الشرق الأوسطعاجل

الديمقراطية التوافقية في العراق – حلاً ام مشكلة ؟

كتب : علي حسين سفيح – باحث بالشأن السياسي

يعود السبب الرئيسي لبروز الديمقراطية التوافقية, هو الخلافات والصراعات بين مكونات الشعوب التي تمثل كل واحدة منها ايدولوجيات وأفكار مختلفة عن غيرها, والتي أدى البعض منها إلى انقسامات اجتماعية عميقة داخل المجتمع الواحد, وتظهر هذه المشكلة في المجتمعات التي تتكون من مكونات عديدة _المجتمع التعددي_ إذ لجأت هذه المجتمعات إلى مثل هذه الديمقراطية (التوافقية), وذلك لغرض التعايش السلمي بين مكونات المجتمع الواحد وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني والمجتمعي.

وبقدر تعلق الأمر بالمشهد السياسي العراقي, فلم يكن التوافق بين التنظيمات والقوى السياسية جديداً ولا مستحدثاً بعد 9/4/2003, بل إنه أقدم من ذلك بقليل, إذ إن هذه القوى وبتأثير من الراعي والداعم لها قبل التغيير وهي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية, قد قررت على وجه التركيز في (مؤتمر لندن) وما تلاه أن تختار الديمقراطية التوافقية من دون أن تستخدم هذا المصطلح صراحةً, وتمثل ذلك فيما بعد بتشكيلة مجلس الحكم المؤقت الذي يتكون من(25) عضواً, ممثلين عن مكونات الطيف العراقي, وجرى تقسيم مقاعد الأعضاء وبمبادرة أمريكية, كالآتي : (13) عضو يمثلون الشيعة, (5) أعضاء يمثلون السنة, (5) أعضاء يمثلون الأكراد, (2) لكل من المسيح والتركمان, فمنذ هذه السنوات والعراق رازخ تحت وطأة منظومة سياسية كسيحة تسمى (الديمقراطية التوافقية) التي وظفت لتكون الوجه الأخر لمنطق الطائفية وتقاسم مناطق النفوذ وفق التصنيف الإثني والعرقي والمذهبي, بعيداً عن توجهات المشروع الوطني وآلية التمثيل البرلماني لمختلف شرائح وأطياف الشعب, إذ تمثلت التوافقية بأجلى صورها عبر توزيع المناصب العليا والمهمة على المكونات الرئيسة (شيعة, سنة, كرد), أي أن إحدى الشخصيات التي تمثل مكون معين والتي تتبوأ أحدى الرئاسات الثلاث (الجمهورية, الوزراء, النواب) فمن الضروري أن يكون هناك نائبين له يمثلان المكونين الآخرين, وبذلك تكون جميع المكونات الرئيسة قد اشتركت في السلطتين التشريعية والتنفيذية.

إذ ترجمت الديمقراطية التوافقية في العراق, إلى محاصصة طائفية وقومية وسياسية, وأصبحت هذه المحاصصة تنخر في جسد الدولة, والبعض رفعها كشعار بوجه الآخرين خاصةً في استحداث المناصب والوظائف الخاصة, وبالرغم من أن الديمقراطية التوافقية تحمل في طياتها محاسن جيدة, إلا إن عيوبها تعد أكثر من محاسنها, خاصةً عند صنع القرارات, فعلى صعيد العملية التشريعية, أصبحت الديمقراطية التوافقية في اتخاذ القرارات وتشريع القوانين, آلية معطلة للقرار السياسي لأن التوافقية هي في حقيقتها عملية مقايضة أصوات أو مساومة لأجل التصويت على حزمة مشاريع, أي أن القوانين المهمة التي يصدرها ويشرعها مجلس النواب, ليس انعكاساﹰلمتطلباتالشعبوتماشياﹰمعمدخلاتالنظامالسياسي, وإنما انطلاقاﹰمنالمصالحالشخصيةللكتلالسياسية, إذأصبحتصويتأعضاءمجلسالنوابعلىمشاريعالقوانين, بالتشاورمعقادةالكتلخارجقبةالمجلس, وبعدهايتمتوجيهالأعضاءإلىالتصويتبالرفضأوبالقبولحسبمصلحةالكتلة, وأنالخلافاتبينالكتلالبرلمانيةحول مشاريع القوانين, تحال إلى رؤساءها فقط, ما أدى إلى تحديد مصير العراق شعباﹰوارضاﹰودستوراﹰ, بيدعددقليلمنالشخصياتالتيتسمى (رؤساءالكتل) وهيالكتلالكبيرة, وهؤلاءالرؤساءمختلفونقومياﹰومذهبياﹰوولائياﹰ, فإناتفاقهميكونصعباﹰجداﹰحولتمريرمشاريع القوانين ما أدى إلى تأخير انجاز الكثير من المشاريع في مجلس النواب.
وفي ظل هذه الأجواء والانقسامات الحادة بين الكتل السياسية فان ما يجمع رؤساء الكتل السياسية هي (الصفقات السياسية) فقط, ويكمن ذلك في تزايد ضعف الحس السياسي الديمقراطي لأغلب أعضاء مجلس النواب الذي يتميزون بضعف الشفافية في المناقشات في إقرار القوانين والانزواء صوب الاتفاقيات الحزبية الضيقة والصفقات السياسية بينهم بعيداً عن مصالح الشعب, والأدهى والأغرب من ذلك أن لحظات تبادل الصفقات لا يتردد اللاعبون السياسيون من تسمية الأشياء بأسمائها, فيصرحون بأن الصفقة حول القوانين المختلف عليها, قد تمت بفضل التسويات والتنازل عن بعض الثوابت, وعليه تحول كل شيء إلى صفقة تمرر من عبرها المصالح والنوازع والأهداف المرسومة, عن المنطق الوطني المشترك, إذ إن بعض مشاريع القوانين تحتاج إلى موافقة ثلثين أعضاء البرلمان وهذا لا يمكن الحصول عليه, إلاّ بعقد اتفاقات وصفقات سياسية بين الكتل النيابية.
إذ مازال هناك العديد من مشاريع القوانين معطلة تحت قبة البرلمان, وذلك بتقصير من السلطتين التشريعية والتنفيذية, لعل في مقدمتها قانون النفط والغاز وأضيف إليهما قانون ترسيم الحدود الإدارية للمحافظات والمناطق المتنازع عليها وقانون اعمار البنى التحتية وقانون العفو العام, وقانون الحرس الوطني وغيرها, وهذه المشاريع بحاجة إلى تنازلات و توافقات كبيرة بين الكتل من أجل تمريرهما, وإذا أرادت كتلة برلمانية أن تعرقل تمرير مشاريع القوانين التي تكون ضد مصلحتها, تسعى إلى عدم حضور الجلسة التي سيصوت فيها على القانون, لكي تخل بالنصاب القانوني وجعل المجلس غير قادر على التصويت .
فتحول مجلس النواب من مؤسسة للتعبير عن الإرادة العامة وتحقيقها, إلى مؤسسة للتعبير عن المصالح الضيقة للقوى التي يضمها، وعلى الرغم من إقرار الدستور والقوانين لتسيير العملية السياسية، إلا أن الالتزام بها كان ضعيفاً وجرى تفسيرها وتأويلها وفقاً لمصلحة هذا الطرف أو ذاك, وأصبح القرار السياسي يتخذ خارج الأطر والآليات المؤسسية والدستورية, إذ يشير اغلب البرلمانيين إلى أن كل معضلة أو مشكلة لا تحل داخل أروقة البرلمان, وإنما تحل من قبل رؤساء الكتل السياسية استناداً إلى مبدأ الديمقراطية التوافقية.
لذا فإن مبدأ التوافقية, قد يلغي الجانب العقلاني من قراءة القوانين وقدرتها على تمثيل مدخلات واقعية للنظام السياسي, كونها تعبر عن مشكلة عامة, ومن ثم فان المخرجات النظام السياسي لن تكون فاعلة بدرجة مقبولة, ولن تلبي المطالب الحقيقية للشعب العراقي ولم تعالج مشكلات عامة, ما أدى إلى ضعف استجابة النظام السياسي وضعف أداءه .
وكانت النتيجة الطبيعية للعملية السياسية في العراق, هو شل مجلس النواب وأصبح غير قادر على محاسبة الحكومة في حالة تقصيرها، بدليل أن مجلس النواب لا يستطيع أن يحجب الثقة عن وزير واحد من الحكومة، والسبب هو طبيعة تشكيل الحكومة التي نتجت عبر المحاصصات والتوافق والشراكة, مما أدى إلى تثبيت الانقسامات الطائفية والمنع من قيام ديمقراطية الأكثرية .

وعليه فان فلسفة الديمقراطية التوافقية قائمة على حل المشكلات والانقسامات بين مكونات المجتمع, وتعزيز مبدا التعايش السلمي والمشاركة السياسية للجميع, اما في العراق فقد اصبحت الديمقراطية التوافقية مشكلة وليس حلاً وذلك بسبب التفسير الخاطئ للكتل السياسية لها, والتي القت بظلالها على مصالح المجتمع العراقي .

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى