مقالات

عالم غسل الذّاكرة الترابية و رمزيّتها

بقلم : د.عادل حسين

  • المركز الديمقراطي العربي

 

ان في معرفة العلاقة الجدلية بين الانسان و اخية الانسان في الزمان و المكان تمثل من اهم العوامل التي تدفع الكائن البشري الى كشف و ادراك الحقيقة المتعلقة بتعدد التأويلات و التغييرات          و التحوّلات التي يشهدها المجتمع عبر التاريخ ،و ذلك من خلال ما تنعكس على نمط حياته و معيشته و تفاعله مع محيطه من ناحية ، و مما يخلّفه المرء من اثار و بقايا ماديّة و معنوية  من ناحية اخرى.

و في ضوء ما سبق ، يمكن القول ان الانسان ، في هذه الحالة ، ينطلق في تحديد جملة من الخصوصيّات الفيزيائية و الفكرية و الثقافية و العقدية يتمّ بلورتها من خلال ما ينجزه و يضيفه الى  الهيكل العام للمشهد الطبيعي مستثمرا في ذلك ما اكتسبه من خبرات في اختيار الاليات و الادوات من القدماء عبر الصيرورة التاريخية  للأجيال المتعاقبة في تسخير و استغلال المقدرات و الموارد الطبيعية في محيطه الترابي، مما يمكّن للفرد ان يدمج ماضيه و حاضره في سبيل بناء  مستقبله.

كما تجدر الاشارة الى  ان الاحساس بالانتماء الى التراب لا يمكن ان يتحقق الا  بفضل المدرسة التي تهتم ببناء الفرد و تعمل على  تعليمه  و غرس فيه  القيم  و المبادئ  الناتجة من وجدان مكارم الاخلاق و جوهر طبيعيته الاصلية . إن الشعور بالانتماء هو الذي يفضي إلى التفاعل المرن في العلاقة الاجتماعية   ويجسد وحدة الإنسان .

إن الإيمان بالخصوصيّات علم الاثار “الاركيولوجية” “archéologique” الترابية  والإقرار بوجدانيتها والتمسك بما تركه الفرد من اثار و بقايا ماديّة و معنوية ،  تشكل أولى المراجع المعتمدة. فما يألف عليه الانسان في مجتمعه   ليس فقط الارتباط  الخالص  الذي  يكون في صميم الاهتمام بشؤون الحياة الترابية فحسب ، بل ايضا هو الاعتراف  بالآخر و وببشريتنا والعمل على تربية وإرشاد الذات فرديا وجماعيا .

لكن هذا لا يعني ان نمنح الفرصة الى من يريد ان يبيّض هذه القيم النبيلة في سبيل استغلال السيادة الترابية بما تحمله من معاني تراث العادات و التقاليد و نمط العيش و الثقافة  في اطار العولمة و سيطرة الشركات العالمية و اللوبيات المالية التي اصبحت تتحكم في شعوب العالم سيما المستضعفين منهم باستراتجيات سياسية و اقتصادية و بالأساس اجتماعية حتى تظلّ متحكّمة في جغرافية و ديمغرافية العالم مما  يعكس التبييض الترابي الغير مباشر من جهة ،و ان يشرع عملاء الاستعمار الذين رضعوا من لبن الولاء للدول الاستكبارتية  و  تشبّعوا من  ثقافتها في تنفيذ اجنداتها بشكل مباشر من خلال التركيز على المدرسة و التربية و التعليم من جهة اخرى .

و بناء عليه يتمّ تغيير كل الاثار و البقايا المادية و المعنوية التي تختصّ بها السيادة الترابية من ناحية، و في نفس الوقت يقع استخراج  و استغلال كل الموارد الطبيعية و مقدراتها في ظاهره تقدم و نمو و تطور و في باطنه اندثار و اجتثاث كل ما يتعلق بمقوّمات الهوية الترابية و سيادتها من ناحية اخرى.

في هذه الحالة ، يمكن القول أن الامر يحتاج الى نظر و تحقيق اعمق في ما يخص مسالة اعادة تأهيل المدن و المعالم التي تحمل الطابع التاريخي و الرمزي لفئة او مجتمع خاصة عندما يتعلق الموضوع بتحديث المدينة  في اطار التفتح  و معرفة الاخر دون الانتباه الى تبعات ذلك و الخلفيات الجيوستراتيجية  التي من ورائها.

لان الحكمة و التصوّر الانساني الذي يتموحر في دائرة المصلحة العلمية التي من شأنها أن تعود بالمنفعة العامة على كل الناس الماديّة و المعنوية ، لا تدفعنا ان نقلّل من اهميّة الدراسات الانتروبولوجية و السوسيولوجية و وضعها بعين الاعتبار في مجال مفاهيم سيما التغيير و التحويل في المجتمعات عبر التاريخ ، لان النظام الليبرالي الذي ينتج أساسا الفوارق  الاجتماعية بين افراد المجتمع الواحد  و عدم التكافئ في الفرص و احتكار المعلومة الجيدة و استمرارية السيطرة على الحكم و المؤسسات من طرف الطبقة الغنيّة و المترفّهة في المجتمع ، لا يمكن ان تكون عملية ترويجها لمفهوم العولمة الاقتصادية و الثقافية دون ان يكون لها من وراء ذلك مآرب احتكار القوة و الفضاء برمزيّته  في نفس الوقت .

فمفهوم الاحتباس الحراري و المحافظة على الطبيعة ، مع نبله ، في رأينا ، ليس فقط  ليقلّل و يكبح مسيرة الدول الناشئة في التطور التكنولوجي و الصناعي من ناحية، بل  و ترك المجال لغزو الاسواق العالمية من طرف الدول العظمى المعروفة من ناحية اخرى  .

و هذا طبعا، يحدث اذا كانت العقلية الثقافية و الرمزية في وعي افراد المجتمع  لم تنضج بالقدر الكافي حتى تتمكن من امتلاك الادوات الضرورية للدفاع عن نفسها من تغوّل العقلية الليبرالية باعتبارها تفتقد الى نسبة عالية من القيم و الاخلاق بل تكاد تكون منعدمة في عقلية النظام الرأس مالي و كل ما يصدر عنه فهو نتاج المنفعة و المصله الذاتية و تحقيق الانا ، و من ثمّ تعمل على غسل الذّاكرة الرمزيّة و الخصوصية للسيادة الترابية بتوظيف المفاهيم و استعمال كل الادوات المتاحة لها للسيطرة و غزو الشعوب الاخرى.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى