك يتم باتفاق متبادل بين الدولتان.

والتمثيل الدبلوماسي الدائم يتطلب أن يكون لكل دولة بعثة دبلوماسية لدى دولة أخرى، باعتبارها أداة اتصال بين الدولتين تقوم بتوثيق الروابط والعمل على حسن التفاهم بينهما،   ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان ممثل كل منها مقبول لدى الأخرى وليس موضع اعتراض، ويتم ذلك بأن تبعث الدولة المرسلة اسم مرشحها مع بعض البيانات الخاصة به إلى الدولة المستقبلة من أجل الموافقة على اعتماده ممثلا لدولته لديها.

ولأداء أعضاء البعثة الدبلوماسية لمهامهم على الوجه الأكمل يتطلب الأمر أن يكون لكل بعثة دبلوماسية مقر خاص بها في إقليم الدولة المعتمد لديها تمارس فيه مهامها، كما يجب أن يتمتع أعضاء البعثة الدبلوماسية بالحصانات والامتيازات التي لا يمكن التنازل عنها إلا بموافقة دولتهم.،سيتم تناول هذا الفصل  تشكيل البعثة الدبلوماسية في المبحث الأول أما في المبحث الثاني سوف نتحدث عن الحصانات الدبلوماسية والتنازل عنها.

المبحث الأول: تشكيل البعثة الدبلوماسية

تعتبر البعثة الدبلوماسية وسيلة الاتصال البشري بين الدولة الموفدة و الدولة الموفد إليها، فمن خلال البعثة تقيم كل الدول علاقاتها الدبلوماسية و تتبادل من خلالها الآراء و وجهات النظر بشأن القضايا التي تهم البلدين أو التي تتعلق بالعلاقات و الأوضاع الدولية عموما.

ومن أجل قيام البعثة بوظائفها على أكمل وجه تعمد الدول إلى تنظيم بعثاتها الدبلوماسية بما يتلاءم ومصالحها و إمكانيتها المادية و الفنية ، و تختلف بعثات الدول الكبرى عن بعثات الدول الصغرى ، و يتناسب تنظيم حجم كل بعثة دبلوماسية مع حجم و مستوى علاقاتها على كل الأصعدة ، فالدول الكبرى تملك سلكا دبلوماسيا متشعبا وواسعا من الأجهزة و الموظفين أكبر بكثير من الدول الصغرى و بالتالي فإن تنظيم بعثة كل دولة يرتبط بإرادتها و حريتها و بصلاحيتها و بكيفية تأمين مصالحها مع الدول الأخرى ، و على الرغم من أن اتفاقية فينا لم تتطرق إلى هذه المسألة و تركت الحرية لكل دولة في أن تقوم بتنظيم عمل و أجهزة بعثتها ، لأن الأعراف و الممارسات سارت على أن يكون تنظيم و حجم كل بعثة متناسب و متلائم مع حجم و مستوى و أهمية العلاقات القائمة بين الدولة المعتمدة و الدولة المعتمد لديها ، وعلى هذا الأساس يجب أن ينشأ طاقم البعثة الدبلوماسية بشكل يتناسب مع الوظائف الدبلوماسية على قاعدة التخصيص و تقسيم العمل، سنحاول أن نعالج هذا المبحث ضمن تعيين رئيس البعثة الدبلوماسية في المطلب الأول أما في المطلب الثاني نتناول كيفية تعيين أعضاء البعثة الدبلوماسية

المطلب الأول: تعيين رئيس البعثة الدبلوماسية

إن مسألة اختيار رئيس البعثة الدبلوماسية تعتبر من المسائل الداخلية التي يقررها القانون و نظام الدولة الداخلي ، فليس هناك شروط محددة يشترطها القانون الدولي على اختيار الدول للمبعوثين الدبلوماسيين ، وطالما كانت مسألة اختيار المبعوثين الدبلوماسيين مرهونة بيد الدولة نفسها ، باعتبار أن الدول تختلف في تشريعاتها بحسب ما تمليها عليها ظروفها و مصالحها الخاصة ، فقد و جدت طرق مختلفة في اختيار المبعوثين ومهما يكن فإن الاختلاف في الطريقة هو ليس كذلك في الهدف ، فهدف الدول جميعا هو الحصول على مرشحين لائقين لشغل منصب رئيس البعثة ، و من الأمور المألوفة حديثا أن تكون رئاسة البعثة الدبلوماسية تحت مسؤولية شخص واحد ، أي أن الممثل الرسمي للبعثة الدبلوماسية هو رئيس تلك البعثة الذي قد يكون سفيرا أو وزيرا مفوضا، و الذي لا يمكن تعينه إلا بعد الحصول على الموافقة الصريحة من الدولة الموفد إليها.

و سنحاول أن نعالج هذا المطلب على النحو التالي:

أولا: المقصود برئيس البعثة الدبلوماسية

يعتبر رئيس البعثة الدبلوماسية كل شخص تكلفه دولته لتمثيلها لدى دولة المستقبلة، و يعهد إليه إدارة شؤون البعثة التي يترأسها، وقد عرفته الفقرة هـ من المادة 01 من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 على أنه الشخص الذي تكلفه الدولة المعتمدة بالتصرف بهذه الصفة.

وقد حددت لائحة فينا لسنة 1815  ثلاث مراتب أو درجات لرؤساء البعثات الدبلوماسية وذلك على النحو التالي  :

  • مرتبة السفراء و مبعوثي البابا وقاصد رسولي وهم أعلى رؤساء البعثات وتصدر أوراق اعتمادهم من رئيس دولتهم موجهة إلى رئيس الدولة التي اعتمدوا لديها ، وهم وحدهم يتمتعون بالصفة التمثيلية .
  • المندوبين فوق العادة و الوزراء المفوضين ويعتمدون من قبل رئيس دولتهم لدى رئيس الدولة الأخرى ولا يحملون الصفة التمثيلية.
  • القائمون بالأعمال و يعتبرون ممثلين لوزير الخارجية ويعتمدون من قبل وزير خارجية دولتهم لدى وزير خارجية الدولة المعتمد لديها.

أما اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 فقد عدلت من التصنيف السابق في المادة 14  منها  على النحو التالي:

  • السفراء أو القاصدون الرسوليون المعتمدون لدى رؤساء الدول ورؤساء بعثات آخرين ذو الرتبة المماثلة.
  • المندوبون و الوزراء المفوضون والقاصدون الرسوليون الوكلاء المعتمدون لدى رؤساء الدول.
  • القائمون بالأعمال المعتمدون لدى وزراء الخارجية ».

وباعتبار أن تحديد الفئة التي ينتمي إليها رئيس البعثة تتم برضا متبادل بين الدولة المعتمدة و الدولة المستقبلة فهذا يعني قبولها للأحكام التي تسري على الأسبقية بإرادتها ،    و يقصد بالأسبقية أو الأولوية حق التقدم على الآخرين من فئة واحدة أو فئات مختلفة و على هذا الأساس فإن ترتيب رؤساء البعثات الدبلوماسية يكون على ثلاث أصناف ، أولها سفراء ويقصد هنا السفراء المقيمين وليس سفراء فوق العادة ، وفي المرتبة الثانية  الوزير المفوض أما في المرتبة الثالثة فتجد القائم بالأعمال ، وهذا الترتيب لا يتعلق إلا بحق الصدارة و التقدم في الاستقبـالات الرسمية وحضور الحفـلات أو ما يعرف بالإتيكيت ولا يـأثر على حقـوقهم و واجبا تهم وحصانتهم و امتيازاتهم الدبلوماسية بل يبقي مبدأ المساواة وعدم التميز قائما.

ثانيا: إجراءات قبول رئيس العثة الدبلوماسية

إن تعيين رئيس البعثة الدبلوماسية من اختصاص الدولة المعتمدة باعتباره جزء من سيادتها، و لا يكفي مجرد تعيينه من دولته لبدء مهامه بل لا بد من إجراءات تتخذ قبل ذلك  و التي تتمثل فيما يلي:

  • استمزاج رئيس البعثة الدبلوماسية

جرت العادة أن تتأكد الدولة التي تريد تعيين رئيس البعثة من أنه قد نال رضا الدولة المعتمد لديها قبل تسليمه أوراق اعتماده، لذا فإن أول عمل تقوم به الدولة المرسلة هو استمزاج رأي الدولة الضيفة في أمر تعيينه  ،  وعملية الاستمزاج تتم عادة بين الدول المعنية عن طريق سفارة الدولة المرسلة في البلد المرشح بها السفير الجديد أو عن طريق سفارة الدولة المرشح لديها السفير الجديد المتواجدة في الدولة المعتمدة هذا إذا كان التبادل الدبلوماسي يتم لأول مرة بين الدولتين ، أما في حالة كانت علاقات دبلوماسية قائمة وأرادت الدولة تغير سفيرها الموجود في البعثة فما على هذا الأخير بمجرد إعلامه من حكومته بقرار تغييره إلا إعداد مفكرة ويرفق بها نبذة عن حياة السفير الجديد و يطلب دون تأخر مقابلة وزير الخارجية أو نائبه قصد تقديمه المذكرة .

أما الرد على طلب الإستمزاج عادة ما يستغرق مدة تتراوح ما بين عشرة أيام إلى عشرين يوم على الأكثر  ، ونشير أنه في حالة ما إذا لم تجيب الدولة خلال المدة المتعارف عليها فإن سكوتها لا يعني الرضا ، كون أن الموافقة الصريحة شرط أساسي لقبول رئيس البعثة .

كما يحق لها أن ترفض قبول الشخص المرشح ، دون أن تكون ملزمة ببيان الأسباب التي التي دفعتها لذلك ، الا انه قد جرت العادة أن لا تقدم الدولة تفسيرا للحكومات بسبب رفضها مرشحها .

كما أن السفير المعين يجب عليه الاتصال بوزير خارجيته من أجل تزويده بمعلومات حول أوجه العلاقات بين دولته والدولة التي اعتمد فيها، ويطلعه بصورة كافية عن أحوال تلك الدولة من تاريخها وعادات أهلها عن سياستها ونظام الحكم فيها .

  • حصول رئيس البعثة على أوراق اعتماده:

عندما توافق الدولة الموفد إليها على شخص السفير تقوم بإبلاغ هذه الموافقة إلى دولته التي تقوم بإصدار قرار تعينه كسفير لدى هذه الدولة، ويسمى حينئذن بالسفير المعين وليس بسفير معتمد، وقبل سفره تسلمه دولته كتاب اعتماده وجواز سفر دبلوماسي اللذان يثبتان صفته كممثل لدولته وعلى السفير المعين التحري والتأكد من أن أوراق استدعاء سلفه قد قدم و إلا سيحملها معه  ، لتجنب وجود  سفيران معتمدان لدى الدولة المستقبلة لأن هذا يتنافى مع التعامل الدبلوماسي.

و المعمول به هو أن يزود السفير بنسختين من الخطاب الاعتماد ، الأولى مفتوحة والثانية مختومة ، حيث يتم تسليم الأولى إلى وزير الخارجية ليشعره بوصوله رسميا من أجل أن يأخذ له موعد لمقابلة رئيس الدولة لكي يسلمه أصل كتاب الاعتماد المختوم .

3- إجراءات اعتماد رئيس البعثة الدبلوماسية

إن مراسيم تقديم أوراق اعتماد رئيس البعثة تكاد تكون متشابهة لدى كافة الدول ، وإن كان منذ زمن ليس ببعيد أنه كانت بعض الدول تقيم مراسيم فخمة من أجل الاستقبال ، غير أن معظم الدول في الوقت الحاضر تسعى إلى تقليل من هذه المراسيم لجعلها في الحد المعقول.

وهناك مراسيم تتبع لدى وصول رئيس البعثة إلى الدولة المستقبلة ، و مراسيم أخرى تقام لدى تسليمه خطاب اعتماده.

المطلب الثاني:  تعيين أعضاء البعثة الدبلوماسية

تتكون البعثة إضافة إلى رئيس البعثة من موظفين يقومون بمساعدة رئيس البعثة في أداء المهام الموكلة إليه خلال عهدة، وإن كانت الدولة حرة في تسمية من تشاء في أعضاء بعثتها إلا أن هذه الحرية تحدها بعض القيود و ضعتها اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961.

أولا: أصناف موظفو البعثة الدبلوماسية

يمكن تقسيم موظفي البعثة الدبلوماسية إلى صنفين موظفين دبلوماسيين و موظفين غير دبلوماسيين.

  • الموظفون الدبلوماسيون:

لم تحدد اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية أصناف الموظفين الدبلوماسيين الذين يتمتعون بصفة الدبلوماسية تاركة ذلك إلى حرية الدولة المرسلة باعتباره يدخل في مجالها المحفوظ ولا ينازعها فيه أحد كونه من أعمال السيادة ، إلا أنها أشارت في الفقرة  د من المادة الأولى على أن  الموظفين الدبلوماسيين هم موظفو البعثة ذوو الصفة الدبلوماسية ، كما يطلق عليهم اسم أعضاء مسلكيون كونهم أعضاء ينتمون لوزارة الخارجية ويسلكون طريق الدبلوماسية ويتخذونها كمهنة لهم  ، وباعتبار أن تسمية موظفين دبلوماسية يعود إلى تقدير الدولة حسب ما تراه متوافقا مع ظروفها فبدون شك لا يوجد معيار موحد متفق عليه بين الدول يكون كمعيار يعتمد عليه عند اختيار هؤلاء الموظفين الدبلوماسيين .

ومهما كانت المعايير المستعملة لتعينهم من قبل دولهم فإن الممارسة الدولية بينت أن كافة الدول تتفق على اعتبار القائمة الدبلوماسي كمعيار لتحديد من هم الأشخاص الذين يتمتعون بالصفة الدبلوماسية.

وقد جرى في العمل الدولي على أن الصفة الدبلوماسية يتمتع بها الموظفون من الدرجة التالية:

  • المستشار: يعتبر الرجل الثاني في البعثة بعد رئيسها وتتحدد اختصاصاته حسب طبيعة علاقته برئيس البعثة وثقة هذا الأخير به إلا أنه يقوم بمجموعة من الصلاحيات كتحديد اختصاصات السكرتيرين وتوزيع المهام بينهم ومتـابعتهم في إنجـاز الأعمـال الموكلة إليهـم و يقـوم بالبت بجميـع المسـائل الإداريـة و المـالية الخـاصة بالسفـارة ومتـابعة المـوظفين خـلال قيــامهم بأعمـالهم وكـذا تنـفيذ تعليمات وزارة خارجية دولته، ويقوم مقام السفير عند غيابه وعليه نقول أن المستشـار يعـد المرجـع الـذي يلجـأ إليـه  بقيـة أعضـاء البعثـة بعد رئيـس البعثـة الدبلوماسية.
  • السكرتير: يأتي السكرتير في المرتبة الثالثة بعد السفير والمستشار ويكون على ثـلاثة أنـواع السكرتير الأول و السكرتير الثـاني و السكرتير الثـالث، أين يكلف الأول بالقضايا السرية أما الثاني و الثالث في حالة و جودهما فإنهما يكلفان بالأعمال العادية.
  • الملحقون:يعتبرون بمثابة الموظفون الفنيون أين تحدد مهامهم في المسائل التي لا علاقة لها بالمسائل الدبلوماسية ، و لكن يلحق بهم الصفة الدبلوماسية و يعدون جزء من البعثة الدبلوماسية لأنهم يقومون عادة بمساعدة السفير و المستشار و السكرتيريون، كما أنهم يرتبطون بوزارات معينة كل حسب وظيفته ، فالملحق العسكري يتبع وزارة الدفاع ، و يتبع الملحق التجاري وزارة التجارة، و يتبع الملحق الثقافي وزارة التعليم العالي و البحث العلمي أو وزارة الثقافة و الإعلام ، و ينتج عن هذه التبعية قيام الملحق بإرسال تقارير إلى الوزارة التي يتبعها و تنفيذ تعليماتها باعتباره تابعا لها من الناحية الفنية ، أما إداريا فيتبع رئيس البعثة الذي يعد في أعلى السلم الإداري للبعثة الدبلوماسية
  • الموظفون غير الدبلوماسيون:

هم أعضاء لا يتمتعون بصفة الدبلوماسية وقد قامت اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961  بتسميتهم على غرار الموظفون الدبلوماسيين وهم:

  • الموظفون الإداريون و الفنيون:

هم أعضاء هيئة البعثة المعينين في الخدمة الإدارية و الفنية للبعثة، كما عرفتهم اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 في الفقرة ومن المادة الأولى بأنهم ( موظفو البعثة العاملون في خدمتها الإدارية و الفنية) ، ويقومون بعدة مهام منها تسجيل جميع المراسلات الواردة و الصادرة وكذا حفظ السجلات و الوثائق و المستندات والمراسلات وتنسيقها وتنظيمها تحت طائلة العقوبة و الطرد أحيانا، وكذا دفع نفقات البعثة الدبلوماسية من رواتب وأجور وإيجارات وحفلات بموافقة رئيس البعثة إضافة إلى التدقيق في حساب البعثة مع المصرف الذي تتعامل معه.

  • مستخدمو البعثة:

وهم مجموعة من الموظفين يتولون القيام بالأعمال الخدمة و الصيانة و الحراسة في أماكن البعثة كعمال الهاتف و التنظيفات وسائقي السيارات و الفراشين و الحراس و المراسلون.

  • الخدم الخصوصين:

هم الأشخاص الذين يتولون القيام بالخدمة المنزلية لرئيس البعثة وأعضائها ولا يشترط في أفراد هذه الطائفة أن يكونوا من موظفي الدولة المرسلة وإنما هم أفراد يقومون بعمل لحساب عضو البعثة بصفة خاصة.

    إن التفرقة بين مختلف الطوائف لها أهمية من حيث شروط التعيين و القبول ومن ناحية التمتع بالحصانات و الامتيازات، حيث يتمتع الموظفون الدبلوماسيون بالحصانات و الامتيازات المطلقة أما الموظفون غير دبلوماسيين فتختلف من فئة إلى أخرى أين يتمتع الموظفون الإداريون والفنيون بحصانات شبيهة بامتيازات وحصانات المبعوثون الدبلوماسيون باستثناء الحصانة القضائية في المجالين المدني و الإداري فهي محدودة حيث لا تشمل الأعمال التي يقومون بها خارج نطاق واجباتهم، و هو الأمر كذلك بالنسبة لأسرهم ، أما الفئة مستخدمو البعثة فيتمتعون بالامتيازات و الحصانات فقط بالنسبة إلى الأعمال التي يقومون بها أثناء أدائهم مهامهم ،وكذا الإعفاء من الضرائب و الرسوم فيما يخص المرتبات التي يتلقونها لقاء خدمتهم و الإعفاء من الضمان الاجتماعي، أما الخدم الخاصون فيتمتعون بحصانة خاصة تتمثل في الإعفاء من الرسوم و الضرائب فيما يتعلق بالمرتبات التي يتقاضونها لقاء خدماتهم أما غير ذلك من الحصانات و الامتيازات فلا يتمتعون بها إلا بقدر ما تسمح به الدولة المضيفة  .

ثانيا: شروط تعين أعضاء البعثة الدبلوماسية

مما لا شك فيه أن شروط تعين واختيار أعضاء البعثة لأية دولة يخضع لتشريعها الداخلي والذي تضعها بكل حرية دون تدخل من أحد، وعلى الرغم من وجود اختلافات بين الدول في شأن وضع شروط التعيين فإن هذه الاختلافات يجب أن تكون متماشية وعلى انسجام مع الأحكام العامة للاتفاقيات الدبلوماسية و الأعراف و التقاليد الدبلوماسية لاسيما اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961.

و باعتبار انه لا يوجد شروط موحدة تتبعها كل الدول في تعين أعضاء البعثة الدبلوماسية فإن الجزائر وعلى غرار الدول الأخرى قامت بوضع الشروط اللازم توفرها في كل من يوظف في السلك الدبلوماسي:

  • التمتع بالجنسية الجزائري بالنسبة للموظف وزوجته.
  • التمتع بالحقوق المدنية وأن يكون ذا سلوك حسن.
  • إثبات مستوى التأهيل المطلوب لممارسة وظيفته و إيجادة لغتين أجنبيتين على الأقل.
  • استكمال شروط السن الأهلية البدنية المطلوب توفرها لممارسة وظيفته.
  • إثبات وضعيته إزاء الخدمة الوطنية.

فإذا توافرت هذه الشروط في العون الدبلوماسي فإنه يخضع لفترة تدريب و تكوين في المعهد الدبلوماسي و العلاقات الدبلوماسية، وبعدها يتولى الحد الأدنى من الخدمة ضمن الإدارة المركزية أو لدى هيئة تكون تحت وصاية وزارة الشؤون الخارجية وبعدها يتم تعينه في منصبه.

رابعت: حجم البعثة الدبلوماسية

يختلف حجم البعثة الدبلوماسية من دولة إلى أخرى تبعا لأهمية المصالح التي تربط بين الدولتين، أين يتم تحديد عدد أعضاء البعثة استنادا إلى العلاقات المتبادلة بين الدول ومداها ، فكلما كانت الدولة مرتبطة بدولة أخرى بمصالح اقتصادية و اجتماعية وثقافية متشعبة وكانت نسبة مواطنيها كبيرة في الدولة المستقبلة فإنها تحتاج لعدد أكبر في البعثة وعلى العكس إذ لم يوجد لها مصالح أساسية، و بالتالي يجب أن يكون حجم البعثة متناسب مع الوظائف التي تقوم بها على أساس أن أفراد البعثة يتمتعون بحصانات و امتيازات دبلوماسية مما يحتم وجود تناسق بين نظام الحصانات والإمتيازات الدبلوماسية وعدد أفراد البعثة الذي يفترض أن يتلاءم مع حجم العلاقات والمهام الدبلوماسية.

و تحديد عدد أعظاء البعثة الدبلوماسية يتم باتفاق صريح بين الدولة المعتمدة والدولة المعتد لديها وهذا ما ينسجم مع مبدأ القبول المتبادل بين دولتين لإقامة علاقات دبلوماسية الذي أشارت إليه المادة الثانية   من إتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961  .

خامسا:مهام و واجبات البعثة الدبلوماسية

تعتبر البعثة الدبلوماسية مرفقا عاما من مرافق الدولة التي تقوم بادارة شؤونها الخارجية فهي هيئة تمثل دولة وليست أحد أشخاص القانون الدولي كونها لا تتمتع بالشخصية القانونية والبعثة بتمتعها بهذه الصفة تعد أداة رئيسية للاتصال و الاحتكاك بين الدول تسند لها مجموعة من المهام التي تقوم بها باسم دولتها ،هذا ما سنحاول معالجته من خلال بحث مهامها وواجباتها

– مهام البعثة الدبلوماسية

أوردت المادة 03  من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية 1961 المهام التي تقوم بها البعثة الدبلوماسية، و التي من أهمها:

  • تمثيل الدولة المعـتمدة لدى الدولة المعتمدة لديها.
  • حماية مصالح الدولة المعتمدة ومصالح رعاياها في الدولة المعتمد لديها وذلك في الحدود المقـبولة في القانون الدولي.
  • التفاوض مع حكومة الدولة المعتمدة لديها.
  • استطلاع الأحوال والتطورات في الدولة المعتمد لديها بكل الوسائل المشـروعة وموافاة حكومة الدولة المعتمدة بتقرير عنها.
  • تعزيز العلاقات الودية بين الدولة المعـتمد لديها والدولة المعتمدة وإنماء الصلات الاقتصادية والثقافية والعلمية.
  • لا يجوز تفسـير أي من نصوص الاتفاقية على أنه مانع من ممارسة المهام القنصلية بواسطة البعـثة الدبلوماسية

واجبات أعضاء البعثة الدبلوماسية

يقع على عاتق البعثة الدبلومـاسية مجموعة من الواجبات نتيجة تمتعهم بالحصـانات و الامتيازات الدبلوماسية إذ يجب عليهم مراعاتها عند قيامهم بمهامهم.

و قد عنيت اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 بالإشارة إلى واجبات البعثة الدبلوماسية تجاه الدولة المستقبلة فنصت في مادتها 41 على أنه:

1- دون إخـلال بالمزايا والحصانات المقررة لهـم، على الأشخاص الذين يسـتفيدون من هذه  المزايا والحصانات واجـب احترام قوانين ولوائح الدولة المعتمد لديها، كما أن عليهـم  واجب عدم التدخل في شـؤون الداخلية لهـذه الدولة.

2- يجب أن تكون معالجة كافة المسـائل الرسمية التي تكلف بهـا البعـثة من قبل حكومة  الدولة المعـتمدة، مع  وزارة  خارجية الـدولة المعتمد لديها أو عن طريقها، أو مع أية  وزارة أخـرى متفـق عليها.

3- لا يجوز استعمال الأماكن الخاصة بالبعثة على وجه يتنافى مع مهام البعثة كما بينتهـا   نصوص هـذه الاتفاقـية أو غيرها من القواعـد العامة للقانون الدولي أو الاتفاقات الخاصة المعمول بها بين الـدول المعـتمدة والـدولة المعـتـمد لديهـا .

و أخيرا و بالرغم من تمتع المبعوث الدبلوماسي بالمزايا و الحصانات تحميه من قوانين الدولة المستقبلة إلا أن أي إخلال بالواجبات الملقاة على عاتقه يعطي الحق للدولة المستقبلة بأن تعتبره شخص غير مرغوب فيه أو تطلب منه عند الاقتضاء مغادرة إقليمها.

المبحث الثاني: الحصانات و الامتيازات الدبلوماسية

إن العلاقات الدبلوماسية بين دولتين تخول لكل منهما ممارسة بعض أنواع النشاطات في إقليم الدولة أخرى بموافقتها، و كما هو معروف فإن موافقة الدولة المستقبلة بإقامة العلاقات الدبلوماسية ينجم عنه اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات و تدابير لتمكين الدولة المرسلة من الاستفادة من نتائج الموافقة و من هذه الخطوات منح الحصانات و الامتيازات الدبلوماسية لبعثتها الدبلوماسية و أعضاء هيئتها.

وهذه الحصانات التي تتمتع بها البعثة الدبلوماسية لا يمكن التنازل عنها إلا بموافقة الدولة المعتمدة على أساس أن العضو الدبلوماسي يتمتع بها باعتباره ممثلا لدولته ،وكذا من أجل تمكنه من قيام بمهامه الرسمية دون إعاقة من الدولة المستقبلة استنادا إلى مقتضيات  الوظيفة التي تتطلب ذلك، وعلى هذا الأساس ارتأينا معالة في هذا المبحث الحصانة القضائية للمبعوث الدبلوماسي في المطلب الأول، أما في المطلب الثاني نتطرق إلى حصانة مقر البعثة الدبلوماسية ، أما عن حصانة الحقيبة الدبلوماسية من إجراءات التفتيش نتناوله في المطلب الثالث.

المطلب الأول : الحصانة القضائية للمبعوث الدبلوماسي

أولا: مضمون الحصانة القضائية

يتمتع المبعوث الدبلوماسي إلى جانب الحصانة الشخصية  ، بحصانة قضائية التي تعتبر أحد المظاهر الرئيسية للحصانة الشخصية لاسيما الحرمة الذاتية التي تعتبر الامتياز الأساسي الذي تنبثق عنه الحصانات الأخرى وتتمثل في:

  • الحصانة من القضاء الجنائي :

المراد بالحصانة الجنائية أنه في حالة ارتكاب المبعوث الدبلوماسي لأي أعمال وتصرفات تشكل جريمة يعاقب عليها قانون الدولة المضيفة ،لا يجوز ملاحقته و إلقاء القبض عليه و التحقيق معه و لا محاكمته أو إجباره على المثول أمام المحاكم أو إصدار الحكم بإدانته أو معاقبته على جريمة اتهم بارتكابها  .

إلا أن عدم خضوع المبعوث الدبلوماسي لقضاء الدولة المضيفة لا يعني إفلاته من العقوبة و بقاء الدولة المستقبلة مكتوفة الأيدي، بل يمكنها اتخاذ إجراءات أخرى كتبليغ الأمر للدولة المرسلة للتصرف معه ، أو تعتبره شخصا غير مرغوب فيه و تطلب من دولته سحبه أو إنهاء مهمته ، وفي حالة رفض أو تقاعس الدولة الموفدة يجوز للدولة المعتمد لديها أن ترفض الاعتراف به كمبعوث دبلوماسي  .

  • الحصانة المدنية و الإدارية

تعني الحصانة من القضاء المدني إعفاء المبعوث الدبلوماسي من جميع الدعاوي المدنية و الإدارية الذي تقام ضده، فلا يجوز لمحاكم الدولة المعتمد لديها محاكمته من أجل دين عليه أو منعه من مغادرة بلادها بسبب عدم تسديد لديونه أو مصادرة أمتعته أو ما يملكه .

  • الحصانة التنفيذية

موضوع الحصانة التنفيذية هو استبعاد اتخاذ و تنفيذ أي تدابير زجرية إزاء الدولة الأجنبية و التي من شأنها المساس بسيادتها و استقلالها أو المساس بكرامتها وهيبتها  و حصانة التنفيذ تدخل لتمنع تنفيذ أي حكم يكون قد صدر ضد المبعوث الدبلوماسي من قبل القضاء .

ثانيا: محاكمة المبعوث الدبلوماسي برضا الدولة المرسلة:

تقتضي القاعدة العامة عدم خضوع المبعوث الدبلوماسي للولاية القضائية للدولة المعتمد لديها ، فهو يتمتع بحصانة مطلقة في المسائل الجنائية و المدنية و الإدارية فيما يخص جميع الأعمال التي يقوم بها ممثلا لدولته ،و التي تدخل في أغراض البعثة لضمان الأداء الفعال لوظائفه استنادا للمعيار الوظيفي.

وليتمكن المبعوث الدبلوماسي من المثول أمام القضاء الدولة المعتمد لديها بصفته مدعي أو مدعى عليه لابد من التنازل عن الحضانة التي يتمتع بها وذلك بموافقة دولته الذي يعتبر حق لها وليس واجبا ،وهو ما أكدته المادة 31 من إتفاقة فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة  1961.

وفيما يخص شكل التنازل عن الحصانة ما إذا كان صريحا أو ضمنيا، فنجد أن لجنة القانون الدولي في مشروعها لسنة 1958 قد اعتبرت أن التنازل عن الحصانة في المسائل الجنائية يكون صريحا أما بالنسبة للمسائل المدنية يكون ضمنيا، غير أن اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 أكدت في الفقرة الثانية من المادة 32 على أن التنازل عن الحصانة القضائية في حال موافقة الدولة المعتمدة يجب أن يكون صريحا و ليس مفترضا في جميع الدعـاوى الجنـائية أو المدنيـة أو الإداريـة سـواء كـان المبعوث الدبلومـاسي مـدعى عليـه أو مدعيا.

المطلب الثاني: حصانة مقر البعثة الدبلوماسية

يقصد بدار البعثة الدبلوماسية أو دار البعثة كافة الأماكن التي تشغلها البعثة أو تستخدمها لحاجتها سواء كانت مملوكة لدولة المرسلة أو مستأجرة من الدولة المعتمد لديها، و يشمل ذلك مقر السفارة و مسكن السفير إضافة إلى المكاتب الملحقة بالبعثة إن كانت خارج مقر البعثة الدبلوماسية و التي لا يمكن إقامتها إلا بعد الحصول على موافقة الدولة المضيفة  ، وهذا  ما أشارت إليه المادة 12 من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 حيث نصت على أنه ( لا يجوز للدولة المعتمدة أن تقيم مكاتب في مدن أخرى غير المدينة التي يوجد بها مقـر البعثة، إلا بعد الحصول على موافقة الدولة المعتمد لديها).

كما يشمل مقر البعثة الدبلوماسية الأراضي و الحدائق الملحقة بها و الدور التابعة لها و أماكن وقوف المركبات و كذا تشمل جميع محتوياتها من المحفوضات والوثائق و المرسلات و الأموال و الأثاث الموجودة فيها و وسائل النقل التابعة لها، ومقر البعثة الدبلوماسية يتمتع بحصانة مطلقة بحيث لا يمكن للدولة المعتمد لديها دخوله من أجل التفتيش أو حجزها أو تفتيش وحجز الأمتعة الشخصية للبعثة الدبلوماسية و في مقابل لا يمكن للرئيس البعثة الدبلوماسية أن يقوم بإيواء أحد الأشخاص في مقر البعثة الدبلوماسية .

أولا:دخول مقر البعثة الدبلوماسية بموافقة الدولة المعتمدة

كرست اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 مبدأ الحصانة المطلقة لمقر البعثة الدبلوماسية، انطلاقا من أن البعثة تمثل دولتها و كذا من أجل ضمان الأداء الفعال لوظائفها بعيدا عن أي تدخل قد يعكر سلامتها و أمنها أو عائق يحول دون تحقيق ذلك، و قد نصت الفقرة الأولى من المادة 22 من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 على أنه: « حرمة أماكن البعـثة مصونة، ولا يسـمح  لموظفي الدولة المعـتمد لديها دخولها، إلا بموافقة رئيس الـبعـثة ».

وعليه فإن حصانة مقر البعثة الدبلوماسية حصانة مطلقة مثل الحصانة القضائية للمبعوث الدبلوماسي إذ لا يجوز للدولة المضيفة دخول مقر البعثة الدبلوماسية دون إذن من رئيس البعثة الدبلوماسية حتى في حالة الضرورة التي تستدعي ذلك لأن السماح لدولة المضيفة بذلك  يعطي لها السلطة التقديرية لتكيف أي  حالة على أنها حالة طوارئ مما يفتح باب الاحتمال لاستخدام ذرائع عديدة تبرر مثل هذا الدخول كافتعال حريق أو الادعاء بوجود مؤامرة كحجة لخرق حرمة مقر البعثة ومادة  22 من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة1961  لم تجز الموافقة المفترضة في حالة الضرورة القصوى على غرار اتفاقية فينا للبعثات الخاصة لسنة1969  التي تبنت الموافقة الضمنية في مادة 25 منها  كاستثناء على القاعدة العامة و هي افتراض حصول الموافقة الصريحة من رئيس البعثة لتمكن سلطات الدولة المستقبلة من دخول مقر البعثة الدبلوماسية في حالة الضرورة.

وفي هذا السياق قامت الحكومة اللبنانية في سنة 1990 برفع الحصانة الدبلوماسية عن السفارة اللبنانية في واشنطن و هذا ما مكن السلطات الأمريكية من دخول السفارة، و طرد السفير اللبناني السابق الذي كان مصرا على عدم تسليم منصبه و أوراق ووثائق و حسابات السفارة للسفير اللبناني الجديد.

ثانيا: منح الملجأ الدبلوماسي بموافقة الدولة المضيفة

لا توجد قاعدة دولية تبيح أو تحرم إيواء المجرمين لدى مقر البعثات الدبلوماسية، غير أن الممارسة الدولية و بعض آراء الفقهاء تبين ضرورة التفرقة بين إيواء المجرمين العاديين و المجرمين السياسيين، إذ أجمعت على عدم جواز إيواء المجرمين العاديين وإذا حدث ولجأ أحد هؤلاء إلى مقر البعثة الدبلوماسية وجب على رئيس البعثة أن يخطر بذلك السلطات المحلية وأن يقوم بتسليم المجرم إليها متى طلب منه ذلك  .

أما بالنسبة لإيواء المجرمين السياسيين رغم أنه ليس من حق البعثة الدبلوماسية باعتبار أن فيه مساس بسيادة الدولة المستقبلة وتدخل في شؤونها الداخلية، بيدا أن الاعتبارات الإنسانية دفعت إلى التسامح في شأن إيوائهم في حالات ملحة كالهرب من خطر محدق  والخوف من الإضطهاد و يتم منحه إلا برضا الدولة المعتمد لديها صراحة أو ضمنا باعتباره مساس بسيادتها و تدخل في شؤونها الداخلية ، كما يحق لها سحب هذه الموافقة  في أي وقت تشاء و بطريقة صريحة أيضا، و يجب أن يكون هذا السحب بالنسبة لجميع الدول دون تمييز، و من تطبيقات منح ملجأ على أساس رضائي ما قامت به السفارة الفرنسية في بيروت عندما منحت ملجأ دبلوماسي للجنيرال ميشال عون سنة 1990 الذي رفضت تسليمه للسلطات اللبنانية فوافقت هذه الأخيرة على ترحيله إلى فرنسا شريطة عدم قيامه بأي نشاط سياسي ضدها.

لم تشير اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 إلى حق اللجوء مكتفية فقط الإشارة في الفقرة الثالثة من المادة 41  على أنه لا يجوز استعمال الأماكن الخاصة بالبعثة على وجه يتنافى مع مهام البعثة كما بينتهـا نصوص هـذه الاتفاقـية أو غيرها من القواعـد العامة للقانون الدولي أو الاتفاقات الخاصة المعمول بها بين الـدول المعـتمدة والـدولة المعـتـمد لديها.

و الظاهر أن هذا النص يحرم بطريق غير مباشر استخدام مقر البعثة الدبلوماسية في إيواء الجرمين الذين تطاردهم السلطات المحلية من أجل أفعال مخلة بقوانينها أو أنظمتها لأن الإيواء ليس من مهام البعثة الدبلوماسية، بل يعتبر من قبيل التدخل في شؤونها الداخلية.

إن عدم تطرق إلى حق اللجوء الدبلوماسي في الاتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 كان عن عمد نظرا لأن الدول الواضعة لها لم تتفق على صياغة هذا الموضوع الشائك من جراء النزاعات العديدة التي ثارت بشأنه لدى إبرامها، فرأت من المستحسن غض النظر عنه مؤقتا ريثما يتبلور مفهومه في التعامل الذي ستتبعه الدول في السنوات القادمة.

المطلب الثالث: حصانة حقيبة الدبلوماسية من إجراءات التفتيش

تتمتع البعثة الدبلوماسية بحرية الاتصال بحكومتها و كذا بالبعثات الأخرى الدبلوماسية لدولتها أينما وجدت حتى تتمكن من أداء مهمتها على أكمل، و أتاحت لها اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية استعمال كل الوسائل الممكنة للاتصال كرسالة المشفرة و الحقيبة

الدبلوماسية غير أن استعمال الأجهزة اللاسلكية لا يكون إلا بموافقة الدولة المعتمد لديها.

تعد الحقيبة الدبلوماسية من أهم وسائل الاتصال المستعملة بين الدولة و بعثاتها في الخارج، و قد كانت في شكلها الأول عبارة عن كيس أو شنطة مختومة باسم السفارة مكتوب عليها حقيبة دبلوماسية تحوي بريد دبلوماسي ، ومع مرور الزمن ازدادت حاجيات السفرات و تنوعت فلم تعد الحقيبة الدبلوماسية بالشكل الذي كانت عليه في الأول بل أصبحت تأخذ أحجام كبيرة كصناديق الموجود بداخلها أجهزة الإلكترونية و معدات متطورة التي تحتاجها البعثات في أداء مهامها شريطة أن تكون مطبوعة و تحمل علامات خارجية تبين طبيعتها.

أولا: محتويات الحقيبة الدبلوماسية

بالرجوع إلى الفقرة الرابعة من  المادة 27  من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 نجدها قد حصرت استعمال الحقيبة الدبلوماسية في نقل المراسلات و الوثائق الدبلوماسية و كذا المواد المعدة للاستعمال الرسمي دون غيها من الأشياء، حيث نصت على أنه ( يجب أن تحمل الطرود التي تتألف منها الحقيبة الدبلوماسية علامات خارجية ظاهرة تبين طبيعتها، و لا يجوز أن تحوي إلا على الوثائق الدبلوماسية و المواد المعدة للاستعمال الرسمي).

لقد تطرقت هذه المادة لطبيعة المواد التي يجب أن تحتويها الحقيبة الدبلوماسية حيث جاءت بعبارة عامة غير محدودة ( مواد معدة للاستعمال الرسمي) دون أن تعطي تعريف دقيق لها تبين فيه الأشياء المعدة للاستعمال الرسمي و تلك غير معدة للاستعمال الرسمي ومن هذه الزاوية فإن مدلول هذه العبارة يعرف وجود احتمالين، الاحتمال الأول هو المدلول الضيق الذي يحصر المواد المعدة للاستعمال الرسمي في المواد التقليدية المعروفة كالمرسلات الرسمية و الوثائق و المنشورات و الرسائل المرسلة بالرموز و الشفرة  و أشرطة الأفلام التي بإمكانها إثراء العلاقات الثقافية بين الدول.

أما الاحتمال الثاني فهو مدلول واسع يشمل كل المواد المباحة التي تخرج من الدائرة المحضورة و تعتبر مشروعة مهما كان حجمها و شكلها ، و هذا الاحتمال يحمل في طياته مغالاة إذ بمقتضاه يمكن أن تعتبر الصناديق ذات الأحجام الكبيرة حقائب دبلوماسية،وتحتوي على كل ما تحتاج إليه البعثات الدبلوماسية كالوثائق و تجهيزات مكتب والتجهيزات الخاصة بسكنات البعثة و قطع غيار السيارات الرسمية، وهو ما أدى إلى تضييق الخناق عليه  في الساحة الدولية من أجل تجنب إساءة استعمال الحقيبة الدبلوماسية، ففي سنة 1967 رفضت السلطات الأرجنتينية دخول شاحنة سوفياتية كانت متوجه إلى السفارة السوفياتية بالأرجنتين إلا بعد تفتيشها لتأكد من احتوائها على المواد المعدة للاستعمال الرسمي.

وعليه يمكن القول أن استعمال الحقيبة الدبلوماسية لا يكون إلا لنقل الأشياء التي تكيف بطبيعتها أنها معدة للاستعمال الرسمي، كما تستخدم لنقل الوثائق الرسمية كالرسائل و أوراق الانتخاب و ملصقات المرشحين و كذا محاضر الفرز من مكاتب الانتخاب الموجودة في الخارج، بيدا أن استعمال الحقيبة الدبلوماسية لنقل أغراض أخرى غير تلك المنصوص عليها في اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 يتطلب إعلام الدولة المستقبلة بذلك و الحصول على موافقتها.

ثانياموافقة الدولة المرسلة على تفتيش الحقيبة الدبلوماسية

إن اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 قد تبنت مبدأ الحصانة المطلقة للحقيبة الدبلوماسية وهذا ما يستشف في نص الفقرة الثالثة من المادة 27  من اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961  التي تنص على أن(الحقيبة الدبلوماسية لا يجوز فتحها أو حجزها) ، وقد تبين خلال مناقشات التي سبقت وضع الاتفاقية رفض لجنة القانون الدولي إحداث أي تغيير على هذه المادة و خصوصا وأن بعض الدول قد تحفظت على هذا النص بجواز فتح الحقيبة الدبلوماسية في حالة الاشتباه بها بحضور ممثل رسمي عن دولة المرسلة.

إن التطور التكنولوجي في الوقت الراهن أدى إلى استعمال الأجهزة الإلكترونية المتطورة في مختلف المطارات و الموانىء من أجل مراقبة الحقائب، و استعمال مثل هده الأجهزة يسمح بكشف عن محتوى الحقيبة الدبلوماسية مما يفقد المرسلات سريتها، وعليه فإن إخضاع الحقائب الدبلوماسية لتفتيش عن طريق الأجهزة الالكترونية لا يجب أن يكون إلا بموافقة الدولة المرسلة للحقيبة باعتباره يسمح بالكشف عن سرية الوثائق الرسمية، وفي حالة رفضها ذلك ما على الدولة المستقبلة إلا طلب سحب الحقيبة الدبلوماسية وإرجاعها إلى مصدرها، وهو ما أكدته المادة 28 من مشروع لجنة القانون الدولي لسنة 1986  الخاص بالحقيبة الدبلوماسية وحاملها.

     في كل الأحوال نقول أن حرمة المرسلات الدبلوماسية و منها الحقيبة الدبلوماسية أوجدت نوع من الموازنة بين مصالح الدولة المرسلة و الدولة المعتمد لديها ،كون أن الدولة المعتمدة تسعى إلى الحفاظ على سرية مراسلاتها و عدم الإطلاع عليها مقابل التزامها بعدم إساءة استعمال الحقيبة الدبلوماسية لأغراض غير مشرعة تمس بأمن و سلامة  الدولة المستقبلة، التي يقع على عاتقها  عدم اتخاذ أي إجراء يكون الهدف من ورائه الكشف على ما تحتويه الحقيبة الدبلوماسية من أسرار، لذا فإن الدولة المستقبلة في حالة توفر لديها شكوك قوية بإحتواء الحقيبة الدبلوماسية على مواد غير مشروعة ما عليها إلا طلب موافقة الدولة المرسلة لفتحها و بحضور ممثل رسمي عنها، و في حالة رفضها ذلك فما على الدولة المستقبلة إلا طلب إرجاع الحقيبة الدبلوماسية من حيث جاءت أو تتخذ إجراء آخر متمثل في إعلان أن المبعوث الدبلوماسي الذي استغل استخدام الحقيبة الدبلوماسية أصبح غير مرغوب فيه على إقليمها.

خاتمة

وبعد استعراض مبدأ الرضائية في القانون الدبلوماسي كأحد الركائز الذي تبنى عليه العلاقات الدبلوماسية بين الدول ، نكون قد وصلنا بالبحث والدراسة إلى عدد من النقاط الهامة التالية:

– إن تمتع الدولة بالشخصية الدولية و الاعتراف المتبادل بينهما لا يعطي للدولة حق إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى إلا بعد أن تتفق مباشرة مع الدولة التي تريد إقامة علاقات دبلوماسية معها ،كون أن إقامة علاقات دبلوماسية وارسال بعثات دائمة ليس حق للدولة على الدول الأخرى ، كما أنه لا يلزم الدولة قبوله أو رفضه ، بل هو مجرد رخصة تملكها الدولة لها حرية استعمالها أو تركها ، ولهذا فإن التمثيل الدبلوماسي يقوم على قاعدة الاتفاق المباشر بين الدول على إقامة علاقات دبلوماسية .

– عندما تتفق دولتان على تبادل التمثيل الدبلوماسي فإن ذلك يتضمن الموعد المقرر لذلك ، وأيضا مستوى التمثيل ، إما سفارة برئاسة سفير أو قائم بالأعمال الأصلي في حالة التمثيل المقيم ، أما في حالة التمثيل غير مقيم فيتم الاتفاق بين الدولة المعتمدة و الدولة المعتمد لديها  و الدولة الثالثة التي سيتم معها تبادل التمثيل غير مقيم ، ويمكن أن توجه بالأخيرة بعثة برئاسة القائم بالأعمال بالنيابة عن السفير المقيم بالدولة المعتمد لديها في الأصل .

– إن الحصانة القضائية التي يتمتع بها المبعوث الدبلوماسي لا تقرر لمصلحته الشخصية   و إنما هي مقررة لصالح دولته ، لذلك لا يجوز للمبعوث أن يتنازل عن هذه الحصانة إلا بموافقة دولته كون أنها هي وحيدة التي تملك هذا الحق و لا يمكن للمبعوث الدبلوماسي أن يتخذ أي موقف اتجاه قرار دولته برفع الحصانة القضائية و يشترط أن يكون التنازل عن الحصانة القضائية صريحا متى توافرت أسباب جدية تبرر ذلك .

– تتمتع الحقيبة الدبلوماسية بحصانة مطلقة إذ لا يجوز فتحها أو حجزها من قبل سلطات الدولة المستقبلة و عليه في حالة وجود شكوك لديها حول احتوائها على أشياء تتنافى مع ما هو منصوص عليه في اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 فإنه لا يمكنها فتحها إلا بموافقة الدولة المرسلة و بحضور ممثل رسمي عنها و في حالة رفض هذه الأخيرة فما على الدولة المستقبلة إلا طلب إرجاع الحقيبة الدبلوماسية إلى وجهتها الأولى .

– إن التغيرات التي عرفتها الساحة الدولية نتيجة بروز نظام دولي جديد تسود فيه القوة    و الهيمنة من طرف القطب الواحد أثر كليا على قاعدة الرضا في إقامة علاقات دبلوماسية نتيجة للقرارات و التوصيات التي تصدرها المنظمة الدولية و التي تحث فيها الدول على الدخول في علاقات دبلوماسية مع بعضها أو تلك التي توصي بعدم إقامتها أو توقيعها كجزاء يوقع على دولة معينة ، كما يمكن أن تفرض على دولة ما قطع علاقتها الدبلوماسية مع دولة معينة كجزاء أو وسيلة ضغط على هذه الأخيرة .

وفي الأخير نقول أنه حان الوقت لإعادة النظر في اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 نتيجة قصورها على مسايرة الركب الحضاري الذي تعرفه الدول في مجال العلاقات الدولية ، لا سيما و أن الدول أصبحت تسعى إلى تفسير هذه الاتفاقية حسب ما يخدم مصالحها الخاصة متجاهلة أحكامها تماما إذا كانت تخالف هذه المصالح ، وعليه نقترح مايالي

– إدراج مواد صريحة تسمح لسلطات الدولة المستقبلة بدخول مقر البعثة الدبلوماسية في حالات عارضة كنشوب حريق أو حدوث فيضانات دون موافقة رئيس البعثة لاتخاذها ما يمكن من إجراءات من أجل تجاوز هذه الحالات الطارئة ، و إنقاض ما يمكن من أرواح و ممتلكات لأن انتظار أخذ الموافقة من رئيس البعثة قد يستغرق وقتا طويلا يؤدي إلى تفاقم المشكلة ،و بالتالي يصعب تجاوزها إضافة إلى أن رئيس البعثة قد يرفض دخول سلطات الدولة المستقبلة إلى مقر بعثته و إن كان هذا ليس في مصلحته.

– وضع أحكام تنظم منح ملجأ دبلوماسي بالنسبة للمجرمين السياسيين، و استبعاده بالنسبة للمجرمين العاديين و أن لا يتم منحه إلا بموافقة صريحة من طرف دولة الإقليم على أساس أنه يعتبر إنقاص من سيادتها الداخلية إضافة إلى حقها في سحبه بطريقة صريحة لا تدع مجالا للشك في أي وقت.

– تضمين الاتفاقية الجديدة أحكام تتعلق بعدم جواز فتح الحقيبة الدبلوماسية من طرف الدولة المستقبلة إلا بموافقة صريحة من طرف الدولة المرسلة ، و بحضور ممثل رسمي عنها نظرا لما تتمتع به الحقيبة الدبلوماسية من قداسية باعتبارها من أهم و سائل الاتصال بين البعثة الدبلوماسية و دولتها.

الناشر: مكتبة الوفاء القانونية، الإسكندرية. سنة النشر: 2016     عدد الصفحات: 275.

الرقم المعياري الدولي للكتاب: 8-123-753-977

3.3/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى