حركة النهضة التونسية بين الخطاب والممارسة السياسية
بقلم : سلام الجمل – باحثة في دراسات الشرق الأوسط / الجامعة العربية الأمريكية – فلسطين.
- المركز الديمقراطي العربي
مثّلَ عام 2011 نقطة تحول مركزية في الحياة السياسية للمجتمعات العربية؛ حيث شهدت العديد من الدول العربية صعود الإسلاميين إلى السلطة، الأمر الذي خلق حالة من الاستقطاب المجتمعي في تلك الدول، في الوقت الذي تكثفت فيه أنشطة التنظيمات الجهادية في بعض الدول، والتي كان العنف والإرهاب منهجًا لها. وعلى النقيض من ذلك، اتجهت بعض الحركات الإسلامية إلى إعادة بلورة ذاتها وصوغ أفكارها وتصوراتها على المنهج الوسطي المعتدل وتبني الخطاب الحداثي، وهذا الأخير يرتكز بشكل أساسي على الموازاة بين القيم الإسلامية من جهة وقيم الديمقراطية من جهة أخرى، لغايات التكيف مع المرحلة الانتقالية في الدولة.
بتعبير أدق: تبني خطاب سياسي لا يضحي بالقيم الإسلامية ومبادئ الإسلام، ولا يقف على النقيض مع قيم الديمقراطية كأداة حكم عصرية، ومن أبرز تلك الحركات نجد: حركة النهضة التونسية.
ومن الأهمية بمكان، التأكيد على أن ثورات الربيع العربي كانت فرصة جوهرية لوصول الحركات الإسلامية إلى سدة الحكم، بعد أن بقيت لعقود طويلة مغيبة عن المشهد السياسي العربي، وهذه النقلة النوعية في مسار مشاركة الحركات الإسلامية في الحكم، أوجب عليها بالضرورة تجديد خطابها السياسي للتكيف مع متطلبات المرحلة الانتقالية.
وقد وجبت الإشارة إلى أنّ الخطاب السياسي للحركات الإسلامية اختلف باختلاف موقعها السياسي في دولها، وكذا باختلاف القراءات التي اتبعتها تلك الحركات للمشهد السياسي في كل دولة أعقاب 2011. ولعل حركة النهضة الإسلامية التونسية تعتبر مثالًا بارزًا على تطوير مضامين الخطاب السياسي الإسلامي وتكيفه مع مقتضيات المرحلة الراهنة؛ حيث استطاعت حركة النهضة استقراء تغيرات الوضع السياسي التونسي، ونجحت في بلورة خطاب سياسي إسلامي حداثي يلائم واقع المجتمع التونسي.
وفي ضوء ما سلف ذكره، يمكننا طرح السؤال التالي: إلى أيّ حد نجحت حركة النهضة التونسية في التمسك بخطابها الإسلامي الحداثي أثناء الممارسة السياسية، بالشكل الذي يتلاءم مع مقتضيات المرحلة الانتقالية؟
فازت حركة النهضة التونسية في انتخابات المجلس التأسيسي في تشرين الأول/ أكتوبر2011، وهو ما اعتبرته القوى المناوئة لحكم الإسلاميين، تهديدًا لمكاسب الدولة المدنية في تونس، فكان ذلك أبرز تحدٍّ أمام حركة النهضة، واستوجب عليها تبني الخطاب الحداثي، بعد أن انتقلت من حزب معارض إلى حزب حاكم.
أولًا: العلاقة بين السياسة والدين في الخطاب الإسلامي الحداثي
شكلت العلاقة بين الإسلام والديمقراطية أحد أبرز الأطروحات التي شهدت نقاشًا وخلافًا محتدمين بين أطراف فكرية مختلفة، لاسيما ما بعد مرحلة الربيع العربي. حيث فرضت العلاقة بين الدين والسياسة نفسها بقوة في أجندات الفكر والممارسة السياسية، على الرغم من وجود العديد من الأيديولوجيات الداعية لفصل الدين عن السياسة، والدولة عن المؤسسة الدينية.
يرى الباحث الفرنسي (أوليفيا روا) أن الانقسام الحاصل بين السياسة والدين أتى من الطبيعة السياسية للإٍسلام منذ نشأته؛ حيث كان المجتمع الإسلامي في بداياته مجتمعًا سياسيًا ودينيًا في آن واحد، ونشأ الصراع الفكري بين فرق متعددة، على غرار: العلمانيين والإسلاميين، الحداثيين والأصوليين، الديمقراطيين والشموليين. وعليه، فإن العلاقة الرابطة بين الدين والسياسة تنطلق في أصل الخلاف من المرجعيات الفكرية لكل طرف، المؤيد والمعارض.
ومن زاوية أخرى، نجد أن الكاتب فهمي هويدي في حديث عن جدلية الإسلام والديمقراطية، يقول “يظلم الإسلام مرتين، مرة عندما يقارن بالديمقراطية، ومرة عندما يقال إنه ضدّ الديمقراطية، إذ المقارنة بين الإثنين خاطئة وادعاء التنافي خاطئ، الأمر الذي يحتاج إلى تحرير أولاً واستجلاء ثانيًا”.
وحجة الهويدي في ذلك، أنّ المقارنة بين الإثنين متعذرة نظريًا ومنهجيًا، كون أنّ الإسلام رسالة دينية تتضمن مبادئ وقواعد تنظم طريقة سير الحياة الدنيوية، في حين أنّ الديمقراطية ما هي إلاّ نظام حكم يستند إلى مبادئ غربية.
وقد أثبت الواقع التونسي قدرة الحركات الإسلامية على التوفيق بين متطلبات الطبقات الوسطى والمهمشة في المجتمعات، حيث تبنى راشد الغنوشي مؤسس حركة النهضة التونسية أفكارًا تجديدية، يأتي على رأسها فكرة جوهرية مفادها “انتقال الأيديولوجية الإسلامية في جوهرها من الدولة إلى المجتمع المدني”.
وقد أكد كذلك الغنوشي على أن أيديولوجيا الحكم الإسلامي كغيرها من أيديولوجيات الحكم الأخرى، لابدّ لها أنْ تخضع للدراسة والبحث من علم السياسة وعلم الاجتماع، ووجب تطويرها بما يحافظ على القيم الأصولية في الإسلام من جهة ويتلاءم مع متطلبات العصر الحديث من جهة أخرى.
ثانيًا: الخطاب الحداثي للإٍسلاميين نموذجاً
حاولت حركة النهضة التونسية اعتماد مقاربة واقعية مرنة لمواجهة تحديات المرحلة الانتقالية ما بعد عام 2011، وقد كانت أبرز ملامح تلك المقاربة:
- إعادة بلورة أفكار الحركة وتصوراتها بما يتماشى مع المرحلة الراهنة.
- تبني خطاب حداثي يرتكز على الموازاة بين المبادئ والقيم الإٍسلامية الأساسية، ومبادئ الديمقراطية والتعددية.
إن عملية استقراء مضامين الخطاب الحداثي لحركة النهضة خلال المرحلة الانتقالية، يستوجب التطرق إلى نقطتين أساسيتين؛ على النحو التالي:
- ملامح ومرتكزات الفلسفة السياسية لراشد الغنوشي
شكل فكر وفلسفة الغنوشي المنطلق الأساس في صياغة خطاب إسلامي سياسي يتماشى ومعطيات مرحلة ما بعد الثورة، وتحدياتها، وهذا الفكر لم يكن لحظيًا أو وليد الثورة، بل هو فكر وفلسفة تراكمت لدى الغنوشي منذ تعليمه الأول في المدرسة القرآنية، وعديد الدراسات التي تلقاها في جامعات مختلفة في تونس ومصر وسوريا، إلى أن حصل على الإجازة في الفلسفة. وقد نهل الغنوشي فكره الإصلاحي وفلسفته السياسية الإسلامية من تجارب وفكر وعلم المفكرين الإسلاميين، واستفاد من تجارب الإصلاحيين في القرنين التاسع عشر والعشرون، يميزه في ذلك:
- تبني مفاهيم وأفكار غربية محددة، ودمجها في الخطاب الإسلامي حول الإصلاح.
- سار في خط الاعتدال والانفتاح على الحداثة في إطار المبادئ الإسلامية.
- يرفض الغنوشي الطرح القائل بأنّ الإٍسلام والديمقراطية لا يتوافقان، بذريعة أن الحكم الإسلامي هو حكم الله وأنّ الديمقراطية هي حكم الشعب. وسنده في ذلك ما يلي:
- هناك رابط قوي بين الإسلام والديمقراطية، حيث أنّ حكم الله يُجسد معنًا أساسيًا في الدولة الحديثة وهو حكم القانون وحكم الأمة، من خلال تجريد الملوك من سلطانهم المطلق واستبدادهم بالثروة والسلطة وصنع القرار.
- يرى الغنوشي في الحداثة الغربية جوانب إيجابية لا غنىً عنها للإصلاح السياسي والإحياء الإسلامي، لغايات الوصول إلى نهضة إسلامية بقيم ومبادئ الإسلام، والاستفادة من الجوانب الإيجابية للحداثة الغربية، وهو الفكر الذي ترسخ لدى الغنوشي خلال فترة منفاه.
خلاصة القول، وجد الغنوشي أنّ الديمقراطية أصبحت مطلباً أساسياً للمعارضة السياسية في تونس، فأصبحت الحاجة ملحة لإصلاح الفكر الديمقراطي لدى الإسلاميين، لاسيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار انتشار الفكر المناهض للديمقراطية في المنطقة العربية، ودعا الغنوشي لضرورة تبني خط الاعتدال والانفتاح على مستوى الحركات الإسلامية.
- الخطاب المعتدل سبيل الوصول إلى الحكم
بداية وجبت الإِشارة إلى أنّ حركة النهضة التونسية قد فازت ب (89) مقعداً من أصل (217) في انتخابات المجلس التأسيسي المنعقدة في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، وقد تمكنت حركة النهضة التونسية من الوصول لسدة الحكم، نتيجة عدة عوامل:
- حالة التهميش والإقصاء التي تعرضت لها الأحزاب الإسلامية في عهد ابن علي، الأمر الذي عزّز من شعبية الحركات والأحزاب الإسلامية مقابل شعبية الحكم الحاكم سابقًا.
- تحظى حركة النهضة التونسية بقاعدة شعبية واسعة وتنظيم داخلي جيد.
- البرنامج الانتخابي المعتدل المقدم من طرف حركة النهضة، حيث أولت الحركة اهتمامًا بالغًا لتجسيد الرؤية الإسلامية في النظام الاجتماعي والسياسي في الدولة، ومحاولة تجسيده واقعًا عمليًا.
- مثلت الحركة طبقة وشريحة اجتماعية متوسطة ومحافظة من المجتمع التونسي، حريصة على المشروع الوطني تسوده القيم الإسلامية.
- وجدت الحركة نفسها في تحدي أساسي، يتعلق بتقديم نفسها في المشهد السياسي التونسي بصورة حداثية تتجاوز الصورة النمطية للإسلاميين، فمثلاً:
- تخطت الشعار التقليدي للإسلاميين والمتمثل بـ “الإسلام هو الحل”، وتبنت شعارات أخرى من قبيل: “الإسلام هو الديمقراطية”، “الإسلام هو حقوق الإنسان”.
- محاولة إثبات أنّ الإسلاميين هم ديمقراطيون في نفس الوقت، وأنّ الإسلام يحتوي في ذاته مبادئ الديمقراطية.
لأجل تحقيق ذلك كله، تبنى الخطاب الحداثي في البرنامج الانتخابي لحركة النهضة التونسية، نموذج الدولة المدنية، من خلال:
- حماية السلم الاجتماعي ورعاية الشأن العام.
- فصل أماكن العبادة عن العمل السياسي.
- اعتبار الدين مجرد جانب واحد من الجوانب التي تشكل الهوية التونسية.
- الفهم الشامل لطبيعة المجتمع التونسي، وتجنب فكرة فرض الشريعة الإسلامية عنوةً على المجتمع التونسي.
- تجنب فرض نمط عيش مغاير للطبيعة المألوفة لدى التونسيين.
ويمكن القول أن كل هذه العوامل مجتمعة دفعت حركة النهضة ممثلة بزعيمها الغنوشي، إلى اعتماد مشروع انتخابي لا يلغي قيم المجتمع التونسي من جهة أولى، ويسعى لبلوغ الديمقراطية والحداثة من جهة ثانية، مع الحفاظ على الأصالة والموروث الإسلامي من جهة ثالثة.
ثالثًا: الخطاب الحداثي والممارسة السياسية لحركة النهضة
إن من أبرز وأهم المحطات التي يجب بيانها والتطرق لها، لمعرفة مدى توافق البعد التجديدي والحداثي للخطاب الإسلامي لدى حركة النهضة، مع الممارسة السياسية على أرض الواقع، بعد أن انتقلت الحركة لموقع الحزب الحاكم عام 2011، هي:
- تصورات وأفكار الحركة حول الدستور التونسي، ومدنية الدولة وهويتها
انطلقت حركة النهضة التونسية بعد أنْ نالت شرعيتها الأولى، من قاعدة تشاركية شعارها تقبل الآخر والاستعداد التام للتعاون مع القوى الفكرية الأخرى في تونس، وتجلى ذلك في:
- ارتأت تقاسم السلطة مع شركاء غير إسلاميين في إطار حكم ائتلافي مع حزبين علمانيين.
- كان ذلك في إطار ما عرف بـ “الترويكا”، حيث دعا زعيم الحركة الغنوشي لضرورة الشراكة مع القوى الليبيرالية، مقدماً نموذجاً فريداً للتعاون مع أيدولوجيات أخرى.
- مميزات حكومة الترويكا
قامت حكومة الـ “الترويكا” على أساس تحالف ثلاثة أحزاب سياسية مختلفة فكرياً، وعلى قاعدة توزيع المسؤوليات والحقائب الوزارية. وعكست هذه الحومة عقلانية ونضج سياسي كبير من طرف حركة النهضة؛ من خلال قبولها بتقاسم السلطة.
وعلى الرغم من الخلاف الأيديولوجي بين الأقطاب الثلاثة، إلاّ أنها مجتمعة حملت مسؤولية العبور بتونس إلى برّ الأمان، في ظل المرحلة الحساسة عقب الثورة، وقد تمتعت الأحزاب الثلاثة بنضجٍ سياسي، أرادت من خلاله حماية مكتسبات الثورة، ومواصلة مسار التأسيس لنظام حكم ديمقراطي قائم على دولة القانون والمؤسسات.
وقامت هذه الحكومة بمهام جمة، ككتابة الدستور، وتسيير شؤون الدولة والمجتمع، ومعالجة مشاكله الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
- الدستور التونسي في فترة حكم الترويكا
إن من أبرز ثمار الخطاب الحداثي لحركة النهضة، قد تمثل في صياغة الدستور التونسي؛ حيث لم تسعَ لفرض نصوص الشريعة دستوريًا بل نحت منحى صياغته بناءً على القيم الإسلامية. وأبان الدستور التونسي عن قدرة فائقة لدى حركة النهضة على التوفيق بين القيم الإسلامية وقيم الديمقراطية والتعددية، ومقاربة هادفة للتكيف مع مختلف السياقات السياسية.
حيث جرت تسوية الخلافات القائمة ونقاط التباين حول عملية الدسترة الجديدة، وأهمها طبيعة الدولة والدين والشريعة والهوية؛ فحسم الدستور الجديد طبيعة الدولة من خلال التأكيد على كونها دولة مدنية، ناهيك عن المزاوجة بين دولة حرة مستقلة تدين بالدين الإسلامي من جهة، واعتبارها مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وسيادة القانون من جهة أخرى، وذلك كله لاستكمال المسار الديمقراطي الذي هدفت إليه الثورة.
- المرأة في فكر حركة النهضة التونسية
عادة ما يكون الإسلاميون محل اتهام باستضعاف المرأة وحرمانها من حقوقها، وهو الشيء الذي توجب على الحركات الإسلامية عموماً إثبات عكسه، عبر تأكيد الفهم التقدمي لحقوق الإنسان عامة والمرأة بصفة خاصة، وهذا حال حركة النهضة التونسية، حيث:
أعلنت حركة النهضة التونسية سنة 2011، موقفها من المرأة وحقوقها، فكانت القاعدة الأساسية لديهم أنّ المدخل الأمثل لأية عملية إصلاح حقيقي هو: إقامة دولة ديمقراطية تحدد فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة دون تمييز على أساس اللون، الجنس، المعتقد.
هذا شكّل إقرار صريح بمكانة المرأة لديهم، لاسيما وأن النهضويون في تونس قد كانوا على درجة كبيرة من الوعي بحساسية هذه المسألة في المحافل الانتخابية، والتي عادت ما تتخذ كنقطة ضعف يُضرب بها الإسلاميون.
أكدت حركة النهضة في مناسبات عديدة أنّ العلاقة بين المرأة والرجل هي علاقة تكامل وليست مساواة تامة، كما هو الحال في مسائل الإرث والنسب والإنفاق. أكدت حركة النهضة إيمانها الكامل بضرورة نضال المرأة من أجل قضيتها، جنباً إلى جنب في إطار تكاملي وتعاوني مع الرجل.
وفي النهاية يمكن القول أنه قد ساهم الوعي التام لدى رواد حركة النهضة وإدراكهم التام لطبيعة المجتمع التونسي، وقراءاتهم الصحيحة وفهمهم المعمق لتحديات المرحلة الانتقالية، في كسب ثقة الشعب التونسي للوصول لسدة الحكم.
كما إنّ خطاب حركة النهضة عكس المرونة والواقعية السياسية لدى الإٍسلاميون التونسيون في حركة النهضة، من خلال الالتزام بمبادئ الديمقراطية دون الإخلال بالأصول الإٍسلامية.