ثقافات متعددة في ظل حضارة إنسانية واحدة
اعداد : أ. فاطمة لمحرحر – باحثة في الدراسات السياسية والعلاقات الدولية المعاصرة – كلية الحقوق فاس
- المركز الديمقراطي العربي
إن التفاعل والتواصل بين الثقافات ظاهرة إنسانية متأصلة في التاريخ الإنساني،والعولمة بقدر ما ساهمت في التقارب بين الشعوب وانفتاح وتفاعل الثقافات على بعضها البعض، بقدر ما أدت إلى بروز النرجسية الحضارية والشوفينية الثقافية والتعصب الديني والانغلاق على الذات. ويبدو أن تجاوز المسافة بين خطاب حوار الثقافات والأديان وبين الواقع المؤلم المكرس للعنف والتطرف والأحقاد وانسداد الآفاق، هي إحدى أهم الانشغالات المطروحة للنقاش، وعلينا أن نبدأ بترسيخ قيم الحوار والتسامح الديني والثقافي داخل مختلف التقاليد الثقافية والدينية وداخل مختلف الأنظمة التربوية ، ليتحول إلى سلوك فردي وجماعي داخل الأسرة، بين الأفراد، بين الجماعات وبين الأمم والشعوب. والحوار الثقافي والديني عملية متعددة الأبعاد، مسار للبناء المستمر، يتطلب المثابرة والنفس الطويل. وينبغي اليوم تطوير بيداغوجية جديدة ترسي لثقافة السلام قصد البحث عن أفضل السبل لكيفية التصرف بحكمة وتوازن أثناء التوترات والأزمات وبشكل يؤدي إلى امتصاص العنف والحد من نزعات التطرف . إن الإنسانية اليوم تتطور في ظل حضارة عالمية واحدة تتميز بالتعدد الثقافي ولا يمكن الحديث عن صراع بين الحضارات فالعالم يتجه لكي يصبح موحد الحضارة في ظل ثقافات متعددة تتفاعل وتتجاور فيما بينها بشكل يومي. العالم يعيش على وتيرة من التمازجات والتشابكات، ولا توجد ثقافات موحدة منسجمة تعيش في فضاءات ثقافية متمايزة في العالم المعاصر. و الاندماج العالمي الذي خلقته الثورة الاقتصادية والإعلامية في ظل ما أصبح يعرف بالعولمة، حرك عملية التفاعل والاحتكاك الثقافي بشكل سريع وتعسفي أحيانا. مما أحدث تحولات جذرية وتوترات ثقافية، نتيجة صعوبة إدراك واستيعاب قيم المنظومات الثقافية للآخر من جهة، ونتيجة للاستعلاء الثقافي والتمركز الذاتي والذي يحول دون الاعتراف بالحق في الاختلاف الثقافي من جهة أخرى. وهذا ما فتح الباب لشعور عدة فضاءات ثقافية غير غربية بضرورة “مواجهة” المد الثقافي الغربي وذلك عبر التمركز حول “الأصول” و “الخصوصيات الثقافية” كسلاح ورد فعل ضد موجة التغريب الكاسحة. كما أن الهوة الشاسعة بين الشمال والجنوب على كافة المستويات، جعلت الشعوب الفقيرة تحتمي بالعوالم الثقافية لإثبات الذات والتعبير عن عدم رضاها واستنكارها للحيف والتخلف وعن قلقها من المستقبل الغامض. ومن هنا فإن استيقاظ وانتعاش الثقافات المحيطة هو سلاح الفقراء للاحتجاج ضد الاختلالات الاجتماعية العالمية وضد الآثار السلبية للعولمة.
نتيجة تغييب الحق في التنوع الثقافي بفعل العالمية التي أقصت الخصوصيات الثقافية ولم تأخذ في الاعتبار في رسم ووضع ملامح حقوق الانسان وصياغة المواثيق الدولية التي تتضمن المعنى بقدر ما حملت الاسم، إلا ان بزوغ الحق في التنوع الثقافي في ظل الموجات المطالبة بالخصوصية الثقافية كان له بالغ الاثار في إعادة النظر في مفهوم عالمية حقوق الانسان لتعبر عن الحق في التنوع الثقافي. لذلك فإن هذا الاخير يؤكد ازمة براديغم حقوق الانسان بين العالمية والخصوصية وهو ما يستوجب اشراك جميع الثقافات في رسم مسارات حقوق الانسان، انطلاقا من فكرة المساواة بين الثقافات وحقها في الاختلاف. غير أنه في المستقبل يمكننا أن نتحدث عن الثقافة الشمولية والثقافة الصغيرة أو الحدودة. ستتكون الاولى من إرث يعتبر كونيا من طرف جميع الرجال والنساء في العالم ومن منابع جد متنوعة. ومعايير هذه الثقافات الشمولية، ستكون بقاء الجنس البشري وتحدي للتعقيد المتصاعد وشمولية المشاكل الحضارية مع تخلف مناهجنا التعليمية والتربوية، والتي لا تسمح لنا حاليا باستعمال أكثر من 10 في المائة من قدرتنا الذهنية. وفي كلمة موجزة، كرد فعل ضد المادية المهيمنة، لنسترجع قيمة البعد الروحي للوجود. أن الكونية والتنوع متلازمان، وبدون ثقافة دقيقة، لن تكون هنال ثقافة شمولية، حيث تسمح هذه الاخيرة للفرد بالخيار وتجعل التواصل الثقافي في الصدراة.