الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

ظاهرة ( الحرقة ) أو الهجرة غير الشرعية في الجزائر

بقلم : د. فاطمة الزهراء شبيلي – أكاديمية و باحثة في الإقتصاد و السياسة – الجزائر .

  • المركز الديمقراطي العربي

بدأت ظاهرة الحرقة ( الهجرة السرية ) تأخذ أبعادا و منعرجات خطيرة ! فقوارب الموت، التي ارتفعت وثيرتها في الآونة الأخيرة، أخذت منحى تصاعدي !!

ولم يقتصر الأمر على الشباب في ريعان العمر بل إمتدت إلى النساء والأطفال و الرضع و ،فأضحى المشهد جثث يلفظها البحر يوميا! و مئات المفقودين! لتصبح ظاهرة “الحرقة” مأساة حقيقية، وأخطر هجرة أصابت آثارُها المُدمِّرة الأمةَ في الصميم ، هجرة الشباب من مختلف الأعمار والفئات والمستويات نحو الخارج!

لتتحول قوارب صيد إلى مصير مجهول!! فالحرقة التي إلتهمت شباب الجزائر الفاقد للأمل، تواصل استنزاف الشباب من مختلف الأعمار أملا في حياة وردية أفضل في الضفة الأخرى، إما بحثا عن العمل وتحسين الأوضاع الاجتماعية أو بحثا عن الرفاه ! ورغم قساوة الطقس وتقلبات الجو،عادت ظاهرة “الحرقة” بقوة مؤخرا، لتعود معها مآسي عائلات تفقد أبناءها إما غرقا في البحر الابيض المتوسط، الذي بات مقبرة للشباب، أو بين أوضاع مزرية في دول أوربا، رغم بيانات وزارة الدفاع الوطني التي تخبرنا يوميا عن اعتراض قوارب العشرات من الحراقة، و إحباط حراس السواحل ألاف المحاولات !

و مع ذلك تحطم الجزائر رقما قياسيا في ظاهرة الحرقة أكثر من 10.000 جزائري وصلوا أوروبا في 6 أشهر!! حرقة جماعية تشارك فيها عائلات بأكملها نساء وأطفالا وشيوخا للوصول الى ضفة شمال المتوسط ليعيشوا في الجنة الأوروبية حسب تصورهم! .. الهجرة غير الشرعية أو كما طاب للمجتمع تسيميتها ” الحرقة ” هي ظاهرة إجتماعية أصبحت حديث الساعة عند فئات مختلفة من المجتمع ، من المسؤول عنها ؟ وما هي أسبابها ؟

  • هل أصبحت الجزائر بهذا السوء ليهجرها شبابها ؟
  • هل نعالج النتائج ونتغاضى عن معالجة الأسباب؟

تفاقمت هجرة الشباب الجزائري عبر كل وسائل “الهربة” ولعل ألعنها وأسوأها هجرته على قوارب الموت، التي أصبحت ظاهرة مشينة، فبقدر ما هي مأساة حقيقية بالنسبة للشباب المغامر بحياته في البحر وبين أيدي البوليس الأوروبي، بقدر ما هي وصمة عار و فضيحة كبرى في جبين الحكومات العقيمة المتتالية ، التي ما زالت تدير بلدا بحجم الجزائر يمتلك كل الثروات و أسباب الحياة التي يبحث عنها الشباب في أوروبا وبقية العالم، ومن أجلها ترك وطنه !

فآخر تقرير لمنظمة “هجرة جزائرية بالخارج” يفيد أن أكثر من29 ألف حرّاق جزائري وصلوا أوروبا ، دون احتساب مئات الغرقى الذين إبتلعهم البحر، في ظرف عشرة أشهر فقط من السنة الماضية ، تقول الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، تمَّ إحباط محاولاتٍ للهجرة قام بها أربعة آلاف شاب، من بينهم 287 امرأة، وأزيد من11 ألف قاصر، في حين أُوقِف ما يناهز13 ألفً في بلدان الوجهة الأوروبية، بزيادة معتبرة عن السنوات السابقة، علمًا أن هذه الدول، تعيد ترحيل خمسة آلاف حرّاق إلى الجزائر كل سنة، في إطار الاتفاقيات المشتركة .

و بات المشرع الجزائري (الذي هو احد الاسباب المباشرة للحرقة ) و من ورائه منظومة الحكم كلها عاجزين عن ايجاد حلول ناجعة و فعالة يمكن لها ان تعالج هذه الظاهرة بطريقة صحيحة، في ظل تطور عالمي مطرد صعب من عملية التحكم في مكانيزمات الفعل الاقتصادي مع تراجع أسعار البترول .

و بالنظر الى ان اهم شريحة تقوم بهذا الفعل الغير مضمون العواقب هي فئة الشباب كان لابد من ايجاد مؤسسات دولة تعنى بهذه الظاهرة دراسة و تحليلا و خططا إستعجالية للوصول الى الحلول التي تضمن على الأقل وقف هذه الظاهرة التي تنخر جسد الأمة في أعز ما تملك ! فكيف يا أئمة الجزائر و أنتم تطلقون فتواكم الرسمية بالهجرة غير الشرعية حرام شرعا ، بعد فوات الأوان أن تقنعوا شبابنا بعدم الهجرة وهم يعانون من الفقر والبطالة والتهميش والحقرة و البيروقراطية و الرشوة والمحسوبية ويعانون من اللا عدل واللا مساواة و اللا تكافئ الفرص ولم يستفيدوا إطلاقا من التوزيع العادل للثروة !؟

وأين أنتم من الخطاب الديني الوسطي الرشيد والمعتدل و دوره الإجتماعي في بناء الشخصية وإنماء الحس الوطني ؟

دون العمل بالمقابل وفق سياسة سوسيو اقتصادية واضحة تهدف الى الحد من هذه الظاهرة، رغم ما تتمتع به الجزائر من استقرار سياسي وموارد اقتصادية قادرة على توفير فرص عمل و حياة كريمة للمواطنين لو استغلت بالكفاءة المطلوبة؛ وعليه يمكن طرح التساؤلات التالية:

  • ما هي الدوافع الأساسية للهجرة غير الشرعية في الجزائر؟
  • هل فعلاً الجزائر تعاني من انعدام فرص العيش ؟ وكيف يمكن قراءة هذا النمط الانتحاري لظاهرة الهجرة غير الشرعية في الجزائر؟

1ـــ متغير الفجوة وإنتاج الاحباط : يُخيم على الشباب الجزائري اليوم ما يمكن أن نسميه ذهنية الحرمان المادي بمختلف أشكاله، فالشاب الذي يجيد استعمال الانترنت ويتقن لغات أجنبية ، هو في الأصل يعيش في واقع لا يتماشى وتصوراته وأماله على الاطلاق؛ ومن هنا نشأت الفجوة بين رغد العيش الأوروبي وقساوة نظيره في الوطن.

ومصدر هذه الفجوة راجع لعدم وجود نخبة سياسية قادرة على تحقيق طموحاته.

2ـــ انتشار الفساد ونمو البرجوازيات الطفيلية مقابل الإحتقان و الإحباط و التذمر : يرى الكثير من الشباب الجزائري خصوصاً حملة الشهادات أن الدولة يسيطر عليها زمرة من الفاسدين على المستوى المركزي وشبكات واسعة من المنتفعين أصحاب المصالح الخاصة والوصوليين على المستوى المحلي والذين يتيحون فرص التوظيف وانشاء المشاريع الاقتصادية الى مقربيهم وذويهم وكل من سار في نهجهم؛ ونتيجة هذا الفساد على مختلف المستويات وبمختلف الأشكال وفي شتى المجالات نمت برجوازية طفيلية تتميز بالاستهلاك التفاخري الذي يؤدي في الأخير الى بروز الغيض الشبابي تجاه هؤلاء الذين يُحسبون على السلطة السياسية وأجهزتها على المستوى المركزي والمحلي؛ وبالنسبة للشباب يرون أن هناك تحالفاً بين السلطة السياسية والبرجوازيات الطفيلية التي سيطرت على موارد الدولة (العقارات والأموال) والمناصب الوظيفية دون تأهيل حيث شكلت جداراً اسمنتياً لا يمكن تجاوزه أو زعزعته، ، ومن هنا يأتي التفكير في الهجرة كحل أخير للتخلص من الفضاء الضيق الذي تتحكم فيه البرجوازية الطفيلية الحديثة التي تتميز بالتباهي والتعالي والتي تشكل دافعاً أساسياً للإحباط الشبابي الذي سُدّت كل الأبواب أمامه ولم يجد الا الهجرة بطريقته الخاصة.

3ـــ عدم نجاعة السياسات الاقتصادية المتتالية وضعف الأداء الاقتصادي: لقد تميزت السياسات الاقتصادية في الجزائر منذ مطلع الالفية الثالثة بضعف كبير على مستوى النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية، وهذا ما انعكس سلباً على احداث تغير نوعي في البنية الكلية للاقتصاد الوطني بما يحرره من التبعية للريع النفطي من جهة، ويوفر فرص و سوق عمل و توظيف للشباب من جهة ثانية، ويعمل على بناء قاعدة انتاج وطنية في المواد الضرورية على الاقل من جهة ثالثة؛ فخيبات الأمل التي أصيبت بها السياسات الاقتصادية الوطنية وان كانت لها عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية كما لها تبعاتها الثقيلة في نفس هذه المجالات، هي التي تعتبر العامل الأكثر تأثيراً في انهيار آمال الشباب نحو بناء حياتهم الاجتماعية وتحقيق آمالهم في فرص الشغل وتحقيق الاندماج الاجتماعي، ويمكن القول أن ضعف الأداء الاقتصادي يعتبر عامل حاسم في اصطفاف الشباب ضمن طابور البطالين، ومن هنا يشعر الشاب بخيبات الأمل والاحباط وضيق الأفق، ويبدأ التفكير في العيش في عالم آخر غير عالم الاحباط الذي تحكمه ساسة من الجيل القديم لا ترتقي ولا تعبر عن طموحاته.

إذن فالسياسات الاقتصادية غير الناجعة منذ ما يقارب عقدين من الزمن تعتبر كذلك من بين أهم الأسباب السياسية التي حولت الجزائر الى أرض طاردة لشبابها بدل إحتوائه ودمجه في عالم الشغل.

والأكثر من ذلك رغم توفر الجزائر على كل الموارد الاقتصادية والميكنة التكنولوجية في مجال الأشغال العمومية الا أن العديد من مشاريع البناء توكل الى شركات أجنبية في وقت يوجد طابور طويل من الشباب البطالين الذين يعيشون حالات البؤس المادي والاحباط النفسي.

4ــ ضعف سياسات التكوين المهني والجامعي: أن ما يميز الجامعة الجزائرية ومختلف مراكز ومعاهد التكوين هو العدد الهائل من الخرجين في كل سنة، وبالمقابل عدم وجود مؤسسات اقتصادية قادرة على استيعاب الجزء الأكبر منهم، سواء من خرجي الجامعات الذين يتمتعون بتكوين نظري يعوزه التكوين التطبيقي، أو خرجي المعاهد ومراكز التكوين الذين زاولوا مسار تكويني مزدوج نظري وتطبيقي، فكلهم مرشحون الى الالتحاق بقائمة المنتظرين في طابور البطالة؛ وهذا كله ليس راجع فقط الى عدم وجود مؤسسات اقتصادية قادرة على استيعابهم وحسب، بل كذلك راجع الى كون هؤلاء الخرجين اما تلقو تكويناً لا يتلاءم وحاجيات المؤسسات الاقتصادية الوطنية بما ينتج عنه بطالة هيكلية، واما تلقو تكويناَ ضعيفاً لا يجعلهم مؤهلين لاقامة مشاريع انتاجية أو مقاولاتية خاصة بهم، ومن هنا ينتج السخط والتذمر على الجامعة أولاً وعلى سياسة التكوين ثانياً وحتى على الوضع الاقتصادي والسياسي للوطن ثالثاً، وهذا السخط والتذمر هو كذلك دافع أساسي للهروب من الواقع ومواجهته بتحدياته الصعبة والقاسية الى عالم يراه الشاب مليء بالتحفيزات والفرص الاجتماعية والاقتصادية، وعليه يبدأ التفكير بالهجرة بأي طريقة كانت حتى ولو كان ثمنها حياتهم .

فالإحباط والسخط ناتج بالأساس عن خيبات الأمل التي شابت السياسات الاقتصادية ومن ثم تبخرت كل آمال الشباب في الاندماج الاجتماعي بما فيهم حملة شهادات جامعية. وفي النهاية يمكن القول أن الشباب الجزائري اليوم يعيش في واقع يراه عديم الفرص أو على الأقل لا يوجد فيه تكافؤ للفرص، وهذا هو منبع الاحباط والسخط الناتجان بالأساس عن خيبات الأمل المتراكمة نتيجة السياسات الاقتصادية، ومن ثم تبخرت كل آمال الشباب في الاندماج الاجتماعي ما أفرز عمليات إنتحار في قوارب الموت.

4/5 - (25 صوت)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى