الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

سردية التخريب وسياسة الأرض المحروقة في المسألة السودانية

بقلم : التجاني صلاح عبدالله المبارك – المركز الديمقراطي العربي

 

تعتبر الأفعال التخريبية المتعمدة التي تقوم بها فئة من الناس هي ترجمة وتعبير لحقيقة الرفض وعدم القناعة بالوضع الراهن، ولم يكن في تصور تلك الفئة طريقة أخرى للتعبير عن الرفض إلا هذه الوسيلة باعتبارها منفذا لتفريغ الغضب والغليان الذي يعتمل في صدورهم رغم ما يعتري هذه الوسيلة من قصور وعدم إدراك ووعي ومنطق. وباعتبارها أيضا وسيلة من وسائل الردع الاستباقي في حالة إمتلاك الطرف المخرب قدرا كبيرا من القوة تمكنه المبادرة في الحروب وكسبها بنسبة كبيرة.

في الأيام القليلة الماضية، قامت قوات الدعم السريع المتمردة في السودان بأعمال تخريب واسعة شملت قصف البنايات والابراج والوزارات وابراج الاتصالات بالقذائف، مما أدى لتدميرها واشتعال النيران فيها بعد فشل محاولتهم السيطرة على مبنى القيادة العامة في الخرطوم. أول سبب يتبادر إلى الذهن هو الهزيمة، وبالتالي فإن الأعمال التخريبية الناجمة من ذلك هي تعبير عن رفض الفشل والإنهزام، لذا فقد تواصلت أعمالهم التخريبية فيما يشبه الانتقام.

وفي تقديري هذا الفعل له دلالة على فقدان الاتزان والتماسك، وفقدان هذه الفئة للسيطرة التامة على نسيجها، لذا من غير المستبعد في حالات الانهزام أن نشهد مناظر تخريبية واسعة وقصفا عشوائيا بالسلاح، يترافق مع تقهقر القوات المنهزمة في أي رقعة تدور فيها الحروب، إلا أن هذا الفعل من جهة ثانية يعني نجاح الطرف الآخر تماما في التمكن من خلخلة نسيج الطرف المخرب وإفقاده أهم عنصرين لدى أي جيش وهما الاتزان أو التماسك والإرادة، وبفقدان هذين العاملين فإن بوادر الإنهزام والأفول تحكم الخناق عليه.

ولأن التخريب يمثل إنهزاما نفسيا ومعنويا أو رغبات انتقامية لا تطال الطرف الآخر مباشرة، لكن يتم تفريغ هذه الشحنات على المنشاءات الحيوية والمرافق الاقتصادية وكل ما تطول ايديهم، فإنه يكون قريب الشبه لسياسات الأرض المحروقة التي تطبق أيضا في الحروب بنفس القدر وربما أكثر،  والتي يكون المدنيين والأبرياء هم أول المكتوين بنارها قبل الأعداء.

سياسة الأرض المحروقة يلجأ إليها أحد الطرفين باعتبارها خطة عسكريّة استراتيجية محكمة للتمكن من الطرف الآخر والنيل منه، وفيها يتم إحراق وتدمير المرافق الحيوية وحرق أو اتلاف المحاصيل الزراعية والمواد الغذائية، وتدمير البنية التحتية والاتصالات بما يعيق تقدم القوات المعادية وارهاقها لحين ساعة الصفر.

في الحرب العالمية الثانية كانت سياسة الأرض المحروقة من حيث الأهداف المتوخاة ملائمة تماماً ل-“ستالين” عندما أحكمت عليه المانيا النازية الحصار والخناق، ورغم ان “ستالين” كان يعلم سابقا بتحركات الجيش الالماني ونيته المبيته على غزو الاتحاد السوفياتي بحسب معلومات الاجهزة الاستخبارية، إلا أنه تجاهل ذلك لوجود تضارب في المعلومات المقدمة إليه ونتيجة لذلك فقد سقطت اعداد كبيرة من فيالق الجنود السوفيات في أيدي الالمان وقتذاك.

ومع النجاح الملحوظ في تقدم الجيش الألماني في العمق السوفياتي إلا أن العملية التي قرر “هتلر” الانتهاء فيها من السوفيات (نصف الآدميين) ! قبل حلول الشتاء لم تنتهي كما كان يتوقع، فقد كان لتأخر وصول الإمدادات للتوغل الكبير الذي سلكه الجيش الألماني داخل الأراضي السوفياتية سببا في تجميد الهجمات الألمانية وتأخيرها، وكانت هذه فرصة ملائمة للسوفيات للبدء بتنفيذ سياسة الأرض المحروقة.

وبالفعل قامت القوات السوفياتية بحرق المحاصيل وتدمير المرافق العامة والخدماتية، ومنع المؤن والغذاء وحرق المحاصيل الزراعية وقتل المواشي، مما أدى لنتائج سيئة واضرار كبيرة على جيش “هتلر” فأصيب الآلاف بالحمى ونزلات البرد من موجات الشتاء القارس، وعانت القوات النازية من النقص في العتاد العسكري والوقود والغذاء، فضلا عن الهجمات المرتدة من الجيش السوفياتي الذي سيطر آخر الامر على برلين في مايو 1945 .

وفي ذات السردية فقد كانت إسرائيل البربرية هي أول من استخدم هذه السياسة في الداخل الفلسطيني والمحيط العربي والاسلامي، بتوجيه الضربات الاستباقية الإستراتيجية والتدمير المنهجي للمدن، وتدمير البنية التحتية والاستيلاء على الأراضي عنوة، وتطبيق نظام الفصل العنصري كما استخدمت الأسلحة المحرمة دوليا، ولجأت لتصفية القادة والعلماء وحرق المزارع والمحاصيل الزراعية، وحصار قطاع غزة والمخيمات، وتجريف الأراضي الزراعية ومنع دخول المواد التموينية والمساعدات الطبية.

وخارجيا لاحقت علماء المسلمين بالاغتيالات والتصفية الجسدية، وخربت المفاعلات الايرانية في نطنز ودمرت مفاعل تموز العراقي وغيرها من العمليات العسكرية الخارجية، وهي في  الجملة داخليا وخارجيا محاولات من اليمين الإسرائيلي المتطرف للتطويع والتطبيع في ذات الوقت !

مع هذا فإن الأعمال التخريبية أو الانتقامية التي ترافق الحروب، ويكون المدنيين والابرياء هم أول ضحاياها تفضي بنا إلى استخلاص مجموعة من الملاحظات يمكن عرضها على النحو التالي:

أولا: الأسباب السياسية: وهي في مقدمة الأسباب التي تجبر العناصر على الدخول في الأعمال التخريبية أو الانتقامية، وفي اسواء الفروض تصل الى مراحل كارثية مثل التصفية الجسدية والتطهير العرقي والديموغرافي، وحتى لا تصل الدولة إلى مثل هذه النماذج الكارثية على نحو ما جرى في ميانمار مثلا فإنه من المفيد بمكان حلحلة أي نزاع سياسي مع الأطراف الأخرى بالطرق السلمية، أو أن تنجرف الدولة في سلسلة من عمليات الإرهاب والتخريب والعنف السياسي المتبادل مثلما هو منظور في المنطقة.

مع ذلك فإن تفكيك عوامل الاحتقان والتوتر بين مختلف الفصائل والجهات والمجموعات التي تتعارض فكريا وسياسيا، هو وحده الضامن لتلافي أي اعمال تخريبية من الممكن أن تكون رد فعل، وهذا لا يتم في تقديري إلا بالحوار والاتفاق على المرجعيات الثابتة وتقديم التنازلات، والنظر إلى المصلحة العليا دون المصلحة الشخصية الآنية.

ثانيا: الأسباب الاستيطانيّة: التخريب الاستباقي الغرض منه إظهار القوة بقصد اطالة عمر الاحتلال، لذا فإن من مصلحة الدولة الاستيطانيّة هو أن تكون كل الدول المحيطة في حالة ضعف دائم، أو حروب بينية مستمرة يتم فيها إنهاك كل الأطراف، فضلا عن تغذية ودعم كل الاطراف بالأسلحة المتطورة عن طريق دولة الاحتلال أو أذنابها في المنطقة.

ثالثا: الأسباب الاستعمارية: قديما كانت دول الغرب المستعمرة تعمد إلى سياسة الأرض المحروقة بقصد تمكين الاستعمار على نحو ما جرى في الجزائر مثلا. فقد كان الاحتلال الفرنسي يسعى إلى التوسع في الاراضي الجزائرية وتحقيق سياسته الاستيطانيّة،  وارغام السكان للخضوع للصف الفرنسي بعد حملات الابادة المتكررة على الشعب الجزائري وتجويعه لابعاده عن المقاومة، وسلب أراضيه وحرق محاصيلهم الزراعية وحرق الاشجار المثمرة، وقطع اشجار الزيتون ونهب ممتلكاتهم لولا تصدي الأمير “عبدالقادر” الجزائري للاستعمار وبثه روح التحدي والمقاومة.

ولأن الاستعمار باق اليوم في ثوب جديد، فقد كانت آثاره التخريبية تختلف عن ما مضى مثل التخريب الفكري الاستعماري الذي يتمثل في المذاهب والنظريات الهدامة التي تستهدف المكون والإرث العقائدي للأمة.

رابعا: الأسباب العرقية: إن عدم تقبل الآخر لدوافع وأسباب عرقية هو عامل أساسي في التخريب الذي يطول البنية التحتية والمنشاءات السكنية، ففي ميانمار كانت عقيدة الجيش هي إخفاء وجود أقلية الروهينغا المسلمة السنية إخفاء ابديا وعلى أسس ومحركات عقائدية بوذية، لذا فقد جنح النظام الميانماري لتوظيف الإرادة العقائدية البوذية على النحو الذي تصبح فيه هذه الإرادة هي القائد الفعلي الذي يأمر ببدء العمليات العسكرية لسحق الروهينغا وتصفيتهم، وتخريب ممتلكاتهم ومرافقهم الحيوية. وفي الوقت الذي دعا فيه مفوض حقوق الإنسان إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لإنهاء الأزمة لأن قيادات وجنرالات الجيش شرعت في سياسة الأرض المحروقة في محاولة للقضاء على المعارضة بعد عامين على الانقلاب العسكري، ذكرت تقارير تقارير الأمم المتحدة إلى أن ما يقرب من 39 ألف منزل في جميع أنحاء البلاد تم حرقها أو تدميرها في العمليات العسكرية منذ شباط/فبراير 2022، وهو ما يمثل زيادة بأكثر من 1000 ضعف مقارنة بـ 2021

خامسا: الاسباب الاقتصادية: يعد الفساد المالي والإداري والتدهور الاقتصادي، والفقر المدقع وانخفاض دخول الأفراد وتدني المستوى المعيشي ، والتوزيع غير العادل للثروات وإهمال الهامش في التنمية الاقتصادية والمرافق الصحية والمؤسسات التعليمية والخدماتية مقارنة مع المركز، والتفاوت الطبقي والاجتماعي، يعد سببا رئيسا في تكون الشعور بالظلم والدونية ومن ثم تولد رغبات ونوازع الشر والتخريب.

ولأن المخربون هم عناصر يفتقدون القدرة على التماسك والاتزان والتمييز، وتسيطر عليهم نوازع الغضب والشعور بالانهزام، فإنه لا توجد لديهم في هذه الحالة بنكا ثابتا للاهداف المراد تخريبها، لكن تعتبر كل ما تصله ايديهم ومنافعهم هي أهدافا مشروعة للتخريب، مما يجعل السيطرة عليهم أمرا يتطلب قدرا عاليا من الحكمة والحذر، وفي الوقت ذاته للتقليل من الكلفة الاقتصادية العالية التي تخلفها هذه الأعمال.

سادسا: الأسباب العسكرية: مالم تكن الأعمال التخريبية هي مقدمة لخطط عسكريّة في خريطة الأهداف، فإن الأعمال التخريبية للمنشاءات والبنية التحتية تعتبر محصلة للانهزام العسكري في حالة الحروب وتعبير نفسي عن رفض الهزيمة. وهنا فإن الطرف الآخر ربما يلجأ لفرضية الحرب السريعة، التي هي من أكثر الطرق فعالية ضد سياسة الأرض المحروقة أو أي أعمال تخريبية، بقصد التقليل من حجم الضرر.

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى