الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

تونس بين ستاتيكو سياسي داخلي وجيوبوليتيكا مُربكة توازنات الداخل وتقاطعات الخارج

بقلم : محمد العربي العياري – مركز الدراسات المتوسطية والدولية/ تونس

  • المركز الديمقراطي العربي

 

مقدمة:

لاتزال الساحة السياسية في تونس تنتظر مآلات العملية السياسية لمرحلة ما بعد 25 جويلية 2021، حيث انحصرت خطابات الفاعلين السياسيين بين مؤيد ومعارض لإجراءات رئيس الجمهورية، وبين قراءات تُراوح بين التأويل القانوني والتحليل السياسي. في حين يواصل رئيس الدولة المحافظة على نفس “الستاتيكو” السياسي الذي فرض حالة من الترقب في انتظار إعادة تشغيل العملية السياسية والخروج من نقطة “الأوميغا”.

في موازاة ذلك، لازال رئيس الدولة بعيدا كل البعد على فتح قنوات التواصل والحوار مع الفاعلين السياسيين وممثلي المجتمع المدني، عدى بعض اللقاءات مع ممثلي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الهيئة الوطنية للمحامين والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية. لم تتجاوز هذه اللقاءات حدود التذكير بملفات الفساد وتعفُّن العملية السياسية وسحب المسؤولية في ذلك على كامل الطيف السياسي. بهذه الصورة، يقف رئيس الجمهورية على نفس مصطبة الرفض والتعنّت دون طرح لبرنامج واضح، أو رؤية سياسية قد تُنهي مرحلة الجمود وتفتح آفاقا لعملية سياسية تستفيد من تراكمات عقد من الانتقال الديمقراطي بإخفاقاته ونجاحاته، وتُمهّد الطريق نحو مرحلة جديدة شكلا ومضمونا. بقراءة أُحادية تُغذّيها بعض الجمل والعبارات المتأرجحة بين العاطفة والسياسة، يُردّد رئيس الدولة مقاربة الشرعية والمشروعية والسيادة وحق الشعب في تقرير مصيره، بحيث تحوّل إلى مسؤول على منظمة تحرير وطني أكثر منه رئيسا لدولة لازالت مؤسساتها الدستورية هشّة وغير مكتملة التأسيس، وتعاني نُخبها وفاعليها السياسيين من صعوبات التماهي مع متطلبات السياسة وإكراهات الواقع. تتكرر هذه الخُطب والعبارات مع كل لقاء لرئيس الدولة مع بعض المسؤولين الأجانب، حيث ينزاح الحديث نحو ترجمة لنبض جزء من الشارع المؤيد لرئيس الدولة، يُساوقه كيل وابل من النقد لبعض الفاعلين السياسيين ورجال الأعمال، هذا دون البحث عن أفق أو مخرج للأزمة المالية والاقتصادية التي تتغذّى من تراكمات سابقة وتعطُّل العملية السياسية، مضافا إلى ذلك إكراهات الدين الخارجي وبلوغ مؤشرات المالية العمومية مستويات تُنذر بالأسوء.

يبحث ممثلي الدول والمنظمات الدولية على نقاط تقاطع بين “مشروع” أو ترتيبات رئيس الدولة لمرحلة ما بعد 25 جويلية 2021، ومحاور النفوذ التي تمثل نقاط الامتداد المالي والسياسي لهذه الدول أو الهيئات.

يقف رئيس الدولة، ومن خلفه الدولة التونسية أمام خطوط تماس حارقة لا مكان فيها للمناورة التي لا تستند إلى جبهة سياسية داخلية متماسكة وبرؤية سياسية واضحة تردع كل إمكانيات التدخل في الشأن الوطني، حيث أصبحت البلاد أمام جغرافيا سياسية بخرائط لازالت حدودها وإحداثياتها في طور الترسيم.

من هذه الخطوط، نقف على أهم الأطراف الفاعلة في السياسة الداخلية لنفكك ما أمكن من إمكانيات التقاطع وحدود التأثير على الساحة الداخلية.

  • ليبيا- الجزائر- المغرب: بين إرث الماضي المأزوم وإعادة البحث على التموقع

لازالت الساحة السياسية في ليبيا تبحث على مُستقر لها بعد حوالى عقد من الاقتتال الداخلي وصراعات الغلبة والسيطرة على القرار السياسي. تنتشر على الأراضي الليبية عديد القوى الدولية التي تبحث على توسيع نفوذها الإقليمي والحفاظ على مصالحها الاستراتيجية. منذ عملية “فجر الأوديسا” في 2011دخلت ليبيا في نفق مظلم تزحزحت عنه ببطيء وصعوبة بالغين بعد مفاوضات برلين وضغوطات الدول “الكبرى”.

مع تقاسم السلطة والشروع في مفاوضات الحل النهائي حول الانتخابات وغيرها من المسائل التي تهم الداخل الليبي، بقى ملف التواجد الأجنبي على الأراضي الليبية نقطة للمناورة السياسية والتموقع وكسب النفوذ. تُعتبر ليبيا أرضا موعودة بنظر التحالف الاستراتيجي الروسي-التركي، حيث تطلّب مشروع “السيل التركي” تواجدا مكثفا على الأراضي الليبية وحضورا بارزا في المياه القبرصية القريبة من ليبيا وتوفير الدعم المالي والعسكري لجزء من الفاعلين السياسيين. هذا المشروع الذي سوف يغطي كامل أوروبا بالغاز الروسي، سيكون بديلا لمشروع “البحار الخمس” الذي قُبر بفعل الحرب ضد سوريا بل كان من الأسباب الرئيسية لها. لذلك، عملت تركيا على إيجاد موطئ قدم ثابت في ليبيا واستثمرت بسخاء في العملية السياسية. من جانب آخر، تبقى الخاصرة الشمالية للدولة الليبية مسرحا لعمليات جوية وبرية للجيش المصري بدعوى محاربة الإرهاب وتحرير الحدود الجنوبية لمصر من الخطر. تمثّل مصر الجبهة المناوئة للعملية السياسية في ليبيا والرافضة لمسار الانتقال الديمقراطي، وهي الجبهة التي يمثلها مجلس التعاون الخليجي (السعودية، الإمارات، البحرين، عمان، الكويت) لذلك يريد هؤلاء المساهمة في كتابة ورقات العملية السياسية عبر خلق نقاط توتر تُبعد غيرهم من الفاعلين على نقاط تمركز الثروة النفطية والغازية، وتعطيل جزء من مسارات وترتيبات الداخل الليبي في إطار لعبة المناورات والتوسع. أمام هذا الواقع المتحرك، والأحداث التي تأتي تباعا وبصفة مسترسلة، لم تتجاوز العلاقة مع الجار الليبي بعض الزيارات واللقاءات مع رجال اعمال وفاعلين سياسيين دون نتيجة تُذكر أو دور سياسي يحترم عمق العلاقات التاريخية ويأخذ في الاعتبار قدرة السوق الليبية على تعبئة الموارد المالية للدولة التونسية عبر مشاريع إعادة الإعمار، وتنشيط المسالك القديمة للتبادل التجاري. لم تكتفي السياسة الخارجية للدولة التونسية بهذا المستوى من الجمود والارتباك، بل كادت بعض التصريحات أن تفتح واجهة من الصراع بعد الحديث عن تواجد “إرهابيين” تونسيين في معسكرات على الأراضي الليبية. من البديهي ان الواقع السياسي الليبي لازال يتلمّس طريق الحل النهائي، لكن تواجد جبهة غربية (تونس) تعيش حالة من الارتباك السياسي، مع تغلغل جزء من الفاعلين السياسيين الدوليين في عملية تشكيل القرار الوطني، لن يكون بحال من الأحوال في مصلحة الدولة الليبية. أمام هذا الوضع، يبقى التعاطي مع الدولة الليبية سياسيا واقتصاديا في مستوى النقطة صفر، وهي فرصة مهدورة تنضاف إلى سجل الإخفاق الديبلوماسي للدولة التونسية.

أما عن الجزائر التي أغلقت ملف الاحتجاجات الشعبية التي طالبت بتغيير جذري للعملية السياسية وطرد رموزها التقليديين، لازالت تحاول ترجمة الإصلاح السياسي بجملة من المنجزات الاقتصادية والبحث عن أدوار إقليمية ودولية خاصة أمام التمدد الاقتصادي المغربي في جنوب القارة الإفريقية وفق المعادلة المغربية (رابح-رابح) بمعاملات مالية تضاهي العشر مليار دولار وتتوزع على 14 دولة إفريقية حيث تتركز بنسبة 55 % في غرب أفريقيا، وبنسبة 25 % في شمال أفريقيا، و15 % في وسط أفريقيا، وبـ 5 % في جنوب القارة.  هذا التوسع الاقتصادي يضاف إليه اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني وانخراط المملكة المغربية في الحلف السعودي الإماراتي المصري، عجّل بفتح ملفات حارقة بين المغرب والجزائر ليقع توظيفها في عملية كسب نقاط سياسية على مستوى القارة الإفريقية. للإشارة وباقتضاب، تُعتبر مسألة قطع العلاقات بين البلدين نتيجة لصراع تاريخي بعد 58 سنة من صمت المدافع وتعالي أصوات الخلاف السياسي. حيث كانت قضية الصحراء الغربية والتسلل المغربي في مدينة “الدخلة” عبر استثمارات ضخمة ثم التواجد على مقربة من جزيرتى “سبتة ومليلة” مع ما يعنيه تطبيع العلاقات مع تل أبيب من تواجد بحري في البوابة البحرية الغربية الشمالية للمتوسط، كلها مُحفّزات لخلق توترات سياسية لا يمكن التكهن بنتائجها أو تداعياتها على الداخل الجزائري، وعلى كامل الإقليم.

كل هذه العناوين التي تُغذّي الصراع السياسي، ليست سوى ترجمة لمعركة كسر العظام وسد الطريق أما توسع قوة على حساب أخرى. من هذا المدخل، نفهم الحضور الكثيف للجزائر في تونس والزيارات المتكررة للمسؤولين السياسيين. الجزائر التي تتموقع بين غربها الطموح والمنخرط في مشروع توسع اقتصادي ستّرافقه بالضرورة قدرة سياسية وإمكانيات للتأثير، تنزل بثقلها في الساحة التونسية لتمنع انزياح جارها الشرقي نحو قوى أخرى تعتبرها معادية وبالتالي تجد نفسها بين فكّى كمّاشة من جهة إقليم يتوسع اقتصاديا (المغرب) وآخر يعيش واقعا سياسيا متأزّما (سياسيا) مما يستوجب الدفع نحو تبني حل لا يستنسخ التجربة الليبية أو يُحوّل الساحة التونسية إلى قاعة عمليات أو غرفة متقدمة للسياسة الدولية. أمام هذا الواقع، تواجه الدولة التونسية حسابات الجار بعبارات الأخوّة وحسن الجوار دون أن تقرأ ولو سطرا واحدا من أسطر المناورة السياسية واستغلال عامل الجغرافيا وتوازنات الساحة السياسية الإقليمية.

  • قطر- السعودية- الإمارات: جبهة “الصمود والتحدّي” للربيع العربي

تُباشر دولة قطر ترتيب علاقاتها مع القوى الفاعلة في منطقة الخليج العربي، هذه الدولة التي استثمرت بسخاء في ثورات الربيع العربي من تونس إلى مصر وسوريا، انزاحت بوصلة تحالفاتها ردحا من الزمن عن منظمة التعاون الخليجي التي تضم السعودية والإمارات والبحرين والكويت وقطر وسلطنة عمان، وانشغلت بملفات الديمقراطية ومسألة التغيير الديمقراطي. لكنها تعود مجددا إلى الجغرافيا السياسية التقليدية الخليجية مع ما يفرضه ذلك من انضباط لمحور سياسي تقليدي يستثمر في أنظمة لا تتحدث كثيرا عن الديمقراطية ولا تُؤمن إلى حد كبير بالتعددية الحزبية والتداول الانتخابي على السلطة. قطر التي أغلقت –نسبيا- ملف الدعم لأحزاب ومنظمات آمنت بعشرية الانتقال الديمقراطي –كلٌ حسب طاقته وإمكانياته- تعود إلى مجلس التعاون الخليجي بكامل وعيها السياسي وإمكانياتها المالية، مع ترتيبات الإغلاق للملف السوري والليبي والأدوار التي كانت تلعبها الإمارة كاستثمار في محفظة الديمقراطية. لم تُؤمّن قطر لحلفائها السياسيين في تونس فرصا للمناورة والضغط على رئيس الجمهورية للإسراع في إعادة ترتيب المشهد السياسي. قطر التي رفضت في فترة ترؤس هشام المشيشي للحكومة التونسية إعادة جدولة دين تونسي مُستحق لفائدتها، والتي تتالت لقاءات أميرها مع رئيس الجمهورية، يتماهى موقفها من حدث 25 جويلية 2021 –ولو باحتشام واضح-  مع موقف السعودية والإمارات ومصر. هذا الحلف الذي يدفع باتجاه تغيير جذري للخارطة السياسية في تونس عبر إقصاء جزء من الفاعلين السياسيين وترتيب توازنات السلطة على مقاس مصالحها الاستراتيجية. لم تتخلص السعودية والإمارات من إرث الحرب ضد الحوثيين ولازالت تبحث على توريط الطرف الإيراني في معادلات التحدي للمجتمع الدولي في علاقة بالملف النووي. مع تحوّل وجهة الفاعلين الاقتصاديين الدوليين نحو القارة الإفريقية، وتمركز الصراع الدولي في ليبيا بعد تسوية وإن كانت غير مكتملة للملف السوري، يبحث الذراع السياسي لمجلس التعاون الخليجي(السعودية) على موطئ نفوذ وتحكم في جزء من القرار السياسي لدول لازالت تبحث على مُستقر مؤسساتي وسياسي، وتعتبر تونس أهم محطة للاستثمار السياسي خاصة مع احتدام الصراع بين رئيس الدولة ومُجمل الطبقة السياسية التي لا تُناصب العداء للربيع العربي وثورات الشعوب العربية. تداعت السعودية نحو تقديم وعود بدعم تونس ماليا (خلاص جزء من الدين الخارجي التونسي) مع تعهدات بحقيبة استثمارات ضخمة، لن يتزحزح موقفها المبدئي من موجة ثورات الربيع العربي، تفاديا لرياح الديمقراطية التي لا يُمكن السماح لها بأن تهُب على صحراء الربع الخالي. لا يمكن للسعودية أن تترك منصة على خطوط التماس مع ليبيا لمراقبة حدود التوغل والتمدد لقوى فاعلة ومؤثرة في الساحة الدولية، والتي تريد السعودية أن تجد لها نقاط التقاء ولو على حساب ملفات الماضي السياسي. من ذلك، بوادر التقارب بين تركيا والسعودية ومباشرة التفاوض وتبادل الزيارات. أما عن الذراع المالي لمنظمة التعاون الخليجي، فإن دولة الإمارات بدورها لم تتخلف عن الحضور في الساحة التونسية، حيث كان لرئيس مخابراتها “أنور قرقاش” زيارات ولقاءات مع رئيس الدولة. ترتبط دولة الأمارات بعلاقات اقتصادية مع الدولة التونسية قبل ثورة 2011 وخاصة مع مشروع “سما دبى” الذي أُعتبر مشروع القرن في تونس نظرا للإمكانيات المالية الضخمة التي رُصدت له. توقف هذا الشغف بالاستثمار على الأراضي التونسية بعد ثورة 2011. لكن بعد 25 جويلية 2021 أعادت دولة الإمارات فتح قنوات اتصال مع رئيس الدولة، وترجمة حسن النوايا السياسية عبر بعض المساعدات الظبية التي رصُدت لمواجهة فيروس “الكوفيد”. لا يمكن للموقف الإماراتي أن ينزاح عن خيارات المحور السعودي المصري بما يعنيه من “عداء” لموجة الربيع العربي وطبيعة الأنظمة السياسية لمرحلة ما بعد 2011. هذا الرفض وإن نجحت خطوط صدّه في مصر، إلا أنه اصطدم بعوائق متعددة خاصة بعد انتخابات 2014 في تونس. رغم ذلك، تقدمت الإمارات –عبر أذرعها المالية والأمنية- بخطوات هادفة نحو التأثير في مجريات العملية السياسية في تونس. تبحث دولة الإمارات على تدوير فائض مليارات دولاراتها في أسواق واعدة وأهمها السوق الليبية، وربما تبدو الساحة التونسية منصة انطلاق نحو الأراضي الليبية من وجهة نظر حكام الإمارات. لذلك، تبحث هذه الدولة على الاستثمار السياسي في تونس عبر التمركز وراء حائط المساندة لرئيس الدولة فيما قام به من خطوات سياسية.

أمام هذا الإغراء المالي، والقدرات السياسية لدول المحور القطري-السعودي-الإماراتي، يقف رئيس الدولة في هيئة مشروع رجل سياسة يُردّد خطابات الشرعية والمشروعية والسيادة الشعبية، متناسيا أن هذه الدول إنما تبحث على مصالحها المالية وإعادة افتكاك الدور السياسي المُمثّل والمعبّر عن الدول العربية مجتمعة، بعد أن تشظّى هذا الدور تحت وطأة الأحداث المتسارعة للربيع العربي. دون استثمار لممكنات المناورة مع دول لا تستطيع إحصاء مُقدّراتها المالية، وتنظر بعين ثاقبة وطامعة نحو الجزء الشمالي الشرقي لقارة إفريقيا، مع عين ثانية طامحة لاكتساح إفريقيا جنوب الصحراء اقتصاديا، تبقى عيون السياسة التونسية نصف مفتوحة، وذابلة لا تُجيد غير فتح المزيد من جيوب التغلغل والتحكم في القرار السياسي الوطني.

  • الولايات المتحدة الأمريكية- أوروبا: مخطط مارشال جديد بنكهة الانتقال الديمقراطي

لم تتأخر الإدارة الأمريكية عن التعاطي مع حدث 25 جويلية 2021 مباشرة إثر إعلان رئيس الجمهورية عن الإجراءات التي عطّل بمقتضاها العملية السياسية برمتها. تدرجت ردة الفعل من بيانات تؤكد على احترامها للشأن الداخلي التونسي، ثم عبر لقاء صحفي مع رئيس الدولة، وصولا إلى زيارة وفد من الكونغرس الأمريكي لتونس ولقاءه برئيس الجمهورية. تزامنت هذه اللقاءات مع لقاءات للسفير الأمريكي في تونس مع بعض الفاعلين السياسيين. يتسم الموقف الأمريكي من الأحداث بالتنصيص على احترام استقلالية القرار التونسي مع الدعوة إلى العودة إلى المؤسسات الدستورية أهمها البرلمان والحياة الحزبية. تبقى هذه الدعوة رهينة قراءات متعددة تتراوح بين ترك المجال لرئيس الجمهورية لهندسة هذه العودة، وبين العودة لما قبل 25 جويلية 2021. لا يمكن التوقف عند هذه التفصيلات – على أهميتها- حيث تبقى مسألة ترتيب البيت الداخلي شأنا خاصا بالدولة التونسية مع المحافظة على شروط الديمقراطية مع تطعيمها بمخرجات النقد لتجربة عقد من الممارسة. لا يمكن للإدارة الأمريكية التي استثمرت طويلا وبسخاء في الانتقال الديمقراطي وخصوصا في تونس، أن تترك حبل توقف العملية السياسية على غارب الصدفة واللامتوقع. ترتبط الإدارة الأمريكية بعلاقات استراتيجية مع الدولة التونسية. تعود إلى الأذهان الاتفاقية التي بمقتضاها أصبحت تونس عضوا شريكا من خارج دول “الناتو”. هذه الاتفاقية التي رافقتها وثائق تفاهم وُقّعت زمن حكم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والتي لازالت إلى اليوم مُصنفة تحت خانة سري مطلق. أما عن التواجد الأمريكي في القارة الإفريقية، فهو منوط بعهدة “الأفريكوم”: قيادة الجيش الأمريكي في إفريقيا ومقره فرانكفورت. هذا التواجد كان محل سجال منذ زمن ما قبل الثورة التونسية حيث وقع تداول معطى يقول بطلب الولايات المتحدة الأمريكية بنقل مقر القيادة من فرانكفورت إلى تونس. طبعا لا يمكن الجزم بصحة هذه الأخبار من عدمها، رغم أهمية وجود مقر قيادة في إفريقيا بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية تُعاضد الأسطول السادس المنتصب على السواحل الشمالية للدولة التونسية.

مع صعود قيادة سياسية جديدة على رأس الإدارة الأمريكية، اتخذت هذه الإدارة قرارات للانسحاب العسكري من العراق وأفغانستان بعد أشواط مُضنية من المفاوضات على الأراضي القطرية، وإلغاء بعض القيود التي فرضتها إدارة الرئيس “ترامب” على بعض الدول مثل الصين، وإعادة تنشيط التفاوض حول الملف النووي الإيراني. بإعادة توزيع نقاط الفعل السياسي والعسكري في أفغانستان، تذهب بعض التحاليل إلى أن الإدارة الأمريكية تُعيد بذلك استنساخ تجربة الثمانينات زمن الحرب ضد الاتحاد السوفياتي، حيث كانت الأراضي الأفغانية محجّا “للمجاهدين”. بهذه الصورة، تعيد الولايات المتحدة الأمريكية توزيع نقاط تمركز “الإسلام المسلح” المنتشر على الأراضي الإفريقية من مالي إلى التشاد إلى دول الساحل والصحراء، وبذلك يقع التفرّغ لملف التطبيع بين الكيان الصهيوني ودول القارة الإفريقية كبداية ونقطة انطلاق لعملية استثمار ضخمة لتكون القارة الإفريقية سوقا بديلة عن دول جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط التي استنفذت جزئها الرئيسي من رصيد الاستهلاك للبضائع الأمريكية وتدوير الرساميل. تتطلب هذه المخططات ترتيبات سياسية ربما يكون عنوانها الرئيسي تونس، حيث من الطبيعي أن تكون هندسة العملية السياسية مُحفّزة ودافعة لعملية خلق الثروة واستثمار نقاط تواجد الثروة. تُترجم هذه القراءة إلى عنوان مُلفت ومفتوح على النقاش وهو انطلاق الولايات المتحدة الأمريكية في تدشين المرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي التي تتطلب قدرا أكبر من الاستقرار السياسي وتمركز جزء من السلطة في يد ممثل للسلطة التنفيذية دون أن يستأثر بكامل إمكانيات التحكم في العملية السياسية. بإعادة قراءة البيانات الصادرة عن الإدارة الأمريكية بمختلف مستوياتها، يظهر جليا بأن الإدارة الأمريكية تراهن بشدة على عدم فشل الانتقال الديمقراطي مع تعديل بعض جزئيات أو ميكانيزمات اشتغاله وفق متطلبات السياق المحلي. يتغذّى هذا الرهان من طموحات الإدارة الأمريكية للمسك بخطوط إنتاج وتوزيع الثروة في إفريقيا، مع المحافظة على الملف السياسي لدولة من دول الانتقال الديمقراطي التي حافظت على هذا المسار لعقد كامل.

بقيت حدود التعاطي مع الإدارة الأمريكية في حدود استقبال الوفود وتبادل معطيات التاريخ والجغرافيا، دون التداول فيما يمكن أن يكون نقاط تقاطع سياسي مرحلي أو استراتيجي تُمليه إكراهات جغرافيا متحركة وصراعات الفاعلين في منطقة المتوسط وشمال إفريقيا. الولايات المتحدة الأمريكية تنظر بعين التوسع إلى أقصى شمال القارة حيث يتمدد المارد الصيني على مرافئ دولة جيبوتي، وفي نفس الوقت، تُراقب تمدد الدب الروسي بشراكة استراتيجية مع تركيا على الأراضي الليبية. للولايات المتحدة الأمريكية الكثير من المغانم والمكاسب التي سوف تجنيها بفعل ترتيبات الساحة الإقليمية وعبر منصة سياسية مستقرة لازالت تُراهن على بعض من مكتسباتها الديمقراطية. هذه المنصة لم يغادر رئيسها حدود إلقاء الكلام على عواهله دون المسك بتفاصيل المستقبل ومآلات الصراع السياسي وطموحات الخصم والصديق.

في نفس المستوى، وعلى نفس الإيقاع، تداعت تصريحات القادة الأوروبيين حول ما حصل في 25 جويلية 2021. فبعد أن عبرت فرنسا وألمانيا وإيطاليا على حدود اللياقة الديبلوماسية في تعاطيها مع الحدث، تداعت الأذرع المالية للاتحاد الأوروبي وكندا (مجموعة السبع G7) إلى إصدار بيان بتاريخ 6 سبتمبر 2021 يُشخّص بعضا من أسباب الأزمة السياسية القائمة، ويدعو إلى ضرورة إعادة الحياة السياسية في تونس إلى طبيعتها الديمقراطية. أوروبا التي لازالت جريحة أزمة الكوفيد والتي عبّر ممثل سياستها الخارجية في فترة سابقة “باتريس بارغميني” على نوع من السُخط حول الوضعية المالية والاقتصادية للدولة التونسية وتحكم بعض اللوبيات المالية في مفاصل الاقتصاد الوطني، لا تريد لبوابة أوروبا (تونس) أن تتحول إلى أرض تحكمها الاضطرابات السياسية مما يحوّلها إلى نقطة عبور للمهاجرين غير النظاميين. كما أن لعبة التموقع في ليبيا وخاصة بين فرنسا وإيطاليا، لازالت لم تُغلق صفحاتها بعد. هناك حيث الغاز والنفط، تتنافس الدولتان الأوروبيتان على منابع الطاقة مما يستوجب الحفاظ على قدر من الهدوء والاستقرار على الحدود الغربية لأرض الصراع. لا يمكن لأوروبا أن تُوقّع صكوكا على بياض لشخصية سياسية لم تبادر إلى حد الآن بالإفصاح عن خارطة طريق واضحة تُدير المرحلة المقبلة، وتنشر بوادر الاطمئنان على مصير ديون مُتخلّدة بالذمة ومستقبل ما يقرب من 15 ألف شركة أوروبية تتمتع بامتيازات خيالية منتصبة على الأراضي التونسية. ربما لن تصمد خطابات التردد والارتباك والدوران في حلقة مفرغة أمام إكراهات الجار الأوروبي الذي لن يتخلّف بأي شكل من الأشكال عن المساهمة في تدبير الشأن السياسي الداخلي لتونس.

خاتمة:

لا يمكن أن تُدار السياسة خارج دائرة التقاطعات وحسابات الجيوبوليتيك، ولا يمكن إدارة الشأن العام المحلي دون حساب تقاطعات الفاعل المحلي والدولي، ودون اقتناص فرص المناورة وتحويل فائض الكلام عن المشروعية والشرعية إلى عُدّة وعتاد سياسي لتحصيل الدعم المالي والسياسي. يبدو أن رئيس الجمهورية ومن يُوالونه تغيب عنهم فكرة استحالة عزل المحلي عن الإقليمي والدولي. من هذا المدخل، تبدو ضغوطات الفاعل الدولي وإكراهات الجغرافيا آخذة في التوغل أكثر داخل ثنايا القرار الوطني. هذا القرار الذي لن يكون مُستقلا أو قادرا على المناورة في أدنى حالاته، مالم يكن مُنبثقا عن توافقات الداخل وتفاهمات تفرضها جبهة سياسية داخلية موحّدة. باستثناء “ألف-باء” السياسة التي ذكرناها والتي لا أثر لها في أجندة رئيس الدولة، تبقى كل الأبواب مفتوحة على رياح متوسطية وأطلسية وخليجية سوف تعصف بما أُنجز في عقد من الانتقال الديمقراطي.

3.7/5 - (4 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى