المواطن مصرى … فى سبيل منع التمييز
بقلم:- محمود عبدالعزيز
أخير ومؤخراً؛ تقدم عدد من نواب البرلمان المصرى, بمشروع قانون لمنع التمييز , إعمالاً لنص المادة 53 , من الدستور, والتى تنص على أن :
(( المواطنون لدى القانون سواء , وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة ,لا تمييز بينهم بسبب الدين , أو الجنس, أو الأصل, او العرق , أو اللون , أو اللغة ,أو الإعاقة , أو المستوى الإجتماعى , او الإنتماء الجغرافى أو السياسي أو لأى سبب اخر .
التمييز والحض على الكراهية , جريمة يعاقب عليها القانون
وتلتزم الدولة بإتخاذ كافة التدابير للقضاء على كافة أشكال التمييز , وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض )).
وقد جاء فى أحد بنود مشروع القانون, بند ينص على إلغاء خانة الديانة , من بطاقة التعريف الشخصية ,أو المعروفة ببطاقة الرقم القومى, والتى تتضمن خانات لتعريف الجنسية , والديانة , والنوع , والحالة الإجتماعية , وقيمة ما سبق من إقتراح , فى إطار النص الدستورى المذكور , يمكن إيجازها فى أمرين :-
- أن النص الدستورى فى المادة 53,(2014), هو بمثابة النص المانع الجامع , الذى إستمد شموليته من الخبرة التاريخية السابقة علية , نصاً وواقعاً, فمن حيث النص , يعتبر ما أمامنا من مادة دستورية أكثر تطوراً ورقياً مما سبقها فى دستور 1971 , فى المادة 40, التى نصت على أن ((المواطنون لدى القانون سواء ,وهم متساوون فى الحقوق والحريات العامة, لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أوالدين أو العقيدة)), والتى كانت أكثر إجمالاً مما هى علية اليوم , حيث إرتأى المشرع أن المزيد من الحيطة والحذر , وإتخاذ تدابير عملية أمر يجب أن يكون صوب العين والعناية ,وهو ما وفرته المادة المذكورة , حيث وسعت مفهوم التمييز وأسبابة , وأضافت جريمة التمييز بإعتبارها “جناية” سيعاقب عليها القانون , فضلاً عن إنشاء مفوضية وطنية لمنع التمييز ,ومراقبة السلوكيات التى تحض علية.
- الأمر الأهم ان الإقتراح الذى بين أيدينا قد نقل الحديث والجدال حول التمييز , بما فية الشق المتعلق بخانة الديانة , من الدوائر النخبوية الثقافية, إلى الدوائر الرسمية المنوط بها صنع وإتخاذ القرار , إنعكاساً لحالة الزخم الشعبى والوعى الجمعى الأخذ فى التصاعد فى أعقاب ثورتين شعبيتين ,دفعتا الجماهير للنظر والإهتمام , بما ما لم يكن فى دوائر إهتمامها , فضلاً عن تصاعد أحداث طائفية وعمليات زرع للكراهية تجاوزت الطائفية بمعناها التقليدى فى مصر , بين المواطنين من المسلمين والمسيحيين , إلى كراهية بين المواطنيين من أتباع دين واحد (حوادث الكراهية والعنف لمواطنين شيعة …حادث مقتل الشيخ الشيعى شحاتة بالجيزة كمثال), وبالتالى أخذ العنف الطائفى بعداً أخر أكثر خطورة , وإعتباراً ان الإختلافات البينية بين أتباع دين واحد , إن هى أدت لهذا الحجم من العنف والكراهية فمن المتوقع أن تزداد مظاهر التعصب والتطرف تجاه أتباع ديانة مختلفة كلية .
وبالتالى تعد الخطوة التى اقدم عليها النواب , تقدمية للغاية تحتاج منا جميعا الدعم والمساندة , بيد أن أصواتاً خرجت لتندد بالأمر , لإعتبارات يمكن إجمالها على النحو التالى :-
- أن الوقت غير مناسب , نظراً لما تمر به البلاد من أزمات طاحنة إقتصادية وإجتماعية , وبالتالى فلنركز في حلول لها أجدى وأفضل .
- أن الديانة جزء من الهوية الشخصية , وبالتالى لا يجوز أن تحذف من بطاقة التعريف الشخصى , إعتبارا لديانة الدولة الرسمية .
- أن الهوية الدينية فى بطاقة الرقم القومى ليست هى المعضلة بذاتها , ولكن الأجدى أن نغير العقول , وننشر الثقافة التى تحض على التعايش والمواطنة .
واشياء اخرى كثيرة , من قبيل أن أمور مثل الزواج الذى يحتاج لتعريف الهوية الدينية …إلخ , وتلك الحجج لا نستطيع أن نصفها إلا بالقول أن الرجعية الثقافية والقوى التقليدية , فى دوائر رسمية وغير رسمية , قد أفلست بما لا يدع مجالاً للحديث عن قدرتها على تبرير منطقها , فضلاً عن تسويف الحق , وإلباسه ثوب الباطل , فما سبق يمكن أن نرد علية بطرق كثيرة , فهى حجج أوهى من أن تصمد كثيراً امام مناقشة عقلانية , بعيداً عن تخوين أو تكفير, على النحو التالى:-
- تعد حجية أن الوقت غير مناسب , (حجة غير مناسبة بذاتها!), فالمتابع جيداً لتاريخ أمتنا فى أخر عدة عقود يدرك ,أنها حجة قديمة متجددة , إحتجت بها القوى التقليدية على كل قانون تقدمى , حتى أن الأوضاع لو تحسنت وأصبحنا فى رخاء إقتصادى , لإحتجوا أنه لا حاجة بنا لمثل هذا القانون , فلنركز أفضل فى مسيرة التقدم , ولتسكت الأصوات التى تريد أن تعطل مسيرتنا نحو الإزدهار!, هكذا هو منطقهم فى التسويف وبناء المتناقضات والتعايش فيها وعليها , ثم من قال أن الحديث عن إلغاء خانة الديانة سوف يلهينا عن الأزمة الإقتصادية ومعالجتها؟, فإذا كانت الازمات الطائقية فى جزء منها إقتصادى , وجزء أكبر ثقافى إجتماعى , فإننا يجب أن نسير بالتوازى فى كلا الطريقين المعالجين للأمر, وإلا لماذا وردت مادة عدم التمييز فى الدستور , والنص على إنشاء مفوضية لمنع التمييز , هل أنشأها المشرع لكى تقوم عائقاً فى مواجهة حل الأزمات الإقتصادية ,أو تعطيل المسيرة المباركة نحو الرخاء!
- أما الأمر الأخر والأهم ,والذى ينصب على مفهوم الهوية الشخصية , ومفهوم بطاقة الرقم القومى , والذى يحتاج منا سؤالاً كمدخل للإجابة ,عن ما هى فلسفة بطاقة الرقم القومى ؟
فى الأساس لا يحتاج الأفراد فى معاملاتهم الشخصية لبطاقة هوية , حيث من المفترض أن المعرفة الشخصية قائمة بينهم ,وبالتالى لا يستخدمون بطاقات الهوية إلا فى المعاملات القانونية التى تحظى بطابع رسمى ممثلاً فى شق التسجيل القانونى( تسجيل عقد بيع أو شراء لعقار كمثال ).
وبالتالى فإن الأهم فى بطاقة الرقم القومى أنها علاقة ما بين الدولة والمواطنين كل على حدة ,وليست علاقة بين الأشخاص , فلا يجوز ولا يتصور أن يُوقف مواطناً فى الشارع العام لسؤالة عن هويته ,ورقمة القومى من مواطن مثله بغير صفة رسمية (يحمل أمر الضبطية القضائية ), وبالتالى الدولة فى علاقتها مع المواطن إعمالاً لمبادئ العقل , ولنص الدستور المترجم لها , لا يجوز لها أن تعرف مواطنيها بناءً على هوياتهم الدينية , إعتباراً أيضا لأن الدولة شخص حيادى(وبالتالى لا يجوز الحديث عن دين الدولة!) لا تنحاز لمواطن على حساب الأخر, وبالتالى فإن الصيغة الرسمية الوحيدة التى تحتاجها الدولة فى تعريف الأفراد , هى تعريف جنسيتهم , وكفى , حيث الجنسية هى مناط التمتع بالحقوق والحريات كاملة ,وليست الهوية الدينية , التى يبقى وجودها فى بطاقة الهوية الشخصية مدخلاً من مداخل التمييز , ونسفا لمبدأ حياد الدولة فى التعامل مع المواطنين, سواءً بسواء أمام القانون.
ثم ياتى الحديث عن جدوى وفعالية الحذف , على إعتبار ان المعضلة تحتاج لتغيير عام فى الثقافة , وهنا نتسائل , أليس فى مبادرة الدولة من خلال القانون المُقترح إشارة للعيان أنها لا تميز ولا ترغب فى التمييز , وأنها تكتفى فقط بتعريف المواطن على أنه مصرى , لا غير , وأن ديانته ليست محل مسألة أو نقاش , أو إضطهاد.
أليس فى تلك الإشارة الحضارية التقدمية , رسالة ثقافية لمواطن إعتاد أن يحاكى سلوك الدولة والحكومة فى حياتة العامة والخاصة , وإعتاد على أن التغير لا يأتى من أسفل , إنما تبادر به هيراركية السلطة السياسية والدينية , وبالتالى يشرع فى تغيير سلوكه المتعصب.
وليس فى الأمر نسفاً لفكرة الدين فى الحياة الإجتماعية كما يدعى المعارضون للقانون , إعتباراً أنها إدعاء غير منطقى , ولا هو مطلوب , فالدين جزء من حياة المواطن الشخصية ,وليس محلاً لتأميم المجال العام ,وفرض الوصاية , أو إستبداد الأغلبية التى يتحجج الكثيرين بمبدأها , بإعتبار ان الأغلبية من المصريين يدينون بالإسلام , فليست الدولة الوطنية المدنية محلاً لمفاهيم الأغلبية أو الأقلية الطائفى, وإنما هى مجرى القانون المنحاز للمساواة(كأصل) , ومعيار سيادته.
ثم فوق هذا وذاك , أليست الأحداث الطائفية الاخيرة قامت على أساس الهوية الدينية , وتغذت عليها ؟, وهى فى الأساس مشاكل إجتماعية وإقتصادية وجدت متنفساً لها فى العصبية الدينية , التى وفرت يقينا لدى جماعات الإرهاب والتخلف لأن تقتل وتبدد باسم الدين ,فى نسف لكل معايير الوطنية ,ومبادئ القانون , أوليس العرف السائد الذى طالبت الغوغاء بالإحتكام إلية لتسويف الحقوق , والبطش بها , والإفلات من دائرة القانون ,وعقابة للمخطئ , أليس هذا العرف يستند على غرور الهوية , وتعصب يشتد فى العسف والقتل إذا عرف أن الأخر مختلف عنه فى الدين أو حتى فى المذهب أو الفكرة ؟!, وهنا تكون الدولة بمبادرتها تعطى إشارة للجميع أن الدين ليس محلاً لتحديد علاقتها بالمواطنين ,وأن القانون هو السيد ,وأن المساواة بين الأفراد حتمية , حيث لا تفريق بينهم إلا بالعمل لصالح الوطن , لا أكثر من هذا ولا أقل .
إن عدم التمييز , ومنه إلغاء خانة الديانة, هو مما نطالب به من أن يكون القانون هو أداة التغيير الثورى الحقيقية التى يحتاجها فى إطار التقدم والتنوير ,وليس أقل من هذا القانون , الذى هو لبنة فى بناء ضخم … بناء المواطنة .