خواطر من رحلة العمر
بقلم : إبراهيم منير – نائب المرشد العام
سيد قطب
لم يكن ولم يعد إنسانا يعبر عن مرحلة من تاريخ جماعة الإخوان المسلمين ولا من تاريخ مصر ولا من تاريخ من ينتمي إلى لغته العربية ولا أمته الإسلامية ، بل صار معلما إنسانيا.
فبعد خمسين عاما من عودة جسده إلى التراب الذي خلقه منه الله سبحانه وتعالى وصعود روحه إلى السماء.. ما استطاعت كل سهام التنكيل والتشويه أن تُلحق تراثه بجسده، فتواريه تحت التراب، كما أراد الفرعون وأنصاره وتابعيه وتابعي تابعيه، وما زال هذا المفكر يخوض جولاته وأهمها- وهو ما أعطى له زخمه وتميزه – تصديه لضلال يطل برأسه كل فترة من الزمان ثم يختفي .. ثم يعود ثم يختفي وهكذا إلى قيام الساعة، وهي حالة جاهلية يتلبثها كل فرعون بشرا كان أم نظاما أم فكرا على أي أرض وفي أي زمن عندما ينسيه الشيطان ذكر ربه الخالق المعبود، فينطق لسانه وبئس ما ينطق ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) وتتلبسه روح إبليس اللعين حتى وإن لم يتحرك لسانه بها ” أنا ربكم الأعلى”.
سواعد البناء
كان واضحا في منهجية تعامل النظام المصري مع العمل السياسي الإسلامي، امتداد الحصار والتضييق عليه حتى لا يتم السماح له أو لغيره بالتواصل مع طبقات محددة من المجتمع وبالتحديد الطبقة العاملة وأصحاب الحرف والمهن اليدوية وطبقة الفلاجين التي تشكل دوما البيئة الحاضنة للعاملين الجادين وتملك بطبيعة حجمها وتكوينها القدرة والجرأة على تقديم الدعم الغير محدود والتأييد وروح التصدي والتضحية وكانت نسبة وجودها داخل صف الجماعة في السابق معادلة تماما لنسبة وجودها المجتمعي- وتاريخيا حتى لا ينسى البعض أن جماعة الإخوان قامت على الأفاضل الكرام الذين ينتمون إلى هذه الطبقة- وهو ما عمل النظام العسكري في مصر على تحييدها وعزلها بالتدريج، مما ظهرت أثاره السلبية في أحداث عام 2013 ، والتي ستدفع بكل تأكيد هذه القوى إلى التغلب على حالة الحصار هذه والمسارعة للمشاركة في العمل الوطني الفعال بعد أن سقط زيف دعاوى الإنقلاب وظهرت تجاوزاته الأمنية والاجتماعية والفكرية، والفشل الاقتصادي، ويوجب على جماعة الإخوان المسلمين مراجعة أولويات عملها بعد أن طغى العمل السياسي على العمل الدعوي مهما كانت طبييعة سياسات النظام وصعوبات ومشاق هذا النهج.
الثبات
الجماعة خلال السنوات الأخيرة ومنذ ما يزيد عن الربع قرن تم حصار عملها الدعوي والمجتمعي إلى حد كبير في إطار الطبقة المتوسطة المدنية وهي طبقة نشيطة وفاعلة بحكم شبابها المتجدد وما تحمله من مثاليات وابتكارات وتطلعات إلى مستقبل أفضل لمجتمعها، ويتشكل أغلبها من المتعلمين والنخب المثقفة التي يصعب على أي نظام إحتوائها أو مصارعتها فكريا، أو كسر إرادتها بأي صورة من صور القهر، ومع ذلك فهي بطبيعتها هشة في مواجهة أجهزة النظام الأمنية والعسكرية والإعلامية التي لا تلتزم بالقوانين والدساتير، وبالعموم هو ما يطلق عليه الآن مسمى الدولة العميقة والتي ظلت حكرا على من يضمن النظام تبعيته له بما يحظي به من مصالح وخدمات ينتفى معها مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين حتى في العدالة ومساواة الجميع أمام قانون واحد أيا كان هذا القانون.
ولطبيعة هذه الطبقة المتوسطة فإن أي مواجهة جادة يستخدم فيها النظام أسلحته ستكون بالتأكيد لصالحه وهو ما شاهده الجميع بعد الإنقلاب العسكري في 3-7-2013 ، فليس من يتصدى للإنقلاب الآن كل أفراد نسبة الـ 52 % من الناخبين التي صوتت لصالح الدكتور محمد مرسي كأول رئيس مدني لجمهورية مصر العربية، إذ أن أغلب هذه النسبة قد اختارت السلبية في هذه المواجهة لظروف مختلفة منها الحرص على لقمة العيش والتذرع بالمسئوليات الاجتماعية وغيرها من الأعذار، ولم يتبقى حتى الآن غير من ألزم نفسه بعهده مع الجماعة مع قليل من النخب الوطنية التي ترفض التفريط فيما قام الشعب لأجله في 25 يناير 2011 ، وبالتأكيد ومن دروس التاريخ يعلم الإنقلابيون أنهم وإن كسبوا جولة، فليس في يقينهم القدرة على مواجهة مستقبل الأيام …
ونحن نعيش أجواء ذكرى استشهاد صاحب الظلال عليه رحمة الله، مازلت أذكر مقولة له يتحدث فيها عن أحداث 1954 بعد غدر العسكر، واصفا حال من ثبت على الطريق ومن آثر السلامة بقوله ” إن جماعة الإخوان المسلمين مثل الشجرة التي اجتمع على فروعها طيور كثيرة، وعندما أطلق صياد عليها رصاصة، أزعجت الجميع، فطار البعض طلبا للسلامة ، وبقي ثابتا على أغصانها كل من له عش فيها” .
” إن لم تكونوا بها، فلن تكونوا بغيرها “
وحدة الصف فريضة لازمة لا يجب أن يقف أمام إتمامها أحد، فالجماعة بأهدافها وسياساتها وتاريخها ملك للجميع، ولست مبالغا إذا قلت أن عطائها ملك لوطنها بحق ما ساهمت به في تاريخه من إيجابيات وسلبيات.
وإلى كل اخ أو أخت في الصف أقول، إن الخلاف والفرقة اللذان نهانا الله سبحانه وتعالى عنهما، ونهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم ( قدوتنا ) أن نقع فيهما، ثم نهانا أمامنا الشهيد عليه رحمة الله، عنهما، هما من الكبائر التي يجب أن يترفع عن الخوض فيهما الدعاة إلى الله عز وجل.
وفي ظروف ما تمر به الجماعة الآن وما يمر به الأخوة والأخوات خلف القضبان وغيرهم من المطاردين في داخل مصر الذين لا يستقر بهم مقام بسبب المتابعات الآثمة من الفرعون وجنوده، وما تمر به مصر وشعبها من جراء سياسات سلطة الإنقلاب الفاشي، أخشى أن يغفل أحدنا عن حقيقة أن عدم وحدة الصف واختلاف القلوب قد تكون سببا في أن ينقطع عنا مدد السماء، وأن تتخلى عنا قوى الخير على الأرض، ثم أنهما وبطبيعة الأمور تعطيان الإنقلابيين ومن يدعمونهم مدد الحياة والاستمرار على الارض!
هي تذكرة أخص بها نفسي وأضعها أمانة في عنق الجميع، ورحم الله أمامنا الشهيد الذي قال محذرا ” إن لم تكونوا بها فلن تكونوا بغيرها “، وهو ما أثبتته الإيام!!.
التأسيس الثالث
سمعت وقرأت بعض ما كتبه أحد إخواننا الكرام عن موضوع التأسيس الثالث، فأعجبتني الصياغة دون المضمون، ووقفت أمام فكرة العنوان الذي يختزل عمل الجماعة في مرحلة من مراحل عملها، في إسهام جيل، وكأنه أتى بما لم تأت به الأجيال من قبله، غافلا عن أن عمل الجماعة تراكمي، فلم يكن بمقدور أي جيل أن يبدأ دون البناء على ما انتهى إليه عمل ما سبقه من أجيال .
وباختصار فالتاريخ الصحيح يقول أن محنة 1948 ثم اغتيال الإمام الشهيد عام 1949 كان يظن من باءوا بإثمهما أنهم قضوا على الجماعة، ولكن جيلها وقتها استطاع بعون الله أن يعيدها على الأرض ثانية .. ثم جاءت أحداث 1952 والجماعة ملء سمع وبصر الدنيا كلها، فهل نعتبره التأسيس الثاني!
ويتكرر الأمر بعد غدر العسكر عام 1954 إلى أن جاء عام 1965، وبعد أحد عشر عاما من حرب ثقافية عاتية على مفاهيم وقيم الشعب المصري والمنطقة العربية كلها والعمل على إحلال بدائل لثوابت الدين من قومية وإشتراكية لا تجعل للدين أي دور في الحياة، وما قالوا عنه ناصرية التي أرادوا بكتابها ( الميثاق )، أن يكون صنوا لكتاب الله عز وجل، فإذا بالمفاجأة التي أذهلت العسكر حين تم اكتشاف أن الجماعة لم تمت وهي فاعلة ومنتشرة على الأرض وبين كل طبقات المجتمع، وكانت سنة فارقة، أعطت بإعدام الشهيد سيد قطب وإخوانه وهزلية المحاكم العسكرية وما جرى فيها من مخازي، دفعا ظلت آثاره تكبر وتتعمق وتصارع حفاظا على قيم الإسلام ونقائها وما تراه صحيحا من أحكامه ومن أمثالها قضية التكفير التي استنزفت طاقات كثيرة وعصمت أيضا شبابا لولا فضل الله سبحانه وتعالى لضلوا الطريق، إلى أن جاء جيل السبعينيات ليجد الأرض ممهدة أمامه وفي تواصل طبيعي للأجيال، فهل نعتبره التأسيس الثالث للجماعة!
ثم يتكرر الأمر، بعد خروج الإخوان من سجون ومعتقلات العسكر عامي 1972 ، و1974، ويبدأ العمل على الأرض من جديد ، برعاية إخوة من أجيال سابقة… فإذا عدنا إلى بدعة الأرقام هذه، فهل نعتبره التأسيس الرابع!
ودون إغفال ما جرى في التسعينيات من اعتقالات ومحاكمات عسكرية، فالآن وبعد إنقلاب 2013 ومع بقاء الجماعة فكرا ومنهاجا وأنصارا وإصرارا على العمل والبقاء على الارض بالرغم من كل ما أصابها طوال هذا التدافع، فهل نعتبره التأسيس الخامس!
وإذا كان الترقيم السابق ذكره صحيحا بمقياس الأخوة أصحاب العنوان الذي يروجونه تحت اسم ( التاسيس الثالث ) فأين ما سبق من أرقام، حتى ولو كانت افتراضية!.
لولا اليقين بإخلاص الجميع، لقلنا أن ما يخشاه المرء هو أن يشعر جيل من هذه الأجيال بالذات، غافلا عن عمل وعطاء الأجيال التي سبقت، وأدت ما استطاعت من عمل وقدمت ما وسعها من عطاء، هو بفضل الله الذي تتواصل به أجيال الجماعة في الداخل والخارج، وكل اجره على الله سبحانه وتعالى.
أمانة الدعوة
يقينا أن الخلاف الموجود الآن داخل الصف أمر غير محمود ولا جديد فيه، فليس هو الأول في تاريخ الجماعة ولن يكون الأخير، وإن تعددت الأسباب، فإن النهاية دائما واحدة … فنحن مجتمع بشري يجري عليه وفي داخله ما يجري على أي تجمع بشري ولكن الجديد المؤلم هذه المرة هو استخدام الإعلام وإنفاق مال الله في غير ما يجب أن ينفق في سبيله وهناك من هو في حاجة إليه، وياتي الأمر من بعض أبناء صف يعاهد الله سبحانه وتعالى وهو في أول الطريق بقوله ( الله غايتنا )، وأرجو أن يتقبل الجميع هذه اللفتة من أخ لهم لم يعد له في الدنيا ما ينافس أحدا عليه، نصيحة لا يريد منها جزاءَ غير رضاء الله سبحانه وتعالى.
والحقيقة التي لم تعد خافية تقول أن كل من شارك من الجماعة في الأحداث الأخيرة التي وقعت في مصر هم الذين يدفعون الآن وأسرهم وأرحامهم ثمن اجتهاداتهم التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون خالصة لوجهه عز وجل، ونحسبها أنها كانت كذلك بفضله تعالى، وأن يقال لهم الآن وهم خلف القضبان قبل أن يتم السماع منهم، أنتم فاشلون وعليكم التنحي فأمر عجيب وليس فيه عدالة أو إنصاف، فهم بطبيعة وجودهم خلف القضبان لا يمارسون أي عمل إداري، وإن كان صمودهم هو الذي يمد بفضل الله، الطلقاء بروح العزيمة والمواصلة، وهي مهمة لا يستطيعها غيرهم، إضافة إلى أن الساحة قائمة ومفتوحة ولم ولن تغلق أمام العمل في سبيل الله تعالى، كما كانت من قبل طوال المحن السابقة، يقوم على أمر العمل فيها وفق منهاج الجماعة، الثابتون الصامدون، وأجيال جديدة لا يعلمها إلا الله سبحانه تنبت دائما من رحم المحن، وأن تأتي المشاحة الآن من أماكن ناعمة آمنة جلوسا خلف شاشات الإعلام أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي ، فأمر يحتاج إلى مراجعة!
وتنبيه من رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين قالَ: “لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ “
إن بدعة الشيوخ والشباب والصراعات المفتعلة حولها جديدة على الجماعة وثقافتها ومنهاجها، ففروع الشجرة قد تجف فصلا من فصول السنة ثم تعود لتثمر باقي فصولها مغدقة ثمرها، وتبقى الجذور والشجرة متجددة بتواصل الأجيال الصالحة فيها، ومنها وعبرها تسري الحياة إلى الفروع ما يقيت صلتها بأصولها قائمة.
وتعالوا بنا نؤمن ساعة ونعيش كأفراد تعاهدنا على نصرة دين الله يجمعنا الحب فيه والتجرد له لنعيش في ظلال قوله سبحانه وتعالى ” والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم” الحشر ( 10 )