دور الاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الوطني فى عقاب مرتكبى الجرائم ضد الانسانية
The role of the universal jurisdiction of the national criminal judiciaryPunishing the perpetrators of crimes against humanity
اعداد : د. ناحى احمد الصديق الهادى – المركز الديمقراطي العربي
ملخص :
تتحدث هذه الدراسة عن الاختصاص العالمى للقضاء الجنائي الدولي كأحد آليات تطبيق القانون الدولى الانسانى على مرتكبي الجرائم التى يتضمنها ذلك القانون
تمحورت مشكلة الدراسة فى توقيف ومحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم تنهك القانون الدولى الانسانى فى حال هروبهم الى الدول التى لا تكون موقعة على ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية حيث لا تستطيع تلك الدول القبض عليهم او محاكمتهم وبذلك يكونون عرضة للإفلات من العقاب . هدفت الدراسة الى بيان كيفية عمل المحاكم الوطنية فى تصديها لمحاكم المتهمين بجرائم ضد الإنسانية لقيل فرض الإفلات من العقاب بالنسبة لهم ، اتبعت الدراسة المنهج التحليلي الوصفي بتحليل مبدأ الاختصاص العالمي ومعرفة كيفية تصديه لصور الإفلات من العقاب . خلصت الدراسة الى انه لابد من تفعيل مبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الوطني وحث الدول على إدراجه ضمن تشريعاتها لان يشكل اليه فعالة لملاحقة المتهمين الذين يحاولون الافرت من العقاب
Abstract
This study talks about the universal jurisdiction of international criminal justice as one of the mechanisms for applying international humanitarian law to the perpetrators of the crimes included in that law.The problem of the study centered on arresting and prosecuting those accused of crimes that violate international humanitarian law in the event that they escape to countries that are not signatories to the Rome Statute of the International Criminal Court, as those countries cannot arrest or try them, and thus they are vulnerable to impunity. The study aimed to show how the national courts work in their response to the courts of those accused of crimes against humanity, due to the imposition of impunity for them. The study followed the descriptive analytical approach by analyzing the principle of universal jurisdiction and finding out how it confronts forms of impunity. The study concluded that it is necessary to activate the principle of universal jurisdiction for national criminal justice and urged states to include it within their legislation because it constitutes an effective mechanism for prosecuting accused persons who are trying to escape punishment.
المقدمة :
كانت وما زالت مشكلة الإفلات من العقاب تشكل هاجسا دائما للمهتمين بترسيخ العدالة الدولية وتقليل فرض الإفلات من العقاب خاصة بالنسبة للذين يقومون بارتكاب انتهاكات للقانون الدولى الانسانى أثناء الحروب والنزاعات المسلحة وبالرغم من احتراز قدر كبير من التقدم نحو تلك الأهداف وذلك بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية وشروعها فى ملاحقة منتهكي القانون الدولي الانسانى الا ان تطور صور الإفلات من العقاب بالهروب الى بلدان غير موقعة على ميثاق إنشاء المحكمة الجنائية الدولية كان سببا مباشرا الى إنشاء مبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الوطني بحيث تستطيع اى دولة ملاحقة ومحاكمة أولئك المتهمين بذلك المبدأ
تم تقسيم هذه الدراسة الى مطالب وفروع بحيث يشتمل المطلب الأول على نشأة وتعريف الاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الوطني ويتحدث المطلب الثاني آلية عمل الاختصاص العالمي اما المطلب الثالث فأورد نماذج من لبعض الدول التى أخذت بمبدأ الاختصاص العلمى من نماذج.
المطلب الاول : تعريف ونشأة الاختصاص العالمى للقضاء الجنائي الوطني
- الفرع الأول : تعريف الاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الوطني
من المعلوم أن القضاء الوطني يختص بمحاكمة الجرائم التي تقع في إقليم الدولة أو الأشخاص الذين يحملون جنسية الدولة دون أن يتعدى إلى محاكمة أشخاص ليس لهم علاقة بالدولة وجرائم ليست لها علاقة بالدولة ويعتبر هذا الاختصاص أعمالا لمبدأ سيادة الدولة وهو المبدأ الذي تعتد به الدول ولا تسمح أبدا من الانتقاص منه إلا لمصلحة ملحة وفى حدود ضيقة. وتتخذ التشريعات الوطنية للدول مبدأين أساسين هما شخصية الجرائم ويعنى هذا أن قانون العقوبات الوطني يطبق على أي شخص يحمل جنسية الدولة في أي مكان ارتكبت فيه جريمة يعاقب عليها ذلك القانون والمبدأ الثاني هو مبدأ الإقليمية ويعنى تطبيق قانون العقوبات الوطني على كل الأشخاص الذين يرتكبون جرائم داخل إقليم الدولة مهما كانت جنسية أولئك الأشخاص ويبدو هذا الأمر متسقا مع سيادة الدول وشرعية الجرائم والعقوبات حيث انه من غير المقبول تطبيق القانون الوطني على أشخاص لا علاقة لهم بالدولة قاموا بارتكاب جرائم خارج إقليمها، ون كان هذا المبدأ يقتضى التطبيق الجنائي على الجرائم التي ترتكب في الإقليم بغض النظر عن جنسية الفاعل فانه لا يجوز عند ممارسة هذا الحق تطبيق قانون آخر غير قانون الإقليم أو الدولة، ومن المتفق عليه أن مكان الجريمة يتحدد بوقوع الركن المادي للجريمة فيه بتوافر عناصره الثلاثة، السلوك، والنتيجة، وعلاقة السببية ([1]).
نسبة للجرائم الوحشية التي تم ارتكابها أثناء الحرب العالمية الأولى، ونسبة لارتفاع إعداد الضحايا من المدنيين في تلك الحرب تم إنشاء مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي للقضاء الوطني ويقصد به انه يمكن للدولة أن تباشر اختصاصها القضائي على بعض أنواع الجرائم الدولية ومرتكبيها بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة أو جنسية مرتكبيها، ويرى الأستاذ فيدا نجيب حمد انه نظرا لوحشية بعض الجرائم وخطورتها، إذ يدينها المجتمع الدولي بأكمله، فتجعل من مرتكبيها أعداء للشعوب كلها، فالأذى الذي تلحقه هذه الجرائم بالمصالح الدولية يلزم الدول جميعها بملاحقة المجرمين بغض النظر عن جنسياتهم وأماكن ارتكاب الجريمة([2]).
والاختصاص العالمي للقضاء الوطني بحسب التعريف الآنف الذكر يخالف القاعدة المتبعة في محاكمة الأشخاص داخل إقليم الدولة وذلك ببسط القضاء الوطني سلطته على بعض الجرائم التي لا تقع داخل إقليم دولته وقام بارتكابها أشخاص لا علاقة لهم بتلك الدولة ويعتبر مثل هذا الاختصاص انتهاكا لسيادة الدول في بعض جوانبه وذلك أن الدولة تتنازل عن تلك السيادة حيث تقبل أن يحاكم احد مواطنيها أمام محكمة دولة أخرى ليس له بها علاقة، كما تطبق تلك المحكمة قانونها الوطني الذي لا يخضع له ذلك المواطن حسب مبدأ السيادة.
- الفرع الثانى : نشأة الاختصاص العالمى للقضاء الجنائي الوطنى
كان السبب الأول لظهور مبدأ الاختصاص العالي للقضاء الوطني هو مكافحة جريمة القرصنة، ولكن هنالك بعض الاتفاقيات أخذت بمبدأ الاختصاص العالمي في مفهومه الضيق وذلك من خلال إلزام الدول الموقعة على تلك عليها بمتابعة المجرمين الذين يرتكبون جرائم دولية خطيرة، فيقع على الدولة واجب تسليم أولئك المجرمين أو محاكمتهم بشرط أن يكون هنالك ارتباط بين تلك الدولة والمجرم الذي تلتزم بمحاكمته أو تسليمه وفقا للمفهوم الضيق للاختصاص العالمي المشار إليه، ومن بين تلك الاتفاقيات اتفاقية عام 1972م بشأن حظر استحداث وإنتاج الأسلحة البيولوجية([3])، كما نصت عليه اتفاقية 1976م بشأن حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأي أغراض عدائية أخرى ([4]).
تعتبر نصوص تلك الاتفاقيات وما شابهها من اتفاقيات أخرى بداية نشأة الاختصاص العالمي للقضاء الوطني بالرغم من أن موضوعاتها لم تكن متعلقة بالقانون الدولي الإنساني والجرائم الدولية ضد المدنيين أثناء الحروب والنزاعات المسلحة.
بصدور اتفاقيات جنيف الأربع في عام 1949 دخل الاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الوطني مرحلة جديدة وذلك أن تلك الاتفاقيات قد نصت لأول مرة على التزام يقضى بان تحترم الأطراف السامية المتعاقدة قواعد القانون الدولي الإنساني وتكفل احترامها في جميع الأحوال([5])، ويتضح من خلال صياغة هذه المادة أن الدول الأطراف ملزمة باحترام القانون الدولي الإنساني ومن ضمن وسائل هذا الاحترام مطالبة منتهكي القانون الدولي الإنساني بالكف عن هذا الانتهاك كما أن فرض ذلك الاحترام ليس محدودا بوسائل أو إجراءات معينة،بل يتسع ليشمل كل ما من شأنه أن يضمن تطبيق القانون الدولي الإنساني وفقا للأهداف التي صيغت من اجلها، فإذا أوقفت دولة طرف في اتفاقيات جنيف مجرم حرب وحاكمته أو سلمته إلى دولة معنية بالمحاكمة أو سنت تشريعات يقتضيها القانون الدولي الإنساني فان ذلك يندرج في إطار احترام هذا القانون([6])، كما نصت اتفاقيات جنيف المشتركة على عدم إعفاء إي دولة متعاقدة من المسئوليات التي تقع عليه أو على طرف متعاقد آخر بسبب ارتكاب إحدى الانتهاكات الجسيمة (جرائم الحرب) التي نصت عليها الاتفاقيات، وأكد البرتوكول الإضافي الأول لسنة 1977م الملحق باتفاقيات جنيف الأربع على أن كل طرف من أطراف النزاع مسئول عن الأعمال التي يرتكبها أشخاص تابعين لقواته المسلحة ([7]). مما سبق نجد أن اتفاقيات جنيف الأربع قد وضعت الأساس للاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الوطني والذي يمكن أن يوفر فعالية لا يتمتع بها القضاء الجنائي الدولي, وهو أساس يمكن أن يشكل أملاً كبيراً في عدم إفلات منتهكي القانون الدولي الإنساني من العقاب في ظل عجز المحاكم الدولية في محاكمة الأشخاص الذين ينتهكون ذلك القانون إما بسبب العجز في إنشاء المحاكم الدولية، وإما بسبب عدم إمكانية القبض على أولئك المجرمين حتى بفرض تكوين تلك المحاكم.
المطلب الثاني : آلية عمل الاختصاص العالمي للقضاء الحنائي الوطني
- الفرع الأول – كيفية تطبيق الاختصاص العالمى للقضاء الجنائي الوطني
لم يكن الاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الوطني محل اهتمام كبير لدى الدول، ولم يكن هنالك الكثير من التشريعات الوطنية التي توجد بها نصوص تخول للمحاكم الوطنية اختصاص عالميا لمحاكمة منتهكي القانون الدولي الإنساني، ولكن نسبة لتزايد حالات تلك الانتهاكات في الفترة الأخيرة أدت إلى اتجاه بعض الدول إلى سن تشريعات تعطى لمحاكمها الوطنية الحق في محاكمة منتهكي القانون الدولية الإنساني حتى ولو لم تكن الدولة علاقة بها.
فعلى سبيل المثال كانت بلجيكا من أولى الدول التي أخذت بهذا المبدأ وطبقته سنة 1993م على الجرائم التي تمثل انتهاكا لاتفاقيات دولية معينة مثل الاتفاقية الخاصة بخطف الطائرات وسلامة الطيران المدني، ومحاربة الإرهاب، والاستخدام غير المشروع للمواد النووية، ولم تقتصر بلجيكا على تطبيق الاختصاص العالمي على الجرائم الدولية تنفيذا لالتزاماتها الدولية بناءا على اتفاقيات دولية بل تجاوزت ذلك إلى جرائم عاقب عليها التشريع الوطني دون أن تكون محلا لأي التزام دولي ([8]).
اخذ الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية مكانه بين آليات تنفيذ قواعد القانون الدولي الإنساني حيث قامت العديد من الدول بتضمين قوانينها الوطنية النصوص اللازمة لتفعيل هذا المبدأ.
وتعد دولة بلجيكا من الدول التي بادرت إلى تضمين هذا المبدأ في قوانينها الوطنية كما أن هنالك دولا أخرى مثل اسبانيا وبريطانيا أخذت بمبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الوطني.
يكون إدماج مبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الوطني فى التشريعات الوطنية للدول هو الآلية الأكثر شيوخا لتطبيق المبدأ وذلك انه من خلال ذلك الإدماج تتمكن الدولة بواسطة قوانينها الوطنية من ملاحقة المتهمين الذين يفرون من وجه العدالة من توقيفهم ومحاكمتهم عن الجرائم التي تنتهك القانون الدولي الانسانى ولهذا فإننا نرى ان كل الدول التى قامت بتفعيل المبدأ قد وضعت من ضمن تشريعاتها الوطنية مبدأ الاختصاص العالمى وهو ماتحث عليه المنظمات الدولية من اجل قليل فرص الإفلات من العقاب
- الفرع الثاني – نماذج تطبيق الاختصاص العلمى للقضاء الجنائي الوطنى
قامت بعض الدول بتضمين الاختصاص العالمي في تشريعاتها الوطنية انطلاقا من مسئوليتها تجاه ضحايا انتهاكات القانون الدولي الإنساني، وقد رأينا أن نأخذ عينات كنماذج لمعرفة الأهداف التي تحققت من وجود مبدأ الاختصاص العالمي في التشريعات الوطنية لتلك الدول.
بريطانيا: أثارت المذكرة القضائية الصادرة من إحدى المحاكم البريطانية والمتضمنة إحالة تسيبى ليفنى وزيرة خارجية إسرائيل السابقة وزعيمة حزب الليكود إلى القضاء البريطاني لمحاكمتها عن جرائم حرب ارتكبت خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع عزة في الفترة ما بين 27/12/2008م و 18/1/2009م ([9])، في تلك القضية يظهر بشكل واضح أثر الاختصاص العالمي للقضاء الوطني حيث وجد زعماء دولة إسرائيل أنفسهم في دائرة اتهام حقيقية بموجب مذكرات توقيف صادرة من القضاء البريطاني ترمى إلى محاكمتهم على جرائم حرب ارتكبوها بحق الفلسطينيين، وبالنظر إلى طبيعة تلك القاعدة التي تمنح القضاء البريطاني صلاحية إصدار مثل تلك المذكرات نجد أن المعيار الجنائي في تمديد سلطة القضاء البريطاني على جرائم الحرب التي تم ارتكابها في غزة لم يكن هو المعيار الإقليمي حيث أن تلك الجرائم لم ترتكب على الأرض البريطانية ولم يكن هو المعيار الشخصي حيث أن المتهمين الذين صدرت بحقهم تلك المذكرات لم يكونوا بريطانيين وإنما يعود إلى إدراج قاعدة الاختصاص القضائي العالمي في صلب القانون الجنائي البريطاني، حيث أصدرت قانونا خاصا في عام 1957م عبرت فيه عن التزامها بهذه القاعدة ([10]) وهذا ما أعطى القضاء البريطاني الحق في نظر تلك الجرائم باعتبار أنها جرائم خطيرة لا تهدد الأمن الوطني والنظام الاجتماعي والسياسي في الدولة فحسب بل تهدد الأمن الدولي والنظام العالمي وتمس المشاعر الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها([11]).
يعتبر مجرد إصدار مذكرة توقيف في حق مسئول كبير مثل تسيفى ليفنى بموجب قاعدة الاختصاص العالمي للقضاء الوطني من جانب القضاء البريطاني تفعيلا قويا لتلك القاعدة يحقق أحد أهم أهدافها وهو إحساس القادة الذين يقومون بارتكاب جرائم حرب بان يد العدالة يمكن أن تلاحقهم أين ما كانوا وهو أمر يمكن أن ينتقل من مجرد شعور داخلي بتلك الملاحقة إلى مظهر دولي عام يهدد أولئك القادة بإمكانية المحاكمة، وبعدم جدوى التمسك بالمناصب الدستورية والحصانات القضائية التي يتمتع بها في وطنه، كما يمكن أن تزول إمكانية الضغوط التي تمارسها الدول التي ينتمي إليها من تصدر في حقه تلك المذكرات والتي كانت هي الأداة التي تحاول إفراغ قاعدة الاختصاص العالمي من معناها في الوقت الراهن.
اسبانيا:
كانت اسبانيا إحدى الدول التي أخذت بقاعدة الاختصاص العالمي للقضاء الوطني وضمنته في قوانينها الجنائية في عام 1993م، بموجب هذا القانون حيث قام القضاء الاسباني بتوقيف الرئيس الشيلي الأسبق بينوشيه بسبب الجرائم التي ارتكب معظمها في شيلي والتي كان معظم ضحاياها من أبناء شيلي، وفد استند ذلك التوقيف على قاعدة عالمية الاختصاص القضائي وهى القاعدة التي تقضى بان من مصلحة كل دولة أن تحيل إلى العدالة مرتكبي جرائم معينة تهم المجتمع الدولي بأسره بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة، وبغض النظر عن جنسية مرتكبيها أو جنسية ضحاياها كما يستند أيضا على مبدأ العالمية الذي يعنى أن يكون لكل دولة ولاية القضاء في أية جريمة بصرف النظر عن مكان وقوعها أو مساسها بمصالحها أو جنسية مرتكبيها وبذلك يكون مكان القبض هو الذي يحدد مجال الاختصاص الجنائي لقانون العقوبات الوطني ([12]). وفى واقعة أخرى برهن القضاء الاسباني جديته في تطبيق تلك القاعدة حيث أمر القاضي غارسون (judge garson) الضابط الأرجنتيني أدلفوا فرانسيكو سيلنجو بتسليم جواز سفره كإجراء احتياطي والذي استبدله بعد إلغاءه بواسطة محكمة الاستئناف بأمر حبس احتياطي وكان هذا الضابط قد مثل أمام القاضي المذكور كشاهد فيما يتعلق بالأنشطة الإجرامية التي ارتكبتها المجموعة العسكرية التي تولت السلطة في الأرجنتين في الفترة من مارس 1976 إلى ديسمبر 1983م. وقد أصدرت المحكمة العليا الاسبانية قرارا باختصاص المحكمة الوطنية بنظر جرائم الإبادة الجماعية والإرهاب والتعذيب والمتهم سيلينجو بارتكابها([13]).
بالنظر إلى مواقف القضاء الاسباني حيال تطبيق قاعدة الاختصاص العالمي للقضاء الوطني نجد أن تلك القاعدة يمكن أن تكون آلية فعالة في ملاحقة ومحاكمة منتهكي القانون الدولي الإنساني، ففي حالتي توقيف الرئيس الشيلي الأسبق والضابط الأرجنتيني خير مثال لتحقيق أهداف تلك القاعدة والمتمثلة في أن يد العدالة يمكن أن تطال منتهكي القانون الدولي الإنساني في أي مكان مما يمثل رادعا عاما لكل من تسول له نفسه ارتكاب تلك الجرائم.
بلجيكا:
قام المشرع البلجيكي في عام 1993م بإصدار قانونه الذي اخذ بقاعدة الاختصاص الجنائي العالمي للقضاء الوطني وطبقته على الجرائم التي تقع انتهاكا لاتفاقيات دولية، وقد ذهب المشرع البلجيكي مذهبا أكثر بعدا في ذلك القانون، فلم يشترط وجود المتهم على إقليم الدولة، إلا أن بلجيكا قد قامت في 23/ابريل/2002م بإجراء تعديل على تطبيقها لمبدأ الاختصاص العالمي تحت تأثير الضغط السياسي نظرا لإقدامها على النظر في محاكمة مسئولين كبار في بعض الدول منهم شارون رئيس وزراء إسرائيل عندما قدمت شكاوي ضده عن مسئوليته عن المذابح الفلسطينية في مخيمات صبرا وشاتيلا سنة 1982م، وقد نص التعديل الذي تمت إجازته في عام 2002م على انه لا يجوز البدء في التحقيق بناءا على الجرائم التي ينعقد فيها الاختصاص العالمي إلا بناءا على طلب مقدم من المدعى العام الفيدرالي، ويخضع هذا القرار للطعن بواسطة المدعى المدني أمام غرفة المشورة، تم إلغاء قانون 1993م بجميع تعديلاته في عام 2003م وأصدر المشرع البلجيكي قانونا آخر في 5/ أغسطس 2003م الذي سمح بالاختصاص الجنائي العالمي بجميع تعديلاته وأعاد تضمين بعض نصوصه في قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية البلجيكي.
السودان
جاء القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م خلوا من اية مادة تجرم الافعال التى تشكل انتهاكا للقانون الدولى الانسانى وبالتحديد الافعال التى تشكل جرائم د الانسانية او جرائم الحرب او جرائم الابادة الجماعية مما يعنى قانونا عدم مقدرة القضاء السودانى محاكم اى فرد سوادانى او غير سودانى بارتكاب الافعال التى تشكل واحدة او اكثر من الجرائم السالفة الذكر مما يعنى عمليا افلات المتهمين بارتكاب تلك الجرائم من العقاب سواءا اكانوا سودانيين ام اجانب مقيمين فى السودان ، ولكن المشرع السودانى قام باجراء تعديلا على القانون الجنائى فى عام 2007م ادخل بموجبه الجرائم التى تشكل انتهاكا للقانون الدولى الانسانى فى المواد 186 و187 و188 186 منه وبهذا اصبح من اختصاص القضاء فى السودان محاكمة الافراد الذين يرتكبون واحدة او اكثر من الجرائم المنصوص عليها وهى وهى جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم الابادة الجماعية ولكن القوانيين الاجرائية فى السودان لم تنص على اختصاص القضاء السودانى بمحاكم مرتكبى تلك الجرائم من غير السودانيين خارج السودان بل ينص قانون الاجراءات الجنائية السودانى فى مادته الثالثة على انه (لا يجوز اتخاذ اية اجراءت جنائية من حجز او تحقيق او محاكمة ضد اى سودانى متهم بارتكاب اى فعل او امتناع عن فعل يشكل مخالفة لاحكام القانون الدولى الانسانى بما فى ذلك الجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب وجرائم الابادة الجماعية الا امام شرطة السودان او النيابة العامة او القضاء السودانى) وبهذ يكون السودان قد امتنع عن تطبيق مبدأ الاختصاص العالمى للقضاء الوطنى بعدم النص على اختصاص القضاء السوداني بتطبيقه من جهة وبالنص على عدم جواز السودانيين المتهمين بارتكاب جرائم تنتهك القانون الدولى الانسانى من جهة اخرى
المطلب الاول :ايجابيات وسلبيات تطبيق الاختصاص العالمى للصضاء الحنائي الوطنى
- الفرع الاول – ايجابيات تطبيق المبدأ
من أهم الأهداف التي يسعى أليها مبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الوطني هو تقليل فرص إفلات منتهكي قواعد القانون الدولي الإنساني من العقاب، وذلك أن وجود محاكم وطنية لمحاكمة منتهكي ذلك القانون يؤدى إلى سهولة القبض على المتهمين وسرعة محاكمتهم وبذلك يشعر كل من يريد انتهاك القانون بان يد العدالة قريبة منه ويمكن أن تطاله في أي وقت.ومن ناحية أخرى فان عجز بعض الدول الاستبدادية التي اقترفت الجريمة على أراضيها من ملاحقة الفاعلين نظرا لعدم استقلال القضاء، أو تعرض الضحايا وعائلاتهم للانتقام في حال قرروا تقديم
شكوى([14])
من خلال تلك النماذج التى اوردناه أنفا نرى بوضوح تأثير الاختصاص العالمي للقضاء الوطني على منتهكي قواعد القانون الدولي الإنساني وذلك من خلال الضغوط السياسية التي تمارس على الدول التي طبقت ذلك المبدأ وهلع أولئك المجرمين وخوفهم من تطبيق ذلك المبدأ مما يؤكد تحقيقه لأهم أهداف القضاء الجنائي الدولي وهو ملاحقة منتهكي القانون الدولي إنساني أينما حلوا، وتقليل فرص إفلات من العقاب وبالتالي إيجاد شعور دائم ومستمر لدى عامة الناس بان من يقوم بارتكاب جرائم دولية خطيرة في حق الإنسانية لا محالة ذاهب إلى منصات القضاء، حيث المحاكمة وإنزال العقاب متى مل تتم إدانته
- الفرع الثاني -سلبيات تطبيق المبدأ
تم توجيه كثيرا من الانتقادات لمبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الجنائي الدولي يمكن إجمالها في الآتي:
1/ يرى الفقيه الألماني (Van Roland) أن هذا المبدأ هو مبدأ نظري لا يمكن الأخذ به، وذلك لان وجود الشخص غير المعاقب في دولة غير التي وقعت فيها الجريمة هو أمر استثنائي ويحدث خطر استثنائيا، هذا من جهة ومن جهة ثانية فان محاكمة المجرم في الدولة التي لجأ إليها تعطى فرصة الوقوع في الخطأ القضائي ومن ناحية ثالثة فإن مقدار العقوبة يكون على أساس مدى الخطر الاجتماعي الذي نتج عن وجود المجرم على الإقليم دون النظر إلى الظروف التي أحاطت بالمجرم ([15]).
2/ يسبب انتهاك مبدأ السيادة في الغالب الأعم ظهرت بعض بين الدول نسبة لحساسية هذا الأمر، وقد تتحول المحاكم بسبب تلك التوترات إلى أدوات سياسية، تستعملها الدول لإذلال الدول الأخرى أو تصفية حسابات سياسية معها, مما يفقد القضاء هيبته، ويتلاشى دوره في إرساء العدالة وإحقاق الحق. بالرغم من كل تلك الانتقادات إلا أن الاختصاص العالمي للقضاء الوطني قد أصبح اليوم من الآليات الأساسية لملاحقة منتهكي قواعد القانون الدولي الإنساني وظل المهتمون بذلك القانون يشجعون الدول على سن التشريعات الكفيلة بتفعيل هذا المبدأ ويحثون الدول على الأخذ به لعله يكون مانعا من إفلات مرتكبي الجرائم الدولية الخطيرة من العقاب.([16])
لقد أصبح مطلب مكافحة إفلات المجرمين من منتهكي القانون الدولي الإنساني من العقاب من المطالب الهامة التي تنادى بها كافة المنظمات الحقوقية وذلك لانتشار ظاهرة الحروب والنزاعات المسلحة التي تؤدى في معظم الأحيان إلى انتهاكات فظيعة للقانون الدولي الإنساني وذلك بالاستهداف الدائم للمدنيين بقتلهم وتشريدهم وتدمير لممتلكاتهم، كما أصبح مطلب تفعيل كل الآليات المعنية بمحاكمة أولئك المجرمين وإنزال العقاب الرادع عليهم، ولا شك أن من بين تلك الآليات المحاكم الوطنية ذات الاختصاص العالمى
نتائج الدراسة
يعتبر مبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الجنائن الوطنى من اهم المبادئ التى ظهرت عقب انشاء المحاكم الجنائية الدولية حيث وضح ان هنالك إمكانية كبيرة للإفلات من العقاب وذلك بالهروب من أماكن الاختصاص المحلى لتلك المحكم الى مناطق اهرى لا تدخل فى ذلك الاختصاص
هنالك الكثير من الدول التي قامت بطبيق المبدأ تعرضت لضغوط سياسية لمنع تطبيقه او تغيير قواعد ذلك التطبيق ليتفادى بعض الأشخاص ذوى النفوذ القبض عليهم ومحاكمتهم
انه يمكن ان يكون تطبيق مقرون المبدأ بدوافع سياسية او تصفية حسابات اخرى سواء سواء لملاحقة أشخاص لم يقومو بارتكاب انتهاكات للقانون الدولي الانسانى او للدول فى بينها نتيحة للتوترات التى ربما تحدث نتيجة للاعتقاد بانتهاكات للسيادة الوطنية .
التوصيات :
بالنظر الى ما قدمناه من اهمية لهذا المبدأ فإننا نوصى بان تقوم كل الدول بادماح مبدأ الاختصاص العالمي للقضاء الوطني فى تشريعاتها الوطنية حتى لا يستطيع منتهكى القانون الدولى الانسانى من الإفلات من العقاب
-[1] خالد حسين محمد: محكمة الجنايات الدولية وتجربة العدالة الجنائية الدولية، مرجع سابق، ص 89.
[2] – سعيدة سعيد امتوبل،فعالية العقاب على الانتهاكات الجسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني، مرجع سابق ص280.
[3] – تنص المادة (4) من تلك الاتفاقية على أن تلتزم كل دولة طرف وفقا لإجراءاتها الدستورية اتخاذ التدابير اللازمة لمنع أيا من الأفعال المحظورة بموجب المادة الأولى من هذه الاتفاقية.
[4] – تنص المادة (4)من الاتفاقية على أن تتعهد كل دولة طرف باتخاذ أية تدابير تعتبرها لازمة وفقا لإجراءاتها الدستورية من اجل حظر ومنع أي نشاط ينتهك أحكام الاتفاقية في أي مكان يخضع لسيطرتها أو ولايتها.
[5] – المادة الأولى المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع.
[6] – سعيدة سعيد امتوبل، فعالية العقاب على الانتهاكات الجسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني، مرجع سابق, ص 284م.
-[7]المادة 91 من البرتوكول الإضافي الأول لسنة 1991م.
[8] – احمد فتحي سرور، موقع الأهرام، قضايا وآراء، القانون الجنائي والعولمة، تراجع السيادة الوطنية.
[9] – www.thawra.syهيثم موسى حسن،، الاختصاص العالمي وجرائم الحرب الإسرائيلية،
[10] – نصت المادة الثانية من ذلك القانون على أن أي جريمة من لجرائم الواردة في المادة الأولى (جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة) ترتكب خارج أراضي المملكة المتحدة يمكن ملاحقة المسئولين وتقديمهم للمحاكمة ومعاقبتهم أمام أية محكمة من محاكم المملكة المتحدة).
[11] – wwwthawra.syهيثم موسى حسن، الاختصاص العالمي وجرائم الحرب الإسرائيلية، مرجع سابق
[12]. محمود نجيب حسنى، شرح قانون العقوبات، القسم العام، 1992م، ص 148
[13] – قرار المحكمة العليا الاسبانية رقم 1362 لسنة 2004م الصادر في 15/ نوفمبر /2004م.
[14] – wwwdchrs.org/arوائل جرجس، محاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أمام القضاء الوطني الأوربي, موقع مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان.
-[15] خالد حسين محمد: محكمة الجنايات الدولية وتجربة العدالة الجنائية الدولية، مرجع سابق ص 90.
[16] ورد النص على مبدأ عالمية الاختصاص في قانون العقوبات البولندي في المادة الثامنة، وفى قانون العقوبات اليوناني في المادة الثامنة، وفى قانون العقوبات السويسري في المادة الخامسة، وفى قانون العقوبات البولوني في المادة التاسعة.