مقالات

مآلات النظام العالمي عقب جائحة كورونا

بقلم  د.ثائر خالد العقاد – المركز الديمقراطي العربي

 

تكثر التحليلات والدراسات الاستشرافية لمسار النظام العالمي ما بعد جائحة كورنا، والتي أحدثت اهتزازات وارتدادات وتصدعات عميقة في جدار النظام الصحي العالمي، حيث لم تعد تقتصر تأثيرات الجائحة العالمية على المجال الصحي للدول بل سوف يكون لها دور بارز وكبير في تحديد ورسم ملامح النظام الدولي الجديد سياسياً وإقتصادياً.

تبدلت تركيبة النظام الذي تم تشكيله عقب الحرب العالمية الثانية بموجب تأسيس منظمة الأمم المتحدة ( 1945) والذي اتصف بنظام ثنائي القطبية وتزعمته كلاً من ( الولايات المتحدة الأمريكية) ( الإتحاد السوفيتي) مع وجود قوي وفعال للدول الأخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن ( الصين، بريطانيا، فرنسا)، وما صاحب العالم بعد ذلك من حروب بالوكالة ما بين الكتلة الغربية التي تزعمتها أمريكا والكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي، والحرب الباردة الدائرة بينهم خلال تلك العقود إلى نهاية عقد الثمانينات وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وبرز بعد ذلك ما يعرف بنظام القطب الواحد والذي تزعمته الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث أصبحت راسم إيقاع السياسات العالمية، وأضحت عاصمتها واشنطن مطبخ الدول ومهندسة الصفقات العالمية، والمتحكمة في القرارات الدولية سلماً وحرباً وظهرت تجليات ذلك في التسويات والتكتلات وفي حروب يوغسلافيا، ومن ثم إفغانستان والعراق.

لقد سادت خلال حقبة التسعينات والألفية الجديدة مبادئ وأفكار وسياسات أمريكا، وتعززت مفاهيم الليبرالية والعولمة الاقتصادية والرأسمالية، وتوارت عن الأنظار الأفكار الاشتراكية، وخفت النجم السوفيتي وأنطوى في إطار الاتحاد الروسي الذي عمل على إعادة ترميم نفسه بعد الانهيار الكبير سياسياً وجغرافياً من خلال استقلال الدول المنطوية تحت اللواء السوفيتي.

شكلت هجمات 11 سبتمبر 2001 محطة رئيسة في فقدان الإدارة الأمريكية لتوزانها الاستيراتيجي والاقتصادي والقيمي الذي رسمته لنفسها، فقد انقادت خلف حروب طويلة ومرهقة في أفغانستان والعراق وتركت العنان لآلتها الحربية للفتك بالشعوب وتقويض مصالح  الدول ، مما سمح لروسيا بإعادة تموضعها السياسي وسطوع النجم السوفيتي العسكري، وبروز العملاق الصيني اقتصادياً وتكنولوجياً وتعميق روابطها الاستراتيجية مع دول العالم من خلال ما يعرف بطرق الحرير الجديدة والتي تهدف لربط الصين بالعالم من خلال استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية وبناء مرافئ وطرقات وسكك حديدية ومناطق صناعية ، كل تلك التحديات جعلت أمريكا تخوض حرباً إقتصادية ضد الصين، وتعززت تلك الحرب في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلال فرض رسوم جمركية على البضائع الصينية، وشن حظر على الشركات الصينية التقنية، مثل شركة هواوي.

عمق الانهيار الأخلاقي الذي مارسته الإدارة الترامبية الأمريكية خلال السنوات الماضية من تراجع وانحسار دور أمريكا، حيث طغى الجانب المادي على الاعتبارات والمصالح الاستراتيجية، وفقدت أمريكيا تحالفاتها المتينة ونفوذها السياسي والعسكري وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وأصبحت الأمور تقاس بالمقياس الترامبي وفق موازين الربح فقط.

برهنت جائحة كورونا عن هشاشة وتردي المجتمعات الأوروبية والأمريكية ذات النزعة الرأسمالية بعد أعمال القرصنة التي قامت بها التشيك ضد سفينة طبية قادمة من الصين لإيطاليا، وسرقة باخرة محملة بالكحول الطبية قادمة لتونس من قبل إيطاليين،علاوة على النكران والتجاهل الأوروبي لصربيا،والتذمر الفرنسي من تعاطي بريطانيا مع خطر كورونا وفشل وعجز مؤسسات الاتحاد الأوروبي من التنسيق المشترك للتصدي للجائحة مما أفقد الاتحاد قدرته على المواصلة كمؤسسة جامعة للدول الأوروبية بعد تعالي الأصوات المطالبة بالانكفاء القومي والتصدع الذي حصل بعد الانسحاب البريطاني ، كما شهدت أمريكا حجم  كبير من الفوضى والإقبال بكثرة على شراء السلاح من قبل المواطنين ،كلها مؤشرات على مرحلة خطيرة قد تشهد تفكك الاتحاد الأوروبي وتراجع قوة الولايات المتحدة الأمريكية بعد غياب مبدأ التضامن الجماعي، وفي المقابل سطع نجم الدول ذات النزعة الشيوعية بعد مساعدات الصين وروسيا لإيطاليا، وكذلك ما قامت به كوبا، فمن الواضح سقوط زيف ووهم الاتحادات الرأسمالية القائمة على النفعية والمصلحية دون النظر للقيم الفضلى المهمة لحياة وصحة الإنسان.

لا يمكن القطع بمآلات النظام العالمي المشكل عقب جائحة كورونا وموازين قوته ومساراته التفاعلية في رسم الخريطة العالمية، ولكن وفق المطعيات الحالية المتوافرة وفي ظل الحرب الكبيرة التي تشنها الدول ضد تفشي جائحة كورونا التي حصدت لحتى الآن عشرات آلاف الوفيات ومئات الآلاف من الإصابات، وأضحت أمريكا في مقدمة الدول المتضررة من هذا الفيروس الذي ولد وظهر بدايةً في ووهان الصينية، وبغض النظرعن محاولة معرفة التفسير العلمي  لظهوره، والاختلافات العميقة حول أسباب الفيروس سواء كانت أسباباً بيولوجية أم غيرها.

حيث يفيد المعطى الحالي عالمياً أن هذه الجائحة سوف تشكل نظاماً عالمياً جديداً، بحيث يتراجع تأثير وحضور الدول، وتتجه نحو الانكفاء الذاتي ونصبح أمام عالم منغلق وحبيس جغرافيته، عالم أقل نمواً وتواصلاً، وتفقد من خلاله الكيانات الكبيرة تأثيرها وحضورها في ظل محاولتها لترميم أوضاعها الاقتصادية المنهارة بفعل كساد أسواقها، حيث سيكون بمقدور الصين التعافى سريعاً وبسط نفوذها الاقتصادي على العالم وفرض واقعها الجديد عبر الجسور الصحية التي مدتها للعالم ، ولن تسطيع أمريكا أن تبقى سيدة وحيدة متربعة على عرش العالم سياسياً، بعد الترنح الاقتصادي وضخ  أكبر حزمة مساعدات اقتصادية في تاريخها والتي تقدر بـ 2.2 تريليون دولار لمساعدة الأفراد والشركات في مواجهة التباطؤ الاقتصادي الناتج عن تفشي فيروس كورونا.

مما لا شك فيه أن ما بعد كورونا لن يكون كما قبله، وسوف يرشح نظاماً عالمياً جديداً، تغيب فيه الغطرسة السياسية الأمريكية، هو عالم متعدد الأقطاب، لا همينة ولا نفوذ، عالم يولي القيم الإنسانية وينشد الحماية الصحية والبيئية للبشرية قاطبة.

4.3/5 - (3 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى