صعود وهبوط حركات الإسلام السياسي
اعداد : فازع صوافطة – باحث في دراسات الشرق الأوسط، الجامعة العربية الأمريكية فلسطين.
- المركز الديمقراطي العربي
يصف مصطلح الإسلام السياسي تلك الحركات والتنظيمات التي تؤمن بشمولية الإسلام لكل جوانب الحياة البشرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية وغيرها، وأنه يصلح لبناء الدولة ومؤسساتها وفق هذا المفهوم الشامل والذي لا يقبل حصر الإسلام في العبادات.
هذا المفهوم هو امتداد لظهور الإسلام وتشكل نواة الدولة الاسلامية الأولى في عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مرورًا بالإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة وصولا للدولة العثمانية وانتهائها في 1924، حيث كان الإسلام نظامًا مؤسسيًا جمع بين الدين والحكم بكل جوانبه.
وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية ظهرت في أنحاء متفرقة من العالم حركات إسلامية تهدف لإعادة أمجاد الحكم الإسلامي في العالم، أبرزها حركة الإخوان المسلمين التي هدفت منذ تأسسيها لإقامة دولة إسلامية عربية.
وتعتبر معظم حركات الإسلام السياسي المنتشرة في العالم فروعًا لجماعة الإخوان المسلمين لكنها تتمتع باستقلالية قرارها القطري بحسب ظروف الدولة التي تتواجد فيها، لذلك كان هناك تباين واضح من قبل هذه الحركات في التعاطي مع أنظمة الحكم في الدول التي تتواجد فيها.
ورغم جنوح أكثرها للمشاركة السياسية من خلال العملية الديمقراطية والانتخابات، إلا أن التحديات التي واجهتها كانت كبيرة فمنها من نجحت في تجاوزها ومنها من فشل في ذلك، وستعرض هذه المقالة ظروف صعود وأفول حركات الإسلام السياسي في ثلاثة من الدول العربية: مصر، تونس، والمغرب، وما هي عوامل نجاح هذه الحركات؟ وما هي عوامل إخفاقها وفشلها؟
أولًا: الجذور التاريخية والمنطلقات الفكرية لحركات الإسلام السياسي:
بدأت فكرة تشكل حركات الإسلام السياسي بعد انهيار الخلافة العثمانية، وتشكل الدول القومية في العالم الإسلامي والعربي وغياب الدين عن أنظمة الحكم فيها، حيث برزت جماعة الإخوان المسلمين كأول حزب سياسي إسلامي في تلك الفترة، عندما قام الشيخ حسن البنا بتأسيس هذه الجماعة بعد أربع سنوات من سقوط الخلافة العثمانية وتحديدًا عام 1928 في مدينة الاسماعيلية في مصر لتبدأ بعدها بالتمدد والانتشار في كل أقطار العالم.
تنطلق أفكار هذه الجماعة من منظور إسلامي شمولي، يبدأ بتكوين الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع وصولًا لقيادة الدولة ثم العالم وفقًا لتعاليم الإسلام، وتعتبر حركة الإخوان المسلمين بمثابة الحركة الأم لمعظم حركات الإسلام السياسي في العالم، ورغم نفوذها وتأثيرها السياسي والمجتمعي في الدول التي تواجدت فيها، إلا أنها كانت ملاحقة من قبل الأنظمة الحاكمة، حيث تم حلها أكثر من مرة في مصر، وتم اعتقال قيادتها ومؤسسيها بسبب تعارض توجهاتها وأفكارها مع توجهات أنظمة الحكم في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية.
تباينت مواقف الدول التي تواجد فيها تنظيم الإخوان المسلمين في التعامل معها، ما بين دول اتخذت مواقف عدائية واضحة من الجماعة مثل مصر وسوريا، ودول ربطتها علاقات جيدة أحيانًا ومتوترة أحيانًا أخرى كما هو الحال في الأردن، ودولًا انسجمت أنظمتها مع هذه الجماعة بشكل كبير كما هو الحال في قطر والكويت.
ثانيًا: حركات الإسلام السياسي والتجربة الديمقراطية في: مصر، تونس، المغرب
- تجربة حزب الحرية والعدالة في مصر:
شارك الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية المصرية للمرة الاولى عام 1948، ثم توالت مشاركتهم في أكثر من دورة انتخابية رغم سياسات التضييق التي مورست ضدهم بهدف منعهم من الحصول على نسبة كبيرة من الأصوات التي قد تسمح لهم بالسيطرة على مجريات الحياة السياسية في مصر، وبعد ثورة يناير 2011، شارك الإخوان المسلمين بقوة في الانتخابات البرلمانية التي أفرزت فوزًا كبيرًا لحزب الحرية والعدالة المنبثق عن حركة الإخوان المسلمين والذي فاز ب 47% من أصوات الناخبين، وشكل تحالفًا مع حزب النور السلفي والذي فاز ب 24% من الأصوات، ليسيطر هذا التحالف على البرلمان المصري ومجلسي الشورى والشعب، ولتكون هذه الانتخابات نقطة تحول في النظام السياسي المصري.
لكن هذا التحول لم يستمر طويلًا حيث أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمًا في حزيران 2012 بعدم دستورية قانون الانتخابات وبالتالي حل مجلس الشعب، ومع ذلك استمرت محاولات الإخوان المسلمين للوصول الى سدة الحكم مستفيدة من التحول السياسي الذي أحدثته الثورة، ومن رغبة المجتمع المصري في التغيير، فشاركت في الانتخابات الرئاسية من خلال الرئيس الراحل محمد مرسي الذي فاز في جولة الإعادة أمام المرشح أحمد شفيق ليصبح أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر.
لم يدم حكم الرئيس مرسي طويلًا حيث قاد وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي انقلابًا عزل فيه الرئيس مرسي وقام بتعطيل دستور 2012، وحل مجلس الشورى، ثم استهدفت جماعة الإخوان المسلمين بحملة أمنية عنيفة أوقعت مئات القتلى وآلاف الأسرى من قيادات وكوادر الجماعة، ثم الإعلان عن الجماعة كجماعة إرهابية وذلك في كانون الأول/ ديسمبر 2013، وإنهاء حضورها السياسي من خلال هذا الانقلاب.
يرجع العديد من المحللين و السياسيين فشل تجربة حزب الحرية والعدالة في مصر إلى عدم مرونة الحزب في التعاطي مع القوى السياسية الفاعلة ومع قيادة الجيش أو ما يمكن تسميتها بالدولة العميقة والتي تمسك بمفاصل الدولة ومؤسساتها، والتي لا يمكن لها أن تسلم هذه المفاصل لحزب يشكل خطرًا وجوديًا عليها.
وبحسب هؤلاء فإن حزب الحرية والعدالة كان يتوجب عليه التدرج في الوصول لرأس الهرم وتقديم التنازلات التي تحافظ على صعوده المتدرج، لأن الاندفاع نحو القمة دون تأسيس سليم لن يدوم طويلا ولن تقبل الدولة العميقة بتسليم رقبتها لأكبر خصومها السياسيين، الذين تغلبت لديهم نشوة الفوز في الانتخابات على الحسابات الواقعية في التعاطي مع هذه الدولة بشكل مرن ومتدرج كما هو الحال مع حزب الحرية والعدالة التركي، الذي نجح في السيطرة على جزء كبير من مفاصل الدولة التركية، بعد سنوات طويلة من العمل السياسي المتدرج والمدروس، أضف إلى ذلك عدم وجود الخبرة في حكم الدولة.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن حزب الحرية والعدالة لم يأخذ فرصته في الحكم، ولا يمكن الحكم على تجربته بالفشل بسبب عدم السماح له بممارسة دوره، حيث لم يمارس الرئيس صلاحياته ولم يتم تسليم السلطة للحكومة التي تشكلت بعد فوزه، حيث كانت صلاحياتها محددة ومقيدة، عوضًا عن التدخل الخارجي والدور الأمريكي في القضاء على هذه التجربة من خلال دعم الانقلاب والثورة المضادة وهو ما صرح به الأمريكان بشكل واضح وصريح.
- حركة النهضة والتجربة التونسية:
انطلقت حركة النهضة في تونس عام 1973 باسم “الجماعة الإسلامية” كحركة دينية اجتماعية تسعى لنشر الإسلام، وفي سنة 1989 غيرت اسمها لتصبح حركة النهضة، ثم دخلت المعترك السياسي بشكل متدرج في سنوات السبعين وواجهت قمع وتضيق السلطات التونسية على أنشطتها مما اضطرها للعمل بشكل سري.
بعد ثورة البوعزيزي عام 2011، أعادت الحركة ترتيب صفوفها وتم تسجيلها كحزب سياسي لأول مرة في تاريخها، وشاركت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عام 2011، وحصلت على 37% من أصوات الناخبين، الأمر الذي مكنها من الدخول في حكومة ائتلافية وممارسة أنشطتها السياسية بشكل مشروع.
الفترة الانتقالية التي شهدتها تونس بهدف إعداد دستور للبلاد شهدت انفتاحًا وتطورًا على المشاركة السياسية لحركة النهضة، فكان للحركة دور هام في الوصول إلى توافق حول الدستور، كما كان هناك انفتاح على مكونات المجتمع المدني من جهة، والدولة من جهة أخرى.
هذه البراغماتية في تعامل الحركة مع الواقع التونسي ساعد في كسر جليد العلاقات الداخلية مع الدولة والأحزاب الأخرى، والوصول إلى حالة من التوافق على إدارة مؤسسات الدولة والانتقال السلس للحالة الديموقراطية في الدولة الأمر الذي ساهم في تشكيل حكومة ائتلافية شاركت فيها معظم الأحزاب التونسية رغم اختلاف برامجها ومشاربها الفكرية والأيديولوجية.
هذا التوجه البراغماتي لحركة النهضة يقف وراءه قائدها وكبير مفكريها الشيخ راشد الغنوشي، الذي آمن بالتعددية السياسية وتداول السلطة وحكم الأغلبية في ظل دستور ونظام ديموقراطي مستندًا إلى مسوغات شرعية، كما يقف وراءه أيضا الاستفادة من تجارب حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية والتي فشلت أو تم إفشالها بسبب عدم قدرتها على المناورة ووصولها إلى حالة من الصدام مع خصومها السياسيين ومع الأنظمة القائمة كما هو الحال في مصر وسوريا، الأمر الذي أدى إلى تحييدها وإخراجها من المشهد السياسي.
أدركت حركة النهضة أن الوصول إلى حكم الدولة يتطلب تقديم تنازلات ومرونة كبيرة فقدمت نفسها على أنها حركة مدنية ذو خلفية إسلامية، تؤمن بالتعددية السياسية والعملية الديموقراطية، إضافة إلى أنها فصلت بشكل تام بين العمل الدعوي والعمل السياسي في مؤتمرها الذي عقد سنة 2016.
وبالرغم من هذه المهادنة في تعامل حركة النهضة مع مكونات النظام السياسي التونسي، ووقوفها إلى جانب الرئيس التونسي قيس بن سعيد ودعمه في الوصول إلى كرسي الرئاسة، إلا أنه ذهب بعيدًا في ترسيخ مشروع التفرد بالحكم، من خلال حل البرلمان وإقالة الحكومة وتغيير بنود كبيرة في الدستور، وإصدار مراسيم بقانون توسع من صلاحياته، في خطوة قد تأثر سلبًا على الواقع التونسي وتجربته الديموقراطية.
- حزب العدالة والتنمية المغربي:
انبثق حزب العدالة والتنمية المغربي من رحم الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية التي تأسست عام 1967، والتي غيرت اسمها إلى حزب العدالة والتنمية عام 1998، وعرف الحزب نفسه على أنه حزب سياسي وطني يسعى لنهضة المغرب من خلال المشاركة السياسية الديموقراطية في بناء الدولة على أسس حضارية.
بدأ الحزب مشوار المشاركة السياسية في الانتخابات التشريعية عام 1997، بفوزه بـ 14 مقعدًا، ثم في أيلول عام 2002، بحصوله على 42 مقعدًا، ليشكل أكبر كتلة برلمانية في المعارضة، وتوج الحزب حضوره السياسي بفوز كبير في انتخابات عام 2011، حين حصل على المرتبة الأولى بـ 107 مقاعد ليترأس حكومة ائتلافية، واجهت الكثير من العقبات والتحديات لكنها نجحت في تعزيز مكانتها وإجراء إصلاحات مهمة في مفاصل الدولة والمجتمع، وقد انعكس هذا النجاح بحصول الحزب على 125 مقعد من أصل 395 مقعد في البرلمان في انتخابات عام 2016.
هذه النتيجة منحت الحزب تفويضًا جديدًا للاستمرار في قيادة النظام السياسي، ورغم نجاح الحزب في تشكيل الحكومة وتقديم تنازلات للحفاظ على وحدة النظام السياسي، وإجراء بعض الإصلاحات إلا أن التحديات كانت كبيرة، ولم ترتقي سياسة الحزب إلى مستوى مواجهتها، فقد لعبت عوامل مهادنة الملك والسعي لإرضائه، والموافقة على التطبيع، وعدم انسجام أعضاء الحكومة، وإقرار سياسات أضرت بالطبقات الفقيرة والوسطى، وتداعيات جائحة كورونا، والانقسام الداخلي في صفوف الحزب، دورًا في تراجع شعبية الحزب وخسارته المدوية في انتخابات سنة 2021، حيث حصل على 13 مقعدًا فقط من مقاعد البرلمان.
في الخاتمة يمكن، القول أن حركات الإسلام السياسي هي أكثر الحركات والتنظيمات أهمية في المجتمعات العربية، كما أنها الأكثر قدرة على الصمود والاستمرارية أمام الصعاب والتحديات التي تواجهها كونها تستند إلى إرث فكري ديني، وقواعد شعبية منتمية بقوة لهذا الإرث، عملت هذه الحركات على استقطابها وتأطيرها بحكم علاقتها المباشرة مع المجتمعات التي تعيش فيها، والتي عززتها من خلال أنشطتها الاجتماعية والتربوية.
وتعتبر مرحلة انتقال هذه الحركات من دائرة الإقصاء والتهميش والمعارضة إلى دائرة حكم الدولة وقيادة المجتمع تحديًا كبيرًا، حيث تعثر بعضها في الاستمرار كما حصل في مصر حين أجهضت تجربة حزب الحرية والعدالة لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، بينما نجحت هذه الحركات بشكل نسبي في أماكن أخرى مثل تونس والمغرب عندما وصلت إلى قيادة المجتمع من خلال تشكيلها لحكومات قادت البلاد عقد من الزمان.
هذه النماذج التي تم التطرق إليها تحتاج من حركات الإسلام السياسي دراستها وأخذ العبرة منها لتجاوز الأخطاء والبناء على النجاحات وتغيير النظرة لآليات ووسائل المشاركة السياسية بشكل يضمن نجاحها في توحيد المجتمعات والنهوض بها فهي صاحبة مشروع حضاري يستوجب نجاحه تقديم التنازلات وإشراك كل المفاعيل السياسية داخل الدولة لضمان استقرار النظام السياسي في الدولة.
وفي ذات الوقت فإن على هذه الحركات أن تبقى على مسافة جيدة من مطالب مجتمعاتها، وأن لا تنسلخ عنها تحت كل الظروف، لأن بعض مواقف المهادنة للأنظمة ارتدت بشكل عكسي على مبدئية وشعبية هذه الحركات وأضرت بها بشكل كبير.