الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

مقاربة الإنقلابات العسكرية الإفريقية والدروس المستفادة عربيا

بقلم : التجاني صلاح عبدالله المبارك – طبيب صيدلاني، كاتب وباحث، مؤلف(قوة الدولة والقوة الإلهيّة)

  • المركز الديمقراطي العربي

 

بات من العجائب التي تستدعي النظر والتأمل في دورة أنظمة الحكم في القارة السمراء في العقد الأخير على الأقل، هو حدوث موجات متتالية ومتعاقبة من الانقلابات العسكرية التي أطاحت برؤساء منتخبين وآخرين تسنموا السلطة قسرا سنين عددا، ولأن حدوث هذه التغييرات المتتالية في ظروف تكاد تكون متشابهة نوعا ما، فإنه من المفيد متابعة هذه المتغيرات واستخلاص ما يمكن من الدروس المستفادة منها.

آخر هذه الانقلابات هو إعلان مجموعة عسكرية في الغابون الأيام القليلة الماضية وضع الرئيس” علي بونغو” قيد الإقامة الجبرية؛ بعد ساعات قليلة من إعلان لجنة الانتخابات فوزه بولاية رئاسية ثالثة، ليرتفع بذلك مجموع الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية إلى8  انقلابات عسكريّة في غضون ثلاثة سنوات، وما يقارب 45 انقلاب أو محاولة انقلابية منذ عام 2012.

يعرف الانقلاب العسكري بأنه محاولة فرض واقع جديد في الدولة باستخدام القوة الصلبة، نتيجة لاخطاء جسيمة ومتراكمة كان السبب الرئيس والأساس فيها هو النظام السابق وأركانه، وكانت محصلتها الكارثية هي الانهيار الكامل في كافة مرافق الدولة اقتصاديا وأمنيا وسياسيا ومجتمعيا.

ويعرف أيضا بأنه  عملية عسكرية سريعة ودقيقة لإزاحة قائد الدولة من منصبه، واستبداله بغيره، سواء كان قائد الانقلاب نفسه، أو من يختاره هذا ويعينه لقيادة الدولة، أو أنه مسار مدروس وخطير يتم من خلاله تحييد قوى الجيش ووسائل الإكراه السياسي الأخرى، كما يتم فرض حالة من السلبية على القوى السياسية .[1]

مما يستدعي التأمل والنظر أيضا في موجات الانقلابات العسكرية المتلاحقة في القارة الإفريقية هو عمليات الإحلال والإبدال وتبادل الادوار والنفوذ التي تتم من قبل الفواعل، لتشغل وتسد الفراغ في دور بديل على الدولة التي تتعرض للانقلاب العسكري، بحجج استعادة الديمقراطية وبسط الأمن، وفي ظل خشية زيادة موجات الإرهاب الذي تمثله فزاعة الإسلام السياسي (كما يرون) من جهة ثانية، واستغلال الثروات والموارد الطبيعية مثل النفط والذهب واليورانيوم الذي تعتمد عليه في تشغيل المفاعلات النووية في أوروبا من جهة ثالثة.

حذرت صحيفة التليغراف في افتتاحيتها أن القوى الغربية تشعر بالتوتر، خاصة أن أعداءها نجحوا في استغلال حالة عدم الاستقرار المتزايدة في أجزاء من أفريقيا. وفي بعض البلدان قامت روسيا ومجموعة فاغنر التابعة لها بملء الفراغ الذي خلفته القوى الاستعمارية السابقة مثل فرنسا، وحصلت روسيا على صفقات مربحة من الموارد الطبيعية مقابل مساعدة الأنظمة الجديدة في الحفاظ على سيطرتها على البلدان الأفريقية، لكن تظهر في الخلفية معركة أعظم لتعزيز النفوذ على مساحات واسعة من العالم بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الاستبدادية.[2]

وإن اختلفت الحدود الجغرافية، فقد تكون العوامل والأسباب المفضية للانقلابات في القارة الإفريقية متشابهة نوعا ما، فعمليات تزوير الانتخابات الرئاسية في الغابون التي كان المرشح “أوسا” قد تحدث عنها متهما معسكر “بونغو” بإدارة عمليات تزوير قبل ساعتين من إغلاق مراكز الاقتراع، ومؤكدا فوزه بالانتخابات ومطالبته لتنظيم تسليم السلطة دون إراقة دماء، في وقت كان الجيش متأهبا لوضع حد لحالة الاحتقان التي بدأت قبل الانتخابات، تتشابه مع أنظمة أخرى تقتلع فيها الحكومة الديمقراطية، ويودع الرئيس المنتخب السجون، ويعطل الدستور لحين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.

