مقالات

مُقتَرب هارفارد و ما يريده ترامب

بقلم : فريد بغداد – المركز الديمقراطي العربي

 

يتناول طلاب العلوم السياسية تخصص علاقات دولية مع بداية مسارهم العلمي في مواضيع المنهجية أدوات نظرية لتحليل الظاهرة السياسية تعرف بالمقتربات ، و التي تعني زاوية نظر الباحث أو المحلل السياسي التي يتموقع عندها ليبصر تفاصيل ما هو بصدد دراسته .

و يعكس تعدد هذه المقتربات اختلاف وجهات النظر و تضاربها في بعض الأحيان لدى المحللين و الدارسين و حتى عند صناع القرارات ، فمنهم من ينظر إلى أزمة معينة من جانب تأثير المتغيرات الاجتماعية و منهم من يتموضع بالقرب من الأسباب الاقتصادية للأزمة ليدرس تأثير عوامل الاقتصاد على مساراتها و تداعياتها و مخرجاتها ، و منهم من يدخل إلى الأزمة من باب الفاعلين السياسيين أو ما يعرف بأطراف النزاع فيدرس على ضوء تفاعلاتهم و العلاقات التي تربط بينهم تطور الأزمة و مضامينها و أبعادها و وسائل إدارتها و طرق حلها .

يعتبر مقترب هارفارد أحد المقتربات النظرية لتحليل النزاع و هو يقوم على فكرة وجود اختلاف بين المواقف التي تعني “ما يزعم الساسة أنهم يريدونه ”  و بين المصالح التي تعني في حقيقتها ” لماذا يريد الساسة ما يزعمون أنهم يريدونه ” ، كما يؤكد أصحاب هذا المقترب على فكرة أساسية مفادها أنه حتى يتم التوصل إلى حل للنزاع فإنه لا بد على الفاعلين السياسيين أثناء التفاوض و المساعي الدبلوماسية التركيز على المصالح بدل المواقف إلى جانب التوصل إلى اتفاق أطراف النزاع حول معايير معينة تكون مرجعا للتعامل مع اختلافاتهم .

فمثلا في حال نزاع حدودي ينبغي تحديد الإطار القانوني الذي بموجبه يتم توصيف الخلاف و إعطائه شكله القانوني كأن تكون الأراضي محل النزاع حقا تاريخيا لأحد الأطراف ، أو أنها تقع في إطار مبدأ تصفية الاستعمار ، كما ينبغي الاتفاق حول الآلية التي يحسم بها النزاع كتقرير المصير أو الحكم الذاتي  ، إضافة إلى معايير أخرى تتعدد بحسب قضايا و مشاكل النزاعات الدولية .

في الغالب الأعم تتناقض المواقف مع المصالح أثناء النزاعات بين الدول، فما يصرح به المسؤولون السياسيون لا يُعبِّر بالضرورة عما يريدونه و ما يسعون لتحقيقه من أهداف، فتأتي المواقف لتشتيت أفكار الخصم ربحا للوقت أو في محاولة لثنيه عن تصعيد التوتر أو لجره إلى طاولة المفاوضات تهدئةً للخلاف أو رغبة في تحقيق المزيد من المكاسب أو إرغامه على تقديم تنازلات أو بغرض إفقاده لمزايا يتمتع بها .

حينما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني كان ذلك تحت مبرر قيام إيران بزيادة نشاطها النووي على عكس التزاماتها في الاتفاق الذي فشل في الحد من نشاطاتها في دعم الإرهاب ، و أنه ” منح النظام الإيراني الإرهابي ملايير الدولارات ” .

و من المؤكد أن ترامب يدرك جيدا أنه بافتعاله لأزمة في منطقة يكفيها ما تعيشه من أزمات سيعمل على تحفيز أسواق النفط للرفع من أسعاره خصوصا أن الانسحاب من الاتفاق النووي سيؤدي آليا إلى فرض عقوبات اقتصادية مجددا على إيران ،  التي من ضمنها إلزام شركاء الولايات المتحدة في الاتفاق عدم التعامل الاقتصادي مع إيران بما في ذلك التوقف عن التزود بالنفط الإيراني مما يعني انخفاض المعروض النفطي في السوق العالمية و ارتفاع أسعاره وفقا لآلية السوق القائمة على ميزان العرض و الطلب ، في الوقت الذي يَعِد المواطن الأمريكي بخفض أسعار الوقود التي أثقلت كاهله .

و في تغريدة له أواخر الشهر الماضي أكد ترامب على أن الملك السعودي سلمان بن سعود قبل طلبه بزيادة إنتاج بلاده من النفط بواقع مليوني برميل ، و بعدها غرد بأخرى عبّر فيها عن أمله بأن تزيد أوبك إنتاجها بشكل كبير للإبقاء على الأسعار مرتفعة .

طريقة ترامب في إدارة سياسة بلاده بالتغريد على تويتر لوحدها كافية أن تؤكد على سلوكه الغريب حيال ما يريده من وراء مواقفه المعلنة ، و أن هذه الأخيرة ليست بالجدية الكافية التي عادة ما تفرض على الرؤساء نوعا من التزام الحيطة و اتخاذ أقصى تدابير السرية و كتم ما هم بصدد القيام به من إجراءات قد ترتد نتائجها بعكس ما كانوا يريدونه .

في أواخر العام الماضي كانت المملكة قد أعلنت نيتها طرح 5 بالمائة من قيمة شركة آرامكو السوقية للاكتتاب في بورصة عالمية و أن هذا العملية ستمثل أضخم إدراج لم يسبق أن حدث من قبل ، و أنه سيتم خلال النصف الثاني من العام الحالي ، متوقعة أن يدر عليها عوائد هائلة تفوق المائة مليار دولار ؛ هي في حاجة لها لتمويل مشروع ” نيوم ” الضخم الذي أعلن عنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ، و طالبت السعودية حينها بخفض مخزونات النفط العالمية حتى يتسنى لأسعار النفط الارتفاع الأمر الذي من شأنه إنجاح عملية الإدراج .

من الطبيعي جدا أن لا يفـوِّت ترامب تصريحات كهذه ليتجاوب معها ، خصوصا أن لديه التزامات و تعهدات انتخابية سبقتها بزمن بعيد تصريحات تليفزيونية لعل أشهرها كانت قد جمعته بالإعلامية الأمريكية المتمرسة ” أوبرا وينفري ” بيّن من خلالها أنه في حال أصبح رئيسا للولايات الأمريكية فإنه سيجبر دول الخليج على دفع ثمن الرفاهية التي يعيشونها .

و من البديهي جدا أنك إذا أردت أن ترفع أسعار النفط للاستحواذ على صفقة بألفي مليار دولار فلا أسهل من افتعال الأزمات و خلق التوترات في إقليم المنبع ؛ طالما أنه ليس بمقدورك إحداث اضطراب جوي في إقليم المصب ، و ستسير الأمور بشكل أيسر في منطقة تُعقِّد جغرافيتها السياسية مرور سفن النفط ، و يصبح ذلك بالإمكان من خلال رفع لهجة التصعيد و استفزاز إيران بفرض عقوبات ما بعد إلغاء الاتفاق النووي .

و يبدو أنه من الصعب على إيران تعويض عائداتها من العملة الصعبة جراء العقوبات على صادراتها ، كما أنه من الصعب عليها أيضا إغلاق مضيق هرمز إذ من غير المعقول أن تثير حساسية الكرة الأرضية و هي تُقدِم على حرمانها من مادة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال .

استهداف الحوثيين وكلاء إيران لبارجة حربية سعودية عند مضيق باب المندب حسب زعمهم ، و لناقلة نفط حسب الرواية السعودية يدخل ضمن مخطط ترامب لزيادة أسعار النفط ، كما أنه يساعد على فهم مقترب هارفارد فيما يتعلق بسلوك الساسة و هم  يعلنون عن مواقف ليست بالضرورة صحيحة بالقدر من كونها تخفي مصالح من الأفضل ستر حقيقتها حتى يحصلوا عليها بعيدا عن ضوضاء المؤثرات السياسية و الإعلامية و ضجيجها .

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى