حتى لا يصبح التنوير خرافة !
بقلم:- محمود عبدالعزيز
“كن جريئاً فى إستخدام عقلك” … كان ذلك هو الشعار الذى إعتمد به الفيلسوف الألمانى “كانط” عصر التنوير الأروبى , حيث الدعوة للتشجع فى إستخدام العقل فى النطر للأمور العقلية والعملية , أن يتحرر العقل الأروبى من ربقة الجهل المتمثل فى الخرافة , ومن أغلال الخوف من إستخدام العقل فى مواجهة مؤسسات دينية وسياسية إحتكرت النظر للأمور, وأصدرت أحكاماً يقينيةً بشأنها , وإعتمدتها لمصادرة المجال العام كرؤية وحيدة لا تقبل النقاش أو النقد , فقط تقبل الطاعة العمياء تحت وقع صوت المقصلة التى قد تفصل جسداً عن رأس جرأت على إستخدام العقل أو مجرد التفكير فى الأمر.
هذا الشعار تماما هو ما نحتاج إلية بشدة ونحن نعتمد مسيرتنا فى طريق التنوير المصرى , فلا نحتاج أكثر من حرية العقل , وحرية الضمير , حرية العقل فى أن يحكم على الأشياء وأن ينقد ما يقدم إلية على أنه مسلمات , وبديهيات من قضايا متنوعة , سياسية ودينية ,وإجتماعية , وحرية ضمير حر فى تشكيل قيمه , وتحديد مجالات إبداعه .
والتنوير الأروبى أخذ فرصته كاملة فى تأسيس العقل الناقد , والنظرة العلمية والمنهجية للأمور التى يعايشها , والمتحررة معرفيا من الخرافة أياً كان مصدرها , ومن الخوف السلطوى أياً كان مصدر تلك السلطة , وبالتالى إستطاعت أن تتعامل مع مشاكلها الخاصة , بطريقتها , ومعطياتها , وطبقاً للظروف الموضوعية التى وجدت فيها معضلات العقل الأروبى .
وبما أننا نؤمن أن الأنسانية تسير فى خط واحد , وإتجاه نحو قيم لا تتجزأ من حرية وعدالة ,مساواة ,تكافل , ومحبة , كلها تستلزم وتحرير العقل , وتأسيس الضمير الأخلاقى , فى إطار روح المسؤلية التى لا تنفصم أيا من تلك القيم عنها , وبالتالى , ومن هنا – ولأن عوامل عدة قد تضافرت على مدى قرون طويلة , من إستعمار خارجى , وإستبداد وسلطوية داخلية , وتخلف ,وخرافة تلفحت برداء الدين تارة ,ورداء الخوف من مواجهة الذات تارة أخرى لتنتج نفوساً أجادت الإستكانة نحو التواكل ,والجهل ,ورفض العقل شكلاً وموضوعاً – فإنه لا تخفى على أحد حاجتنا لتأسيس تنوير مصرى , فى إطار القيم الإنسانية العامة , ولأن واقعنا بكل ما فية من مثالب ,ومزايا قد فرض ظروفاً لها طبيعتها الخاصة , فإن التنوير الذى نبغى يجب أن يتحرك من خلال التعامل مع تلك الظروف الموضوعية بحكمة وحنكة , بلا تهور أو رعونة , فماذا إذا نبغى من وراء التنوير ؟
- أولاً, تأسيس حرية العقل فى تناول الأمور العملية والنظرية , وبالتالى التحرر من الخرافة أياً كان مصدرها , ومن الخوف السلطوى أياً كان نوع السلطوية .
- ثانياً, تأسيس ضمير أخلاقى, وإبداعى فى ذات كل مواطن يستطيع من خلالها أن ينشأ منظومته القيمية التى يرغب فى التحرك من خلالها , والتى لا تنفى حق الأخر فى أن يشكل منظومة القيم الخاصة به , وبما تضمنه تلك المنظومة من حرية التصرف , فى إطار القانون المبنى على إحترام الأخر بالأساس.
- ثالثاً, يصب هذا التأسيس العقلى ,والأخلاقى فى تأسيس الدولة الوطنية الديمقراطية , التى لا يمكن لها أن تتحق إلا فى إطار عقلى خالص , ومن خلال وازع الضمير حراً بلا خوف ,أو وصاية تفرضها منظومة قيمية , أو قانونية , أى أن تتحقق الدولة الوطنية المصرية فى داخل كل نفس حرة ,وعقل واع أولاً قبل ان تتحقق على ارض الواقع .
تلك إذا ثلاثة مبادئ أساسية, وعامة لتأسيس تنوير مصر ( حرية العقل- حرية الضمير – الدولة الوطنية المصرية ), يجب على من يدعوا للتنوير أن يكون واعيا بها , حقاً وحقيقية , ومن ثم نستطيع أن ننتقل إلى الشروط الموضوعية لهذة العملية المستمرة والمتجددة ؛عملية التنوير, وهى :-
- لتأسيس حرية العقل , يجب أن يتم إدراك ضرورة تحرير الأفق المعرفى للتفكير فى القضايا الوطنية التى نعالجها , سياسية , إقتصادية , وإجتماعية , وثقافية طبقاً للظروف الموضوعية التى تشكلت عبر تاريخنا المديد , وبالتالى تبرق فى الأفق ضرورة التخلص من العقول الصماء التى تتعامل مع العقل على أنه جهاز أيديولوجى غير قابل للعمل إلا فى إتجاة وبأدوات بعينها , وبالتالى تصور أن التقدم هو فى إتباع أحد المسارين ليس إلا , وربما المسارين فى بلادنا هو ممن يرى ان العقل لا يجب أن يعمل إلا فى إطار ما قد كان (عقل ماضوى), أو أن العقل لا يعمل إلا فى إطار تحرى نموذج سبق وأن تأسس وتعرض للنقد عدة مرات (النموذج الغربى على وجه التحديد), ومن ثم توهم أن حل أى مشكلة قد نواجها , إما بالعودة لما فعلة السابقون وبألياتهم مع المتطرفين فى هذا الإتجاة , أو بالذهاب نحو النموذج الذى إستقر إعتقاداً دوجماطيقياً أنه يمتلك لغة الحاضر والمستقبل.
- بالتالى إذا كانت الدعوة قد درجت على أن القطيعة الإبستمولوجية/ المعرفية تجرى مع ما مضى , فإن الظرف الملح اليوم أننا بحاجة لإحداث تلك القطيعة (الواعية), مع الماضى , ومع من يحاول أن يشكل الحاضر من يقين أن ثمة أشخاصاً أو أفكاراً بعينها تحتكر المستقبل, وبهذا فإن العقل المصرى اليوم بشكل عام هو أثير تلك الكتل الصماء بين مفاهيم الحقيقة المطلقة , وغياهب الدوجما المفضية للعنف المادى والمعنوى , فتشكل لدينا تيار دينى بالأساس لا يؤمن بالعقل , ولا بحيثيتة , وإنما الماضى وفقط , وكأن الإنسانية قد بدأت مسيرتها منذ الهجرة النبوية !,وعلى النقيض تشكل تيار ليبرالى( تغريبى كما تسميه الأدبيات الإسلامية بشكل خاص, وبعض القوميين العرب) فى المسمى , أراد تأسيس سلطة العقل , بيد أنه إستحال إلى تأسيس دوجما جديدة محل الدوجما الدينية تتوهم أن الحقيقة هى ما يأتيها من الغرب أو الشرق , الذى قطع أشواطاً نحو التقدم المعرفى والتفنى , ومن ثم توقفت الحاسة النقدية اللازمة للعقل الحر , وأصبح عقلاً ناقلاً هو الأخر , لا يختلف عن سابقة الدينى إلا فى مصدر النقل.
- ومما سبق نستطيع أن نستبين , أن الإشكاليات الحضارية التى نواجهها , قد تحولنا من مناقشتها والحديث فيها , إلى الحديث عنها وحولها, وعن عمومية الفكرة الحضارية , إلى جزئية الوعى بها , ومن ثم إفتقدنا الرؤية الشاملة للقضايا العقلية والمعرفية , وتحددت رؤيتنا بشكل الفكرة , ومظهرها , لا بطبيعتها وكينونتها الحقيقية, والتى يمثل التعامل معها , تعاملاً مع جذر الإشكال ذاته , وهنا نستطيع أن نفهم لماذا تغرق التيارات الفكرية فى مناقشة الشكل والمظهر , حتى بالنسبة للأشخاص حيث أصبحت الأحكام عمومية , ومغرقة فى الشخصانية , لا تستطيع أن تناقش الفكرة ,وإنما تجيد مناقشة الشخص الذى أدلى بها والحكم علية بيقين مُستغرب!, وبالتالى العقل الواع هو العقل الشمولى فى نظرته ,الواع بقيمة, وضرورة الإختلاف الشكلى والموضوعى , وان هذا الإختلاف يمكن تحويله لجسر من التواصل , خاصة وأن مبادئ التنوير الوطنى ,تدفع نحو حرية الحركة والتفاعل فى علاج قضايانا, وإشكالياته.
- الأهم فى هذة الشروط الموضوعية هو المضى قدما فى عملية الإصلاح الدينى , التى وبدونها سوف تتعرقل مسيرتنا نحو تأسيس العقل الحر , وهذا الإصلاح يتطلب التخلص من العقل السلفى الأصولى الرافض لإعمال العقل فى النص(المحتكر للنص), ومن العقل التجريحى (المحتقر للنص) ,والمتصادم مع الجماهير التى أصبحت محل إحتكار من كل التيارات , على الرغم من أن الجميع قد ساهم فى تغييبها وتخلفها الذى أصبح مناط للمعايرة بين الجميع , وأهم ما فى تلك العملية هو تحديد الدور المعرفى للدين فى المجتمع الوطنى الحر , وبالأحرى تحديدة فى إطارة الواضح دون إستخدامه لفرض الوصاية , أو فى المقابل نفية من الحياة الإجتماعية ككل .
إن عملية التنوير عملية مستمرة , تخضع للنقد ,والفحص ,والتشكيك الدائم من أجل الأفضل , حيث لا إرتكان إلى خرافة , أو سلطوية , وبالتالى لا تتحول مسيرة التنوير هى الأخرى إلى خرافة من ناحية ,وممارسة سلطوية عقلياً وقيمياً من ناحية أخرى كما بتنا نشاهد ,ولهذا فضلنا أن يكون إسهامنا هو فى المشاركة فى تحديد خطوط ومبادئ عامة للتنوير الوطنى المصرى , وشروطاً موضوعية غير منفصلة عن واقعنا الغير موضوعى! , ولهذا كن جريئاً إذا فى إستخدام عقلك.