ولأن القارة الإفريقية توجد بها جماعات جهادية عديدة مثل جماعة بوكو حرام وتنظيم الدولة الاسلامية والقاعدة، وتحاول فرض نظام جديد وامارة اسلامية على منطقة الساحل الإفريقي والتوغل في القارة، فقد كان بسبب من فشل الحكومات الإفريقية في صد هذه المجموعات عاملا من عوامل السخط الشعبي، وإندلاع الانقلابات العسكرية، في دول تعاني النفاق السياسي وتزوير نتائج الانتخابات، فضلا عن والفقر والمجاعات والبطالة والانفجار السكاني.

ففي بوركينا فاسو كانت أسباب الانقلاب الثاني هو عدم قدرة القوات المسلحة على مواجهة الفصائل الجهادية الناشطة في شمال وشرق البلاد، وهي نفس الأسباب التي أدت إلى الانقلاب الأول، وذات السبب في دولة النيجر التي لم تكن القوات الفرنسية فيها تقاتل الجهاديين خدمة للنيجر وشعبها، لكن لمصالح فرنسا الكولونيالية في تأمين مناجم الذهب واليورانيوم الذي تعتمد عليه بشكل أساسي في تشغيل مفاعلاتها النووية.

ولأن القارة الإفريقية تضم في باطنها ثروات ضخمة من الموارد الطبيعية مثل الذهب واليوارنيوم والنفط، فقد كان ليس عدم استغلالها لمصلحة البؤساء الأفارقة هو ما أدى إلى زيادة السخط الشعبي، لكن استغلال ونهب تلك الثروات من الفواعل التي تتذرع بذريعة استعادة الديمقراطية وتحقيق الأمن كان عاملا من عوامل اندلاع ووقوع الانقلابات العسكرية.  

ورغم الموارد الطبيعية الضخمة التي تتمتع بها القارة الإفريقية والتي يشكل معظمها عنصرا أساسيا في العديد من الصناعات الثقيلة في أوروبا والصين والولايات المتحدة الأميركية وآسيا، إلا أن سكان معظم دول القارة البالغ عددهم نحو 360 مليون نسمة لم ينعموا بأي نوع من الاستقرار الأمني أو السياسي أو الاقتصادي، إذ يعيش أكثر من 55 في المئة منهم تحت خط الفقر، كما شهدت دولا مثل سيراليون وليبريا ورواندا ومالي حروبا ونزاعات أهلية استمرت عشرات السنوات وراح ضحيتها أكثر من 13 مليون قتيل وشرد بسببها نحو 33 مليونا.ووفقا لخبراء في الشأن الإفريقي، فإن ضعف الاقتصادات الإفريقية والبيئة الأمنية المضطربة، إضافة إلى عدم احترام المواثيق الديمقراطية ولجوء العديد من الحكام المدنيين لتمديد فترات حكمهم، جميعها عوامل تثير الغضب الشعبي وتهيئ بيئة الانقلابات العسكرية التي تزيد الأمر تعقيدا.[3]

يرجع الدكتور “محمد يوسف الحسن”، الباحث السياسي التشادي، تنامي ظاهرة الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية، لا سيما في منطقة الغرب الأفريقي ودول جنوب الصحراء إلى جملة من العوامل، في مقدّمتها الأبعاد الاقتصادية وهشاشة المؤسسات السياسية، إضافة إلى تنامي الشعور الوطني المناهض لهيمنة القوى الاستعمارية القديمة.لكن” الحسن” يضيف كذلك في تصريحات أن الانقلابات المتكررة في القارة الأفريقية لا تعتمد فقط على العوامل الداخلية المتعلقة بتلك الدول التي تشهد انقلابات، لكنها ترتبط كذلك بتغير خريطة النفوذ الدولي في القارة، لافتا إلى أن معظم الدول التي شهدت انقلابات في السنوات الأخيرة كانت تخضع للهيمنة الفرنسية.[4]

وبعدما ذكرنا جزءا مما جرى في الداخل الإفريقي فهل تصل موجات التغيير العسكري الإفريقي إلى العالم العربي الذي شهد موجتين من موجات الربيع العربي الثوري؟ هذا ما سنحاول إسقاطه ومقاربته في ما تبقى من المقال، فما ثار ضده العسكر الافريقي مثل نهب ثروات البلاد واستباحتها من الفواعل بل من الأنظمة المستبدة والنخب الحاكمة، وعدم القضاء على النتظيمات المتطرفة، والتزوير في الانتخابات الرئاسية، وتفشي الظلم والإستبداد السياسي يكاد يكون في اي بقعة من بقاع العالم.

الإستبداد هو صفة للحكومة المطلقة العنان، فعلا أو حكمًا، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب، ولا عقاب محققَيْن، ويُراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصةً، لأنها أعظم مظاهر أضراره التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة. [5]

والإستبداد السياسي هو الانفراد بالسلطة، ومعنى استبد به: أي انفرد به يقال: استبد بالأمر، يستبد به استبداداً إذا انفرد به دون غيره.[6]

ويكتسب الإستبداد معناه السيئ في النفس من كونه انفراداً في أمر مشترك، فإدارة الأمة وولايتها تعود إليها برضاها، فإذا قام أحد وغلب الأمة وقهرها في أمر يهمها جميعا، وانفرد بإدارتها دون رضاها، فقد وقع في العدوان والطغيان.وهذا الاستيلاء والسيطرة على أمر الأمة دون رضى منها يفتح أبواب الظلم والفساد وضروب العدوان وهو ما يسمى الاستبداد السياسي.[7]

ولأن الأنظمة المستبدة السلطوية هي السبب الرئيس في ذات السخط الشعبي الذي ذكرناه آنفا، فإنه يكاد يكون متشابها، ليس بسبب من التلاعب والتزوير في نتائج الانتخابات الرئاسية وحدها، لكن بما تمارسه ذات الأنظمة من أساليب القمع والعنف، والتعذيب والتصفية الجسدية احيانا، وهذا في حد ذاته يمثل نوعا من الفشل الإستراتيجي وسوء الحوكمة التي يرتد أثرها فيما بعد على الانظمة والنخب الحاكمة المستبدة.

إذا نظرنا إلى العالم العربي من مرآة الأنظمة الحاكمة، فسوف نجد أن معظمها لا يمثل شعوبه ولا يتمتع بالحد الأدنى من الكفاءة المهنية المطلوبة. ولأنها لم تصل إلى السلطة عبر انتخابات حرة نزيهة، فمن الطبيعي أن تدرك أن بقاءها واستمرارها يتوقفان إما على دعم قوى خارجية أو على سطوة أجهزتها الأمنية في الداخل، أو على كليهما معًا، وأن تنشغل بجمع وتكديس الثروات أكثر من انشغالها بأمن ورفاهية شعوبها. [8]

ولأن مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه،وضرب التنظيمات المناؤية من قبل الأنظمة السلطوية المستبدة في المنطقة، اتسم بالعنف والغشم لذا كان ذات المسمى هو ذريعة للفواعل لزيادة بسط الهيمنة الاحادية على المنطقة،  ومحاربة الدول المارقة مثل العراق وايران وليبيا (كما تصف الفواعل)، ونهب الثروات الطبيعية باعتبارها مصالحا مشروعة لديهم.

شكّلت عقيدة حرب “الإرهاب” وفرض “الديمقراطية” الاستراتيجية المفضلة للتدخلات الاستعمارية في حقبة العولمة الرأسمالية النيوليبرالية ونظام الأحادية القطبية، وعقب بروز ملامح نظام تعددية قطبية تنامى الإدراك بأن ما يسمى “الإرهاب” الذي أصبح مصطلحاً يكافئ الحركات “الجهادية” الإسلامية لا يعدو عن كونه عنفا سياسيا يتغذى على التدخلات الخارجية، فقد أصرت عقيدة مكافحة الإرهاب الأمريكية والفرنسية على عدم التفاوض مع من تصفهم بالإرهابيين.[9]

بعد هذا فإن غاية السلطة ومقصدها ليست السلطة المطلقة، أو إقامة الأنظمة الاستبدادية مثل ما هو منظور، لكن غايتها هي تطبيق شرائع الله، وأن يقوم الناس بالعدل لا بالظلم، والمشاركة لا الإقصاء، أما أن تكون السلطة غاية في ذاتها والاستبداد مقصدا، فهذا مما لا يكون إلا عند غير الأسوياء.

“جورج اورويل” يقول في روايته (1984): إن مصالح الآخرين لا تعنينا في شيء، فكل همنا محصور في السلطة، نحن لا نسعي وراء الثروة ولا الرفاهية ولا العمر المديد ولا السعادة، وإنما نسعى وراء السلطة، والسلطة المطلقة فقط، ولسوف تفهم عما قريب ماذا نعني بالسلطة المطلقة؛ إننا نختلف عن الأشكال الكثيرة من حكم القلة التي وجدت في الماضي، لجهة أننا نعرف ما نفعل، أما الأخرون بمن فيهم هؤلاء الذين كانوا يشبهوننا، فكانوا جبناء ومرائين، لقد بلغ  النازيون الالمان والشيوعيون الروس حدا جعلهم جد قريبين منا في مناهجهم، لكنهم لم يمتلكوا من الشجاعة ما يكفي للاعتراف بدوافعهم، لقد كانوا ادعوا بل ربما اعتقدوا انهم بلغوا السلطة وهم لها كارهون، وأنهم لن يمكثوا فيها إلا لأجل محدود، وأنه لم يعد يفصلهم شيء عن الفردوس الموعود الذي يحيا فيه الناس أحرارا  متساوين، إننا لا نشبه هؤلاء، إننا ندرك أنه ما من أحد يمسك بزمام السلطة، وهو ينتوي التخلي عنها، إن السلطة ليست وسيلة بل غاية، فالمرء لا يقيم حكما استبداديا لحماية الثورة، وإنما يشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي، إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذيب هو التعذيب، وغاية السلطة هي السلطة، هل بدأت تفهم ما أقول الآن؟. [10]

المصادر:

[1]_زين الدين حماد، كيف تصنع انقلابا عسكريا ناجحا،(المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 2016) ص3

[2]_التليغراف: يجب على الغرب القلق بعد انقلابات افريقيا، صحيفة رأي اليوم،1سبتمبر/ايلول،2023،(تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/ايلول 2023):http://tinyurl.com/urkux7jy

[3]_لماذا تكثر الانقلابات في قارة إفريقيا؟.. الخبراء يجيبون،موقع سكاي نيوز،30سبتمبر/ايلول،2022،(تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/ايلول 2023):http://tinyurl.com/rwh35n7p

[4]_انقلابات أفريقيا… تحولات داخلية يؤججها التنافس الدولي،صحيفة الشرق الأوسط،30أغسطس/آب،2023،(تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/ايلول 2023):http://tinyurl.com/yp4335xj

[5]_عبدالرحمن الكواكبي ،طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ، (بيروت: دار الكتاب اللبناني ، ط. 1،1102) ، ص 12

[6]_أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، (بيروت: دار صادر)، انظر مادة “بدد”

[7]_ عبدالرحيم بن صمايل السلمي، الإستبداد السياسي،موقع صيد الفوائد،(تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/ايلول2023 http://saaid.org/arabic/471.htm(

[8]_حسن نافعة،حاجة العالم العربي الملحة إلى عقد اجتماعي جديد، موقع النهضة العربية للديمقراطية والتنمية،23ديسمبر/كانون الأول،2022،(تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/ايلول 2023): http://tinyurl.com/2p83zb9r/

[9]_حسن أبو هنية، الجهادية والاستعمارية والأزمة في منطقة الساحل الأفريقي،موقع عربي 21،20اغسطس/آب،2023،(تاريخ الدخول: 2 سبتمبر/ايلول 2023): http://tinyurl.com/3bwhn4r2

[10]_جورج اورويل، ترجمة أنور الشامي، رواية 1984، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،ط.1،2006) ، ص 311.

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى