مقالات

مفهوم المَلَكَة عند ابن خلدون بين الطبع والصناعة

بقلم : آية عادل علي عبد الحليم – باحثة ماجستير، جامعة القاهرة

  • المركز الديمقراطي العربي

 

اتخذت لفظة ” المَلَكة ” حضورًا جوهريًّا داخل سياق تَحدُّث ابن خلدون عن كل الجوانب التي تتشاكل مع ثلاثية: تعليم، تعلُّم، علم، إنْ لم نَقُلْ إنه جعل لها مركزية نهائية تتمثل عند غاية كل تعلُّم -على اختلاف مادته وطبيعته- يرمي إلى اكتساب معرفةٍ ما؛ فهي الثمرة المرجوة من التعرض المباشر لأي تلقٍ ذهني معلوماتي متصل بتكرار ومران ودربة سواء كان ذلك على مستوى تلقين المعارف النظرية، أو تدشين التمكن الآلي لمعرفة تطبيقية تنعكس في امتلاك مقاليد حرفةٍ ما، عقلية كانت أو يدوية أو معرفية أو سلوكية، وحتى في حال النظر إلى الغاية الكبرى من تعميم المعرفة بجانبٍ نظريٍّ ما تكون هي الوصول إلى النجاح في الجمع بين المستويين على حد السواء؛ فلا يكفي للإنسان إدراك المصطلحات والمفاهيم المحيطة بأي صنعة حياتية كانت دون الولوج إلى الربط بين هذا الإدراك الفوقي والتحقق الآني له في قيامها بشكلٍ مباشر، ولا يمكن لأي ذهن أن يعتمد التخمين والعشوائية في داخل حلقة التطبيق الفعلي دون الاستناد لمخزونٍ مُسطَر عن الأسس البنائية والمداخل المعرفية الكبرى المُهيئة للاستعداد المتكامل للقيام بمناحي هذا التطبيق على الوجه الأمثل الذي يُترَجم بأنه ” المَلَكَة “.

هكذا ربط ابن خلدون في ثنايا رؤيته التي بنى عليها وضع لفظة ” المَلَكة ” في كل موضع ذكرها فيه، بين ما أسس عليه بشكلٍ تبادليٍّ تكامليٍّ مفهوم التعلُّم عنده، وهذا ما تمثل في مقابلين تزامنا في خضم نظره في كل تعليم بشري على اختلاف زمانه ومكانه، وكانا منطقتين لا مَناط من تجاوزهما في مرحلة التخطيط الملائم الهادف إلى نشوء ” مَلَكَة ” عند كل متعلم، وهما: الطبع في مقابل الصناعة، كما ظهرا في صورة أخرى فيما سماه التعليم الخبري والتعليم الصناعي، وجعلهم جميعًا في قالب اكتساب المعارف والعلوم على تنوعها في الانتقال المرحلي المتطور لشخص نظرية التعليم والتعلُّم عند الأمم المختلفة، وكان من ذلك رؤيته التي وقف بها منذرًا في طريق عبارة مُطلَقة كالمثل المأثور أو كالحقيقة الغير قابلة للنقاش، وهي ما يُحَدِّث به العلماء بأن العرب كانت تعرف اللغة وتتقن قوانينها بالطبع؛ فخالف بذلك غيره بنقاشه لهذا المُقَرَّر بناءً على نظريته التي بنى عليها مفهوم المَلَكَة.

وفي خلال كل تموضعات ابن خلدون لبنية لفظية نحتها في مجموع مفرداتي مُؤسَّس على الجذر الثلاثي ” مَلَكَ “؛ فتروم إلى جهة الاستحواذ والإمساك بزمام شيءٍ ما، وفي ذلك كانت مركزية النظرية التي وُضِعَت على أنقاضها اللفظة “مَلَكَة” في منطقة متماسكة الأطراف مُقلَّبَة في حلقة دائرية تجمع خيوط نظرية متكاملة الأطراف، نسطر مناحيها التي تركها لنا ابن خلدون شاردة في عدة نقاط متناثرة، لا تكون هذه الملكة ولا تُقَام إلا في حال وجودها، كما أوضح في أخرى ما يدور في فلكها من ضوابط وقيود هي مناط أنها توجد كما هو قنَّنها كنتيجة لمعادلة مُكَيَّفَة على ذلك، نسطر تلك النقاط هنا فيما يوقف القارئ في مواجهة مباشرة مع خصوصية مفهوم “المَلَكة” كما فصَّلها ابن خلدون في مقدمته:

  • أول ذلك أن الطبع والصناعة موجودان لا محالة في صنع أي مَلَكَة، ذلك مع اختلاف المرجع المعرفي المكنون وراء كلمة “صناعة”، ومع إقرار ابن خلدون بأنّ الصنائع لا توجد إلا حيث يوجد العمران وتوجد الحضارة، وهذا ما ينفي وجودها عند الأمم البدائية رجعية البناء الحضاري بالشكل نفسه الذي تتموضع فيه داخل الأمم المتحضرة، ولكنها وُجِدَت في حال تلائمٍ مع طبيعة صنعت هي بنفسها ولنفسها صناعة حتى اُختزلت في خلفية خفية وراء مصطلح “الطبع”، وهذا ما أودى بابن خلدون إلى وصف عبارة أن العرب كانت على دراية باللغة وإحاطة بقوانينها بالطبع ب”أنها وهم” بحسب عبارته هو، وهو في ذلك يرسم لنا خيطًا يُقَرِّب لنا رؤيته بأن الصناعة التي هي في حقيقة الأمر تُبنى على المران والدربة اللذين وُجدا في كل بيئة، ولكنهما كانا غير مُقنَّنَينِ في الشعوب البدائية وإنْ كان تحققهما مُفَعَّل بإحداثهما بشكلٍ فطريٍّ داخل الطقس المحيط المعلَّم تلقائيًّا؛ فالبيئة الحياتية تصنع بالمعايشة الطبيعية بين البشر دور المعلم الخفي الذي يستتر وراء ستارٍ، يضع مناحي الاكتساب والتمكن بين الناس لمَلَكَة اللغة في صورة مسرحية لا يشعر بها هؤلاء البشر أنفسهم، وإنما ينشئوا ويكبروا فصحاء وعندما يَرِدُ التساؤل أنَّى لهم هذه الفصاحة تكون الإجابة لأنهم أبناء البادية، هذا ما قصده ابن خلدون عندما جعل مَلَكَة العرب في لغاتها لا ترجع بشكلٍ مُسلَّم كما اعتيد في دراسات اللغة الكثيرة إلى الطبع فقط، وإنما المَلَكَة تجيئ بالصناعة التي تكمن في إقامة مقومات التمكن من حرفةٍ ما، وهذا تمثل عند العرب في الإصغاء والاستعمال والإنتاج فيما يخص اللغة هذا بصورة تلقائية بين الأفراد؛ فالناشئ هناك ينشأ مُصغيًّا إلى أبناء بيئته ثم تأتي المحاولة منه محاكاتهم بتقليدهم ثم يمتلك هو المَلَكَة الأصل، وهكذا من جيلٍ ناشئٍ إلى آخر يليه مما يُشَكِّل أجيال هذه البيئة ويُرَبي فيهم الملكة أبٍ عن جدٍ، وهذا ما قصده ابن خلدون عندما حدَّث بقوله: “…وإنما هو –الطبع – يستمرُّ بالقدم والمران حتى يصير ملكةً راسخة فيظنها المشاهد طبيعية، كما هو رأى كثيرٍ من البلداء في اللغة العربية، فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع، وهذا وهمٌ” (ابن خلدون، ص341)، وهذا الطبع المُسيِّر إلى المَلَكَة هو ما فُقِدَ في فتراتٍ متحضرة زمنيًّا متلاحقة ستُودِي بها حضارتها لفقد هذا الشيء مما سيحتم على العلماء تقنين قوانين وطرق هي الوسائل للكيفية المُهيئة لما يُعوِّض هذا الفقد بقدر المستطاع، وهذا بإعانة فرد هذه الفترات على تملك مقدمات ذهنية تصله لاكتساب ما هو غير متواجد في زمنه من مقومات ومعدّات تتكامل بطريق لا مناط من الولوج إليه ولا يمكن الحيد عنه في ذلك التعليم، وهو طريق الممارسة والمعايشة مع الأفراد المعلَّمين الذين كانوا فيما قبل في بيئتهم على تملُّك من ما هو مُسعَى إلى تعلُّمه، وذلك باستعمال عباراتهم المأثورة عنهم في النصوص المحفوظة من شعرٍ ونثر، ويسبق ذلك قراءة القرآن الكريم الذي نزل بحسب لغاتهم المتداولة بينهم، وهذا الاستعمال هو العنصر المُستَمَد ممن سبقوا لمحادثتهم وأخذ الملكة عنهم بمخالطتهم ومخاطبتهم من خلال نصوصهم ونصوصٍ مخلَّقة على منوالها، حتى يصبح ابنًا من أبنائهم وناشئ بهم ومنهم، “….فالصانع الذي يحاول مَلَكَة الكلام في النظم والنثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجريه على لسانه، حتى تستقر له المَلَكَة….ويفرض نفسه مثل وليد ينشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم….” (ابن خلدون، ص405).
  • في تقليب ابن خلدون لمفهوم المَلَكَة على وجوهه أبدى عدة ملحوظات متناثرة تتعلق به لا غنى عن معرفتها والتنبيه عليها في مجال الحديث عن التعليم والتعلُّم، وفي الجانب التربوي بشكلٍ أخص عن المعرفي لما يعنيه من أهمية في التدريس للمعلم والتلقي للتلميذ المتعلم، وهي:
  • المَلَكَة لا تأتي إلا بالكد والمباشرة، وهذا ما جعل للرحلة في طلب العلم حلقة لا غنى عنها في تعلُّمه إذا كان يرمي إلى اكتساب هذه المَلَكَة، ويرتبط بذلك أخذه العلم من أفواه العلماء بالتلقين المباشر، وبذخر المادة المعرفية التي يحصل عليها بانتقالاته المكانية من بلد إلى بلد ومن شيخ إلى شيخ، “…إلا أن حصول المَلَكَاتِ والتلقين أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول المَلَكَات ورسوخها….فلقاء أهل العلوم، وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها، ويعلم أنها أنحاءُ تعليم وطرق توصيل، وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات، وتصحح معارفه وتميزها عن سواها، مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم….” (ابن خلدون، ص358).
  • المَلَكَة تكون بالتعليم، ولكن بضوابط تجعله أهلًا لهذا الاكتساب، وأهمها أنه لا يكون ذُخامًا متراكمًا من معلوماتٍ متتابعة؛ فهذا مما يفسد الأمر على المتعلم ويبعد به عن طريق التملُّك والاكتساب إلى طريق التيه والخُسران؛ فالتدرج مطلوبٌ ومراعاة عدم الانتقال من جزء إلى آخر إلا بعد التمكن منه وتملكه، ويلي ذلك عدم ركون منحى أو اتجاه التعلم إلى حيز النظري أو القوانين التي يتأسس عليها العلم الذي يُقصَد؛ لأنّ العلم بالقوانين..” إنما هو علم بكيفية العمل، وليس هو نفس العمل..” (ابن خلدون، ص385)؛ فالمَلَكَة لا تنشأ من حفظ قوانين هذه الكيفية، وإنما بممارسة ما اُستخلِصت منه هذه القوانين وقُننت على أساسه، وقرّب ابن خلدون لقارئه هذه النقطة بمثالين بسيطين هما: “…أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة، ثم يغرزها في لِفْقى الثوب مجتمعين، ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا، ثم يردها إلى حيث ابتدأت، ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقَبين الأوَلين، ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل، ويعطي صورة الحبك والتنبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها، وهو إذا طُولِبَ أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئًا. وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر وتتعاقبانه بينكما، وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة، وهو لو طُولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه…” (ابن خلدون،ص385)، وثالث ذلك أنه لا يكون بممارسة العنف والإكراه في تلقين المتعلم؛ لأنّ هذا مما يُضاد اكتساب مَلَكَة، “وذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضرٌّ بالمتعلم سيَّما في أصاغر الولد لأنه من سوء المَلَكَة) ( ابن خلدون، ص356)، وآخر ما يتعلق به هو أنه يكون أقدر على هذا الاكتساب في أفضل الأحوال عند ذلك والمتعلم في مرحلة عمرية قريبة؛ لأنه -بعبارة ابن خلدون- “…المتعلمين لذلك في الصغر أشد استحكامًا لمَلَكَاتهم” (ابن خلدون، ص364)، وينبني على ذلك أن يكون اكتساب مَلَكَة هو اكتساب بادئ وليس بمُسبَق، وذلك كله له الأثر في درجة قوة واستحكام الملكة أو ضعفها؛ ولذا كان الممتلك لمَلَكَة في الكلام في لغة يصعب عليه امتلاك أخرى في لغة أخرى، وهذا ما نبه ابن خلدون عليه بقوله: “…المَلَكَة إذا تقدمت في صناعة بمحل فَقَلَّ أن يجيد صاحبها مَلَكَة في صناعة أخرى وهو ظاهر”، (ابن خلدون، ص365).

وهكذا صنع ابن خلدون من مفهوم المَلَكَة تقنينًا لنظرية تربوية لا غنى عن ملاحظاتها والتوقف عندها كغاية في كل تعليمٍ هادف، وترك لنا مفردات هذا التقنين التي حاولنا هنا في دراستنا تسليط الضوء عليها بقدر الإمكان مُسطرَة بين صفحات مقدمته وبشكلٍ أخص بين سطوره التي أفردها للحديث عن العلم والتعليم والتعلُّم.

5/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى