مقالات

الياسر في ذكرى استشهاده 16 عاماً

بقلم : د. إسلام عيادي – أستاذ العلاقات الدولية – الجامعة العربية الأمريكية

  • المركز الديمقراطي العربي

 

ياسر عرفات هو الشخصية السياسية الفلسطينية الوحيدة المدون اسمها في الموسوعات العامة. فقد احتل هذا القائد الوطني واجهة المسرح الدولي، بصفته مؤسس حركة فتح الفدائية مع ثلة من رفاقه عام 1959، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1969، ثم رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، التي أنشئت عام 1993، كان عرفات في مركز كل القرارات وكل الأحداث المتعلقة بشعبه، ساعياً لتحقيق هدف وحيد، إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ومنحته مجلة تايم الأمريكية لقب “رجل العام”، مرتين: المرة الأولى في العام 1968، والثانية في العام 1993، وهو عام التوقيع على اتفاقية أوسلو. وفي العام التالي، منح مع الإسرائيليين اسحق رابين وشيمون بيريس، جائزة نوبل للسلام.

التقيت بالشهيد ياسر عرفات للمرة الأولى في نهاية شهر سبتمبر عام 2004، أي قبل 16 عاماً، وهو العام الذي استشهد فيه. حيث كان محاصراً في المقاطعة في مدينة رام الله، كنت مع مجموعة مع الفتيات الفلسطينيات اللاتي يذهبن يومياً بعد انتهاء الدراسة الجامعية أو العمل إلى مقر المقاطعة من أجل دعم وإسناد القائد والرمز ياسر عرفات، وكم كنت سعيدةً جداً عندما أبلغنا أحد حراس الرئيس بأن عرفات يرغب بمقابلتنا، وعند دخولنا من البوابة الرئيسية للمبنى كانت مليئة بالأكياس الرملية، اتبعنا هذا الحارس ومن زاوية إلى زاوية ومررنا عبر دهاليز وأكياس رملية مع إضاءة خافتة، حيث بدا المكان من حولي بأنه تكنة عسكرية ليس مقراً للرئاسة، وصلنا إلى غرفة وطلب منا أن ندخل واحدة تلو الأخرى بعد إشارة الدخول، وكان الحراس جميعهم مقنعي الوجه، جاء دوري بالدخول فإذا بالياسر أمامي ببزته العسكرية وابتسامته الساحرة، انحنيت لأقبل يده فإذا به يغمرني ويقبل جبيني، وطلب منا الجلوس على طاولة الاجتماعات، وتحدث معنا وكم كان واثقاً من نفسه ومعنوياته مرتفعة جداً، فبدل أن نواسيه لقد قام بمواساتنا واختتم حديثه معنا بقوله “يا جبل ما يهزك ريح”. وثم ودعنا واحدة تلو الأخرى وغادرنا المكان بهدوء وسلام.

عاش عرفات كمناضل ومطارد لم تعوده الحياة على الرفاهية، فهو يشعر بضيق في الفنادق الكبيرة، ويفضل عليها البساطة، مكاتبه في المنافي، التي كانت تخصص فيها غرفة لنومه يتم تهيأتها لهذا الغرض، اتسمت دائماً بالتقشف: بعض الذكريات من فلسطين، صورة للمسجد الأقصى وقبة الصخرة في القدس، وخريطة فلسطين. وحين وصل عرفات إلى غزة قادماً من تونس عام 1994، نزل مع طاقمه في فندق فلسطين، بعد ذلك ببضعة أيام، اقترحوا عليه أن يقيم في مبنى جميل، وهو قصر الحاكم المصري لقطاع غزة الفريق أول يوسف العجرودي، لكنه رفض ذلك، ثم عثروا له أخيراً على مسكن صغير من طابقين يقع في نهاية زقاق، مما يسهل حمايته. وفي رام الله أيضاً، اتخذ من مكتبه في المقاطعة مسكناً له، حيث أن عرفات لا يملك حتى شقة خاصة به في مدينة رام الله.

كان عرفات طوال حياته السياسية رجلاً صلباً، حيث استطاع أن يلتف على الأنظمة، ويتغلب على المعارضة، ويواجه العدو الإسرائيلي، وينتصر على الانشقاقات. لم يكن بقاؤه السياسي لغزاً محيراً، حيث أن هذا البقاء يستند إلى ميزة أساسية يتصف بها، وهي البراغماتية، وهي ميزة طالما برهن عليها منذ كان طالباً جامعياً نشطاً في القاهرة عام 1948. وهذا ما قاله الشاعر الراحل محمود درويش عن عرفات، الذي شغل منصب عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لفترة طويلة من الزمن، “إنه براغماتي منذ بدايته”، حيث كانت تصريحاته العلنية النارية تحض على الكفاح من أجل التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الوطني، ولكن يجب أن ندرك أن هذه التصريحات وهذا الكفاح نفسه لم يكن الهدف منهما فقط مقاتلة الإسرائيليين، بل توحيد الفلسطينيين أيضاً، هذا الشعب اللاجئ اليائس، المشتت في البلدان المجاورة أو الذي يعيش تحت الاحتلال.

وبفضل هذه البراغماتية تمكن عرفات من تجنب كل المشكلات التي من شأنها تفتيت صفوف شعب يتوجب عليه قطعاً أن يظل موحداً للكفاح، أما المجتمع، والاقتصاد، والثقافة، وطبيعة نظام الدولة الفلسطينية القادمة، فهي أسئلة كثيرة لم تحظ إلا بأجوبة غامضة.

واتصف عرفات بكاريزميته الهائلة، التي يعترف بها حتى أعدائه، تدعمها فكرة ذاكرة جبارة التي طالما ساعدته في إطراء محادثيه، باستحضار تلك الذكرى أو ذلك التفصيل من تفاصيل حياتهم، بالإضافة إلى رغبة حقيقية في الإقناع. تلك هي ميزات ساعدته في رص صفوف جبهته وكسب عدد من الشخصيات الأخرى.

ومن جهة أخرى، كان يعمل بلا كلل، يشتغل ست عشرة إلى ثماني عشرة ساعة في اليوم، ومن النادر أن يعهد عرفات بصلاحياته إلى أحد، الأمر الذي طالما أثار الانتقادات ضده في أوساط معسكره، فهو إذ يحرص على الإمساك بكل الخيوط في يده، يحرص أيضاً على الاطلاع على تفاصيل كل حالة من الحالات، مؤكداً أن الزعيم الذي يهمل التفاصيل ليس بمقدوره اتخاذ القرار الصائب.

فقد كرس للقضية الفلسطينية كل طاقته وكل وقته منذ السنوات الأولى لتأسيس حركة فتح، عالمه سياسي حصراً، منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الوطنية الفلسطينية، والعالم العربي، والسياسة الدولية، أما العطلات، ومتعة العروض الفنية، والسينما والمسرح، فهو ترف لا يسمح لنفسه به، لا تعرف له هواية ولا تسلية، ولا يحب كرة القدم، ولكن الرياضة التي يفضلها هي ركوب الخيل، وكان يميل عرفات إلى قراءة التاريخ، والأدب حيث كان يقرأ لأشعار كل من محمود درويش أو معين بسيسو.

وباختصار سيظل الياسر قصة ومدرسة تحكى للفلسطينيين، وسيبقى تاريخه لغزاً يستحيل فك رموزه، فهو أحد المحاور التي دارت عليها حركتنا السياسية وأحد الأقطاب الذي شد عملنا الوطني والنضالي. فقد كان يؤكد دائماً بأنه لا يخشى الموت، ولا يخاف إلا من الله. رحم الله القائد الرمز ياسر عرفات.

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى