الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

تأثير المجتمع الحريدي

بقلم : د. عقل صلاح – كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.

  • المركز الديمقراطي العربي

 

بدأ تأثير القوى الدينية الحريدية، بالظهور أواسط سبعينيات، حيث ارتبط عمليًا بظهور حركة غوش أمونيم وفوز حزب الليكود لأول مرة في الانتخابات، وتشكيله للحكومة، ما اعتبر حينها بالانقلاب الكبير في توجهات المجتمع، وقد تبنت القوى الحريدية، سياسات يمينية عنصرية، عبر عنها قادة غوش إيمونيم، ومعظمهم شخصيات مؤثرة في التيار الديني، حيث طالب هؤلاء بربط الحياة العامة والسياسات الإسرائيلية، بالشريعة اليهودية، خاصة فيما يتعلق بالأغيار الفلسطينيين، تطبيقًا لثقافة غوش أمونيم، والتي بدأ معها التقارب بين المتدينين القوميين وأوساط دينية حريدية أخرى، مؤيدة للاستيطان، مما أنتج قومية يهودية جديدة، تقوم على المطالبة بأرض إسرائيل الكبرى بناءً على الشريعة اليهودية، قوامها الحريديم الأشكناز والسفارديم.

تعاظمت في العقدين الأخيرين، مسألة تدين أفراد المجتمع، وتعزز الخطاب الديني فيه، وقد تجلت صوره في ازدياد تأثير المعسكر الحريدي، على عملية اتخاذ القرار السياسي في البرلمان والحكومة، ورغم أن المجتمع الحريدي، يمثل ما نسبته نحو ١3٪ من السكان، إلا أنه يتمتع بتأثير واضح، ينبع من التقدير العام الذي يوليه اليمين، للماضي اليهودي، وقناعته بأن لليهود حق تاريخي في إسرائيل، ولهذا، استطاع الحريديم، الانتقال من هامش المجتمع، إلى مركزه، وزادت المشاركة في العمل، خاصة مع التكاثر الطبيعي للحريديم، والزيادة المدهشة في عدد طلاب اليشيفاه، ومع هذا التوسع زاد التوتر والتناقضات الداخلية بين مجتمع الحريديم وبقية شرائح المجتمع، خاصة بعد تضاؤل الفروق بين المعسكر الحريدي والمعسكر القومي الديني، لتصبح نسبة المتدينين من عدد السكان، ما يقارب٢٢٪.

لقد انحاز المتدينين والحريديم إلى معسكر اليمين، ورفضوا إلى التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، تقدم فيه إسرائيل تنازلات عن الأرض، وفي هذا يشير استطلاع للرأي أجراه مركز تامي لبحوث السلام عام ١٩٩٧، إلى أن ما نسبته ١٠٠٪ من الحريديم، يصنفون أنفسهم كيمينيون، في حين وصف ٨٠٪ من مؤيدي الوسط الديني الوطني، أنفسهم كذلك، وأعرب ٩٪ من الحريديم، تأييدهم لمسيرة أوسلو، مقارنة مع ٢٤٪ من المتدينين الوطنيين، ويكمن الفرق بين الحريديم وبين المتدينين القوميين، في أن الحريديم يعبرون عن مواقفهم المتطرفة علنًا، ويعلنون تأييدهم الكامل لمواقف اليمين السياسية، بطريقة متطرفة ومناوئة للفلسطينيين، في حين أن المتدينين الوطنيين ورغم مواقفهم شديدة التطرف، يتعاملون بمبدأ الرسمية واحترام القانون، وهذا بدوره يخفف درجة الحدة والعنف في أنشطتهم السياسية العامة.

يعود تعاظم دور المتدينين، إلى الصراع الحاد بين الدين والدولة، فالتصدع الديني هو أحد أسباب تزايد قوة الأصولية اليهودية، إضافة إلى دور المضامين الدينية المؤثر في نشأة اليمين، الذي تعزز بعد الدخول في المفاوضات، حيث كانت غالبية المحتجين على أوسلو، من المتدينين، للحد الذي أدى إلى مقتل رئيس الوزراء الأسبق، اسحق رابين، وانحسار تأثير قوى اليسار، خاصة مع تعثر المفاوضات واندلاع الانتفاضة الثانية، غير أن ضعف اليسار والقوى العلمانية، لم يرتبط فقط بالأسباب سابقة الذكر، فضعف القدرة على مواجهة الخطاب الديني، يرتبط بكون الحركة العلمانية مشبعة تاريخيًا بممارسة خطاب ديني، لتبرير مشروع القومية، فقد تخلقت ثقافة سياسية في أوساط اليمين القومي والعلماني المتعصب، علت على جميع الفوارق الإثنية والطبقية، وهذا ما ساهم في سهولة تغلغل المتدينين في المؤسسات الرسمية، وساعد على سيطرة رجال الدين على كثير من المفاصل المهمة، ومكنهم من سلطة الحسم والترجيح في القضايا المصيرية، كما أنه ساهم في انتشار ظاهرة المسيحية الدينية، وزيادة التأثير الهائل للمستوطنين، كونهم فقط، يحملون الحقيقة المقدسة.

لعب المجتمع الحريدي، دورًا كبيرًا، في تغذية الكراهية ضد العرب، مستغلاً في ذلك، التراث الديني وتفاسيره، وعمل الحريديم على عرقلة تنفيذ الاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل والفلسطينيين، فقد وقع مجلس كبار علماء التوراة سنة ١٩٩٨، عريضة رفض تنفيذ اتفاقية إعادة الانتشار الثانية، وبدأ حملة تحريض داخل الجيش، للامتناع عن تنفيذ أي إخلاء لأراض في الضفة.

يرجع بعض المحللون تنامي دور القوى الدينية الحريدية، إلى النشاطات الاجتماعية والثقافية وانتشار صحف الحركات الدينية، وفي هذا ما يشير إلى أن المجتمع الحريدي، أصبح يمتلك هوية سياسية جديدة بعد أن كان مجتمعًا مغلقًا، وانتقل إلى الانفتاح على الدولة والتغلغل في المجتمع، وعزز ظاهرة الإيمان، وتحول كثير من الإسرائيليين نحو الدين، كما أنه استغل بمهارة، اليهودية كديانة قومية، يتشابك فيها الإثني والديني، ولا تمييز بين الديني والسياسي، واستغل كذلك التباس مفهوم العلمانية في ظل وجود رابط وثيق بين المواطنة والدين .

ما زال المجتمع الإسرائيلي يعاني التناقضات والمعضلات، التي لازمته منذ إعلان إقامة إسرائيل، بسبب طبيعته وتكوينه والظروف المحيطة به، لكن هذه المعضلات أصبحت أكثر حدة وإلحاحًا مما كانت عليه بسبب طول الفترة الزمنية المثقلة بالضغط الخارجي، وقد حدثت في هذه الفترة تطورات وتحولات عميقة في المجتمع، هذه الميول كانت نتيجة للتغيير في القيم الاجتماعية والانسحاب من التصورات السابقة للذات، كجزء من الجماعة، بتأثير الأعباء والمهمات الجماعية، وهي تحتم عليه حل المعضلات الأساسية التي يمكن اختزالها إلى معضلة جوهرية واحدة أي معضلة الهوية، فتحديد الهوية يقرر ماهية الدولة.

لقد اعتبرت إسرائيل انصهار يهود العالم وخاصة أمريكا في مجتمعاتهم هو بمثابة محرقة ثانية، وهذا جاء في اجتماع الحكومة في 7تموز/يوليو2019، حيث تشير تصريحات العديد من قادة الاحتلال وفي مقدمتهم نتنياهو، إلى قلق تنفرد به إسرائيل تجاه صيرورات اجتماعية طبيعية في العالم والتي تعتبرها انصهارًا، ومن عدم قدرتها على إحداث تغيير في الاتجاه الديمغرافي، وأن حجم الانصهار في العالم ستة ملايين يهودي يعتبرون أنفسهم يهودًا من الناحية التاريخية والثقافية، وليس من الناحية الدينية حسب أقوال قادة إسرائيل.

أدرك بن غوريون في وقت مبكر أن اليهود المهاجرين من الدول العربية والإسلامية يعني نقل أنماط حياة ثقافية واجتماعية مختلفة تمامًا عن الأنماط الغربية التي خططت الحركة الصهيونية لصبغ حياة الدولة الوليدة بها؛ ونقل عن بن غوريون قوله في اجتماع خاص في أعقاب وصول اليهود المهاجرين من الدول العربية “نحن لا نريد أن يتحول الإسرائيلي إلى عربي”، وخشي بن غوريون أن تؤدي التباينات الثقافية والاجتماعية إلى حالة من الاستقطاب والصراع الإثني بين الشرقيين والغربيين، فبلور ما عرف باستراتيجية بوتقة الانصهار، التي هدفت إلى صهر جميع الثقافات التي جلبها اليهود معهم في بوتقة واحدة.

وعلى الرغم من أن الشرقيين كانوا يشكلون أكثر من نصف المستوطنين إلا إنهم كانوا أكثر تقبلاً لأنماط الثقافة الغربية، حيث كانت الأغلبية الساحقة تريد التماثل مع المجتمع الجديد الذي أصبحوا جزءًا منه ومع القيم السائدة فيه، وحتى الذين لم يقبلوا ما قامت به الحركة الصهيونية لم يتحركوا لمواجهة مخططات النخبة العلمانية الغربية، حيث كان هؤلاء يشعرون بالدونية بسبب إدراكهم حجم الدور الذي قام به العلمانيون الغربيون في إقامة الدولة والنهوض بالمشروع الصهيوني، علاوة على دورهم في جلب اليهود الشرقيين أنفسهم، ويتضح من تتبع مظاهر تطبيق استراتيجية بوتقة الانصهار أنها كرست الحدود الإثنية بين مركبات المجتمع الإسرائيلي، حيث شارك ممثلون عن الشرقيين في مؤسسات هذه الأحزاب، ورغم أن اليهود الشرقيين شكلوا أكثر من نصف عدد السكان حتى أواسط الثمانينيات إلا إنهم حظوا بأقل من ربع عدد المقاعد في البرلمان، كما أن مشاركتهم في الحكومات كانت محدودة جدًا.

وتسعى الأحزاب الدينية إلى الانخراط أكثر في الحياة السياسية من أجل إعطاء مضمون ديني للدولة والحفاظ على الوصايا اليهودية الدينية وحرمة يوم السبت، وكذلك لاقتطاع ما يمكنها من حصص وموازنات من الحكومة في سبيل خدمة جمهورها وبرامجها. وفي خضم هذا الانخراط في العمل السياسي أخذت هذه الأحزاب والتيارات تتصهين مع الوقت بعد أن كانت معادية للصهيونية، وانجرت وراء الخطاب الصهيوني العلماني، وسياسات إسرائيل على كافة الأصعدة.

ويرى العلمانيون في نمو التيار الديني مجرد عبء على الدولة، فهم لا يخدمون في الجيش، ولا يساهمون في العملية الإنتاجية، وفوق كل ذلك يتلقون موازنات كبيرة على حساب الجمهور العلماني. في حين أنهم يتهمون العلمانيين بأنهم بعيدين عن الدين اليهودي، ويشكلون خطرًا على اليهودية. والمؤسسة الدينية الأرثوذكسية التي تحتكر لنفسها تعريف من هو اليهودي، أثارت توترات حادة مع الدولة ومؤسساتها في ضوء تحفظها على منح صفة اليهودية لعشرات وربما لمئات الألوف من المهاجرين، خاصة المهاجرين الروس والأثيوبيين.

ولابد من الإشارة إلى قول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية يوناثان فريمان أن الأحزاب الدينية تشكل عالة على المجتمع الإسرائيلي لأسباب تتعلق برفضها الخدمة العسكرية بداعي التفرغ لدراسة الدين. وإعلان الحاخام الأكبر لليهود السفارديم، يتسحاق يوسف، بأنه لا يجوز تجنيد أولئك الذين يتعلمون التوراة “تحت أي ظرف من الظروف”، وأنه إذا تم تجنيد طلاب المدارس الدينية قسراً، فإن الحريديم سوف “يسافرون إلى الخارج”. كما يؤكد الحاخام إلياهو كوفمان أن جميع تيارات “الحريديم” والحاخامات أجمعوا منذ النكبة على معارضتهم ورفضهم الانخراط في الجيش الذي اعتبروه مفسدة للأخلاق المجتمعية وتهديدا للمعاهد والقيم الدينية وتعاليم التوراة، والتجنيد يعكس الوجه الحقيقي للصراع بين العلمانيين والمتدينين حول هوية الدولة. وفي نفس الصدد، قررت المحكمة العليا الإسرائيلية في 25حزيران/يونيو2024، بإلزامية تجنيد اليهود المتدينين. ويرد الوزير الإسرائيلي مئير بروش من الأحزاب اليهودية الدينية “ليس هنا أي قوة في العالم تجبر الطلبة الحريديم على التجنيد والدخول لصفوف الجيش، وأضاف أن قرار المحكمة هذا قد يؤدي إلى انقسام الشعب اليهودي إلى دولتين”. كما صف كبير حاخامات شاس الحاخام موشيه مايا، حكم المحكمة العليا بالمخالف للشريعة اليهودية، والشريعة تنص على أنه لا يُسمح لعضو المدرسة الدينية بالتجنيد في الجيش.

هذا القرار تبعه إعلان المستشارة القضائية للحكومة بإلزام كافة الوزارات المعنيّة وعلى رأسها وزارتا المالية والحرب، بتجنيد قرابة 4 آلاف من الحريديم كخطوة أولى، ومن سيمتنع عن ذلك سيُعاقب عبر طرق عديدة من بينها سحب المخصّصات التي يحصل عليها كفرد أو كمؤسسة تعليمية. ونافلة القول أن نتنياهو يضم شركاء من الحريديم في الائتلاف الحكومي، متمثلين في حزبي شاش 11 مقعداً بالكنيست، ويهدوت هتوراه 7 مقاعد. وخلاصة القول، أن الحريديم سوف يتمردون على قانون التجنيد مما سيؤدي إلى زيادة حدة الصراع ما بين التيارات في إسرائيل.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى