مقالات

فى حدود ما يقبله المجتمع

بقلم: محمود عبدالعزيز – المركز الديمقراطي العربي

 

فى مطلع الأسبوع الماضى أعلنت اليابان السماح لعلمائها بزراعة أجنة حيوانية معدلة بواسطة خلايا جذعية مستحثة متعددة الوظائف، وهى خطوة تهدف على المدى الطويل لتنمية أعضاء بشرية داخل حيوانات، وذلك لسد العجز فى الأعضاء البشرية التى يحتاجها المرضى.

جاءت الخطوة بعد عشر سنوات من الرفض الحكومى بسبب الإعتبارات الأخلاقية التى كانت تراها حائلًا أمام استكمال التجارب وتطويرها، والتى كانت تخشي أن تؤدى التجارب فى مرحلة متقدمة لوجود هجين بشري حيوانى.

على الجانب الأخر من العالم، نشرت مجلة الإيكونوميست تقريرًا عن معركة الإجهاض فى دولة مالطا، التى اعتبرها البابا بيوس الحادى عشر واحة الكاثوليكية فى قلب أوروبا، كان ذلك فى ثلاثينيات القرن الماضى، بينما اليوم تبدل الحال وأقرت مالطا بعد استفتاء أجرته الحق فى الطلاق، وأصبحت أكثر الدول الأوروبية التى يوجد بها مثليين جنسيًا وتسمح لهم بالحق فى الزواج.

رغم كل هذه التغييرات بقيت مسألة الحق فى الإجهاض أمرًا يرفضه غالبية المجتمع المالطى ويجرمه القانون تحت أى ظرف ويعاقب عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات كحد أقصى.

أغلب النساء المالطيات يذهبن لدول أوروبية أخرى لإجراء عمليات للإجهاض، وأخريات يذهبن لعيادات غير مشروعة لإجراء العملية، أو ينتظرن الحصول على حبوب تسهل عملية الإجهاض.

تلكما قصتان مختلفتان تحكيان رواية التغيير فى كل مجتمع، وتظهران مواقف المجتمعات إزاء القضايا الخلافية المحملة بأعباء أخلاقية ودينية فى مقابل تغير التوجهات الفردية وتقلب الأمزجة، وارتفاع مستوى التطلعات.

فى كل مشكلة تبحث عن حل يمكن النظر إلى أربعة أبعاد، الأول أن المشكلة تنبع من حاجة حقيقية، الثانى أن درجة تعقد الحلول المقدمة تعكس درجة التقدم الذى يشهده العالم ككل وليس المجتمع فى حد ذاته، الثالث طبيعة النسق الثقافى الذى يتم فيه تناول المشكلة، وأخيرًا وهو الأهم ان ثقافة المنع وتغييب المواجهة العقلانية ستفتح أبوابًا خلفية للإلتفاف بكل ما يحمله ذلك من درجة مخاطرة عالية.

فى اليابان هناك حاجة حقيقية لمواجهة النقص فى الأعضاء البشرية اللازمة للمرضى، وتحتاج إلى حل فى ضوء تراجع عدد المتبرعين المؤكد، والثقافة اليابانية مزيج من القيم الأسيوية والقيم الغربية الخاصة بالديمقراطية وقيم الحوار، ورغم أن الدستور اليابانى ينص على علمانية الدولة، لكن الدين ومؤسساته حاضرة فى المجتمع اليابانى أكثر مما كان الحال عليه قبل الحرب العالمية الثانية، ولم يكن الدستور حينها قد حسم مسألة العلمانية كما حدث بعد الهزيمة.

فضلُا عن أن الثقافة الأسيوية بشكل عام لا تتخذ موقفًا معاديًا من الحيوان، وهذا البعد يتضح إذا تخيلنا القضية طرحت للنقاش فى بلدنا أو فى الوطن العربى. سيثير الأمر اشمئزازًا سيغلق أى محاولة للنقاش.

الحال كذلك فى المجتمع المالطى هناك حاجة حقيقية لوضع إطار قانونى لمواجهة النسب المرتفعة التى تلجأ لوسائل غير قانونية والأهم غير صحية لإجراء عمليات الإجهاض، لكن المجتمع الذى سمح بحقوق المثليين لازالت القيم الدينية الكاثوليكية من جهة والإعتبارات الإجتماعية من جهة أخرى تمنع فتح باب النقاش حول المسألة، رغم أن استطلاعات الرأى تشير إلى تراجع نسبة الرافضين للإجهاض إلى 60%.

المجتمع اليابانى تصالح مع حاجته واعترف بها ومن ثم نجح فى وضع يده على طريقة للحل كان يرفضها فى السابق، وهو حل قد ينجح وقد يفشل، ليست تلك القضية.

يقولون أن التغيير سنة الحياة، إذا لم تذهب إليه، سيأتى عليك، وتلك قضية ناقشها الفلاسفة منذ الإغريق حتى اليوم، والدرس المستخلص أن التغيير يفرض نفسه، ببساطة لأن الحاجة البشرية تتفاقم مع الزمن وستفرض نفسها.

فى مصر سمع كل مواطن من المهد إلى اللحد أن المصريين شعب متدين بالفطرة، والحقيقة أن الجميع سمع لكن لا أحد شاهد ورأى، كلنا “شاهد مشافش حاجة”.

لدينا مجموعات من دعاة الماضى يعتبرون أن حال أمتنا المصرية قبل قرن من الزمان كانت أفضل من حيث مستوى الدين والاخلاق، ولكن إذا عدت قرنًا من الزمان وجدت الإمام محمد عبده عائدًا من أوروبا يخبر الأمة أنه قد وجد اسلامًا بلا مسلمين، ووجد لدينا مسلمين بلا اسلام.

أعتقد أن السؤال الحقيقي الذى يجب أن يسأل هو أى نوع من الدين يتدين به المصريون؟

الدين ينقسم إلى شقين، الأول خاص بالعبادات بما تشمله من طقوس وشعائر كالصلاة والحج والصوم ، والأخر قسم خاص بالمعاملات التى تقوم على الثقة والأمانة والصدق والمسالمة وغيرها من القيم الانسانية.

لدينا أكبر عدد من المساجد والكنائس، والجميع تقريبًا يصوم سواء كان مسلمًا أو مسيحيًا، وأكبر نسبة من الحجاج المسلمين تأتى من مصر، بل إن لدينا من حج مرتين وثلاثة، ولا أبالغ إذا قلت أن لدينا من يحج أو يعتمر كل عام.

ليس هذا وفقط، فلدينا أكبر نسبة من المتحرشين، وأكبر نسبة طلاق بين المتزوجين، لدينا الفقر لدينا المرض، لدينا السوق السوداء، لدينا نسب مرتفعة من سرقة الأعضاء البشرية، ولدينا نسب عالية من الإجهاض فى عيادات بير السلم، لدينا أكبر نسبة من ختان الإناث بين العرب والمسلمين، ولدينا نسب مرتفعة من زواج القاصرات.

أصبح الدين كما يقول “أبوالعلاء المعري” ( قد أصبح الدين مضمحلًا وغيرت آيه الدهور، فلا زكاة ولا صيام ولا صلاة ولا طهور).

لا نهدف لحصر أسباب أمراضنا المجتمعية، لكن يمكن القياس على الحالتين اليابانية والمالطية واستنتاج الأسباب.

مجتمعنا كالنعامة، فلدينا حاجات حقيقية ولا نصارح أنفسنا بها، وفى الحقيقة لا نحب من يصارحنا بها، فكلنا ملائكة.

مجتمعنا يعادى التغيير بمنطق الإستقرار، وهو فى الحقيقة منطق الوصاية.

انظر لقضية التبرع بالأعضاء البشرية لدينا ، ستجد ثقافة الموت تطل برأسها حين تسمع من يطالب الناس أن يتركوا مرضاهم فى مواجهة الموت فهو القضاء والقدر، هل نتصور نقاشًا ثقافيًا فى مجتمعنا حول حدود سلطة الفرد على الجسد دون فرض وصاية مسبقة ؟

كان سؤال القومية العربية الحاضر دائمًا لماذا تخلفنا وتقدم الأخرون، أو لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟

أعتقد أن جزءًا كبيرًا من الإجابة فى الدرس المستخلص من المثالين المذكورين، فى منهجية مواجهة المشكلات، فالحلول أمامنا سنجدها حين تتوافر إرادة مجتمعية متصارحة مع نفسها، فكما يُقال “لن نخترع العجلة”.

ولا ننسى أنه كان لدينا من يتفاخر بالإستقرار الذى تحقق في المجتمع، فإذا برياح التغيير تكشف عن حجم الكوارث الإجتماعية التى تراكمت تحت رماد هذا الإستقرار المزعوم.

إن مجتمعًا لا يؤمن بضرورة التغيير ويجاهد فى مدارة عيوبه، هو كمن كان يحارب طواحين الهواء، ورغم ذلك سيأتيه التغيير.

وفى السياسة عادة ما يقولون إذا أردت السلام فعليك بالحرب، وبالمثل أقول إذا أردنا الإستقرار الحقيقي والموضوعى فعلينا بالتغيير.

يتبع..

 

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى