مقالات

للشعر فلسفة في زمن الكورونا

د.غيثاء علي قادرة – المركز الديمقراطي العربي

لا ينفك البحث عن جمالية الانعتاق والتخطي وسبلهما يتَّقد, خلاصاً واستنارة, وإحساساً بالحياة  في زمن كورونا  , الزمن الأشبه بسابقيه ولاحقيه ربما ..

هي ذي الحياة

يفتنُّ فيها المرء , في حبِّها يُعَذَّبُ ..

يالقلب في مساءاتها يختال.. يحلم,,

و  عند شروق الشمس ..تراه يؤبَّنُ

ويُهْزَمُ

ذا الشعر ثوب نرتديه من دائها…

نتزيَّا به ..كوكب  يُحقَّق لنفسنا المأمَن

ماللزمن إن لم يقتل الشعرُ وباءه؟

إن لم يمحُ فيروساً…أحلَّ بنا المِحَن؟

أبواب الشعر في زمن كورونا  مشرَّعة على الخيال , فهو لايني ينطلق هاربا في مفازات الصبر, في كهوف العِبَر, يبحث عن الربيع في عزِّ البرد, وعن الحياة في غمرة الموت.

في الشعر يبني الخيالُ  فيروزَه, ويغوصُ سابحاً على سرج خيوله , عابراً جسور الغيم الأسود إلى سماوات لاحدَّ لصفائها,فأرضه الخضراء خصبٌ ، تشاكس الجبال بهدوئها  الواثق ببقائه, بأنوثتها المتهادية السَّامقة أمام عنفوان الطبيعة, تغامر فتفتح ذراعيها لتشرب من بحر الشهداء خمراً لتصطلي , وتورق من بعدها الأنهار .

في زمن الوباء للشعر نكهته ,يمنحنا الخيال فيه فرصة, نتأمّل فيها السَّحاب يدنو منَّا رويداً رويداً , ويستلُّنا بهدأته المعتادة , يطير بنا  في عوالمَ من جمال ..في ربوع  وردة حمراء بيد عاشق يقدِّمها لقمره الفريد , وعيناه تتأمَّلان عينيه , تتهاتفان متى اللقاء, ونبع رقراق من عذب الوصال يبدِّد سواد ماحلَّ من وباء.

يُلاطِفُ الشعر بتؤدة وهدوء نفوسنا , فترانا نقف متحدِّين  اللحظة الراهنة التي تتوالى فيها صور المرض,والموت , والخراب  .ويُطلقُ الحجر لحروفنا المخفِيَّة العنان , فتخرج لتعيث على الصفحات  أملاً, وينثر في نفوس من يخط ومن يقرأ ألوان النصر .

يرسم الشعر إيماننا بالقدرة على صنع مستقبل خال من فساد اللَّحظة , من استلابات المرارة, ومن خيانة المكان والزمان .

لم يتوقف الشعر يوماً؛ فوظيفته  أن يستبقي الأمل، ويغازل الأحلام، و يوازي في صورته  صورَ الموت والتلاشي التي نراها بشكل يومي على صفحات التِّلفاز, وتثير بعض الفزع و الأسى قبل أن تلجَ دائرتها النمطية فتغدو مشهداً مكروراً,مألوفا,اعتادته العيون , ولم يعد يثير فينا ماكان يثير.

الشعر لم يصب بالوباء, كما حلَّ بالأجساد , فمازال واحة النفوس , تستظل بفيئها , وعريشة من أمل .  لكن عجزه أحيانا وقصوره عن بلوغ ماينبغي  ليسا إلا إشارة إنسانية أكثر رهافة وصدقا لوضعية الإنسان  الذي ذكَّرته الأوبئة بأن غروره بعلمه و بتفوقه التكنولوجي ما زال بعيدا عن المصداقية.

وفي الشعر صور حادة وباترة وقاطعة وممتلئة  بمافي الواقع من فساد, لكنه  يبقى منحازًا للإنسانية، في لحظات الفناء التي تبتلع كل إيقاع يأمل في مناطحتها، فهو يسجل شهادته لمن يمكنه أن يلتقط أنفاسه وسط ضجيج القتل والسفك والخيانة.

. منذ قرون والشعر يسقط في صفحات التاريخ صورالموت ويستعير للأوبئة أردية المتغطرسين الجبابرة ,يستلون سيفهم ويهيمون بالرؤوس إسقاطاً  , لم يتوقف الشعر يوماً,ولم يؤرِّخ, إنما صوَّر واستشرف .

لقد  ألهم الوباء بعض الشعراء والكتّاب , وليس خافياً، أن أجمل كتابات شكسبير كانت أثناء تفشّي وباء الطاعون في نهاية القرن السادس عشر , الذي أودى بحياة عددٍ من أفراد أسرته.

ومن أشهر القصائد التي كان الوباء موضوعها قصيدة “الكوليرا” للشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة، التي تستحضرفيها صوراً حية لعربات تحمل جثثا, وللصمت الذي خيّم على مصر، وقد عُدَّت القصيدة بداية “الشعر الحر, وفيها  تقول:

في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ

الصمتُ مريرْ

لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ

حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ

الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ

الميّتُ من سيؤبّنُهُ لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ

أما الشاعر  ابن الوردي الذي كان في حلب فقال قبل وفاته بيومين , وكان قد وصل الطاعون عام 1349 إلى هناك، وظل يفتك بالمدينة إلى أن أسفر عن موت حوالي ألف شخص كل يوم، ووصف حاله في أبيات ، قائلا:

ولستُ أخافُ طاعوناً كغيري …  فما هوَ غيرُ إحدى الحسنيينِ

فإنْ متُّ استرحتُ من الأعادي….  وإنْ عشتُ اشتفتْ أذني وعيني

وسمى  المتنبي قصيدته عن الحمى  “زائرة الليل” ، وصف  فيها المرض ومقاومته وسعيه لتحقيق آماله، فقال:

وزائِرَتــــي كـــــــــــأنَّ بِها حَياءً……  فَليسَ تَزورُ إلاّ في الظَلامِ

بَذلتُ لها المَطارِفَ والحـــــشايا ……. فعافَتها وباتَت في عِظامي

يَضيقُ الجلدُ عن نفسي وعنها …….    فتوسِعُهُ بأنــــواعِ الـــسقامِ

عندما يكشّر الوباء عن أنيابه، متربصا بالحياة وفريسته من البشر… يقف أمامه الفن في محاولة لكسر شوكته ومقاومة وحشيته و توثيق خرابه… حتى تعي الأجيال القادمة أن الحياة تقوم على ثنائية يتصارع طرفاها باستمرار , هي الحياة والموت , ولاشيء في الحياة يدوم, ويبقى الشعور بالحياة هو الأسمى.

قلبي  ياروضة  الحناء..

ياأوتار الضياء الخافت في ظل المساء

كيف أعزف قصائدي..

وقد محاها الأنين؟

وحقول الدمعات تمتدُّ

تزرع البيدر وروداً …من فصل الريح

حمَّى تنتشر وتبيح

عصر النور الواشي بالظلم

والقلب ذبيح..

وفروع الزهر على الغصن الخاوي تتلوى

…بالغضب  تميل

أمنُ اللحظات  يسيل.. فتعيث بنا الآمال

وتراني أبحث عني..في صحارى المطر

أركب الأسفار ..أرسو

على رمشي الذبيح ….

أستمرئ الحياة ..

قلبي ياروضة الأمان …

ذا السوسن ..يرتجف مطلاً

يستعير من الصبح ..رداء..

وبعض شمس..وغيض غيمة

ويخضرُّ النداء

لنموت ونبعث من جديد

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى