التوعية الديمقراطيةمقالات

“الديمقراطية المباشرة غيرُ قابلة للتنفيذ في المجتمعات الحديثة”

بقلم: ليو يونّينغ، مركز فيربانك للدراسات الصينية في جامعة هارفارد

وعلى الرغم من الإشادة بسويسرا باعتبارها نموذجا يُحتذى به للديمقراطية المباشرة في المجتمع المعاصر، إلّا أنها تُطبق في حقيقة الأمر نظاماً ديمقراطياً غير مُباشر. مع ذلك، يُتيح نظامها السياسي ممارسة الإنتخابات المباشرة والإستفتاء.

وفي الواقع، هناك العديد من الأسباب التي تُعيق تطبيق الديمقراطية المباشرة في المجتمعات الحديثة، بسبب ما يأتي معها من تكاليف ومخاطر عالية. وعدا عن احتمال اشعالها لفتيل الصراعات، فإنها قد تكون مشحونة بالإنفعالات أيضاً.

وحيث تقتضي الديمقراطية المباشرة أصوات الناخبين ومجالس الشعب على المستوى الوطني أكثر من مرة، فإن تكاليفها الإقتصادية والإجتماعية والسياسية ستكون هائلة. وقد تؤدي بالأخص إلى التسييس المُفرط للمجتمع، مما يُسفر عن هيمنة السياسة على كل شيء آخر.

وفي حقيقة الأمر، تمثل الديمقراطية المباشرة لعبة محصلتها صفر، وأداة تعمل على تفاقم الصراعات الإجتماعية. فهي تقسِّم المجتمع بين الأغلبيات والأقليات. وهذه الأخيرة، سوف تجد مناصبها، ومصالحها، وحقوقها عُرضة للقمع الدائم.
وبالنتيجة، تجنح الديمقراطية المباشرة إلى إحداث البلبلة والتعصب والظلم.

وبالعودة إلى التاريخ، نرى أن مثل هذه الديمقراطية، وبِمُجرد وضعها موضع التنفيذ، قد تعرضت إما إلى الخَنق على يد عدوان خارجي وحرب أهلية، أو إلى السَحق على يد أحد الطغاة، أو أنها انهارت عندما أصبحت الدولة التي تطبقها تابعة لقوة عظمى.

وفي نظام الإكليزيا هذا [وهو مصطلح يُشير إلى المجلس السياسي الديمقراطي الرئيسي في التاريخ اليوناني القديم، حيث كان المواطنون الذكور حصراً – باستثناء العبيد والغرباء – يجتمعون في إحدى الساحات أو المسارح لاتخاذ قرارات الحرب والسلم، ولإصدار القوانين المُنَظِمة للعلاقات الإجتماعية والإقتصادية]، وحتى على افتراض أن كل مواطن هو سقراط، فلن يكون تجمُّع المواطنين على نَمَط أثينا القديمة أكثر من تجمهُر غريب. [أي حشد غاضب من غير المثقفين].

علاوة على ذلك، تفتقر الديمقراطية المباشرة إلى الإجراءات، وتعزز التماثل الصارم. وهي تؤدي إلى الإستبداد وتقييد المجتمع.

المسألة الأخرى، هي أن هذا النوع من الديمقراطية يُطالب جميع المواطنين برأي واضح لا لَبس فيه – إما نعم أو لا – وهو ما يدعو إلى التطرف في جميع المسائل غالباً.

بالإضافة إلى ذلك، تتجاهل الديمقراطية المباشرة ما تتصف به بعض القضايا من تعقيد والتباس. وبالتالي يشجع هذا النوع من اتخاذ القرارات الناس غير مرّة على اللجوء إلى مشاعرهم الأساسية عوضاً عن الرجوع إلى الحُكم العقلاني.

كما يترتب عن مثل هذا الأسلوب في صنع القرار مساواة صارمة يعرفها سكان الصين جيداً، عدا عن حقيقة عدم امتلاك المواطنين لموقف واضح بشأن العديد من القضايا في أحيان كثيرة.

وتلتمس عمليات الإنتخابات المتكررة والأصوات المشارِكة الحصول على إجابات دقيقة وتعريف واضح بشأن القضايا التي تكون على المحك. بَيد أنَّ الكثير من القضايا تفتقد إلى مثل هذه الإجابات.

وتفرض الديمقراطية المباشرة المشاركة، كما تتطلب تفاني المواطنين المُطلق للدولة. ومن ثمَّ، فإنها تحرم الأفراد – بشكل مُقنَّع – من حقهم في التعامل مع شؤونهم الشخصية.

كما لا تسمح الديمقراطية المباشرة بالتمييز بين ما هو خاص وعام؛ فهي تطالب المواطنين بالمشاركة في الشؤون العامة بصفتهم الفردية.

وبناء على ذلك، تتحدى هذه الديمقراطية مصالح المجتمع المدني والمؤسسات الوسيطة، وتفتت المجتمع، وتطالب الأفراد بمواجهة الدولة بشكل مباشر.

وبسبب أسلوبها المباشر في صنع القرار، تَستَثني الديمقراطية المُباشرة الإجراءات والطبقات الوسيطة، وتسفر عن الإفتقار إلى آلية لتصفية الرسائل والآراء، مما يفسح المجال بالتالي للتلاعب والطرح الإنفعالي.

ويعني انعدام وجود آلية للتصحيح في إجراءات الديمقراطية المباشرة، أن الجمهور المُندفع وبِمُجَّرد هيمنته على الصالح العام، سيحفر قبر هذا الأخير لامحالة في نهاية المطاف.

ففي الديمقراطية المباشرة، غالباً ما يعني “الشعب” مفهوماً للإستئثار، إذ يمكن العثوردائماً على أطراف تم استبعادها. وفي اليونان القديمة، كان النساء والعبيد مُستثنين من هذه العملية. ومع أن الديمقراطية المباشرة تَعِد بالإستقلال الذاتي لجميع المواطنين، ولكنها ليست سوى حكم الأغلبية في الواقع، بالنظر إلى وجود أقلية يُقابل رأيها بالرفض بَعد كل عملية اقتراع.

وفي الحقيقة، فإن إرادة وحكم الشعب ليست مساوية لإرادة وحكم الجميع: فطالما كانت هذه الإرادة تمثل الأغلبية، فإنها لا يمكن أن تكون لجميع الناس بالتالي.

وطالما كان قرار الأغلبية مُهيمناً، ستكون هناك أقلية مُضطهدة. ومادام الحكم بيَد الأغلبية، فهناك أقلية خاسرة. وعليه، فإن ما يسمى بالديمقراطية المباشرة ليست حُكم الشعب في الواقع، ولكنها حكم الأغلبية في أحسن الأحوال.

وتتوقع الديمقراطية المباشرة إمكانية ووجوب عرض جميع القضايا إلى قرار الشعب. ولكن ليس من الضروري في الواقع أن يقرر الشعب كافة القضايا.

وتدل “الإكليزيا” في اليونان القديمة على عَدَم تحمُّل هذا النظام للتفرد، إلى درجة أن فيلسوفاً مثل سقراط أدين بعد محاكمته بتهمة إفساد عقول الشباب، ليُحكَم عليه بالموت لاحقاً.

وفي غضون ذلك، وبالرغم من مشاركة عدد كبير من المواطنين في التشريع والقضاء، لكن قرار توزيع المناصب الرسمية كان يتم باللجوء إلى إلقاء القرعة (إلقاء قطع معينة) بدلاً من الأصوات.

وهكذا، كانت القدرات والخبرات الفردية المختلفة تتعرض للطمس، وهو ما يرقى إلى مساواتية في السياسية والسلطة، والتي لن تحقق نتائج أفضل من المساواتية في الإقتصاد.

الديمقراطية المباشرة ليست عملية، وتكمن عقبتها الأساسية في حجمها. وهي تتعلق فضلاً عن ذلك بالهيكل البيولوجي البشري، بمعنى عدم قدرة الشخص على منح تركيزه المطلق لأكثر من مُتحدث واحد في نفس الوقت.

وبالتالي، يعتمد جدول أعمال أي مجلس واسع النطاق [للشعب] على مُنَظِمِه (أو منظميه) ليُقرر (أو ليقرروا) تنظيم الإجتماعات وتعيين المتحدثين من خلال جدول زمني.

وكلما كان هذا التجمع أكبرحجماً، كلما زادت امتيازات المنظم (أو المنظمين)، وكلما ضعفت أصوات المشاركين العاديين في المقابل وقَلَّت فرصهم في لعب دور نشيط في السياسة. أما التواصل والمناقشة الفعالة فسوف تكون أكثر صعوبة حتى.

وفي حال كان المنظم المتنفذ (أو المنظمين المتنفذين) قادراً على الهيمنة على النتيجة، فسيُكتب الموت للديمقراطية المباشرة.

وعلى الرغم من مطالبة الديمقراطية المباشرة بأكبر عدد ممكن من المشاركين، إلّا أن فعالية هؤلاء تقل كلما ازداد عددهم.

علاوة على ذلك، فإن التلاعب بأغلبية أسهل من التلاعب بأقلية. وبالتالي، كثيراً ما تتحول الديمقراطية المباشرة إلى “جنة” من المتآمرين الطموحين.

إن أفضل وسيلة للتلاعب بهيئة لصنع القرار هي زيادة حجمها. ويمكن أن يكون مجلساً مؤلفاً من آلاف المشاركين منتدى للمُنَظِّم (أو المُنَظمين) لتقديم التقارير ببساطة، ولكنه لن يكون برلمانا تُسمَع فيه كلمات الجميع.

وفي الواقع، لا تعيش الديمقراطية المباشرة بالمعنى الدقيق إلا في مخيلة حالم طوباوي. أما الديمقراطية التي مُورسَت في أثينا القديمة، فلم تكن ديمقراطية مباشرة مطلقة، لأن تلك المجالس لم تكن مفتوحة لجميع المواطنين، كما كانت تُدار بواسطة ممثلين مُنتَخَبين من قبل القبائل.

وحتى لو استنسخنا نموذج أثينا، من خلال تقسيم الدولة إلى وحدات سياسية أصغر، تتكون كل واحدة منها من 50,000 شخص وتطبيق الديمقراطية المباشرة في هذه الوحدات، فإن إضفاء طابع الدمقرطة المباشرة لنظام الدولة لن يتحقق أبداً.

وطالما انتخبت كل وحدة أشخاصاً لتشكيل البرلمان الوطني، فسوف تكون هذه ديمقراطية تمثيلية غير مباشرة، وليس ديمقراطية مباشرة. لذا فإن الديمقراطية المباشرة في المجتمعات الحديثة غيرُ قابلة للتنفيذ بكل بساطة!

نبذة عن الكاتب:

وُلد ليو يونّينغ [ليو هو اسم العائلة] في مقاطعة آنهوي الصينية في عام 1961. وهو باحث صيني سياسي معروف، وأحد الأصوات الليبرالية البارزة داخل الأوساط الأكاديمية الصينية. كما يُعتبر قائداً لجيل الشباب من علماء السياسة. وقد عُرِف بدراسته لليبرالية الكلاسيكية الأوروبية الحديثة والسياسة المحافظة. وهو أستاذ زائر سابق في مركز فيربانك للدراسات الصينية في جامعة هارفارد. قام بتأليف “الجمهورية، والديمقراطية والدستورية – دراسة للأفكار الليبرالية، المحافظة، وظاهرة السلطة”.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى