لماذا يجب دراسة اللغة أنثروبولوجياً كوسيط غير محايد؟
اعداد : محمد نجاد – باحث في الإعلام والدراسات الثقافية
- المركز الديمقراطي العربي
الدراسة الانثروبولوجية تحتم على الدراسين التزام وجودي مفاده هو وجود علاقة – متخيلة – تربط بين اللغة والفكر، وتفترض أن اللغة تتضمن على “خطاب” يشير لعلاقة “قوة” ضمنية، مما يستلزم على علماء الإنسان أو “الأنثروبولوجيين” بدراسة اللغة كوسيط غير محايد. تم طرح هذا النقاش من قبل الأنثروبولوجي ألساندرو دورانتي[1]، وأما الإفتراض الأساسي بعدم حيادية اللغة، فيرجع إلى الفيلسوف ميخائيل باختين[2].
يذكر دورانتي أن الأنثروبولوجيا اللغوية هي فرع من فروع الأنثروبولوجيا أو “علم الإنسان”. وقد ظهرت الدراسات الأنثروبولوجية الأولى أواخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة، مثل دراسة فرانز بواس، التي سعت إلى توثيق لغات السكان الأصليين لأمريكا الشمالية “الهنود الحمر”[3]. وتهتم الأنثروبولوجيا اللغوية بدراسة تأثير اللغة على الحياة الاجتماعية لجماعة معينة، في مجال جغرافي محدد، وفي الحالة الطبيعية، حيث يصعب فهم اللغة خارج الميدان[4].
لذلك، تسعى هذه الورقة لتحليل نقدي لأثنين من أهم النقاشات المتعلقة بموضوع “الإلتزام الوجودي”، وهي علاقة اللغة بـ”الفكر” و علاقة اللغة بـ”القوة”، مع طرح أمثلة لتوضيح المعنى، وبيان موقفي مدعوماً بالأسباب. وكلاهما نقاشان يسعان للإجابة على السؤال الرئيسي: لماذا يجب دراسة اللغة انثروبولوجياً كوسيط غير محايد؟
علاقة اللغة بـ “الفكر”
“النسبية اللغوية”، هي ما تحدد علاقة اللغة بالفكر. وتقوم هذه العلاقة على فرضية أن عملية التفكير تتم من خلال اللغة، وهو ما يعني أن اللغة إما “تحدد” أو حتى “تؤثر” في منظور التفكير والإدراك[5]. بمعنى، أن الكلمات ونظم القواعد الموجودة في العقل ترسم حدود ما يمكن أن يفكر فيه الشخص. فعلى سبيل المثال، يميل المتحدثين بلغات يوجد بها مصطلحات المذكر والمؤنث الى تصنيف الأشياء على أساس جندري، بحسب دورانتي[6].
وبالتفكير في اللغة العربية، مثلاً، تميل المصطلحات ونظم القواعد إلى تصنيف الزمن بحسب مفهوم خطي، متحرك إلى الأمام، له ثلاثة أزمنة عامة – الماضي والمضارع والمستقبل – وهو ما انعكس على طريقة تفكير المتحدثون، فمن الصعب التفكير خارج هذا الإطار المحدد. وهذا ما يؤكد على صحة ادعاءات النسبية اللغوية المذكورة آنفاً. لكن، ماذا لو استبدلنا هذه المنظومة اللغوية التي تحصر طريقة التفكير في الخط الزمني، بمنظومة لغوية بديلة تقوم على مفهوم أخر للزمن.
يطرح اللغوي تمّام حسان دلالة زمنية مختلفة للأفعال في اللغة يفصل فيها بين العلاقة التقليدية للفعل بالزمن، مقترحاً تقسيم الدلالة الزمنية بين أفعال حدثت وانتهت وأخرى لم تحدث بعد[7]. وباعتقادي أن هذه الفهم يعتبر مهم، وذلك لتقديمة إطار جديد يسمح بالتفكير في الفعل من منظور مختلف. بالإضافة إلى أنه فهم دقيق، كونه يركز على “كينونة” الفعل بوصفة تحقق أم لا، وليس على “متى” تحقق/يتحقق/سيتم تحقيقه.
ومع أن المنظرين يتفقون على قوة العلاقة بين اللغة والفكر، لأن اللغة والفكر يؤثران في بعضهما ويتأثران ببعض، كما ناقش علاء الجبالي[8]، إلا أن هذا العلاقة لا تخلو أيضاً من نقاشات حول أيهما يصوغ الآخر. وذلك لأن عملية النسبية اللغوية تبدأ من المراحل الأولى لحياة مستخدمي اللغة كالأطفال يبدأون باكتساب اللغة، وتقليدها، وتحليلها كقواعد ذهنية، غير مكتوبة، وغير مدركة بل استنباطية قابلة لإعادة الصياغة والتعديل من حين لآخر بحسب السياق[9]. وهو ما يؤكد على ما أشار إليه ويلهيلم همبولت بأن التحيز اللغوي حتمي، لاستحالة حصر عقولنا لجميع مصطلحات وقواعد جميع لغات العالم[10].
إلا أنني أتفق على أن اللغة تبقى في النهاية دالة الفكر التي نستطيع من خلالها أن ننقل أفكارنا، ونعبر عن رغباتنا وأحاسيسنا، ونحاول اكتشاف ما يدور في خلد الآخرين من حولنا، ونحفظ بها معارفنا، ونوثق بها تاريخنا[11].
علاقة اللغة بـ”القوة”
“الخطاب”، هو ما يحدد علاقة اللغة بالقوة. ويُشار به هنا إلى مفهوم ميشيل فوكو للخطاب كأسلوب التواصل الذي يسعى لفرض قوة ضمنية في السياق اللغوي، تهدف للسيطرة والهيمنة الاجتماعية[12]. ويوجد بعدين لعلاقة اللغة بالقوة، هما: القوة “في” الخطاب، أو الممارسة الفعلية للقوة في العلاقات. والقوة “وراء” الخطاب، حيث تتشكل أنواع معينة من الخطاب في النظام الاجتماعي كأثر خفي للسلطة، كما حاجج نورمان فيركلف [13].
ويهدف تحليل الخطاب إلى فضح التحيز في اللغة لعقلنة المجتمع، كما أدعى ماكس فايبر ‘Max Weber’[14]، وناقش كارل ماركس من قبله. أما يورجن هابرماس، فقد قام بإعادة توجيه دراسات الخطاب إلى التركيز على كشف مضامين خطاب الأنظمة والسلطة التي تهدد القيم الاجتماعية والبنية التحتية للتواصل، لتحييد الخطاب العام وتهدئة مجال العمل الاجتماعي، فيما أسماه نظرية “الفعل الاتصالي” [15]. لذلك، أعتقد أن هذا المفهوم الجديد للخطاب يساعد الأنثروبولوجيين على تسليط الضوء على الأقليات في المجتمع التي يهيمن عليها خطاب السلطة ولا يسمح لها بالظهور. للسعي لخلق مجال عام يسمح بوجود التعددية الثقافية[16]، وهو البديل الأكاديمي والإجتماعي للخطاب.
أخيراً، باستطاعة الأنثروبولوجيين تطبيق الإلتزام الوجودي عند دراسة اللغة من خلال التركيز على كلاً من علاقة اللغة بـ”الفكر” و علاقة اللغة بـ”القوة”، وكلاهما نقاشان يسعان لتحليل اللغة باعتبارها وسيط غير محايد، كما تم نقاشة سابقاً.
المراجع العربية:
الجبالي، علاء. لغة الطفل العربي: دراسة في اكتساب اللغة وتطورها (القاهرة، مكتبة الخانجي، 2015)، 9 – 31.
الجبالي، علاء. ماهية اللغة [محاضرة شفهية] (الدوحة، معهد الدوحة للدراسات العليا، 8 اكتوبر، 2018).
تمام، حسان. اللغة العربية معناها ومبناها. (الدار البيضاء، دار الثقافة، 2006).
References:
Bakhtin, Mikhail, “The Dialogic Imagination, ” trans. Emerson, Caryl. and Holquist, Michael. (Austin, University of Texas Press, 1981).
Boas, Franz, “The Mind of Primitive Man.” The Journal of American Folklore 14, no. 52 (1901): 1-11. doi:10.2307/533099.
Duranti, Alessandro, “Linguistic Anthropology: The Study of Language as a Non-neutral Medium,” In The Cambridge Handbook of Sociolinguistics, ed. Mesthrie, Rajend. (Cambridge: Cambridge University Press, 2011), 28-46.
Fairclough, Norman. “Discourse and Power,” In Language and Power, (New York, Longman, 1989), 73 -99.
Foucault, Michel, The Archeology of Knowledge, trans. Smith. A. M. Sheridan, (London and New York, Routledge, 2002).
Habermas, Jürgen. The Theory of Communicative Action: Lifeworld and System: a Critique of Functionalist Reason, trans. McCarthy, Thomas. (Boston, Beacon Press, 1987).
Judt, Tony, and Lacorne, Denis. eds. Language, Nation and State: Identity Politics in a Multilingual Age. (New York, Palgrave McMillan, 2004).
Weber, Max. “The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism,” trans. T. Parsons. (New York, Charles Scribner’s Sons., 1958).
Whorf, Benjamin. Lee, ” The Relation of Habitual Thought and Behavior to Language.” In ETC: A Review of General Semantics, 1, no. 4 (1944): 197-215. http://www.jstor.org/stable/42581315.
[1] Duranti, Alessandro, “Linguistic Anthropology: The Study of Language as a Non-neutral Medium,” In The Cambridge Handbook of Sociolinguistics, ed. Mesthrie, Rajend. (Cambridge: Cambridge University Press, 2011).
[2] Bakhtin, Mikhail, “The Dialogic Imagination, ” trans. Emerson, Caryl. and Holquist, Michael. (Austin, University of Texas Press, 1981), 274.
[3] Boas, Franz, “The Mind of Primitive Man.” The Journal of American Folklore 14, no. 52 (1901): 1-11. doi:10.2307/533099.
[4] Duranti, 29.
[5] Whorf, Benjamin. Lee, ” The Relation of Habitual Thought and Behavior to Language.” In ETC: A Review of General Semantics, 1, no. 4 (1944): 197-215. http://www.jstor.org/stable/42581315.
[6] Duranti, Alessandro, “Linguistic Anthropology: The Study of Language as a Non-neutral Medium,” In The Cambridge Handbook of Sociolinguistics, ed. Mesthrie, Rajend. (Cambridge: Cambridge University Press, 2011).
[7] تمام، حسان. اللغة العربية معناها ومبناها. (الدار البيضاء، دار الثقافة، 2006)، 247.
[8] الجبالي، علاء. لغة الطفل العربي: دراسة في اكتساب اللغة وتطورها (القاهرة، مكتبة الخانجي، 2015)، 24.
[9] الجبالي، علاء. ماهية اللغة [محاضرة شفهية] (الدوحة، معهد الدوحة للدراسات العليا، 8 اكتوبر، 2018).
[10] Duranti, 31.
[11] الجبالي، السابق.
[12] Foucault, Michel, The Archeology of Knowledge, trans. Smith. A. M. Sheridan, (London and New York, Routledge, 2002).
[13] Fairclough, Norman. “Discourse and Power,” In Language and Power, (New York, Longman, 1989), 74 – 78.
[14] Weber, Max. “The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism,” trans. T. Parsons. (New York, Charles Scribner’s Sons., 1958).
[15] Habermas, Jürgen. The Theory of Communicative Action: Lifeworld and System: a Critique of Functionalist Reason, trans. McCarthy, Thomas. (Boston, Beacon Press, 1987).
[16] Judt, Tony, and Lacorne, Denis. eds. Language, Nation and State: Identity Politics in a Multilingual Age. (New York, Palgrave McMillan, 2004) 83.