موجة الثورات العربية الثانية ومطلب دولة المواطنة
اعداد : ماهر القدارات – باحث دكتوراه حضارة حديثة – صفاقس- تونس
- المركز الديمقراطي العربي
تعيدنا المظاهرات الأخيرة في العراق ولبنان وقبلهما الجزائر والسودان إلى سؤال الثورات العربية، هل هي ربيع عربي أم شتاء قاتم وجاثم على المنطقة؟
هل تدخل الموجة الثانية من الثورات ضمن مشروع الثورة الهدّامة وتدمير الأوطان أم ضمن بناء المجتمع وتصحيح المسار؟
انتفض الشعب السوداني على الرئيس عمر البشير مُفجّرا الموجة الثانية من الربيع العربي، انتفض ضدّ مٌمارسات الحزب الحاكم وضدّ مُتاجرته بالإسلام ولعقود من الزمن ضمن ثورة يسارية تضمّ قيادات عُمّالية ومهنية مختلفة (أطبّاء/ محامون/ معلُمون/حرفيون/ فلاّحون..) تحت اسم تجمّع المهنييّن والحرف الذّي ناد بتغيير النّظام الجاثم على صدور السودانيين.
وانتفض الجزائريون بدورهم على نظام بوتفليقة وعلى قيادات الجيش الفاسدة والمستبدّة والرّافضة لأيّ مُحاولات إصلاحيّة، تخطّوا حاجز الخوف من تكرار مشهد العُشريّة السوداء تحت مطلب الشعب يريد إسقاط النظام.
وعلى هذه الأرضية أيضا اندلعت المُظاهرات اللبنانية الأخيرة التي خرجت عن خطوط الطائفية وتجاوزت نظام المُحاصصة الذّي سيطر على المشهد السياسي اللبناني منذ توقيع اتفاق الطائف، ورُفع فيها فقط ولأول مرّة العلم اللبناني دون غيره من أعلام الأحزاب والطوائف في مشهد وطني يبين مدى تمسّك اللبناني بالهُويّة الوطنية ورفضه لسياسة التخندق الطائفي.
وعرفت العراق موجة جديدة من الاحتجاجات ضدّ العجز السياسي وضدّ الفساد والمُحاصصة الحزبية والطائفية والبطالة وضد تدخّلات إيران ونفوذها المتغلغل في العراق منذ سنة 2003 تحت شعار “نريد الوطن ” و”العراق سُنّة وشيعة وهالوطن ما نبيعه”.
ما يجمع هذه التحرّكات المتتالية هي مجموعة من المفاهيم وهي عبارة عن مطالب جوهريّة بسيطة تشمل حقوق الإنسان الأساسية وتحقيق العدالة الاجتماعية، توزيع عادل للثروات، مكافحة الفساد، الكرامة وإقرار مزيد من الحريات الشخصية وتوسيعها وحريّة التعبير وبناء دولة المواطنة، وما يجمعها أنها مظاهرات تلقائية عفوية وسلمية بلا قادة ولا أحزاب تُأطّرها تضمّ جيلا جديدا من المحتجين تتراوح أعمارهم من 16 إلى 30 سنة.
وتُمثّل هذه الاحتجاجات معركة جديدة من معارك التحرّر الوطني التي تخوضها الشعوب العربية واستكمالا لمرحلة الاستقلال الحقيقي ضدّ استبداد الأنظمة العربية وعمالتها، حيث يرى المواطن اليوم أنّ الدول العربية دول غير شرعيّة لم تنشأ مستقلة بإرادة شعبية حرة، دول باعت التجارب القومية والليبرالية والاشتراكية والوحدة العربية والدولة الوطنية، لم تنجح في تحقيق التنمية ولا في التعايش بين الجماعات الهووية المختلفة، دول بلا أمن ولا أمان ولا خدمات أساسية ولا بنية تحتية ولا عدالة ولا قانون.
باختصار إنّ الدول القائمة في عالمنا العربي هي دول وكيلة للاستعمار الغربي هدفها حراسة وحماية مصالحه في المنطقة وهي دول لا تُؤمن بالتداول السلمي على السلّطة ولا تحترم حُريّة التعبير ولا عُلويّة القانون. وقد اكتشف المواطن العربي أخيرا أنّ الدولة العربية لا تحمي مصالحه بل مصالح النظام والجماعات المُقربّة منه (دولة الطبقات)، فكانت الموجة الثانية من الثورات ردّة فعل لتراكمات تاريخية على من باعوا الثروات وصادروا السيادة وخانوا شعوبهم وسرقوا ونهبوا خيرات البلدان.
وقد بيّن التاريخ أنّ الشعوب العربية هي أكثر الشعوب صبرا على طُغاتها وديكتاتوريها (مثال ذلك طول فترة حكم الرئيس العربي)، وأنّها أكثر الشعوب سلمية في مواجهة آلات القمع وهمجية الأنظمة الحاكمة (نظام بن علي في تونس وعمر البشير في السودان والقذافي في ليبيا وبوتفليقة في الجزائر وبشار الأسد في سوريا ومبارك في مصر وعلي عبد الله صالح في اليمن) ونفس المشهد يتكرّر في لبنان والعراق. هذه الأنظمة وصلت اليوم إلى نقطة اللاّعودة وإلى نقطة التوحّش للدفاع عن ما تبقّى من مصالحها، فصنعت الارهاب وصنعت الفوضى وصنعت الّدمار والقتل والسجن والتعذيب والتجسّس على مواطنيها ومراقبة شبكات التواصل الاجتماعي تحت شعار “إمّا الرئيس أو تدمير البلاد”.
عطّلت هذه المُمارسات عملية الانتقال الديمقراطي في دول( كتونس والجزائر والسودان) وأفشلت الثورات في بلدان أخرى (كمصر واليمن وسوريا وليبيا)، ولكن تجدّد هذه المظاهرات اليوم (في لبنان والعراق) تحت شعار الشعب يريد اسقاط النظام يعني أنها تكملة لما عجزت عنه الموجات الأولى من الثورات العربية بنوع من التعقلن، حيث تشهد المجتمعات العربية تراجعا كبيرا لفاعلية الجماعات الإسلامية في المشهد السياسي لأنّ المطالب الثورية التي تبحث عنها الشعوب غير مطالب الحركات الإسلامية.
وما تعجز الأنظمة العربية على استيعابه أنّ غالبية الشعوب المُنتفضة هي من جيل الشباب (أعمارهم ما بين 16 سنة و30 سنة) الذين وُلدوا وعليهم أن يستمروا في العيش تحت حكم أشخاص لا علاقة لهم بهم ولا بمنظومتهم أو بمرجعياتهم السياسية والأخلاقية والقيمية. فلم يعد يُطالب المتظاهرون لا بإسلام ولا بإقامة دولة الخلافة ولا بمشروع أيديولوجي، عصرنا اليوم هو عصر تجاوز الأيديولوجيات وموتها، وقد كشفت الانتخابات التشريعية في تونس 2019 عن تراجع للحركة الإسلامية والقومية وموت اليسار الذي فشل في اثبات وجوده داخل البرلمان التونسي حتى بمقعد وحيد.
اكتشف المواطن العربي أخيرا أن الأيديولوجيا وهم، لذلك أصبح يُطالب بدولة المواطنة بعيدا عن المُحاصصة الحزبية الضيّقة ولسان حاله يقول “الشعب يريد دولة المواطنة لا دولة العبيد”، ويريد تطبيق القانون، يريد تفعيل الحقوق والحريات، يريد فصل السلطات، يريد مكافحة الفساد، يريد تشغيل وتنمية،يريد استرجاع الثروات الوطنية والسيادة المفقودة لتحقيق نهضة فعليّة تُخرجه من مرحلة المفعول به تاريخيا إلى مرحلة الفاعل كغيره من مواطني الدول المتقدّمة بشعارات وطنية ما فوق الطائفية والمذهبية، شعارات خارجة عن مركزية الهُويّة الدينية نحو مركزية الهُويّة الوطنية الجامعة، وهذا هو البعد الاجتماعي للثورة في العصر الحديث المُتمثل في مكافحة الفقر والفساد والبطالة وظهور مفهوم المواطنة وحقوقها وواجباتها، وما يلزم من الحريات العامّة والخاصّة ..كلّ هذه المطالب والتعبيرات لا توجد إلا في دولة المواطنة فقط.
لم تنجح مُحاولات الإصلاح في العالم العربي، لأنّ خُصوصيّة الإصلاح من خلال النظام السُلطوي العربي القائم كانت هي بالذات مُعيقا للديمقراطية، فالإصلاح إمّا تم عبر مُناورة للنظام السياسي التسلّطي بفعل تدخّل أجنبي وتعدّي على السيادة الوطنية، وإما كجزء من مناورته أمام قُوى سياسية مُعارضة تطالب بالإصلاح، أو من خلال تحالف النظام مع طرف ضدّ طرف آخر واستغلال التناقض بينهما خدمة لمصالحه، فيتحوّل الصراع بين قوى تقليدية وأخرى حداثوية بدل الصراع ضدّ النظام السُلطوي.فكأنّ الإصلاح السياسي في النظام التسلطّي العربي أصبح جزءا عُضويا من مبنى النظام وتكوينه كالفساد والزبونية والرعويّة، لذلك اختارت الجماهير الشعبية أن لا تُعوّل على الإصلاح السياسي من خلال النظام السُلطوي القائم.
نحن اليوم بحاجة إلى نخبة ديمقراطية تحمل مشروعا وطنيا ديمقراطيا ذاتيا خاصا بهموم الوطن ومشاكله وقضاياه وتحدياته لتحقيق مشروع الديمقراطية الوطني وعمادها دولة المواطنة في مرحلة ما بعد الأنظمة التسلّطية.