الدراسات البحثيةالمتخصصة

تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على قطاع اللوجستيات العالمي

إعداد: نشوى عبد النبي سيد – باحث بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار  – مجلس الوزراء المصري

  • المركز الديمقراطي العربي

 

مقدمة:

تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في تداعيات عالمية مقلقة، في الوقت الذي كان العالم في طريقه للخروج من جائحة كورونا التي كان لها أشد الأثر على البلدان النامية. حيث دفعت الحرب الأوكرانية الروسية العالم إلى إعادة النظر في المنظومة الاقتصادية العالمية إذ زعزعت الحرب أساسات الاقتصاد في أغلب دول العالم، وسط أزمات تتصاعد في الأمن الغذائي وأمن الطاقة (1). كما أدت الأزمة الأوكرانية إلى اضطرابات في قطاع اللوجستيات العالمي، الأمر الذي تسبب في المجمل في تأخير نقل البضائع حول العالم، وارتفاع تكاليف الشحن البحري عالمياً. وتسببت المخاطر المصاحبة للحرب الأوكرانية في توقف العديد من كبريات الشركات الملاحية العالمية مثل “ميرسك” و”هاباج ليود” وغيرها في نقل البضائع من وإلى روسيا وأوكرانيا، ومن ثم ارتفاع أسعار الشحن البحري على المستوى العالمي، فيما اتجهت الحكومات والشركات العالمية لإعادة تقييم إدارة سلاسل التوريد، والتراجع عن إدارة مخزون السلع الأساسية وفق مبدأ في الوقت المناسب.

نشر “موقع فورين بوليسي”، في 21 يوليو 2022، مقالاً للكاتب “فلاديسلاف دافيدزون” رئيس تحرير صحيفة “أوديسا ريفيو”، بعنوان” فتح الموانئ البحرية الأوكرانية أمر صعب لكنه بالغ الأهمية”، أشار فيه إلى مؤشرات استهداف روسيا لأوكرانيا، حيث أن هناك جملة من المؤشرات تدلل على اتجاه روسيا نحو محاصرة أوكرانيا تجارياً، وهو ما يمكن بيانه في النقاط التالية:

  1. حظر تصدير الحبوب الأوكرانية: حيث يوجد ملايين الأطنان من الحبوب في مصاعد الحبوب الأوكرانية أو في مخازن البضائع لعشرات سفن الشحن الأجنبية العالقة في الموانئ الأوكرانية، وذلك نتيجة الحظر المفروض على تصدير الحبوب الأوكرانية من قبل أسطول البحر الأسود الروسي، وهو ما يشكل تهديداً خطيراً للأمن الغذائي، بما يؤكد ضرورة وجود استجابة عالمية لرفع الحظر.
  2. منع التجارة الأوكرانية وغلق الموانئ: تُعد أوديسا الميناء الرئيسي لأوكرانيا، ويتضمن ذلك مدينتَيْن تقعان على بُعد 30 ميلاً من المدينة. هذه الموانئ لا تعمل من جراء الحصار الذي تفرضه روسيا على التجارة الأوكرانية عبر البحر الأسود. وقام الأوكرانيين بوضع لغم في مدخل الموانئ من أجل منع السفن الروسية من إنزال مشاة البحرية على شواطئها، كما تم دفع أسطول البحر الأسود الروسي أكثر من 100 ميل بعيداً عن المدينة، وذلك بفضل فاعلية الصواريخ الأوكرانية المضادة للسفن، والصواريخ المقدمة من بريطانيا.
  3. غلق المنافذ والبوابات البحرية الأوكرانية: أن ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، ثم الاستيلاء على ميناء ماريوبول الصناعي بعد العملية العسكرية الروسية في فبراير 2022، ترك أوكرانيا مع عدد قليل من المنافذ البحرية. سمحت استعادة القوات المسلحة الأوكرانية “لجزيرة الثعبان” في يونيو 2022، للأوكرانيين بإعادة فتح الموانئ الأصغر على طول مصب نهر الدانوب لشحنات الحبوب. وقد رست 35 سفينة أجنبية أصغر في تلك الموانئ خلال الأسبوع الثاني من يوليو 2022. ومع ذلك، فإن تلك الموانئ النهرية الضحلة لا تفِ بالغرض.
  4. اشتراط عبور السفن من الموانئ التابعة لسيطرة موسكو: أصرت روسيا في المفاوضات على أن الصادرات المستقبلية من الحبوب الأوكرانية تمر عبر ميناء ماريوبول الذي تسيطر عليه القوات الروسية حالياً. وهذا النوع من “الابتزاز ” غير مقبول لكل من كييف والمجتمع الدولي. (2)

أولاً: مظاهر تأثير أزمة الحرب الروسية – الأوكرانية على قطاع اللوجستيات العالمي

تعتبر روسيا وأوكرانيا موردين مهمين للمنتجات الأساسية، ولا سيما الغذاء والطاقة، حيث يمثل البلدان نحو 2.5% من التجارة العالمية للبضائع و1.9% من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2021. ولهذا، فمن شأن أي اضطراب يحدث في منطقة البحر الأسود أن يؤثر بشدة على سلاسل التوريد وقطاع الشحن البحري الذي يستحوذ وحده على 80% من حركة التجارة العالمية. وفيما يلي أبرز ملامح الأزمة في قطاع الشحن: (3)

  • أزمة نقص العمالة والبحارة على السفن التجارية وتأثير ذلك على سلاسل التوريد العالمية: يعاني قطاع الشحن منذ بداية أزمة كورونا من أزمة في العمالة ونقص في أطقم البحارة بسبب قيود السفر الصارمة التي فرضها الوباء، وفقًا لدراسة نشرها كل من المجلس البحري البلطيقي والدولي (بيمكو) وغرفة الشحن الدولية، حيث حذرت الدراسة من أن نقص البحارة في طواقم السفن التجارية سيضيف المزيد من المخاطر على سلاسل التوريد العالمية. (4) ومع اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية تفاقمت أزمة العمالة في قطاعي الشحن واللوجستيات حيث تسببت في حصار البحارة العاملين على السفن الأوكرانية، وسيطرة الجيش الروسي على الممرات المائية منذ بدء العملية العسكرية على أوكرانيا في 24 فبراير 2022 خاصة في الموانئ الساحلية مثل “ماريوبل” و”أوديسا”، أكبر ميناء لتصدير الحبوب في أوكرانيا، مما زاد من صعوبات عملية نقل البضائع عبر هذه المناطق. وتسببت الحرب الروسية في أوكرانيا في الاستغناء عن عشرات الآلاف من عمال الشحن والموانئ في روسيا وأوكرانيا، والذين تبلغ نسبتهم نحو 14.5 % من إجمالي العمالة على مستوى العالم بعد أن أغلقت القوات الروسية الطرق التجارية وأرصفة الشحن والموانئ في منطقة البحر الأسود وبحر آزوف وعلقت الخدمات البحرية فيها، مما جعل أسعار الشحن تقفز لمستويات عالية. (5)
  • إغلاق الموانئ وتوقف شركات الملاحة ومنع السفن الروسية من الرسو في الموانئ الغربية: تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في إغلاق موانئ أوكرانيا، حيث يتسبب الغزو الروسي في إحداث فوضى في النقل البحري العالمي، الذي ينقل 80% من التجارة العالمية. والسفن التي تبحر في المحيطات غير قادرة على تسليم البضائع وشحنها. كما قررت العديد من الدول حول العالم في مهلة قصيرة إغلاق موانئها أمام السفن الروسية، مثل بريطانيا وكندا والنرويج وإيطاليا والولايات المتحدة، وذلك للرد على الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، لتأتي تلك الخطوات ضمن مجموعة من العقوبات الاقتصادية الموسعة التي فرضتها الدول الغربية ضد موسكو لإجبارها على العدول عن غزوها لأوكرانيا . ودعا العديد من الشركات اللوجستية للبحث عن أسواق بديلة لتعويض وقف الخطوط الملاحية مع الدولتين، وتتمثل تلك البدائل في عدة دول منها: “رومانيا، وفرنسا، والبرازيل، والأرجنتين”. إلى جانب ذلك، أعلنت ثمانية خطوط ملاحية تعليق عمليات حجز الشحن من وإلى روسيا جراء حربها على أوكرانيا، وتخوفًا من أن تتكبد خسائر باهظة أثناء عمليات الشحن، ومن أهم تلك الخطوط “ميرسك” و”فيدكس” و”هاياج لويد”، فيما قامت باقي الخطوط الملاحية بإقرار رسوم مخاطر تبلغ قيمتها نحو 1200 دولار على الحاويات.
  • وفي أبريل 2023 قرر الرئيس الأميركي جو بايدن، تمديد الحظر المفروض على استقبال السفن التي تبحر تحت علم روسيا أو المرتبطة بروسيا، في الموانئ الأميركية لمدة عام واحد. وأوضح بيان صادر عن البيت الأبيض أن سياسة وإجراءات الحكومة الروسية بشأن إجراء “عملية عسكرية خاصة” في أوكرانيا لا تزال تشكل خطراً بسبب انتهاك أو التهديد بانتهاك العلاقات الدولية مع الولايات المتحدة. (6)
  • ارتفاع أسعار الطاقة و النفط: مع اندلاع حرب أوكرانيا، لامست أسعار النفط مستويات لم تشهدها منذ 14 عامًا، وانعكس ذلك على تكاليف الوقود عالميًا وأثار موجة تضخمية أربكت الاقتصاد العالمي، الذي قد بدأ تنفس الصعداء بعد أزمة وباء كورونا. وشهدت أسعار النفط بالأسواق العالمية أعلى مستوياتها وكذلك أسعار الغاز في الأسواق الأوروبية والتي سجلت مستويات مرتفعة غير مسبوقة وتاريخية بدأت مع الأزمة الروسية الأوكرانية أواخر شـهر فبراير 2022، وكذلك تنامى المخاوف بخصـوص مستقبل الطاقة عامة والتي تشكل تهديدا صريحا لاقتصادات الدول الأوروبية والتي تستعد لشتاء مظلم وذلك بعد الآزمة الغاز الروسي ووقف الإمدادات على خلفية دعمها لأوكرانيا، وبدأت الدول الأوروبية في اتخاذ تدابير عاجلة للحد من استهلاك الطاقة في ظل مخاوف من تفاقم الوضع. وقفز متوسط السعر العالمي لزيت وقود السفن إلى أكثر من 1000 دولار للطن بعد الحرب الروسية بارتفاع 64% عما كان عليه في بداية العام الجاري، كما زاد سعر وقود ناقلات الحاويات بما يقرب من 50% منذ بداية غزو حكومة موسكو لجارتها أوكرانيا مما يؤدي إلى استمرار ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية وتفاقم فجوة الفقر في البلاد النامية. (7)
  • ارتفاع تكاليف التأمين على السفن التجارية: أسفرت الحرب الروسية عن ارتفاع تكاليف التأمين على السفن التجارية عبر البحر الأسود مما زاد من تكلفة شحن البضائع وذلك بسبب ارتفاع المخاطر التي قد تواجهها تلك السفن خلال رحلتها مع زيادة احتمالية تعرضها للتلف أو الاحتراق نتيجة للحرب الدائرة في تلك المنطقة. وقد رفعت بعض شركات الشحن تكلفة التأمين من 1% من قيمة البضاعة إلى 10%. وفي هذا السياق، صنفت شركات التأمين كلاً من منطقة البحر الأسود وبحر آزوف وكذلك المياه القريبة من رومانيا وجورجيا كمناطق عالية الخطورة. (8)
  • ارتفاع أسعار شحن السلع الجافة: قفزت أسعار شحن السلع الجافة مثل الحبوب في منطقة البحر الأسود بنحو 60% منذ غزو روسيا لأوكرانيا، مع تزايد المسافات بين الدول المصدرة والمستوردة، وكذلك ارتفاع فترات وتكاليف الشحن التي تشهد زيادة ملحوظة منذ بداية انتشار الوباء في عام 2020، مما ساعد على ارتفاع أسعار الحبوب وزيادة أسعار السلع الغذائية الاستهلاكية لمستويات قياسية هذا العام. وتعد روسيا وأوكرانيا من أهم الدول المصدرة للسع الغذائية الزراعية ومنها اللحوم، حيث تهيمنان على نحو 53% من التجارة العالمية في البذور الزيتية مثل عباد الشمس، و27 % من القمح لدرجة أن 36 دولة تستورد أكثر من 50% من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، وهذا يعني أن استمرار الحرب بينهما سيجعل أسعار الغذاء تواصل الارتفاع لمستويات قياسية حتى عام 2024. وأدت الحرب الروسية إلى عرقلة حركة التجارة البحرية في منطقة البحر الأسود وتوقف الأنشطة في موانئ أوكرانيا وروسيا وتدمير البنية التحتية لمرافق الشحن وتقييد الحركة التجارية وارتفاع تكاليف التأمين بسبب العمليات الحربية وتزايد أسعار الوقود وقوة الطلب على السفن والناقلات العالمية وتفاقم تكاليف الشحن حول العالم. وجاء في تقرير منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد» بعنوان «تمزق التجارة البحرية» أن الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعياتها على لوجيستيات التجارة البحرية جعلت المستوردين من هذين البلدين يتجهان إلى دول أخرى للحصول على السلع الاستراتيجية التي يحتاجون إليها. (9)

ثانياً: تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على قطاع اللوجستيات العالمي

فاقمت الأزمة الأوكرانية من اضطرابات سلاسل التوريد التي كانت لا تزال تتعافى بصورة هشة من ارتدادات أزمة كورونا، مما أسفر عن حدوث حالة من عدم الانتظام في أحوال الشحن العالمي، بسبب ارتفاع أسعار الشحن بشكل غير مسبوق نظرًا لارتفاع أسعار الحاويات وأسعار النفط والوقود، وتعليق شركات الخدمات اللوجستية خدماتها، وتعطيل حركة التجارة مع روسيا وأوكرانيا – اللاعبين الرئيسيين في سوقي الطاقة والغذاء – فضلًا عن تعرض بعض السفن للقصف في منطقة البحر الأسود.

بطبيعة الحال، ستخلق العوامل المذكورة أعلاه عددًا من الارتدادات على قطاع الشحن بشكل خاص، والاقتصاد العالمي بشكل عام، ، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

أولاً: ارتفاع تكلفة الشحن التجاري:

  1. صعود تكلفة الشحن البحري.
  2. ارتفاع أسعار الشحن الجوي.
  3. تعطل خطوط النقل البري.
أسعار شحن الحاويات (دولار/ اليوم)

Source: UNCTAD- MARITIME TRADE DISRUPTED THE WAR IN UKRAINE AND ITS EFFECTS ON MARITIME TRADE LOGISTICS.

صعود تكلفة الشحن البحري: شهد الاقتصاد العالمي عقب الحرب الروسية الأوكرانية ارتفاعًا في أسعار الطاقة والتأمين على السفن، وزيادة في القيود المفروضة على التجارة الخارجية، إلى جانب النقص العالمي في حاويات الشحن، فضلًا عن إغلاق الموانئ وتوقف شركات النقل عن تقديم خدمات الشحن إلى روسيا وأوكرانيا مما أجبر السفن على تغيير مسارها، وهو ما أدى إلى تكدس واصطفاف السفن خارج الموانئ لتصل مدة الانتظار إلى أكثر من عشرين يومًا. ومن شأن جميع العوامل السابقة أن تخلق بيئة تجارية وشحن عالمية أكثر تكلفة، ولا يمكن التنبؤ بها، مما يرفع تكلفة الشحن البحري.

كما يُبين الرسم الآتي: يتبين من الرسم السابق أن أسعار الشحن العالمية شهدت انخفاضًا ملحوظًا خلال الربع الأول من العام الجاري لترتفع عقب ذلك بصورة مستمر حتى الربع الثاني من العام الجاري عقب بدء تأثيرات الحرب والعقوبات الاقتصادية على سلاسل التوريد العالمية، ولهذا من المرجح أن تستمر أسعار الشحن البحري في الارتفاع حتى نهاية عام 2022 بما سيرفع أسعار السلع النهائية للمستهلكين. فعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار نقل البضائع السائبة الجافة كالحبوب بنحو 60% خلال الفترة بين فبراير ومايو 2022.

كما ارتفعت أسعار وقود تشغيل السفن بنسبة 23% منذ بداية العام، وصُنفت منطقة البحر الأسود كمنطقة خطر، حيث أوقفت شركات النقل البحري الكبرى في أوروبا طلبات الشحنات الأوكرانية وتجنبت الموانئ الرئيسة في البلاد، وحولت البضائع إلى وجهات أخرى. كما أوقفت بعض خطوط الحاويات تلقي طلبات الشحن في روسيا. وهو ما عرض سلاسل التوريد العالمية لضغوط، زاد من شدتها تعطل طرق النقل،حيث أغلقت السفن الروسية المتراكمة مضيق كيرتش الذي يربط بين البحر الأسود وبحر آزوف، ما يعني أنه لن تتمكن أية سفن تجارية من المرور. (10)

بالإضافة إلى انخفاض أعداد السفن المغادرة الموانئ الروسي: مع تصاعد التهديدات الأمنية لموانئ البحر الأسود، انخفضت بشدة أعداد السفن المغادرة للموانئ الروسية والأوكرانية. وانخفضت سفن بضائع الصب الجاف (التي تنقل الحبوب والذرة والأسمدة والفحم وخام المعادن) المغادرة للموانئ الروسية، كما تراجعت ناقلات النفط الخام ومنتجاته التي تغادر الموانئ الروسية بنسبة 35% منذ بدء الغزو خلال الفترة (20 فبراير 2022 وحتى 16 مارس 2022). كما توجد أكثر من 350 سفينة عالقة في أوكرانيا، لا تستطيع التحميل أو التفريغ أو التحرك بسبب الحصار الروسي للموانئ الأوكرانية على البحر الأسود.

ارتفاع أسعار الشحن الجوي: شهدت أسعار مؤشر “فريتوس” للشحن الجوي ارتفاعاً ملحوظاً، في ضوء الحرب الراهنة، لاسيما بالنسبة للوجهات الرئيسية التي تربط مراكز الإنتاج والتصنيع في الصين بالمستهلكين في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث ارتفعت بين الصين وأوروبا بمعدل 80% لتصل إلى حوالي 11.36 دولار لكل كيلو جرام في الأسبوع الأول من مارس 2022 مقارنة بالأسبوع السابق ليه. ويأتي ذلك نتيجة إغلاق بعض المسارات الجوية واضطرار شركات الخدمات اللوجستية إلى اللجوء إلى طرق أطول بسبب الحرب، فضلاً عن ارتفاع أسعار وقود الطيران بالتوازي مع صعود خام برنت لما يتجاوز 110 دولارات للبرميل.

و حذرت المنظمات الاقتصادية العالمية من الآثار الكارثية للحرب الروسية الأوكرانية على مستوى العالم مؤكدة أن أسعار السلع والخامات والتأمين والنقل الجوي ارتفعت أسعارها بشكل غير مسبوق مؤثرة سلبيا على الموازنات المالية للدول. وأوضحت أن الملاحظة الأولى لهذه الحرب تمثلت في إغلاق المجال الجوي لدولتي روسيا وأوكرانيا في إطار العقوبات المفروضة على روسيا، والتي ترتب عليها إيقاف عمليات النقل الجوي فضلا عن زيادة أسعار الشحن الجوي، بنسب تراوحت بين 20 % و 125 % بفعل ارتفاع أسعار الوقود.  (11)

و كشف الاتحاد الدولي للنقل الجوي “الإياتا” في تقرير حول بيانات الشحن الجوي في الأسواق العالمية لشهر أبريل 2022، أن الحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى تراجع سعة الشحن التي تخدم أوروبا نظرا إلى أن العديد من شركات الطيران في روسيا وأوكرانيا تُعد من أبرز الشركات في مجال الشحن الجوي. إضافة إلى أن العقوبات على روسيا سببت اضطرابات في عمليات التصنيع، وأدى ارتفاع أسعار النفط إلى تأثيرات سلبية على الاقتصاد تشمل ارتفاع تكاليف الشحن، فيما تقلّصت طلبات التصدير الجديدة، التي تمثل مؤشراً رئيسياً للطلب على الشحن الجوي، في جميع الأسواق العالمية باستثناء الولايات المتحدة.  (12)

تعطل خطوط النقل البري : قامت شركات الخدمات اللوجستية التي تقوم بنقل السلع سريعة التلف بتجنب الطرق البرية التي تمر عبر روسيا أو مناطق القتال لتضاف إلى فوضى سلاسل التوريد العالمية، وذلك مع بداية الحرب الروسية – الأوكرانية. وكان من بين المسارات المتأثرة بالأزمة، خط “آيه إي – 19” (AE – 19) الذي أطلقته شركة “ميرسك” في عام 2019، ويربط أقصى شرق آسيا بميناء فوستوشني الروسي، ثم نقل البضائع بالسكك الحديدية من فوستوشني إلى ميناء سانت بطرسبرج، ومن هناك إلى الدول الإسكندنافية وأوروبا الشرقية. كما تأثر خط “آيه إي – 77” (AE – 77) الذي يربط بين دول الشرق الأقصى ودول منطقة البحر الأسود وشرق البحر المتوسط عبر السكك الحديد العابرة لسيبيريا، حيث يتم نقل الحاويات من ميناء “فستوتشني” (Vostochny) في الشرق الأقصى إلى ميناء “نوفوروسيسك” (Novorossiysk) المطل على البحر الأسود عبر السكك الحديد العابرة لسيبيريا، ثم يتم نقل الحاويات بحراً إلى موانئ أوكرانيا وتركيا.

ثانياً: أزمة قطاع الشحن العالمي وتهديد الأمن الغذائي : تُمثل أزمة قطاع الشحن العالمي وسلاسل توريد السلع الأساسية عقبة جديدة أمام تحقيق مستهدف تعزيز الأمن الغذائي، حيث هددت الحرب الأوكرانية بتوقف توريد السلع الاستهلاكية والغذائية الهامة خاصة للدول المعتمدة على الدول الواقعة على البحر الأسود. كما تعتبر أزمة قطاع الشحن تحديًا رئيسيًا أمام الاقتصادات الهشة أمام إمكانية البحث عن مصادر بديلة لوارداتها الغذائية بعيدًا عن روسيا وأوكرانيا، حيث إن التضخم العالمي المرتفع وارتفاع تكلفة الشحن والقيود المحتملة على الصادرات تجعل هذا التحول مكلفًا.

و تواجه توريدات الغذاء العالمية حاليًا عقبتين أساسيتين هما انخفاض حجم الصادرات من أوكرانيا، وروسيا إلى حد ما، والتأثيرات غير المباشرة التي يمكنها زيادة المعوقات المفروضة على التوريدات العالمية. وتعود غالبية أسباب العجز الحالي في الصادرات إلى تراجع القدرة على نقل الحبوب المخزنة في الصوامع إلى خارج منطقة البحر الأسود. وإذا تم الالتزام ببنود الاتفاقية الموقعة على أكمل وجه، فمن الممكن تخفيف الكثير من المشاكل على المدى القصير، رغم أن تحقيق هذه النتائج المُثلى ليس مؤكدًا على الإطلاق. كما تشكل 6 مناطق المصدر الرئيسي لمعظم واردات الحبوب العالمية، وتمثل أوكرانيا وروسيا إحدى هذه المناطق، حيث تنتجان معًا حوالي 28% من محصول القمح و15% من محصول الذرة العالمية. (13)

ثالثاً: ارتفاع أسعار نوالين الشحن: حيث إن التداعيات المباشرة للحرب الروسية الأوكرانية بدأت بزيادة أسعار البترول متعدياً حاجز الـ100 دولار، بالإضافة إلى رفع قيمة الغطاء التأميني على السفن والناقلات وجميع العاملين بها خاصة المارة بالبحر الأسود وبطبيعة الحال أدى ذلك لرفع نوالين الشحن. إلى جانب ذلك، أعلنت ثمانية خطوط ملاحية تعليق عمليات حجز الشحن من وإلى روسيا جراء حربها على أوكرانيا، وتخوفًا من أن تتكبد خسائر باهظة أثناء عمليات الشحن، ومن أهم تلك الخطوط “ميرسك” و”فيدكس” و”هاياج لويد”، فيما قامت باقي الخطوط الملاحية بإقرار رسوم مخاطر تبلغ قيمتها نحو 1200 دولار على الحاويات.

رابعاً: ارتفاع مؤشر الضغط على سلاسل الإمداد العالمي:

يأخذ هذا المؤشر عند حسابه تكاليف الشحن الجوي والبري والبحري ومؤشر مديري المشتريات للإنتاج. وقد وصل ذروة الارتفاع له في ديسمبر 2021، لكن هذه الضغوط ظلت عند مستويات مرتفعة تاريخياً حتى فبراير 2022، والتي من المحتمل استمرارها في ظل التوترات الجيوسياسية الحالية المتزايدة بين روسيا وأوكرانيا. تُضاف تلك الأزمات إلى المشكلات الأساسية التي تعاني منها مسألة الأمن الغذائي العالمي كسياسات الحمائية الغذائية التي انتهجتها العديد من البلدان المصدرة للغذاء حول العالم، وتفاقم التغيرات المناخية، فضلًا عن تزايد الصعوبات الماثلة أمام زيادة إنتاج الدول المستوردة بسبب ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج كالأسمدة.

أن عدم انتظام سلاسل الأمدادت العالمية، وإن كان يعود بشكل مباشر إلى تبعات الأزمة الروسية الأوكرانية في المنافذ التجارية الملاحية لروسيا وأوكرانيا، إلا أن هناك عوامل أخرى منها اضطراب حلقات الإمداد حيث تبين نقصها من الخامات ومستلزمات التصنيع، ما أدى بصفة عامة إلى تعطل مصانع عديدة في الدول الغربية، ومن أهم هذه المكونات أشباه المواصلات ورقائق الحاسبات؛ ما أثر بصورة خاصة على صناعات إستراتيجية مثل السيارات والإلكترونيات وتصنيع الأجهزة البصرية كما أدى إلى تباطؤ عمليات الإنتاج والنشاط التصديري للصين.

خامساً: زيادة تكلفة نقل البضائع: حذرت شركات الشحن وشركات الطيران من أن قرار العديد من الدول الأوروبية إغلاق مجالها الجوي في وجه روسيا سيزيد من تكلفة نقل البضائع من أوروبا إلى آسيا، مما قد يجعل بعض الطرق غير مجدية، علاوة إلى زيادة تكلفة الوقود مع ارتفاع أسعار النفط لأعلى مستوياتها في 10 سنوات قرب 120 دولاراً للبرميل. أما النقل بالسكك الحديدية، فشهد كذلك تأثراً ملحوظاً، لا سيما في نقل البضائع من الصين إلى أوروبا، بعد أن كانت الشركات تعتمد عليه بصورة أكبر في نقل البضائع، بعدما قفزت أسعار الشحن البحري، بسبب تكدس الموانئ خلال الجائحة. كما سوف تؤدي عقوبات الدول الغربية على النظام الروسي، وخاصة حظر بعض البنوك الروسية من التعامل مع نظام الدفع المالي العالمي (سويفت)، إلى زيادة مصاعب التي تواجهها شركات الامداد والشحن، في إجراء أي نوع من التجارة مع موسكو حتى في القطاعات التي لا تخضع للعقوبات. (14)

ملاحظات ختامية

استخلاصًا مما سبق، يتبين أن الحرب الأوكرانية أسفرت عن ضغوط جديدة على قطاع الشحن العالمي متمثلة في تراجع أعداد الحاويات الفارغة مع ارتفاع أسعارها، وأزمة في العمالة، فضلًا عن ارتفاع تكلفة الشحن البحري، ومن المُرجح أن يترتب على تلك العوامل آثار سلبية واسعة النطاق على الاقتصاد العالمي وقضية الأمن الغذائي بوجه خاص، وارتفاع أسعار الشحن البحري والجوي على مستوى العالم، وسيكون لذلك مردود سلبي على الاقتصاد العالمي من حيث تهديد سلاسل التوريد العالمية، وتصاعد الضغوط التضخمية. وستدفع الأزمة الحكومات للنظر في سياسات جديدة مثل تعديل استراتيجية المخزون والبحث عن أسواق بديلة، وتنويع وسائل الشحن في الأمد الطويل.  

المراجع:

  1. بالأرقام… كم تبلغ تكلفة أزمة أوكرانيا على الاقتصاد العالمي؟، سكاي نيوز عربية، 27 سبتمبر 2022، https://ly/3lpfdy8
  2. فك الحصار: لماذا يُعَد فتح الموانئ البحرية الأوكرانية أمراً بالغ الأهمية؟، موقع إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، يوليو 2022، https://cutt.us/bWzSW
  3. بسنت جمال، ارتدادات واسعة النطاق: الحرب الأوكرانية وقطاع الشحن العالمي، مقال تحليلي، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، يوليو 2022، https://cutt.us/2b9FY
  4. دراسة: العالم يواجه نقصا في بحارة السفن التجارية ومخاطر على التوريد العالمي، موقع سبوتنيك، يوليو 2021، https://cutt.us/7uCBA
  5. أسواق النفط والغاز على صفيح ساخن.. وارتفاعات غير مسبوقة منذ حرب روسيا وأوكرانيا، اليوم السابع، أكتوبر 2022، https://cutt.us/TohNh
  6. بايدن يمدد الحظر المفروض على استقبال السفن الروسية في موانئ أميركا، العربية، أبريل 2023، https://cutt.us/3LSmq
  7. أسواق النفط والغاز على صفيح ساخن.. وارتفاعات غير مسبوقة منذ حرب روسيا وأوكرانيا، اليوم السابع، أكتوبر 2022، https://cutt.us/TohNh
  8. بسنت جمال، مرجع سابق.
  9. منظمة أونكتاد تؤكد ارتفاع تكاليف الشحن العالمية، موقع حابي، يوليو 2022، https://cutt.us/r9ALH
  10. على وقع الحرب. أزمة سلاسل الإمداد العالمية تتفاقم وتُؤثر على الاقتصاد المصري، دراسة، مارس 2022، موقع دراية المنتدى الاستراتيجي للسياسات العامة ودراسات التنمية، https://cutt.us/qleGL
  11. المنظمات الدولية تحذر من الأثار السلبية للحرب الروسية، جريدة الدستور، 8 يوليو 2023، https://cutt.us/erBZz
  12. بسبب الحرب الأوكرانية.. أياتا: تراجع الشحن الجوي العالمي بنسبة 5.2%، صدى البلد، مايو 2022، https://cutt.us/Mqw07
  13. نظرة عامة على تحديات الأمن الغذائي العالمي في ظل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والتأثيرات المبكّرة للتغير المناخي، مقال ، https://cutt.us/PQGGa
  14. هل ستؤثر الأزمة الروسية الأوكرانية على سلاسل الامداد و الشحن؟، موقع شركة الفارس لخدمات الشحن والتخليص، https://cutt.us/mSxyI
5/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى