الدولة وحقُّها فى استعمال أدواتِ العنف – بالتطبيق على المظاهرات الفرنسية يناير 2019
بقلم: إنجى خالد أحمد صلاح الدين
- المركز الديمقراطي العربي
منذ بضع شهور، ربما لم يكن يوجد فى الجرائد العالمية والمحلية ما هو أكثر شهرةً من الأحداث فى باريس والاحتجاجات المضطرمة من أجل الزيادات فى أسعار النفط والضرائب التى تجلَّت على إثرها فرقة “السترات الصفراء”. وفضلا عن ذلك، فقد خرجت مجموعاتٌ من الطلبة بغية الانتفاض لارتفاع مصروفات الجامعة على غير الفرنسيين. وهنالك من حاول أن يركب هذه الموجة فى مهاتراتٍ ساخرة حول “هل تنهار الديمقراطية الفرنسية حقا؟!”، وأسئلة من أمثال “هل سنرى وجه الدولة الفرنسية القامع الحقيقى عوضا عن الديمقراطى؟”.
ورأى البعض أنَّها بحق “مهاترات” مضحكة حصدت حسَّها الفكاهى من هوية المبادرين لها إذ أنهم من دولٍ معروفٍ عنها الديكتاتورية. دول معهود عنها تكميم الأفواه، واستحالة سقوطها فى بئر التظاهرات النزيهة التى ينجم عنها تغييرٌ فعلي على المسيرة السياسية، والتى يتنازل أمامها النظام السياسى ببعض الاستجابات مخافةَ تهديدها لوجوده. وإبَّان هذه الأحداث الفرنسية، نتجت بعض الفيديوهات التى تُظْهِرُ القوات الفرنسية تمارس شيئا من العنف تلقاء الطلبة المعتقلين، وهى مقاطعُ فيديو لحقت مقاطعَ أخرى كان هؤلاء الطلبة وغيرهم من المتظاهرين يعملون على تخريب الممتلكات العامة ذات الأثر العميق فى الحضارة الفرنسية ومعالمها.
وحول هذه المقاطع انقسم المشاهدون ما بين من يرجحون أنَّه ينبغي على الدولة اللجوء إلى استخدام العنف وضرب المخربين بالهراوات، وبالعصا الغليظة، لنهيهم عمَّا يقومون به. وآخرون يؤمنون أنَّ العنف لا يجوز أنّ يكون أداة فى يد الدولة تحيق به على المواطنين أيًّا ما كانت الجريمة التي اقترفوها. ومن هنا تولَّد التساؤل الذى يدور حوله المقال وهو: “هل استخدام الدولة للعنف لا يزال حقًّا شرعيًا حتى فى فرنسا دولة الديمقراطية والشعب؟! وألن يكون فى ذلك تعسفًا بالنظر إلى أنَّ دور الدولة الأصلي يكمن فى حماية المواطنين من الأخطار الداخلية والخارجية؟! ثم أليس فى ذلك تهديدٌ لنظام ماكرون اليسارى فى مواجهة تيار الشعبوية الذى لسوف يقتنص فرصة انهيار شعبيته ليتسلق على أكتاف أخطائه وزلاته إلى ذروة الحكم؟!”
ينطوى هذا التساؤل البحثى على عددٍ من الأسئلة الفرعية لا تسرى فحسب على الحالة الفرنسية، بل إنَّ إجابتى عنهم لا تعدو عن أن تكون مجرد رؤية أرجو لو أنَّها تنطبق على كل دول العالم بمختلفِ نظمها السياسية.
أول سؤالٌ هو: “هل يعتبر استخدام الدولة للعنف حقًا من حقوقها تمارسه فى أين ما كان؟!” والسؤال الثانى هو: “كيف ينبغى للدولة أن تحمى مواطنيها من الأخطار الخارجية؟!”، والسؤال الأخير هو “إلى أى مدى ينبغى للدولة أن توازن بين التهديدات الداخلية –أو الخارجية- وبين سيادتها؟!” والسؤال الأخير ذلك يمكن توضيحه أو إعادة صياغته بإلى أى مدى يجب على الدولة أن تقيم اعتبارًا وحسابا لبعض الأشخاص والعوامل (والمهددات) أثناء وضعها لسياستها العامة وتعاملها مع من يفسد فى نسيج مجتمعها أو صورتها الخارجية؟
بادىء ذى بدىء، حينما وُجِدَ مفهوم الدولة، بل قبل ذلك حتى أثناء الممالك والإمبراطوريات، حدث أن تم تأليف كتائب من المواطنين تكمن وظيفتهم فى إحلال الأمن والسلام خلال المجتمع نفسه، وحمايته من الجرائم المدنية من أمثال السرقة والنهب والقتل والتعدِّى على حقوق الآخرين. وهذه هى فرقة “الشرطة” مع فارق المسميَّات من بلدٍ إلى آخر.
وتم تنشئة فرقةٍ أخرى، وفق إرادة الملك أو الإمبراطور أو القيصر أو كسرى، أو الفرعون أو غيرهم، وظيفتهم تتلخص فى إزاحة كل من تسوِّلُ له ذاته تحدِّي حكم الملك، والتمرد على حدود مملكته، وكذلك من أجل الإغارة على الممالك المجاورة فى سعي وراء توسيع رقعة الحكم. وهذه الفرقة هي الجيش بالمناسبة.
وقد تطورت هذه الفرقة بعد ميلاد الدولة القومية لمحاربة من أجل محاربة الأعداء الخارجيين على الحدود الذين يسعون إلى اغتصاب البلاد وأراضيها بغير وجه حق، ولها قوانينها ولوائحها العسكرية الخاصة. ومن أجل أن تكون هذه الفرق بشتى أنماطها قادرةً على الإيتان بثمارها، فكان لابد تخصيص حقٍّ لهم من أجل استعمال القوَّة. إذ أنهم بدون هذه القوة –وأعنى بالقوة هى الصلبة الكامنة فى القوة العسكرية بالأساس فى ذلك الوقت-، فإنَّهم لن يتمكنوا من التغلب على خصومهم سواء الداخليين أو الخارجيين.
والسؤال الأول كان يدور حول هل يصبح هذا الحق فى استخدام العنف حقا شرعيا للدولة تمارسه أينما شاءت.
والإجابة بناءً على الرؤية التاريخية، هى أجل، وقد كان ذلك يتمُّ على نحوٍ مريعٍ فى بعض الأحيان سواء على المواطنين الخارجين على القوانين والقواعد التى يرسيها الحاكم (انظر إلى حادثة إعدام داميان الذي قتل والده، والمذكور تعذيبه باستفاضة فى مستهل كتاب ميشيل فوكو “المراقبة والمعاقبة: ولادة السجون”، أو حادثة إعدام قاتل ابنه “جون كالاس” فى عصور التنوير)، أو الأعداء الخارجيين من أبناء الممالك أو الإمبراطوريات الأخرى. والإجابة أيضا بناءً على الرؤية الديكتاتورية الاستبدادية السائدة فى بعض مناطق العالم حاليا وخصوصا العالم العربى والأفريقى والآسيوى، هى أجل. ولكن بناءً على الإجابة الديمقراطية الليبرالية التى يدينُ بها أغلب دول أوروبا وأمريكا الشمالية، وبعض دول آسيا، فى أعقاب الانتصار على الشيوعية بعد الحرب الباردة، والتى ركيزة من ركائزها هى “حقوق الإنسان”، فالإجابة هى لا، وهنالك حدودٌ فى ذلك الاستخدام. ولأنها الأيدولوجية المعترف بها فى القرن الواحد والعشرين –حتى أنَّ الديكتاتوريات صارت تتنكر فى هيئتها تنكرًا يجعلها كالمسوخ-، فكثيرًا ما خرجت معاهدات تنص على حماية حقوق الفرد خصوصا فى مواجهة حق الدولة فى استخدام عنفها على من يعاديها، أهمها “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” عام 1948، و”العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية” المنبثق عنه، الموقَّعُ فى عام 1966، والداخل فى حيز النفاذ فى 1976.
ويصعب الدخول فى هذا المقال إلى السؤال عن “وبناء على ماذا نستطيع القول بأن هؤلاء أعداء للدولة سواء خارجيين أو داخليين؟!“، وذلك لسبب بسيط وهو أن تعريف العدوِّ يختلف من نظامٍ إلى نظامٍ. فمما لا شكَّ فيه أن أعداء الدولة الديمقراطية الليبرالية يكمنون فيمن يدعون إلى السلطوية وإلى تقييد حقوق الإنسان وحرياتهم. أمَّا فى الدول الشيوعية، كان الأعداء هم ذوو رؤوس الأموال. وفى النظم الثيولوجية، فإن الأعداء هم من يدعون إلى توسيع حرية الإنسان فيما لا يطابق شروحهم وتفسيراتهم للكتب المقدسة، وهلمَّ جرا. ولدواعِ تسهيل النقاش فى الحالة الفرنسية التى من خلالها يمكن بسط وجهة نظرى حول الموضوع فى المطلق، فإنَّ العدو الذى يمكن الحديث عنه هنا هو شخصٌ قام بالإضرار بحقوق الآخرين، وكذلك تشويه وتخريب مواقع عملت الدولة على تشييدها من عرق المواطنين الذين يدفعون ضرائبهم بها. وبالتالى، فإنَّ الشخص الذى يقوم بهذه الأعمال يُعْتَبَرُ “عدوًّا مؤقتا” للجهة المختصة بحفظ الأمن والسلام، وهى “الشرطة”. وحول “حق الدولة فى استخدام العنف”، فبالنظر إلى الجهود الدءوبة لإعلاء لواء حقوق الإنسان وحقهم فى الحياة الكريمة والمعاملة الآدمية، وحمايتهم من التعذيب، فحجة المقال تتلخص فى أن الدولة لا تملك حقًا فى استخدام العنف، بل لا ينبغي على الدولة اللجوء إليه إلا فى حالاتٍ استثنائية للغاية.
من أجل الإجابة على السؤال الثانى، وهو: كيف يمكن للدولة حماية مواطنيها إذًا من المخاطر الداخلية حاليًا؟
فأنا لا أزيد عن عرض ما أراه من المفترض أن يتمَّ بغض النظر عمَّا إن كان هو ما نصَّت عليه كُتُبُ الفلاسفة العظام، أو المفكرين المعروفين، أو القوَّاد العباقرة، وبعيدًا عمَّا إن كانت تتم واقعيًا أو لا. فأرى أنَّه يكفى حدوث نوعٍ من التخريب حتى يكون العقاب من الجهة المختصة “للمخرِّب الذى يُعَدُّ عدو الدولة المؤقت لحين حصوله على جزائه”.
وفى هذا التيار، وفى العصر الحادي والعشرين المتسم بالنبوغ والتكنولوجيا، لا يجوز إلا فى حالات معينة جدًا، اللجوء إلى العنف. والحق أن العنف والعقاب لا يعتبران الشىء نفسه. فالعنف هو إعمال للألم المادى لإشعار الشخص الملقى عليه العنف بخطأه ولردعه عبر جرحه أو ضربه أو سحله أو الاعتداء عليه أو غيرها. أمَا العقاب له أشكال متعددة، مادي أو معنوي، فهو الأعم والأشمل للعنف. العنف هو نوعٌ من أنواعِ العقاب، إذ أنَّ هنالك العقاب الرحيم وآخر الطاغى، وآخر الذكى، وآخر المكبِّل وفيه استخدام لوسائل عدة أبسطها هو “النبذ الاجتماعى مثلا” والذى لا يكون به الألم ماديا، وإنمَا معنويًا. وبالنسبة إلى إجابة المقال بشأن كيفية حماية الدولة لمواطنيها من المخاطر الداخلية (التي هي التخريب فى هذه الحالة)، فإنَّه من خلال أنواع العقاب الأخرى غير العنف. ودون الحاجة إلى الحيرة بشأن أى العقابات ينبغى أن تنزلها دولةٌ ديمقراطية كفرنسا على خصومها المؤقتين (مهددي سلامة النظام الداخلي ورفاهية المجتمع) غير العنف، فالإجابة وضعوها -الفرنسيون- مسبقا: العقاب المنصوص عليه فى القانون سواء الحبس أو الغرامة أو الإعدام حتى. وذلك بعد إلغاء منظومة التعذيب فى طليعة القرن الثامن عشر.
طالما أن هؤلاء المتظاهرين والطلبة قد عملوا على تخريب الممتلكات العامة كما تعرض بعض مقاطع الفيديو، فلابد للشرطة أن تعاقبهم، ليس بالعنف عبر الضرب وال”سحل”، وإنما بالقانون. وهذا بأن تعتقلهم وتوجِّه إليهم تهمة “منصوص عليها فى القانون”، مع تفعيل حقوق الإنسان من تعريف أهليه على مكانه وعلى جريمته، وإعطائه الحق فى توكيل محامى، وعدم التعذيب، والمحاكمة العادلة، والإفراج عنه فى حالة عند إثبات أى دليل على ارتكابه هذه الجناية. وفى النهاية، إحلال عقوبة على حريته –كالحبس أو السجن-، أو على أمواله –كما الغرامة- أو على جسده –الإعدام- بناءً على القانون، وليس عن هوًى، وبناءً على ما ستنتهى إليه المحاكمة. وفى ذلك، فإنِّى لست من مناصرى العنف، وإنما كذلك لا يُعْقَلُ تركُ أناسٍ يأخذون حقوقهم ب”فرض العضلات”، أحرارًا وطلقاءً وإلا فذلك لن يكون له عاقبة إلا السقوط فى عالم الفوضى والهمجية، وتتجدد المخاوف التى حكا عنها “طوماس هوبز” أو “جون لوك” أو “جاين جاك روسو” حول “حرب الكلِّ ضدَّ الكل” والتى سعوا بكل أفكارهم من أجل بناء تصورات حول بداية الدولة بأنها كانت من أجل إغاثة الأفراد من هذه الحالة التى يحاول أولئك المخربون العودة بأنفسهم إليها من جديد.
لن يكون من المستساغ أو المنطقى فى حالة الأحداث الفرنسية، بل وكذلك فى الحالات الأخرى التساؤل حول “ما الذى أوصل أولئك المخربين إلى التخريب؟!”. وهذا لأنَّ ذاك السؤال يعنى أن هنالك البعض الذين يبررون لهؤلاء المتظاهرين أنهم عملوا على إتلاف بعض المؤسسات والمعالم بدعوة “تقديم طلباتهم التى لا ينصتُ إليها النظام، ولا يستجيب لهم”.
ذلك لأن مثل هذه الأفكار والمساعى لن تنفى أن واقع التخريب قد حدث فعليًّا. والحق أنّه لابد من التصرف إزاء من بادر به ليلقى جزاءه، وإلا اعتقد أن مسلكه صحيحًا وسيعوِّل على تدمير بعض المنشآت بين آن وآخر من أجل إعلاء مطالبه، وبالتالى لن تفيق الدولة مطلقا من موجات التحطيم وعدم الاستقرار التى ستطولها فى أعقاب كل تخريب. وهنا، أنا لا أدخل “قوات المقاومة”، أو “الثورات الكاملة” التى أخرجها من هذا التحليل نظرًا لما لها من ظروفٍ أخرى كمحاربة احتلال، وكذلك سعي لإسقاط نظام كامل، وليس مجرد إيصال بعض التوصيات والطلبات من الشعب ليسمعها النظام، مع الهدف بأن يبقوا عليه، وألا يأثروا فيه سلبًا.
أمَّا بالنظر إلى آخر سؤال، وهو إلى أى مدى ينبغى على النظام الفرنسى بقيادة ماكرون أن يخشى صعود التيار الشعبوي إلى الدرجة التى تدفعه إلى الحرص أثناء تعامله مع الظروف الطارئة على البلاد حتى لا يستغلوا زلاته وعثراته لاعتلاء منبر الحكم. فإنَّه لا يجوز افتراض أن على النظام أن “يطبطب” أو يربت على المخربين بادعاء أن هنالك شعبويين سيقلبون الشعب عليه لو عاقب من يقترف ذنبا. ففى كل الأحوال، لا أحسب أن الشعبويين سيعملون على تقدير تفهمه وتساهله مع المجرمين بحيث يكفُّون عن افتراس أخطائه والتغذِّى عليها. على النقيض، سيظل هدف أولئك الشعبويين هو حشد كل الأخطاء التى يقوم بها “نخبة البلاد” من فسادٍ، أو ضعفٍ فى مواجهة المشكلات الكبرى، من أجل عرضها على الجماهير فى لغةٍ حاميةٍ، لإوغار صدورهم على نظامهم، وتوجيههم للالتفات إلى -جماعات الديماغوجيين من الشعبويين الذين يدَّعون محبتهم وحرصهم علي أبناء هذا الشعب.
ليس هنالك أيسر من إعادة قراءة تاريخ الدولة الألمانية حيث استطاع أدولف هتلر فى بدايات ثلاثينيات القرن العشرين أن يحشد المناصرين والمشجعين من خلال العمل على تحديد كل النقاط السلبية التى ارتكبتها “جمهورية فايمر” فى حل المشكلات الاقتصادية أثناء “الكساد العظيم” وكذلك فى عدم إمكانيتها أن تلغى معاهدة “فيرساى” المحطمة للكرامة الألمانية. ومن هذا يمكن استخلاص أن الشعبويين –كأيدولوجية بتمركز رفيع أى أنَّها فى نفسها ليست أيدولوجية كاملة، بل يجب أن تستمد قوتها من إيدولوجية أخرى، وهذا يفسر وجود شعبويين على كل جانب سواء اليسار أو اليمين- لن تزيدهم أخطاء النظام وخواره وتهاونه مع الشعب إلا تكاثرًا.
وفى هذا الموضع، يجب على النظام ألا يدع للتهديدات الأخرى –وهم الشعبويون فى الحالة الفرنسية- المجال من أجل رسم سياساته العامة فى التعامل مع الظروف، وتحديد أولوياته وأهدافه. إلا أنه مع ذلك ينبغى عليه أن يتحرَّى الحكمة فى استخدام سلطاته بحيث لا يكون استخدامًا تعسفيًّا للحق، وساعتها سيكون من المعقول والمنطقى للشعب أن يتوجهوا للشعبويين وينتخبوهم فيما بعد. وهذه الحكمة للنظام سوف تتولد من أمرين: الأول هو أهمية منع العنف وإنما اللجوء إلى القانون، خاصةً فى دولة كما فرنسا لديها أرقى وأرمق كليات الحقوق فى العالم أجمع، وتصدِّرُ قوانينها إلى بلاد عدةٍ مثل مصر. وعليها اعتقال المخربين من خلال القانون، والإفراج عنهم إن لم يثبت عليهم شىءٍ بموجب القانون. والأمر الثانى، هو أنه يتحتَّم على النظام مهما عاقبت، ومهما بدت صائبة فى إعطاء المخربين جزاءً، أن تفهم أنه لا يزال لم يحل المعضلة بأكملها. فهؤلاء الشعب لم يخرجوا من تلقاء أنفسهم، ولم يقرروا التضحية برغد معيشتهم وأمنهم والنزول إلى الشارع للتظاهر والانتفاضة من فراغ، وإنما مشكلاتهم هى التى حثتهم على ذلك، وما لجوؤهم إلى الوسائل العنيفة إلا من أجل التعبير عن هذه المشكلات. لذلك، لابد أن يتدرب النظام على المرونة. ومع معاقبة الخارجين على القانون، فإنَّ استجابته لمطالب الشعب المنطقية هى الضمانة الوحيدة له للحظى بوقاية من أثر الشعبويين الذين يتربصون به الدوائر كما يتربصون بغيره من الأنظمة، بغية اقتناص الفرصة للانقضاض عليه والاستئثار بالسلطة. – in-centered Ideologyشعبويين -كأيدولوجية لعظيم” وكذلك فى عدم إمكانيتها أن تلغى معاهدة “فيرساى” المحطمة للكرامة الألمانية. من أ
الخلاصة، فأمَّا ما يتعلق بحق الدولة فى ممارسة العنف وإن كان مطلقا أم لا، فأنا أرى أنه لا ينبغى أن يصير مطلقا وإنما ينبغى أن تنتشر ثقافة “سيادة القانون” فى عقول كل من الأنظمة والشعوب. وبالنسبة للدول الديكتاتورية التى تعمل على إحراج السيادة الفرنسية وتتعمد التقاط الصور والمقاطع التى يمارس فيه رجال الشرطة الفرنسيون بعض الحدة أو الشدة مع المتظاهرين، فهذه الدول لا ينبغى أن تنساق وراء وهم “الديمقراطية الفرنسية تذوى” لأنه مهما بلغت الأدوات العنيفة للدولة الفرنسية، فهى لن تبلغ مثقال ذرة من العنف الذى يمارسونه على شعوبهم بادعاء أن استخدامهم للعنف حق شرعي مطلق. والسؤال الثانى حول كيفية حماية الدول لمواطنيهم، فإن الإجابة ببساطة هو ضرورة القانون، والعقاب بناءً على القانون، وليس أى شىء غير ذلك.
وقد يطرح البعض سؤال: “وكيف نحمى القانون أصلا من تعسف السلطة”؟!
وهى معضلة فلسفية كبرى ليس موضوعًا لهذا المقال فى الحقيقة. وأخيرًا، هل على ماكرون انتقاء ال”قانون” أم “شعبيته التى يتآكلها الشعبويون”، فالحل هو القانون لأن الشعبويين فى كل الأحوال ينتهزون كل الفرص من أجل إعلاء صيتهم، بل إن فى تسامح النظام مع المخربين دعوة إلى المزيد من الفوضى التى يتغذى عليها أولئك الشعبويون.
وأخيرًا، فإنَّ اعتناق النظام لعقيدة “سيادة القانون” لا تغنى عن ضرورة تفهمه أن التظاهرات تعنى وجود أزمة وسط الشعب، لا ينبغى إعطاء أذن صمَّاء لها، بل حلها بعقلٍ وحكمةٍ وتدبرٍ. وردًا على مجادلة البعض بأن هؤلاء المتظاهرين قد يكون بينهم قلةٌ مندسةٌ تملى مطالبها غير المشروعة، فإنَّ فى النهاية هذا أمرٌ لا يستطيع أحد الجزمَ به إلا بعد تحقيقات وتقصيات، تتم جميعها فى إطار القانون.